الأربعاء، 29 مايو 2019

الوهابية

بعد انطلاقها من نَجْد، المنطقة الصحراوية الفقيرة التى تعيش على الهامش فى قلب شبه الجزيرة العربية فى القرن الثامن عشر الميلادى على يد محمد بن عبدالوهاب، عملت الحركة الوهابية على تغيير أنماط التدين فى العالمين العربى والإسلامى، ودفعها نحو السلفية، وخصّت نفسها بالإيمان والتوحيد الخالص، فيما نعتت البقيّة بالجاهليّة والكفر.

ولدت هذه الحركة فى الهامش، وفى فضاء جغرافى بعيد عن الحواضر الكبرى، وفى بيئة اجتماعية سادت فيها سمات القسوة، مما جعلها قوّة لتمرّد الهامش على المركز، والبداوة على الحضارة، وتصدير قيم الانتماء القبلى والعشائرى على قيم الانتساب إلى المدن والحواضر.

وعندما أصبح الحج تحت سيطرة الوهابيين، سمح لهم بنشر أفكارهم وتمكين دعوتهم من أن تخرج من سياقها البدوى إلى سياقات أممية عابرة للحدود، وقد شق المد الوهابى طريقه إلى مصر فى بدايات القرن العشرين، وليس مع هجرة المصريين إلى الخليج فى منتصف السبعينيات - كما هو شائع - وكان ذلك عن طريق محمد رشيد رضا، وكانت مجلة المنار التى يصدرها منبرًا لأفكارها ومعتقداتها.
ولكن لم يكن آنذاك للأفكار الوهابية أى تأثيرات ملحوظة فى المجتمع، فقد تصدى لها تنويريون كبار، وعلى رأسهم الشيخ الشاب على عبدالرازق، وهو امتدادٌ للإمام محمد عبده، لكن الوهابية حظيت بدفع كبير على يد مؤسس الإخوان المسلمين فى مصر حسن البنا، وتم توطين وترسيخ الفكر الوهابى بكل أصوليته وبداوته بفعل القوة التنظيمية، واستخدام الإرهاب الفكرى والمادى فى قمع المفكرين والمخالفين للرأى، والذى يميّز جماعة الإخوان المسلمين.. وسرعان ما انتقل المنهج الوهابى إلى مصر من خلال سيطرة الإخوان والسلفيين على الأزهر، ومنه إلى العالمين العربى والإسلامى، وصار البعض فى الأزهر مفرخة للأفكار التكفيرية والأصولية المتشددة بقوة، حتى لم يعد هناك جماعة إرهابية تخلو من شخص كان قد تلقى تعليمه فى الأزهر، وأفرخت الوهابية جيلًا من الشيوخ الذين احتكروا «فهم وتفسير النص الدينى وفقا لأهوائهم»، ومكّنت أصحاب الفتاوى من تكريس سلطاتهم وفرضها بالقوة، وإغراق المجتمعات فى مستنقعات من الفتاوى الكريهة، وبذلك أصبحت الوهابية حركة ظلامية سلطوية منغلقة على ما بداخلها من ثوابت تعزز الاتباعية والأبوية والفردية.
وعندما ذهب المصريون إلى المملكة السعودية فى نهاية السبعينيات، امتلأت عقولهم بالأفكار الوهابية، وعادوا محمّلين بأنماط التديّن المتطرف، وبالقيم الوهابية التى اخترقت جسد الثقافة المصرية وغيّرت ملامحها، وقُضى على الوسطية التى تميزت بها مصر كحضارة وتاريخ.
+++
بعد أن خصّت الوهابية نفسها بكل معالم الوفاء للدين والإخلاص لتعاليمه وارتقت بنفسها لتتحول من عقيدة إسلامية إلى عقيدة الإسلام التى تعتمد على مبادئ «التوحيد، الفرائض، المحظورات، والجهاد»، والتى تمثل البنية المعرفية للفكر الوهابى وتمثلاته.
ومن هنا نشأ تشريع الجهاد «الفريضة الغائبة» بشكل حاسم، والتى تجيّش أنصارًا لها يحملون السلاح والخناجر والخناجر وكل أنواع الهمجية، من أجل الرجوع إلى الإيمان الأول «البكر»، ويتطلب ذلك تبنّى رموز خاصة، تمثلت فى لباس موحد لا يتأثر بالزمان والمكان والبيئة والتحضر، هذا النشاز الذى يفتقر للذوق العام، والذى لا يعير اهتماماً للثقافات أو البيئات المختلفة، لباس يكتمل بلحية وشارب، أصبحا ماركة مسجلة للوهابية فى كل بقاع العالم، وأصبحا يشكلان مع الخطاب الوهابى الصورة الذهنية عنها.
لقد تغلغلت الوهابية بدأب شديد فى مساحات واسعة، وتلقفت النخب الدينية المتطرفة تلك الوهابية بارتياح، ومدّت جسور التواصل مع السلفية، رغم الاختلاف فى الرؤية والمنهج، فالاثنان شريكان معاً فى قراءة القرآن والسنة النبوية، قراءة لا حضور فيها لتأويل أو لإعادة تفسير، علما بأن الوهابية تلتقى جذورها بالدعوات السلفية السابقة لها، فقد ترعرعت فى أحضان أسس دعوة ابن تيمية، إمام ومرشد الوهابيين، فقد رفضوا مثله الفلسفة، واستعمال العقل واعتبروا تفسير القرآن بالتأويل كفراً.
وتبعًا لما سبق نهوا عن كل ما خالف السنة حتى فى أمور المعاملات اليومية، فمنعت الألبسة الحريرية على الرجال، وحرمت شرب القهوة والتدخين والاستماع إلى الموسيقى أو الغناء، وتم تحويل النقاب الاختيارى، لفريضة ولباس شرعى ورمز للعفة والطهارة.
فى الستينيات من القرن الماضى لم يكن الحجاب أو النقاب يعرف طريقه إلى الجامعات المصرية بشكل حاسم، لكن فى الثمانينيات غزا النقاب الجامعات والمدارس والمؤسسات الحكومية مع عودة المصريين من السعودية، وخلال عقدين أصبح النقاب رمز الإسلام والتدين، خاصة بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ومن خلال حملات ممنهجة ارتدت الحجاب الممثلات، تحوّل الحجاب إلى فريضة اجتماعية تتعرض للنبذ والعقاب كل من لا ترتديه، وتعدت الطرحة والإسدال رمزيتهما، لمحاولة هيمنة فروض الوهابية على السلطة، ومثال على ذلك طلب حسن الهضيبى بعد ثورة يوليو، أن يصدر عبدالناصر قرارا بجعل الحجاب إلزاميا على كل فتاة وسيدة مصرية، لكن رد عبدالناصر كان قويا وحاسما: «يطلبون فرض الحجاب على 10 ملايين فتاة وسيدة فى مصر، بينما المرشد لم يستطع أن يجبر ابنته على ارتدائه».
----
منذ نهاية عقد السبعينيات فى القرن الماضى، انتقل الخطاب الإسلامى من اللاهوت إلى الناسوت، وكان لابد من حشد الأتباع والمؤيدين لتحقيق ذلك المشروع السياسى الدينى للهيمنة الاجتماعية المطلقة، وبدأت آلات ضخ الخطاب التكفيرى تعمل بقوة، وبالطبع كانت المرأة أول المستهدفين من هذا الخطاب، الذى فى مضمونه خطاب طائفى عنصرى بامتياز، وباسم الستر والعفة ومحاربة الغواية تم قمع عقل المرأة وجسدها بجدارة، فانتشرت الدعوة بمكوثها فى المنزل والطاعة العمياء للزوج وأولى الأمر، وتكفين الجسد بلبس الحجاب ثم النقاب الأسود المقيت، والسيطرة على الحياة الجنسية لها، تزويج الطفلات، الختان، الطاعة الكاملة فى الفراش، كثرة الإنجاب، عدم استخدام موانع الحمل، والابتعاد عنها فى فترة الحيض لأنها نجسة.
ولحسم هذه التوجهات الوهابية القاسية والغريبة، تم إشهار سلاح «النص المقدس»، الذى دعا إلى خلق عالم كامل مغلق على ذاته تماما، ليمارس الوصاية ويستخدم لغة خطاب أحادية الأبعاد وهى الحض على العنف، بدأت الدعوة تتسع لارتداء الحجاب والتحذير من عذاب القبر لمن لا ترتديه، والتضييق على النساء السافرات فى الشارع وفى المؤسسات العامة والخاصة.
وتحول الحجاب لشعار سياسى، وذلك لتأكيد الهيمنة السياسية، واضطرت الكثير من النساء لارتدائه حتى لا تعرّض نفسها للتحرش السافر والمكشوف، ولم تستثن من ذلك البنات الصغيرات فى المدارس، فانتشرت مشاهد غريبة على مجتمعنا، لمن يقمن من المعلمات بقص ضفائر البنات، أو ضربهن، أو تجريسهن أمام بقية التلاميذ لعدم ارتداء الحجاب.
وارتفعت شعارات «الحجاب قبل الحساب، والمرأة بدون حجاب مدينة بلا أسوار، حجابك مصدر عفتك وطهارتك»، وفى التسعينيات تم استخدام أحداث تاريخية معروفة، مثل: عام الرمادة (العام الثامن عشر للهجرة) عندما جفت الأرض وهلكت المواشى، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع حتى راح المسلمون يتقاتلون عليها، وتم تأويل ذلك إلى غضب من الله عليهم، لقد أطلق ثروت الخرباوى، القيادى السابق فى جماعة الإخوان، هو وآخرون حملة: «ينتهى الغلاء حين تتحجب النساء»، لقد تمت ممارسة كل صور الاعتداء البدنى والنفسى واللفظى على المرأة، وانعكس كل ذلك فى خطاب إعلامى سميك ليحقّر من كيان المرأة وينقص من قدرها ويطالبها بالانطواء والاختفاء نهائيًّا من الحياة العامة، وطاعتها العمياء فى الحياة الخاصة، وبذلك يتحالف الفكر الوهابى مع الفكر السلفى مع الفكر الذكورى، ليشكلوا جميعا بنية خطاب مشوه ومأزوم تجاه المرأة المتسببة فى طرد آدم- كما قرّ فى الأذهان- من الجنة.
**********************
4
حسن البنا: «إن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة وصاياه النبيلة، وقد أمر المسلمين أن يعمموا الدعوة بين الناس بالحجة والبرهان، فإن أبوا وتمردوا، فبالسيف والسنان»، وتم تطبيق كلام حسن البنا حرفياً كتعليمات مقدسة، وتم بالفعل اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر، وكذلك محمود فهمى النقراشى، وأحد كبار القضاء «أحمد الخازندار»، واغتيال اللواء «سليم زكى»

للشيخ على عبدالرازق بسبب كتابه «الإسلام وأصول الحكم» بزعم تضمن كتابه للأمور المخالفة لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية،
 أثارت رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ تأويلات متعددة منذ صدورها 1959 على حلقات فى جريدة الأهرام،
+++++++++++++
حقيقة الوهابية: وسطية بين المرجئة والخوارج

اعتبر أستاذ العقيدة المشارك في جامعة حائل الدكتور أحمد الرضيمان أن من السمات البارزة في منهج الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في مسائل التكفير، وسطيته بين مذهب المرجئة الذين فرطوا في التكفير، وبين مذهب الخوارج الذين أفرطوا في التكفير حتى كفروا مرتكب الكبيرة، مؤكدا أن كلا المذهبين فاسد وخطره عظيم وعاقبته سيئة.

ويستعرض الرضيمان، ضمن "سلسلة حقيقة الوهابية"، مخالفة الإمام محمد بن عبدالوهاب لمنهج الخوارج ووسطيته التي ينتهجها بمقتضى الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، إضافة إلى إدراجه بعض رسائله التي تؤكد على ذلك النهج.


كما يستعرض وسطيته في مسألة العذر بالجهل، وتفريقه بين قيام الحجة، وفهم الحجة، واحترازه الشديد في شأنه كله، لا سيما في مسائل التكفير.



من السمات البارزة في منهج الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في مسائل التكفير، وسطيته بين المرجئة، التي فرطت في التكفير، وبين الخوارج، الذين أفرطوا في التكفير، حتى كفروا مرتكب الكبيرة. وكلا المذهبين، مذهب الخوارج، ومذهب المرجئة، فاسد، وخطرهما عظيم، وعاقبتهما سيئة.

فمذهب الخوارج: خطره على دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم، وجمع كلمتهم، ومذهب المرجئة: خطره على دين الله والتزام شريعته.

هذه الوسطية التي ينتهجها الإمام محمد بن عبدالوهاب، هي مقتضى الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، التي يعتقدها، ويدعو الناس إليها.

1 مخالفته منهج الخوارج

قال رحمه الله في إحدى رسائله: "أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم، أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية: أهل السنة والجماعة ... إلى أن قال: والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى، بين القدرية والجبرية، وهم وسط في باب وعيد الله، بين المرجئة والوعيدية، وهم وسط في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية".

وقال -رحمه الله- مخالفا منهج الخوارج: "ولا أُكفِّر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام".

وقال أيضا:

"أهل العلم قالوا: لا يجوز تكفير المسلم بالذنب، وهذا حق، ولكن ليس هذا ما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفِّرون من زنى أو سرق، أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر".

وقال أيضا: "ولا يخرجه -أي المسلم- عن مرتبة الإسلام، إلا الكفر بالله، والشرك المخرج من الملة، وأما المعاصي والكبائر، كالزنا والسرقة وشرب الخمر، وأشباه ذلك، فلا يخرجه عن دائرة الإسلام، عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، ويحكمون بتخليده في النار".

وقال مبينا غلو الخوارج والمرجئة في ظنهم أن الإيمان لا يتجزأ: "وأما كون لا إله إلا الله تجمع الدين كله، وإخراج من قالها من النار، إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك.

 وسر المسألة أن الإيمان يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه أن يذهب كله، بل هذا مذهب الخوارج، فالذي يقول: الأعمال كلها، من لا إله إلا الله، فقوله الحق، والذي يقول: يخرج من النار من قالها، وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة، فقوله الحق، السبب ما ذكرت لك من التجزي، وبسبب الغفلة عن التجزي؛ غلط أبو حنيفة وأصحابه، في زعمهم أن الأعمال ليست من الإيمان".

العذر بالجهل لمن لم تقم عليه الحجة

ومن وسطية الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في مسائل التكفير، وسطيته في مسألة العذر بالجهل، فمنهجه فيها على طريقة أهل السنة والجماعة، فهو يرى العذر بالجهل، لمن لم تقم عليه الحجة، كمن كان حديث عهد بالإسلام، أو ببادية بعيدة عن العلم، أو كان في المسائل الخفية، ولا يرى العذر لمن قامت عليه الحجة، ففرط في التعليم، أو ادعى الجهل في أصول الدين، التي أوضحها الله في كتابه، وكانت معلومة من الدين بالضرورة، لكنه مكابر، ويدعي الجهل.

يقول -رحمه الله- : "الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو بكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يُكفَّر حتى يُعرَّف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله، وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه القرآن، فقد بلغته الحجة".

كما أنه -رحمه الله- يفرّق بين قيام الحجة، وفهم الحجة، ويرى أن أصل الإشكال هو بسبب عدم التفريق بينهما، وقيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على شخص دون آخر، وفي بقعة دون أخرى.

قال الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-: "أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين، لم يفهموا حجة الله عليهم، مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).

وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر".

ففهم الحجة: إذا كان المقصود به الاقتناع والانقياد، فهو لا يُشترط، بل إذا بلغهم كلام الله ورسوله، وفهم الخطاب والمطلوب، فقد قامت عليهم الحجة، ولا يشترط أن يمتثل ويقتنع.

وإن كان المقصود بفهم الحجة: فهم الخطاب، وإحضار مترجم، إن لم يعرف لغة الخطاب؛ فهذا شرط ولا بد منه.

وفي هذا يقول الإمام محمد بن عبدالوهاب: "ومن المعلوم أن قيام الحجة، ليس معناها أن يفهم كلام الله ورسوله، مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يُعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قوله تعالى:(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ).

وقال تلميذه حمد بن معمّر: "وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهما جليا، كما يفهمها من هداه الله ووفقه وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوا كلامه... فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوع، وفهمها نوع آخر".

3 التثبت والاحتراز في شأنه كله

ومع هذه الوسطية التي يسير عليها الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- فإنه شديد الاحتراز والتثبت في شأنه كله، لا سيما في مسائل التكفير.

يقول المؤرخ الشيخ حسين بن غنام: "إن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، كان ملتزما المنهج السوي، ولم يتسرع لسانه بتكفير أناس أشربت قلوبهم بالمعاصي، وبما كانوا عليه من القبائح الشركية".

ومما يدل على احتراز وتثبت الإمام محمد بن عبدالوهاب في مسائل التكفير، قوله -رحمه الله- : "مَن أظهر الإسلام، وظننا أنه أتى بناقض؛ لا نُكفِّره بالظن؛ لأن اليقين لا يرفع الظن، وكذلك لا نكفّر مَن لا نعرف منه الكفر، بسبب ناقض ذُكر عنه، ونحن لم نتحققه".

وقال أيضا: "فعلى كل حال، نبهوهم على مسألتين:

الأولى: عدم العجلة، ولا يتكلمون إلا مع التحقيق، فإن التزوير كثير.

الثانية: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعرف منافقين بأعيانهم، ويقبل علانيتهم، ويَكِل سرائرهم إلى الله تعالى، فإذا ظهر منهم وتحقق ما يُوجب جهادهم؛ جاهدهم".

ومن الاحتراز وسلوك منهج أهل السنة والجماعة، أنه يفرق بين التكفير المطلق، وتكفير المعين، فلا يلزم من قول الإنسان لكلمة الكفر، أن يكون كافرا، وفي هذا يقول -رحمه الله- : "إذا قال قولا يكون القول به كفرا؛ فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، ولكن الشخص المعين إذا قال ذلك؛ لا يُحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يَكفُر بها".

فرحم الله الإمام محمد بن عبدالوهاب، لقد كان يتأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العلم والعمل والدعوة إلى الله، والصبر على الأذى فيه، حتى كانت له حسنُ العاقبة، وحتى لقي الله وهو على عقيدته، لم يغير، ولم يُبدّل، ولم يلتفت إلى أعراض الدنيا، وما تهوى الأنفس، فاللهم اجزه عنّا خير الجزاء، وأصلح ذريته، واجمعنا به في جنات النعيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق