موقع السبيل
المصدر الثالث: الحس والتجربة
المذهب الحسي في الفلسفة هو الذي يقول أتباعه إن المعرفة محصورة بما تتلقاه الحواس الخمس، فكل التصورات العقلية مقتبسة من المعلومات التي تقدمها له الحواس، أما المنهج التجريبي فيقول أصحابه إن التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة من خلال توظيف المدرَكات الحسية في التجربة، ومن المعلوم أن التجربة تتطلب تدخل الباحث في الموضوع لاختباره ولا تكتفي بالملاحظة.
ابتدأ التيار الحسي بالظهور في اليونان على يد أبيقور خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ووافقه على ذلك الرواقيون الذين حصروا المعرفة بالحس مع أنهم لم ينفوا فاعلية العقل تماما.
وفي أوروبا، تأثر الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون (توفي عام 1349م) بأفكار الحسن بن الهيثم وابن رشد بعد ترجمتها، وحاول نقل المنهج العلمي التجريبي عن ابن الهيثم (توفي عام 1040م) رغم رفض الكنيسة له، ثم تبنى هذا الاتجاه من بعده فرانسيس بيكون.
ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (توفي عام 1704م) من رواد المذهب الحسي، حيث انطلق في وضع نظريته للمعرفة دون الالتفات إلى ما أقره ديكارت ومعظم الفلاسفة من ثنائية النفس والجسم، وأنكر وجود الفطرة والأوليات العقلية بناء على ملاحظته لتنوع الخبرات البشرية، فقال إن ما هو فطري لدى البعض ليس كذلك لدى البعض الآخر، وهكذا أخذ يبحث في انعكاس المعرفة على الذهن من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات، وانتهى إلى القول إن العقل البشري يولد كصفحة بيضاء خالية من أي علامات موروثة أو فطرية، ثم تكتب عليها الخبرة التجريبية ما تتلقاه من المعرفة من خلال الحواس.
ظهر ديفيد هيوم بعد وفاة لوك ليأخذ المذهب الحسي إلى غايته القصوى، فأنكر فاعلية العقل تماما حتى وصل إلى الشك كما ذكرنا في موضع سابق من هذا المقال، فبعد أن كان لوك يعترف بأن للعقل دور في المضاهاة والجمع والتجريد للمعرفة التي يتلقاها عن الحس لم يقر هيوم بأي دور للعقل بل جعه مجرد موطن للانفعالات الحسية.
وفي أواخر القرن الثامن عشر، وضع أوغست كونت الفلسفة الوضعية على أساس الثقة المطلقة بالعلم التجريبي، فقد ساد في تلك المرحلة الاعتقاد بأن الإنسان بلغ ذروة التقدم مع تكاثر الاختراعات والاكتشافات بأسرع وتيرة عرفها التاريخ، ما دفع بأنصار هذا المذهب إلى الاعتقاد بأن العلم التجريبي هو المصدر المعرفي الوحيد الذي سيجيب على كل الأسئلة.
تصور كونت أن البشرية تطورت طوال تاريخها عبر ثلاث مراحل، الأولى هي المرحلة اللاهوتية التي كان الإنسان يفسر فيها ظواهر الطبيعة بإعادتها إلى موجودات غيبية، سواء كانت إلهاً واحدا أو عدة آلهة، والثانية هي المرحلة الميتافيزيقية التي صار الإنسان يتوهم فيها وجود علل ذاتية داخل الظواهر بدلا من الآلهة، وفي المرحلة الثالثة صار الإنسان يفسر كل شيء بمنطق العلم التجريبي.
وقد رد كثير من الفلاسفة على هذه النظرية بأنها مجردة من البرهان التجريبي أصلا، فهي ليست سوى رواية ميتافيزيقية لتطور المجتمعات البشرية، واستقراء التاريخ يثبت عكسها، فالأوضاع الثلاثة التي تخيل أنها مراحل متعاقبة ما زالت قائمة حتى اليوم، وكانت متعايشة أيضا في مراحل قديمة من التاريخ.
تفسير مبدأ العلية والاستقراء
يقول العقليون إن السببية (العلية) مبدأ فطري كلي، فهو موجود في العقل بالفطرة ويمكن تعميمه على كل التجارب والأحداث في الكون بحيث يجزم العقل بأن لكل حادثة سببا ولكل معلول علة، لكن الحسيين انقسموا في تفسير العلة إلى ثلاثة اتجاهات، هي:
1- اتجاه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل الذي آمن بمبدأ السببية والعلية إلا أنه ردّه إلى الحس والتجربة بدلا من العقل، فرأى أن الإنسان يتعلم من التجربة أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها أسباب وعلل، واعتبر هذا الارتباط ضروريا مع أن الضرورة لا ينبغي أن تكون إلا بالعقل، وهو يرفض منح العقل أي فاعلية. وقد وافقته الفلسفة الماركسية المادية في هذا التفسير.
2- الاتجاه الذي أخذ به فلاسفة الوضعية المنطقية يرى أن تعميم الاستقراء لا يعطي حكما يقينيا، فتكرار التجربة والحوادث لا يتجاوز دوره تقديم احتمال بالوصول إلى النتيجة المطلوبة، مثل احتراق الخشب كلما تعرض للنار.
3- رأي هيوم الذي ينفي أي قيمة موضوعية للاستقراء، والذي يعتبر أن الربط بين العلة والمعلول مجرد انطباع نفسي ناشئ عن العادة دون أي ضرورة، فالسببية بين النار واحتراق الخشب ليست ضرورية ولا حتمية بل موجودة داخل نفوسنا بسبب تكرار العادة. وقد سبقه الغزالي إلى القول بهذا الرأي، كما أخذ به علماء النفس في المدرسة السلوكية الحديثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق