نهب قناة السويس وتحويل مصر إلى مستعمرة مالية لإنقاذ بورصة لندن.
سمير أمين: الرأسمالية مركز-أطراف؛ المركز يتقدم لأن الأطراف تُستنزف.
فرانز فانون: الاستعمار ليس حدثًا عرضيًا، بل هو جوهر الحداثة الأوروبية.
في مرحلة لاحقة من التراكم، ظهرت مؤسسات (مثل الجامعات، القضاء، الصحافة الحرة) أسهمت في تطور داخلي حقيقي.
لكن هذا لا يُنفي أن الأساس التاريخي للتقدم كان غير عادل.
عصر الأنوار، والثورات الصناعية، والديموقراطية الليبرالية.
فالمكاسب التي حقّقتها المجتمعات الغربية لم تكن ناتجة عن عبقرية داخلية فحسب، بل جاءت نتيجة لتدفّقات ضخمة من الثروة من الجنوب إلى الشمال، على مدى قرون من النهب المنظّم.
النظام الرأسمالي العالمي لم يكن أبداً نظاماً متعدّد المراكز، بل هيكلاً هرمياً يقوم على تقسيم العمل بين مركز يصدّر التكنولوجيا والقوة العسكرية، وأطراف تُنتج المواد الخام وتستهلك السلع المصنّعة. هكذا نشأت علاقة تبعيّة جوهرية جعلت من التقدّم الغربي غير قابل للانفصال عن تخلف الآخرين.
خطاب استشراقي جعل من «الآخر» العربي والمسلم نموذجاً للفوضى والانحطاط، ومن الغرب مثالاً للتقدّم والنظام. وعلى هذا الأساس، تمّ اختزال تاريخ الحضارات غير الغربية، وتحويلها إلى هامش تابع في سردية العالم الحديث.
المؤسّسات بفرض «برامج إصلاح هيكلي» تُشترط مقابل القروض، وتشمل:
- تقليص الإنفاق العام على الصحة والتعليم،
- خصخصة المؤسّسات الوطنية،
- تحرير السوق أمام المنتجات الأجنبية،
- إضعاف العملة المحلّية.
تقنيات السيطرة الناعمة
لم تعد الهيمنة المعاصرة بحاجة إلى الجيوش والأساطيل، بل إلى السياسات النقدية، وشروط القروض، واتفاقيات التجارة الحرّة. فالمؤسّسات الغربية تحتفظ بسلطة «تقييم» الاقتصاديات، و«تصنيف» الدول، وتحديد من يستحق الدعم ومن يُعاقب.
ويكفي أن تُدرَج دولة ما في «القائمة السوداء» للمؤسّسات المالية أو تُخفَّض درجة تصنيفها الائتماني، حتى تنهار ثقة المستثمرين ويُغلق باب التمويل. هكذا تُحكم الرقابة على القرار الاقتصادي، عبر «تقنيات بيروقراطية»، لا عبر الاحتلال المباشر.
ويشير جوزيف ستيغليتز، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل للسلام، إلى أنّ العديد من وصفات صندوق النقد أدّت إلى انهيار اقتصادات كاملة، كما في أزمة شرق آسيا 1997، أو في أميركا اللاتينية.
فالدول العربية، رغم امتلاكها ثروات ضخمة، وخاصة في الطاقة، لا تملك السيادة الحقيقية عليها، إذ تظل الأسواق، والتكنولوجيا، وخطوط التوزيع، وحتى التسعير، في يد الشركات الغربية.
«سياسة الموارد» جزءٌ من بنية الهيمنة، وليست مجرد مسألة اقتصادية.
إبقاء الشعوب في موقع المستهلك لا المنتج، التابع لا المستقلّ. وما لم يتم تفكيك هذه التبعيّة الهيكلية، فإنّ كل محاولات التنمية ستظلّ محاصرة داخل هوامش محدّدة سلفاً من قِبل النظام العالمي نفسه.
الغرب والاستبداد الشرقي
الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لم تتردّد في دعم أكثر الأنظمة استبداداً، ما دامت قد ضمنت هذه الأنظمة «الاستقرار» و«المصالح». هذا التواطؤ لم يكن ظرفياً ولا تكتيكياً، بل كان جزءاً بنيوياً من هندسة العالم بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تُمنح الأنظمة القمعية حصانة ما دامت منخرطة في منظومة التبعيّة السياسية والاقتصادية.
تُلزِم الدول باحترام كرامة الإنسان، وسيادة القانون، وحرية الشعوب. لكن سرعان ما اتّضح أنّ هذه المبادئ لا تُطبّق إلا انتقائياً.
العلاقة بين الغرب والأنظمة السلطوية أكثر وضوحاً: السعودية، مصر، المغرب، الأردن، تونس، وغيرها، ظلّت تحظى بالدعم السياسي والعسكري رغم سجلّها السيئ في حقوق الإنسان، لأنها ببساطة تنتمي إلى «محور الاعتدال»، وتلتزم بعدم تهديد المصالح الغربية.
دعمه للاستبداد المشرقي عن ذريعة فحواها إنّ النظم السلطوية في العالم العربي تمثّل «صمّام أمان» ضد الفوضى، والتطرّف، وتهديد المصالح. وقد تصاعد هذا الخطاب بعد ما عُرف بـ«الربيع العربي»، إذ جرى تصوير الانتفاضات الشعبية كتهديد مباشر للاستقرار الإقليمي.
هذا المنطق يتجاهل أنّ الاستبداد هو الحاضنة الأولى للعنف والتطرّف. وقد أثبتت دراسات عديدة أنّ غياب الحرّيات، وكبت المجتمع المدني، وانعدام قنوات التعبير، تدفع بالمجتمعات إلى الانفجار، كما حدث في سوريا ومصر.
جون بيلامي فوستر إلى أنّ الإمبريالية الجديدة تعتمد على «دولة أمنيّة» محلّية تحافظ على بنية السوق، وتدير الأزمات الأمنيّة، وتحاصر المجتمع المدني. وهكذا، يُعاد إنتاج الاستعمار بصيغة وطنية مُزيّفة، تتحدّث بلغة السيادة لكنها تُنفّذ تعليمات المركز.
«نزع اللغة الأم» واستبدالها بلغة المستعمِر هو شكل من أشكال نزع الهوية. ذلك أنّ اللغة ليست وسيلة للتواصل فقط، بل حاملة للذاكرة الجماعية، وأداة لرؤية العالم.
وعليه، فإنّ فرض النماذج الغربية على الثقافة والتعليم في الجنوب العالمي، ليس حياداً حضارياً، بل استمرار لعملية استعمار رمزي، تطمس بها المجتمعات ذاكرتها وتعيد إنتاج اغترابها.
يُسمّي مهدي عامل هذه النخب بـ«المثقفين العضويين للبرجوازية الكولونيالية»، أي أولئك الذين يساهمون ــــ عن قصد أو غير قصد ـــــ في تثبيت البنية التابعة.
الاستعمار لا يُختزَل في السيطرة على الأرض، بل في السيطرة على المعنى، والذاكرة، والصورة. وكل مقاومة سياسية لا تُرافقها مقاومة ثقافية، تكون قابلة للترويض أو الإجهاض. وإنّ التحرّر الثقافي شرطٌ لتحرير الإرادة، والنقد الجذري للهيمنة الرمزية شرطٌ لفهم كيف تُشوَّه المقاومة وتُروَّج التبعيّة باسم الحداثة والتقدّم.
تدعو بعض النُّخب السياسية والاقتصادية في الجنوب إلى «الاندماج في العولمة» كحلّ وحيد للنهوض. ويُطرح ذلك غالباً بلهجة واقعية: لم نعد نملك خيار المواجهة، فالعالم صار مترابطاً، والسوق أقوى من الدولة.
(مثل تونس أو الأردن) زادت تبعيّتها، وتآكلت سيادتها، وتعمّقت هشاشتها الاجتماعية. بينما الدول التي حافظت على قدر من الاستقلالية (كإيران، أو فنزويلا، أو حتى الصين) رغم الضغوط والعقوبات، احتفظت بقدرتها على إعادة تشكيل أولويّاتها. ووفقاً لتحليل مايكل هادسون، فإنّ «العالم الثالث لا يفشل لأنه يقاوم، بل لأنه يتنازل عن أدوات المقاومة الاقتصادية».
يتجاوز الثنائية الزائفة بين «إمّا أن نكون مثلهم أو لا نكون»
التقدّم لا يُقاس بما نملكه من التكنولوجيا، بل بمدى تحرّرنا من الهيمنة. وكل مشروع تنموي لا يمر من بوابة المقاومة، هو مشروع مفرّغ من السيادة، حتى لو ارتدى لبوس التحديث والليبرالية. ولذلك، فإن الرهان الحقيقي في العالم العربي ليس على اللحاق بالغرب، بل على تجاوز شروط تبعيّته، وصوغ نموذج حرّ، يتقدّم دون أن يخضع.
المطلوب هو: تفكيك البنى المعرفية التي كرّست استبطان الهزيمة، وبناء إستراتيجيات اقتصادية مقاومة للتبعيّة، وإعادة الاعتبار للمجتمع كمصدر للشرعية، لا الخارج أو السوق، وتمكين خطاب ثقافي بديل، يُؤسّس لمقاومة معرفية، لا لامتثال نخبوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق