10 / 2019
وائل مرزا في صحيفة المدينية
ما مِن علمٍ من العلوم الشرعية، سواء كانت تلك التي تُسمى أصليةً أو (أساسية) أو (علومَ مقاصد)، أو التي تُدعى علوم الآلة (أو العلوم المُسَاعِدة)، إلا كتبهُ رجال (وفي الأغلب بالمعنى الحرفي للكلمة). أي كتبهُ بشرٌ، يُصيبون ويُخطئون، اجتهدوا لخدمة دينهم، بما توافر لديهم من قدرات فكرية وذهنية، ومن معرفةٍ كانت مُتاحةً في تلك العصور، ومن أدوات ووسائل وتقنيات وعلوم (أخرى) وطرق دراسة وتحليل علمية ومنهجية شكَّلت مبلغَ عِلمهم في زمانهم.
يترتبُ على هذا أن كل فكرةٍ كانت وراء أحد تلك العلوم، بكل تفاصيلها، وكل رأيٍ وردَ فيها، وكل تفريعٍ وتبويبٍ حصلَ داخلها، هي أيضاً من بنات أفكار أولئك الرجال. الذين كانوا، مرةً أخرى، رجالاً، بشراً، يُصيبون ويُخطئون، اجتهدوا لخدمة دينهم، بما توافر لديهم من قدرات فكرية وذهنية.. إلخ.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار الاختلاف (وليس بالضرورة الخلافَ) الكبير المعروفَ والمُدوَّنَ (تاريخياً) بين أولئك الرجال، والذي يمكن أن نجده (عملياً) اليوم بالبحث والتنقيب في إنتاجهم، وهو اختلاف يكاد يشمل كل مسألةٍ من المسائل الواردة في تلك العلوم، ويصل في بعض الحالات إلى حد التناقض الكامل في الرأي والفكرة والحُكم
وبعيداً عن المُجادلة والحِجاج في هذه الحقيقة، يكفي أن ننظر في عدد الكتب والمجلدات والفصول التي تتحدث، بطيبِ نيّة، عن (أسباب اختلاف المفسرين) و(أسباب اختلاف المُحدِّثين) و(أسباب اختلاف الفقهاء)، مثلاً، على امتداد التاريخ الإسلامي، لنُدرك أن ذلك الاختلاف موجودٌ موجود. وأن الجدلَ فيه يغلب أن يُصبحَ جدلاً مذموماً.. كما يَعرِفُهُ ويُعرِّفهُ العلماء.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضاً أن تلك الجهود كلها كانت، كما ألمحنا أعلاه، استجابةً لحاجات عصرها، ومحاولةً للتعامل مع تحديّات زمانها ومكانها المعيَّنين، ومحاولةً للإجابة على أسئلةٍ تتعلق بكيفية تنزيل الدين على الحياة الإنسانية، بحيث تكون تلك الحياةُ (طيبةً)، وبحيث يكون مآل الإنسان في الآخرة إلى الجنة.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار الإجماع الموجود بأن الرسول الكريم تُوفي في السنة الحادية عشرة للهجرة، والذي يعني، بكل أنواع المراجعة التاريخية، والمنطقية، أن المسلمين عاشوا على الأقل قرناً كاملاً، دون أن يضيع إيمانهم، قبل أي عملية تدوين للتفسير والفقه والحديث وغيرها. وأنهم استطاعوا أن (يعيشوا) هذا القرن، يُشيّدونَ ويَعمِّرُون. يجتهدون، فيصيبونَ ويُخطئون. يختلفون ويتقاتلون. يتفاهمون فيصطلحون. يجتاحون الأرض من حولهم، فتصل (دولتهم) إلى أقصاها تاريخياً، من أطراف الصين شرقاً إلى جنوب فرنسا غرباً.. يبنون خلافتين تمثلان في عين الغالبية العظمى من المسلمين ما قد يُسميه هؤلاء (العصر الذهبي للإسلام). بل إن الذين يؤمنون بصحّة الحديث الوارد في (البخاري): «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»، وهم غالبية المسلمين اليوم، يؤمنون بالتالي أن خير القرون في الإسلام كان قرناً لم تكن فيه علومٌ شرعية، ولم يكن فيه تدوين أصلاً، بالمعنى العلمي للكلمة.
عاش الإسلام إذاً، وعاش معه المسلمون، دون علوم شرعيةٍ أصلاً، قرناً كاملاً من الزمان. لم يختفِ دين الإسلام. لم يفنَ المُسلمون، أو يفقدوا إيمانهم بدينهم. بل على العكس تماماً، بلغَ الإسلام ذروته من ناحية المساحة الجغرافية (كدولةٍ تتحدث باسمه)، ومن ناحية الحيوية الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بكل خيرها وشرّها الإنساني.
سيرتجف كثيرون عندما نصل معهم سوياً إلى الفقرة أعلاه.
هذه السلسلة من المقالات بأسرها، إلى أن الهدف (الخفيّ) منها يكمن في (مؤامرةٍ) تتمثل في الدعوة لإلغاء العلوم الشرعية.
ليس هذا هدَفنا، ولستُ، في معرض التخطيط لمثل تلك المؤامرة.
وإنما نحن سوياً في معرض المساهمة لفتح هذا الملف الحساس، والمؤثر في حاضر المسلمين ومستقبلهم، وحاضر العالم ومستقبله، بشكلٍ واضحٍ ومنهجيٍ ومسؤول، بقدر ما في الوسع البشري من طاقة.
للتوضيح والبيان: سنضع (علم العقيدة) جانباً في هذه المقالات، لنعود إليه في نهاية السلسلة. لكننا سنضع نصب أعيننا أن نوضح، على الأقل، لماذا تحتاج علوم (التفسير) و(الحديث) و(الفقه)، تحديداً، إلى مراجعةٍ جذرية وشاملة.
وسندعو، بكل قوة، إلى أن يُشارك في العملية رجالٌ ونساء. نَعلمُ أنهم بشرٌ، سيُصيبون وسيُخطئون. لكنهم سيجتهدون لخدمة دينهم، والمسلمين، والبشرية جمعاء، بما يتوفر لديهم، في هذا العصر، من قدرات فكرية وذهنية، ومن كل معرفةٍ مُتاحة فيه، ومن أدوات ووسائل وتقنيات وعلوم (أخرى) وطرق دراسة وتحليل علمية ومنهجية تشكَّلُ مبلغَ عِلمهم في هذا الزمان.
ليس هذا هدَفنا، ولستُ، في معرض التخطيط لمثل تلك المؤامرة.
وإنما نحن سوياً في معرض المساهمة لفتح هذا الملف الحساس، والمؤثر في حاضر المسلمين ومستقبلهم، وحاضر العالم ومستقبله، بشكلٍ واضحٍ ومنهجيٍ ومسؤول، بقدر ما في الوسع البشري من طاقة.
للتوضيح والبيان: سنضع (علم العقيدة) جانباً في هذه المقالات، لنعود إليه في نهاية السلسلة. لكننا سنضع نصب أعيننا أن نوضح، على الأقل، لماذا تحتاج علوم (التفسير) و(الحديث) و(الفقه)، تحديداً، إلى مراجعةٍ جذرية وشاملة.
وسندعو، بكل قوة، إلى أن يُشارك في العملية رجالٌ ونساء. نَعلمُ أنهم بشرٌ، سيُصيبون وسيُخطئون. لكنهم سيجتهدون لخدمة دينهم، والمسلمين، والبشرية جمعاء، بما يتوفر لديهم، في هذا العصر، من قدرات فكرية وذهنية، ومن كل معرفةٍ مُتاحة فيه، ومن أدوات ووسائل وتقنيات وعلوم (أخرى) وطرق دراسة وتحليل علمية ومنهجية تشكَّلُ مبلغَ عِلمهم في هذا الزمان.
علي راي احمد ماهر انا افضل من الشافعي وابو حنيفة
في حتمية المراجعة الجذرية لـ «العلوم الشرعية» (٢): حادثة السقيفة
في حتمية المراجعة الجذرية لـ(العلوم الشرعية) (6): ماذا فعل (التدوين) بالعقل المسلم ؟
ما هي العلاقة بين الجزء الثابت من عنوان هذه السلسلة، والمتعلق بضرورة مراجعة العلوم الشرعية، وبين ما تحدَّثنا عنه حتى الآن فيما يخص حادثة السقيفة، وماذا جرى بعد وفاة الرسول (المؤسِّس)، وحروب الردة؟
منذ تصاعد التدوين مع منتصف القرن الثاني الهجري، ومع التفصيل المتزايد والهائل الذي نتجَ عنه، وامتدَّ إلى فروع الفروع في حياة الناس، بدأ العقل المسلم رحلةً غريبة.. فبدلاً من أن يحاولَ، هوَ، فهمَ شؤون حياته التي تَدخُلُ في مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة والفن والأدب، بمزيجٍ من حسابات العقل المتعلقة بالخبرات البشرية في تلك المجالات من ناحية، ومن مُعطيات النص (المقاصدية) من ناحية ثانية، صارَ كل شيءٍ، بالتدريج، ولكن بسرعةٍ كبيرة، دينًا بحتًا. وفقدَ العقل المسلم استقلاليته تدريجيًا حتى صار، ومعهُ الإنسان وحياتهُ، عالةً على المفسِّرين والمُحدِّثين والفقهاء. وسادَ مع الأمر في واقع المسلمين، على مرور العقود والقرون، التواكلُ والتقليد والكسلُ والآبائية، وكل ما حذّرَ القرآنُ المسلمينَ من الوقوع فيه، مما يقتل مقاصد الدين في الحياة.
يحكي القرآن عن دينٍ ودُنيا، وتجري الكلمتان على أَلسِنةِ الناس إلى هذا اليوم، لكن الواقع يقول إن كل شيءٍ في هذه الحياة أصبحَ (دينًا)، بالدلالات والتوجيهات التفصيلية الشاملة للكلمة إلى حدٍ كبير، كما ورَدَت في آلاف المجلدات (النصّية)، ولم تكد تبقى ثَمةُ (دنيا) يعيش فيها الإنسان بفطرتهِ السليمة، أو ما جُبل عليه من خيرٍ أساسي ينبثق من نفخة الروح الإلهية فيه، أو بما تعارف الناسُ على أنه حقٌ وعدلٌ وخيرٌ وجَمال.
تضخَّمت النصوص بشكلٍ هائل، في كل مجال. فلم يكن ثمَّة بدٌ أن تتغلغل في بيوت الناس، من غرف نومهم إلى حماماتهم، مرورًا بغُرفِ الطعام والجلوس. أصبح الإنسان المسلم (الملتزم) مُحاصرًا بالتعليمات والتوجيهات والفتاوى التي تقولُ له ماذا يفعل فيما يخص كل شيءٍ في حياته: كيف يأكل، ويشرب، ويقضي حاجته، ويلبس، ويغتسل، ويمشي، وينام، ويصحو، ويأتي زوجه، ويدخل، ويخرج، ويعطسُ، ويجلس، ويقوم، ويقص أظافره وشعره، وينظف أسنانه، ويتعامل مع لحيته، وحواجبه (ها). والأرجح أن يتعلم، بالتفصيل، كيف يتعامل مع زوجه، وكيف يُربِّي أبناءه، وكيف يقضي نهارهُ وليلهُ، وماذا يقول في أغلب الحالات التي يشهدُها يومهُ، وماذا لا يقول، ومع مَن يتحدث، وكيف يتحدث، وما هو موقفه من المرأة إن كان رجلاً، أو من الرجل إن كانت امرأةً، ومن (الآخر) غير المسلم، ومن (الآخر) المسلم من غير مذهبه، ومن السلاطين والحكَّام والولاة، وما هو موقفه من الفنون والآداب والترفيه والفرح والضحك والتسلية. هذا فضلاً عن آلاف التعاليم الأخرى التي تكاد تستغرق كل لحظةٍ في حياته اليومية، وآلاف أخرى تتعلق بتفاصيل العبادات المتعلقةِ بإسلامه.
لن نسمح في هذا المقام بالاصطياد في الماء العكر، كما يقولون. فنحنُ لا نتحدَّث عن التوجيهات الأساسية لله ورسوله، والتي فهمَ مقاصدها، ولا يزال، البُسطاء من الناس، لأنها بالضبط، تنسجم مع فطرة الإنسان السليمة، ومع ما جُبلَ عليه من خيرٍ أساسي ينبعُ من نفخة الروح الإلهية فيه، ومع ما تعارف الناسُ على أنه حقٌ وعدلٌ وخيرٌ وجَمال. وإنما الحديث عن ملايين الصفحات التي لوَّنها بعض كُتَّاب الفقه والتفسير والسيرة بما ذكروا أنهم (استنبطوه) (هُم) من كلام الله ورسوله، وبنوا منه (نصوصًا) زاحَمت، بشهادة الواقع التاريخي والمعاصر، القرآن (النص الأصلي والأساسي)، حتى حاصرت عقول الناس وأرواحهم وأجسادهم وخَنقَتها في قوالبَ (نصّية)، بدل أن يُترك الناس وتديُّنُهم لاجتهادهم وتفاعل عقولهم وخبراتهم وتجاربهم مع فهمهم للنص الأصلي، ومع ما هم عليه من فطرة، وما يمتلكونه بأثرِ نفخة الروح الإلهية فيهم، وما يعرفونه يقينًا مما تعارفَ عليه الناس من (معروف).
أكثر من هذا، لسنا هنا في مقام غمط الناس، من فقهاء ومفسرين ومحدثين، حقهم، والتهجم عليهم واتهام نياتهم. فالواضح، في غالبية الحالات، أن نيتهم كانت تتمثل فيما رأوا أنه خدمة الإسلام والمسلمين، في زمنهم، ووفق حاجاتهم وظروفهم الخاصة. تلك إذًا (أمةٌ قد خلت لها ما كسبت)، وما علينا سوى أن نكون بإزاء مواجهة مسؤوليتنا و(كسبنا) الذي أكد القرآن أننا سنسأل عنه.
سنرجع لكل هذا بمزيدٍ من التفصيل. لكن الحديث عنه مناسبٌ لكي يتمكَّن القارئ من الربط بين المواضيع من جهة، ولأن هناك، من جهةٍ أخرى، مثالًا مُعبّرًا عن المسألة يتعلق بحروب الردِّة التي تكلمنا عنها في المقال السابق.
فمقابل الفهم والتفسير (الديني) البحت لتلك الظاهرة، وهو السائدُ بشكلٍ كامل في كُتب التراث، يمكن النظر إليها من جانبٍ آخر تحدَّثَ عنه بعض المعاصرين، فيه سياسةٌ وثقافةٌ واجتماعٌ بشري، لكن حديثهم هذا أُبقيَ على الهامش، وسُلِّطَت عليه أشعةُ الحرمان. وهو ما سيكون موضوع المقال القادم من هذه السلسلة.
فمقابل الفهم والتفسير (الديني) البحت لتلك الظاهرة، وهو السائدُ بشكلٍ كامل في كُتب التراث، يمكن النظر إليها من جانبٍ آخر تحدَّثَ عنه بعض المعاصرين، فيه سياسةٌ وثقافةٌ واجتماعٌ بشري، لكن حديثهم هذا أُبقيَ على الهامش، وسُلِّطَت عليه أشعةُ الحرمان. وهو ما سيكون موضوع المقال القادم من هذه السلسلة.
+++++++++++++++++
مُراجعاتُـ(نَا).. ومُراجعاتُـ(هُم)!
ما من شكٍ أننا، عرباً ومسلمين، نعيش زمن (التحديات). ولن يكون مُبالغاً فيه إذا قلنا إننا نمرُّ بأزمةٍ (وجوديةٍ)، بكلِّ معنى الكلمة، وعلى كلِّ المستويات. من هنا، قد يتساءل البعض:
هل ثمة حاجةٌ للحديث عن المراجعات والإصلاح في زمن التحديات؟ وفي عزِّ مرحلة الأزمة؟ أم أن الأَولَى تأجيل ذلك الحديث في مثل هذا الزمن تحديداً؟. يَطرح السؤال نفسهُ على الواقع العربي والإسلامي بقوة، خاصةً حين يتعلق الأمر بموضوع المراجعات المتعلقة بفهم الإسلام، وكيفية تعامله مع ذلك الواقع.
دعونا نُفكر بوجهٍ آخرَ للمسألة يتعلق بها بشكلٍ حميم. «ألا ترى كيف يطرح كثيرٌ من المفكرين والمثقفين والنشطاء والإعلاميين الغربيين بقوة وصراحة حجم المشكلات التي يمرُّ بها الغربُ نفسه، وتحديداً في أمريكا ثم أوروبا؟»، كان هذا السؤال، ولايزال، يتكرر على أسماعي خلال العامين الماضيين على الأقل، بتعبيرات مختلفة، وتحديداً من قِبَلِ مثقفين (إسلاميين). والمفارقةُ أن السؤال غالباً ماكان يُطرح بدرجةٍ ظاهرةٍ من الاحتفاء بمضمونه، يُصاحبُها نوعٍ من الفرحة الممزوجة بالشماتة!
يتعلقُ الأمر، طبعاً، بكتابات غربية متزايدة، تدخل في إطار ما يمكن تسميته عملية مراجعات ثقافية وسياسية. وهي مراجعاتٌ تمارسها اليوم شرائح واسعة من الخبراء والمثقفين والنُشطاء والإعلاميين، في الغرب بشكلٍ عام، وفي الولايات المتحدة تحديداً، على الأحداث العالمية الراهنة.
فمن المشكلات الكبرى بين المؤسستين التنفيذية والتشريعية في أمريكا.. مروراً بإعادة النظر في منظومات أساسية كبرى، كالديمقراطية والليبرالية والحداثة، خاصةً مع صعود اليمين العالمي والشعبوية، وصولاً إلى الفوضى الضاربة في النظام الدولي، وما يُسمى «موت السياسة» فيه، مع تقزُّم ساسةِ هذا العصر. ثمة مئات من الكتب والدراسات والمقالات التي تُغطي المواضيع المذكورة، وكل ماله بها من علاقة، بالبحث والتحليل، الذي يوصف بـ (النقدي)، قبل وأكثر من أي شيءٍ آخر.
المفارقة الثانية أن كلام الأصدقاء (المثقفين) كان يدخل في إطار عتبٍ، مُباشرٍ، أوغير مباشر، يُوجَّهُ لكاتب هذه الكلمات، ولغيره ممن كانوا ولا يزالون يحاولون -للمفارقة أيضاً، وما أكثر المفارقات- ممارسة عملية المراجعات نفسها داخل الإطار الحضاري والثقافي والسياسي العربي والإسلامي. وهذا اعتقاداً منهم بضرورة تكامل هذه العملية على ضفتي نهر الحضارة الإنسانية العالمية الراهنة، الغربيّ منها والشرقي.
وتلك ازدواجيةٌ فاتت هؤلاء الأصدقاء ممن يُحسَبون، عُرفاً، على المثقفين والعلماء. حصلَ هذا ويحصلُ دائماً في خضمّ الحشد العاطفي الذي يحاصرُ نفسه، ويحاصرُ العرب والمسلمين، في نفسية وعقلية وروح (المظلومية). هذا المظلوم البريء الذي تتكالب عليه الدنيا من كل حدب وصوب، دونما ذنبٍ اقترفته يداه، أو خطأ وقعَ فيه.
يُضطر المرء هنا لتكرار ماذكرناه سابقاً من أن «الشروع في عملية المراجعات، والاستمرار بها، في خضم الأزمات إنما يمثل ممارسةً حضارية بالغةَ الرُّقي والدلالة على قوةِ من يُمارسها وتجرُّده. وهي قبل ذلك إفرازٌ للمنهجية القرآنية التي تريد أن تُعلّم الإنسان أن ينظر أوّلَ ما ينظر في أوقات الأزمات والفتن إلى الداخل، إلى الذات، يبحث عن أخطائها وقصورها، بدلاً من القفز مباشرة إلى الخارج وإلى الأخر بغرض إلقاء التّبعة والتّهم عليه بشكل كامل، كما هو حالنا في أزماتنا السابقة والراهنة».
وأن هذه الطريقة في التفكير هي «مصداقٌ لمنهج أصيل يملك القدرة على التجّرد والمراجعة والاعتراف بالخطأ في قمّة الأزمة، ويملك في الوقت نفسه يقيناً راسخاً بأن ممارسة التصحيح الذاتي هي، وحدها، الطريق الأضمن للتعامل مع الهزائم والتراجعات والأزمات، دونما حاجةٍ للشكوى من الطرف الآخر، وإلى صبّ اللعنات والشتائم والاتهامات من كل نوعٍ، عليه.
تُفرز هذه الرؤية ثقةً كبيرة بالنفس، وتدلُّ على امتلاك الإنسان لقوةٍ داخليةٍ هائلة، تجعله يوقن بأن فِعله البشري هو سيدُ الموقف، وهو الذي يملك صناعة الحدث ويؤثر فيه ويقوده بالاتجاه الذي يريد، مهما كان موقف الطرف الآخر، ومهما كانت قوته وجبروته. شرطَ أن يكون من أهمّ عناصر فعله البشري المطلوب ممارسةُ النقد الذاتي باستمرار، والاعتراف بالخطأ، والتراجع عنه، خصوصاً في وقت الأزمات».
الغريبُ، والمحزنُ في الوقت ذاته، ألا ينتبه الكثيرون، من أمثال أصحابنا المثقفين (الإسلاميين)، إلى حقيقة أن تلك المقالات والدراسات والمراجعات النقدية التي يتحدثون عنها إنما هي منشورةٌ أصلاً في الصحف والمجلات الغربية! وبِلُغةِ أهل البلاد التي تَصدرُ فيها تلك الصحف والمجلات. بمعنى أن الوارد فيها هو نقدٌ ذاتيٌ داخلي لثقافتهم وشعوبهم وأنظمتهم السياسية والاقتصادية. وهو، لذلك، بمثابة التعبير الصادق عن المراجعات الكبرى التي يقوم بها الأقوياء، ثم لا يضيرُهم في شيءٍ أن يقرأها الآخرون بعد ذلك. بل ولا يعنيهم، في كثيرٍ أو قليل، أن يفرحوا ويغتبطوا بها، ويشعروا بالشماتة! بل والطُمأنينة، بأن الغرب ينهارُ من داخله!
سيغضبُ كثيرون، لهذا، حين نقول إن مثقفي الغرب يتمثلون المنهج القرآني أكثر بكثير ممن يرون أنفسهم مثقفين (إسلاميين).
وإن كان البعض يخاف من الفوضى بسبب المراجعات في زمن الأزمة، فإن غيابها تحديداً هو الذي يؤدي إلى المزيد من الغرق في المآزق على جميع المستويات. من هنا، وفي حين يفرح البعض بقضية حفظ القرآن الواردة فيه، فإن «سُنة الزوال والاستبدال» لمن لايستحقون تَمثُّل الدين وتمثيله، هي مايغفلونَ عنه بشكلٍ مُخيف، في حين ينبغي أن تكون شُغلهم الشّاغل..
يتعلقُ الأمر، طبعاً، بكتابات غربية متزايدة، تدخل في إطار ما يمكن تسميته عملية مراجعات ثقافية وسياسية. وهي مراجعاتٌ تمارسها اليوم شرائح واسعة من الخبراء والمثقفين والنُشطاء والإعلاميين، في الغرب بشكلٍ عام، وفي الولايات المتحدة تحديداً، على الأحداث العالمية الراهنة.
فمن المشكلات الكبرى بين المؤسستين التنفيذية والتشريعية في أمريكا.. مروراً بإعادة النظر في منظومات أساسية كبرى، كالديمقراطية والليبرالية والحداثة، خاصةً مع صعود اليمين العالمي والشعبوية، وصولاً إلى الفوضى الضاربة في النظام الدولي، وما يُسمى «موت السياسة» فيه، مع تقزُّم ساسةِ هذا العصر. ثمة مئات من الكتب والدراسات والمقالات التي تُغطي المواضيع المذكورة، وكل ماله بها من علاقة، بالبحث والتحليل، الذي يوصف بـ (النقدي)، قبل وأكثر من أي شيءٍ آخر.
المفارقة الثانية أن كلام الأصدقاء (المثقفين) كان يدخل في إطار عتبٍ، مُباشرٍ، أوغير مباشر، يُوجَّهُ لكاتب هذه الكلمات، ولغيره ممن كانوا ولا يزالون يحاولون -للمفارقة أيضاً، وما أكثر المفارقات- ممارسة عملية المراجعات نفسها داخل الإطار الحضاري والثقافي والسياسي العربي والإسلامي. وهذا اعتقاداً منهم بضرورة تكامل هذه العملية على ضفتي نهر الحضارة الإنسانية العالمية الراهنة، الغربيّ منها والشرقي.
وتلك ازدواجيةٌ فاتت هؤلاء الأصدقاء ممن يُحسَبون، عُرفاً، على المثقفين والعلماء. حصلَ هذا ويحصلُ دائماً في خضمّ الحشد العاطفي الذي يحاصرُ نفسه، ويحاصرُ العرب والمسلمين، في نفسية وعقلية وروح (المظلومية). هذا المظلوم البريء الذي تتكالب عليه الدنيا من كل حدب وصوب، دونما ذنبٍ اقترفته يداه، أو خطأ وقعَ فيه.
يُضطر المرء هنا لتكرار ماذكرناه سابقاً من أن «الشروع في عملية المراجعات، والاستمرار بها، في خضم الأزمات إنما يمثل ممارسةً حضارية بالغةَ الرُّقي والدلالة على قوةِ من يُمارسها وتجرُّده. وهي قبل ذلك إفرازٌ للمنهجية القرآنية التي تريد أن تُعلّم الإنسان أن ينظر أوّلَ ما ينظر في أوقات الأزمات والفتن إلى الداخل، إلى الذات، يبحث عن أخطائها وقصورها، بدلاً من القفز مباشرة إلى الخارج وإلى الأخر بغرض إلقاء التّبعة والتّهم عليه بشكل كامل، كما هو حالنا في أزماتنا السابقة والراهنة».
وأن هذه الطريقة في التفكير هي «مصداقٌ لمنهج أصيل يملك القدرة على التجّرد والمراجعة والاعتراف بالخطأ في قمّة الأزمة، ويملك في الوقت نفسه يقيناً راسخاً بأن ممارسة التصحيح الذاتي هي، وحدها، الطريق الأضمن للتعامل مع الهزائم والتراجعات والأزمات، دونما حاجةٍ للشكوى من الطرف الآخر، وإلى صبّ اللعنات والشتائم والاتهامات من كل نوعٍ، عليه.
تُفرز هذه الرؤية ثقةً كبيرة بالنفس، وتدلُّ على امتلاك الإنسان لقوةٍ داخليةٍ هائلة، تجعله يوقن بأن فِعله البشري هو سيدُ الموقف، وهو الذي يملك صناعة الحدث ويؤثر فيه ويقوده بالاتجاه الذي يريد، مهما كان موقف الطرف الآخر، ومهما كانت قوته وجبروته. شرطَ أن يكون من أهمّ عناصر فعله البشري المطلوب ممارسةُ النقد الذاتي باستمرار، والاعتراف بالخطأ، والتراجع عنه، خصوصاً في وقت الأزمات».
الغريبُ، والمحزنُ في الوقت ذاته، ألا ينتبه الكثيرون، من أمثال أصحابنا المثقفين (الإسلاميين)، إلى حقيقة أن تلك المقالات والدراسات والمراجعات النقدية التي يتحدثون عنها إنما هي منشورةٌ أصلاً في الصحف والمجلات الغربية! وبِلُغةِ أهل البلاد التي تَصدرُ فيها تلك الصحف والمجلات. بمعنى أن الوارد فيها هو نقدٌ ذاتيٌ داخلي لثقافتهم وشعوبهم وأنظمتهم السياسية والاقتصادية. وهو، لذلك، بمثابة التعبير الصادق عن المراجعات الكبرى التي يقوم بها الأقوياء، ثم لا يضيرُهم في شيءٍ أن يقرأها الآخرون بعد ذلك. بل ولا يعنيهم، في كثيرٍ أو قليل، أن يفرحوا ويغتبطوا بها، ويشعروا بالشماتة! بل والطُمأنينة، بأن الغرب ينهارُ من داخله!
سيغضبُ كثيرون، لهذا، حين نقول إن مثقفي الغرب يتمثلون المنهج القرآني أكثر بكثير ممن يرون أنفسهم مثقفين (إسلاميين).
وإن كان البعض يخاف من الفوضى بسبب المراجعات في زمن الأزمة، فإن غيابها تحديداً هو الذي يؤدي إلى المزيد من الغرق في المآزق على جميع المستويات. من هنا، وفي حين يفرح البعض بقضية حفظ القرآن الواردة فيه، فإن «سُنة الزوال والاستبدال» لمن لايستحقون تَمثُّل الدين وتمثيله، هي مايغفلونَ عنه بشكلٍ مُخيف، في حين ينبغي أن تكون شُغلهم الشّاغل..
++++++++
حظرُ المُراجعات: نقضُ عُرى الإسلام بدعوى حمايتها !
آن لنا الاعترافُ بأن المسلم بات يحفظ عن ظهر قلب، ومنذ عقود، جميع سيناريوهات التآمر لهدم الإسلام، والتي تستهدف وجودَهُ وهويته. حدَثَ هذا ولايزال يحدث إلى درجةٍ اختلطت فيها الحقيقةُ بالخيال والأوهام. بل وإلى مستوىً جَعَلهُ هو نفسه مُبدعاً في ابتكار سيناريوهات جديدة لتلك الممارسة المشؤومة.
يظهرُ الأمر بقوةٍ مع كل دعوةٍ لممارسة المراجعات، وللتساؤل عن حقيقة ماهو ثابتٌ وماهو متغيرٌ في الدين، والبحث فيما هو مقدسٌ وغير مقدس فيه. تماماً كما يحصل مع كاتب هذه الكلمات، وغيره كثير، لمجرد الخوض في هذه المسألة.
آن الأوان، أيضاً، لنعترف أن كثيراً من مثقفينا وعلمائنا يساهمون في تأزيم الوضع الفكري، وبالتالي الاجتماعي والاقتصادي والأمني العربي والإسلامي عبر تكرار تلك الممارسات. وهم يسحبون من إنساننا القدرة على الفعل الضروري، فعلِ المراجعة والنقد والتصحيح الذاتي، ليضعوا هذا الإنسان في موقع حيرةٍ شديدة، إما أن تؤدي إلى الانفجار، أو إلى اليأس والإحباط والهزيمة الداخلية والانسحاب الكامل. فهذا ما يحدث في حالات الانسداد الثقافية، والناتجة عن افتقاد الإجابات على الأسئلة الكبرى التي يطرحها الواقع الصعب المعقّد، كما هو الوضع تماماً في الحال الراهنة للعرب والمسلمين.
رغم هذا، يبقى واقعنا مُبشِّراً، ليس فقط بوجود مَنْ يمضون قدُماً في التساؤل وفتح الملفات والبحث عن إجابات جديدة، بل وفي اتساع دوائر هؤلاء، رغم كل عمليات التشكيك والاتهام والتخوين! أما الباحثون عن (الحقيقة)، فسيتقدمون خطوات في طريقهم عند الاطلاع على كثافة الإنتاج في هذا المجال. لنفتح الباب هنا أمام واحدٍ من هؤلاء.
في دراسةٍ هامة له بعنوان: (أصفاد الدين: قضية الإصلاح الديني ومُعضلة الثوابت)، يقول الباحث علي علي أستاذ الدكتوراه في فلسفة التشريع الإسلامي: «لا يوجد في الإسلام ثابتٌ لم يختلف المسلمون حوله بدرجةٍ ما... فإذا كان المسلمون مختلفين حول ذات الله وصفاته وأسمائه وأفعاله ومكانه وغير ذلك، ويختلفون أكثر فيما يتعلق بالنبوة وكذلك في القرآن، فما معنى الكلام، حينئذ، عن ثوابت الدين أو مسلماته أو المعلوم منه بالضرورة؟... [إن] الثوابت المنسوبة للأكثرية تظلُّ مقيدة بكثرتها، والكثرة غير ثابتة».
رغم هذا، يبقى واقعنا مُبشِّراً، ليس فقط بوجود مَنْ يمضون قدُماً في التساؤل وفتح الملفات والبحث عن إجابات جديدة، بل وفي اتساع دوائر هؤلاء، رغم كل عمليات التشكيك والاتهام والتخوين! أما الباحثون عن (الحقيقة)، فسيتقدمون خطوات في طريقهم عند الاطلاع على كثافة الإنتاج في هذا المجال. لنفتح الباب هنا أمام واحدٍ من هؤلاء.
في دراسةٍ هامة له بعنوان: (أصفاد الدين: قضية الإصلاح الديني ومُعضلة الثوابت)، يقول الباحث علي علي أستاذ الدكتوراه في فلسفة التشريع الإسلامي: «لا يوجد في الإسلام ثابتٌ لم يختلف المسلمون حوله بدرجةٍ ما... فإذا كان المسلمون مختلفين حول ذات الله وصفاته وأسمائه وأفعاله ومكانه وغير ذلك، ويختلفون أكثر فيما يتعلق بالنبوة وكذلك في القرآن، فما معنى الكلام، حينئذ، عن ثوابت الدين أو مسلماته أو المعلوم منه بالضرورة؟... [إن] الثوابت المنسوبة للأكثرية تظلُّ مقيدة بكثرتها، والكثرة غير ثابتة».
بعدها، يتطرق الباحث إلى ذلك السؤال (المُفحمِ) في نظر أصحابه، والذي يُشهرُ، دوماً، سيفاً في وجه دعاة الإصلاح والمراجعة. يأتي هذا في معرض حديثه عن التغييرات الكبرى التي شهدتها الإنسانية، حيث يقول: «هذا التغيير الهائل في مقومات المجتمع الإنساني لا يمكن أن يَمرَّ على الدين بلا تأثير، وجديرٌ بالتأثير أن يناسب قدرَ التغيير. تأثير الحداثة له مناحٍ عديدة في الدين ولكن المقصود في سياق موضوعنا هو ذلك التأثير الذي يمهد للإجابة عن السؤال الذي يواجه كل من نادى أو عمل لتغيير معهود الدين: كيف عرفت من الدين ما لم يعرفه كل علماء المسلمين في أربعة عشر قرناً، وهم أقرب إلى زمن النبوة، وفي الغالب أكثر صلاحاً وعلماً؟
الإشارة هنا ليست فقط إلى نسبية التشريعات أو المفاهيم، كأن نقول إن الحداثة تستدعي تغيير بعض التشريعات أو المناهج التي صحَّت في الماضي لتُناسِبَ زمناً مختلفاً. بل الإشارة أقوى هنا إلى أن الحداثة ساعدت في الكشف عن أخطاء في التشريعات أو المناهج ظلت قائمة طوال أربعة عشر قرناً دون أن ينتبه إليها أحد. ولا غرابة في ذلك، فالأمر لا يقتصر على الدين، حيث تصححت بعد الحداثة مفاهيم شتى في علوم مختلفة ظلت سائدة منذ بدء الحضارة. فكثير من المقولات التي أنتجها الفكر الإنساني ظلت في حصن من الامتحان لصدقها لآلاف السنين، ثم انهارت دفعة واحدة مع غزارة الأدوات التي صارت في يد الإنسانية... والأمر لا ينحصر في الماديات والكشوفات العلمية. فالتغيير الذي حصل في أدوات الإنتاج والمعرفة غيّر مناحي الاجتماع الإنساني في كل شيء، في الاقتصاد والسياسة والقانون، بل وحتى الأخلاق. لا ينبغي أن يستنكف المؤمنون أن يعرضوا ما ظنوه لزمنٍ طويل من ثوابت الدين للامتحان والنقد بما صار في أيديهم من أدوات؛ فمعرفة الحق أولى من حفظ المعهود».
هذا مع خلافنا الجزئي مع الباحث في مسألة تعميم عدم الانتباه تاريخياً للأخطاء في التشريعات أو المناهج. فقد نَشَرنا في هذه الصفحة أمثلةً شتى على وجود من انتبه لها، ونَبَّهَ إليها، في سلسلة مقالات ماضية بعنوان (لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟).
لكن الباحث يختم دراسته بمثالٍ مُعبّر لتفسير الظاهرة، يستحقُّ التفكير، حيث يقول: «ختاماً، فقد درج الناس على التمثيل لحالة الكشف الروحي أو الهداية الدينية، إذا حصلت فجأة بأنها رؤية النور، يقولون فلان رأى النور. ولكن الرهبة الشديدة من المؤمنين تجاه موضوع الثوابت الدينية هي أقرب لحالة تسليط الضوء مباشرةً على العينين، فتغدو مادةُ الهداية سبباً في العِماية. لكي نرى، نحتاج أن نحفظ مسافة بيننا ومصدر الضوء؛ فالعبرة أن يضيء ما حولنا، فنمشي لا أن يتسلط علينا فنكمُنَ. ومفتاحُ الذهنِ المُغلَق هو أن يرى أصفادَه».
الإشارة هنا ليست فقط إلى نسبية التشريعات أو المفاهيم، كأن نقول إن الحداثة تستدعي تغيير بعض التشريعات أو المناهج التي صحَّت في الماضي لتُناسِبَ زمناً مختلفاً. بل الإشارة أقوى هنا إلى أن الحداثة ساعدت في الكشف عن أخطاء في التشريعات أو المناهج ظلت قائمة طوال أربعة عشر قرناً دون أن ينتبه إليها أحد. ولا غرابة في ذلك، فالأمر لا يقتصر على الدين، حيث تصححت بعد الحداثة مفاهيم شتى في علوم مختلفة ظلت سائدة منذ بدء الحضارة. فكثير من المقولات التي أنتجها الفكر الإنساني ظلت في حصن من الامتحان لصدقها لآلاف السنين، ثم انهارت دفعة واحدة مع غزارة الأدوات التي صارت في يد الإنسانية... والأمر لا ينحصر في الماديات والكشوفات العلمية. فالتغيير الذي حصل في أدوات الإنتاج والمعرفة غيّر مناحي الاجتماع الإنساني في كل شيء، في الاقتصاد والسياسة والقانون، بل وحتى الأخلاق. لا ينبغي أن يستنكف المؤمنون أن يعرضوا ما ظنوه لزمنٍ طويل من ثوابت الدين للامتحان والنقد بما صار في أيديهم من أدوات؛ فمعرفة الحق أولى من حفظ المعهود».
هذا مع خلافنا الجزئي مع الباحث في مسألة تعميم عدم الانتباه تاريخياً للأخطاء في التشريعات أو المناهج. فقد نَشَرنا في هذه الصفحة أمثلةً شتى على وجود من انتبه لها، ونَبَّهَ إليها، في سلسلة مقالات ماضية بعنوان (لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟).
لكن الباحث يختم دراسته بمثالٍ مُعبّر لتفسير الظاهرة، يستحقُّ التفكير، حيث يقول: «ختاماً، فقد درج الناس على التمثيل لحالة الكشف الروحي أو الهداية الدينية، إذا حصلت فجأة بأنها رؤية النور، يقولون فلان رأى النور. ولكن الرهبة الشديدة من المؤمنين تجاه موضوع الثوابت الدينية هي أقرب لحالة تسليط الضوء مباشرةً على العينين، فتغدو مادةُ الهداية سبباً في العِماية. لكي نرى، نحتاج أن نحفظ مسافة بيننا ومصدر الضوء؛ فالعبرة أن يضيء ما حولنا، فنمشي لا أن يتسلط علينا فنكمُنَ. ومفتاحُ الذهنِ المُغلَق هو أن يرى أصفادَه».
++++++++++++++++
أيُّ «ثوابت»؟ وأيُّ «مُقدَّسات»؟ (١)
عندما يغيب تحرير المصطلحات من ناحية، وتختفي الرؤية المقاصدية من ناحية ثانية، يَنتُجُ من الفوضى الفكرية والعملية أكثر مما ينتج من الفهم الموضوعي لأي مسألةً يجري البحثُ فيها. هذا أمرٌ بات يتكرر عند الحديث عن جملة مسائل حساسة أصبحت اليوم مجالاً للحوار في الساحة الثقافية العربية والإسلامية. من هنا، كان لابد عند الحديث عن الموضوع تحريرُ مجموعة أمور، ينبغي أن تُفتح فيها الحوارات المنهجية من قبل أهل الاختصاص والعلم، ويأتي طرحُها هنا على شكل إشارات سريعة يفهمها أولو الألباب، ويسمحُ بها الحيّزُ المتوفر في هذا المقام.
أولاً، وقبل كل شيء، لا مفرَّ من تحرير وتحديد طبيعة وماهيّة (المقدسات) و(الثوابت) التي يتحدث البعض عن «عدم احترامها».. والتي يبدو أن دوائرها تتسعُ وتكبر بشكلٍ خارجٍ عن كل سيطرةٍ منطقية، إلى درجةٍ تمَّ فيها تقزيمُ الإسلام كلّه، بحيث صارت تُهدِّدهُ بالخطر كلماتٌ في رواية، أو عباراتٌ في مقالة، أو صفحاتٌ في كتاب، أو مقاطعُ في أغنية!
وكذلك أصبحت آراء بعض العلماء وفتاويهم، سواء كانوا معاصرين أو قدماء، ضمن دائرة المقدسات تلك. لا يجوز مناقشتها والحوار فيها، فضلاً عن تفنيدها والرد عليها وإظهار عيوبها ومثالبها. وصار كل حديثٍ في ذلك، عند البعض، تعرضاً للعلماء وإساءةً لهم، وانتقاصاً، بالتالي، من الدين وثوابته.
أولاً، وقبل كل شيء، لا مفرَّ من تحرير وتحديد طبيعة وماهيّة (المقدسات) و(الثوابت) التي يتحدث البعض عن «عدم احترامها».. والتي يبدو أن دوائرها تتسعُ وتكبر بشكلٍ خارجٍ عن كل سيطرةٍ منطقية، إلى درجةٍ تمَّ فيها تقزيمُ الإسلام كلّه، بحيث صارت تُهدِّدهُ بالخطر كلماتٌ في رواية، أو عباراتٌ في مقالة، أو صفحاتٌ في كتاب، أو مقاطعُ في أغنية!
وكذلك أصبحت آراء بعض العلماء وفتاويهم، سواء كانوا معاصرين أو قدماء، ضمن دائرة المقدسات تلك. لا يجوز مناقشتها والحوار فيها، فضلاً عن تفنيدها والرد عليها وإظهار عيوبها ومثالبها. وصار كل حديثٍ في ذلك، عند البعض، تعرضاً للعلماء وإساءةً لهم، وانتقاصاً، بالتالي، من الدين وثوابته.
ففي ثقافةٍ تؤثر السلامة والكسل الذهني، وتحتفي بالمنع وسيلةً للحفاظ على القيم، وفي ثقافةٍ اختلطت فيها مقاصد الشرع بأفهام البشر والعادات والتقاليد، وفي ثقافةٍ شكّلت جزءاً كبيراً منها، على مدى التاريخ، مصالحُ أفراد أقوياء سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، توسّعت دائرة ما توصف على أنها (محرّمات)، وتكاثرت أنواع ما يُقال بأنها (مقدّسات) و(ثوابت).
وكانت أول خطوة، وأسهل خطوة، وأقوى خطوة: توسيع دائرة المحرمات في كل مجال من تلك المجالات. ومع توسيع دائرة المحرمات، تتضخم بشكل سرطاني أنواع المقدسات والثوابت. ويتضاعف بشكلٍ مضطرد عدد القضايا والأفكار والمقامات التي لا يمكن مسُّها أو النقاش فيها أو مجرد الإشارة إليها.
والغريب أن كثيراً ممن يتصدون لمثل هذه المعارك يغفلون أو يتغافلون عن حقيقة في غاية الأهمية، يمكن أن تحسم كثيراً من الجدل، حتى في قضايا أكبر من بعض المسائل التي يجري تسليط الأضواء عليها. ففي مسألة مثل التعرض إلى الذات الإلهية وإنكار وجودها ابتداءً، نجد أن القرآن الكريم أوردَ وحفظ ما يصعب حصره من دعاوى غير المسلمين وآرائهم ومقولاتهم واتهاماتهم، أياً كانوا وأياً كانت في هذا الباب، من فرعون إلى أهل قريش، مروراً بالرافضين للدين والتدين ووجود إله، من سائر الملل والجماعات البشرية والأقوام على مر التاريخ. بل إن القرآن تجاوز هذا، كما يذكر الدكتور المقرئ الإدريسي وهو المتخصص في الدراسات الألسنية، إلى إضفاء مسحته الجمالية البلاغية على تلك الاتهامات والآراء، وأن يضمنَ لها، فوقَ ذلك، الخلود إلى يوم الدين، من خلال إيرادها وذكرها في ثنايا سوره العديدة.
وفي الواقع العملي، نجد أن المسلمين لم يُصابوا، غالباً، بذلك التشنج والرعب والفزع الذي يصيب البعض اليوم من مجرد ذكر هذه القضايا، ويسري هذا بالدرجة نفسها على كل ما هو دون ذلك من المسائل والقضايا التي تتعلق بالرسول المصطفى، وبتعاليم الإسلام بشكل عام.
والشاهد أن الفوضى الفكرية التي تُغلِّفُ حياتنا المعاصرة باتت تسمح لكل من هبّ ودبّ بتحديد ما هي تلك المقدسات والثوابت التي يجب احترامها، ولا يجوز أن تطولها حرية التعبير. بعيداً عن الرؤية المؤسساتية التخصصية التي يجب أن تضع هذه القضايا في نصابها الصحيح.
وكانت أول خطوة، وأسهل خطوة، وأقوى خطوة: توسيع دائرة المحرمات في كل مجال من تلك المجالات. ومع توسيع دائرة المحرمات، تتضخم بشكل سرطاني أنواع المقدسات والثوابت. ويتضاعف بشكلٍ مضطرد عدد القضايا والأفكار والمقامات التي لا يمكن مسُّها أو النقاش فيها أو مجرد الإشارة إليها.
والغريب أن كثيراً ممن يتصدون لمثل هذه المعارك يغفلون أو يتغافلون عن حقيقة في غاية الأهمية، يمكن أن تحسم كثيراً من الجدل، حتى في قضايا أكبر من بعض المسائل التي يجري تسليط الأضواء عليها. ففي مسألة مثل التعرض إلى الذات الإلهية وإنكار وجودها ابتداءً، نجد أن القرآن الكريم أوردَ وحفظ ما يصعب حصره من دعاوى غير المسلمين وآرائهم ومقولاتهم واتهاماتهم، أياً كانوا وأياً كانت في هذا الباب، من فرعون إلى أهل قريش، مروراً بالرافضين للدين والتدين ووجود إله، من سائر الملل والجماعات البشرية والأقوام على مر التاريخ. بل إن القرآن تجاوز هذا، كما يذكر الدكتور المقرئ الإدريسي وهو المتخصص في الدراسات الألسنية، إلى إضفاء مسحته الجمالية البلاغية على تلك الاتهامات والآراء، وأن يضمنَ لها، فوقَ ذلك، الخلود إلى يوم الدين، من خلال إيرادها وذكرها في ثنايا سوره العديدة.
وفي الواقع العملي، نجد أن المسلمين لم يُصابوا، غالباً، بذلك التشنج والرعب والفزع الذي يصيب البعض اليوم من مجرد ذكر هذه القضايا، ويسري هذا بالدرجة نفسها على كل ما هو دون ذلك من المسائل والقضايا التي تتعلق بالرسول المصطفى، وبتعاليم الإسلام بشكل عام.
والشاهد أن الفوضى الفكرية التي تُغلِّفُ حياتنا المعاصرة باتت تسمح لكل من هبّ ودبّ بتحديد ما هي تلك المقدسات والثوابت التي يجب احترامها، ولا يجوز أن تطولها حرية التعبير. بعيداً عن الرؤية المؤسساتية التخصصية التي يجب أن تضع هذه القضايا في نصابها الصحيح.
أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٢)
كيف نتعامل مع ما يُسمّى ثوابت ومقدّسات أصلاً؟، وبغض النظر حتى عن الاتفاق على ماهيّتها. يكمن التساؤل هنا، تحديداً، في جدوى ممارسة أسلوب المنع والمصادرة، ورؤية ما إذا كان هذا الأسلوب يؤدي فعلاً إلى تحقيق المقصد منها، خاصة إذا انطلقنا من رؤية شموليةٍ لهذه المسائل ترفضُ منهج التبسيط والاختزال.
فأغلب الظن أن الهدف (العملي) لهذا النوع من ردود الأفعال: (التشهير والمنع والمصادرة والتكفير..) يتمثل في (الردع) بشكلٍ من الأشكال (لكيلا يهون أمر الدين ودوره في الحياة).
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، ومن خلال قراءة أكثر عمقاً للدين وللواقع هو التالي: هل يؤدي هذا الأسلوب حقاً إلى صيانة دور الدين؟ وما دور الدين ابتداءً؟ أليس هو حماية كرامة الإنسان وتأكيد معاني الحق والعدل والحرية والمساواة والجَمال؟ أليس هو محاربة الجهل والفقر والمرض والظلم والاستغلال والفساد؟
وبالتالي، ألا يمكن أن تكون الممارسات التي تقتصر على ملاحقة كاتبٍ هنا لكلمات كتبها، والتشهير بمطربٍ هناك من أجل عباراتٍ قالها، مجرد إبر تخدير للنفس وللآخرين، بل ولإقناع النفس والآخرين، أيضاً، بأن البعض (يؤدي المهمة) من خلال اختيار هذه المواقع السهلة والأهداف السهلة.. بل ويتضاعف شعور ذلك البعض بالرضا من خلال الضجيج والصخب الإعلامي الذي يرافق هذه الأحداث..
وكأن تلك الكلمات التي كُتبت أو قيلت هي السبب وراء غياب كل معاني وقيم الكرامة والحق والعدل والحرية والمساواة من حياة الناس. وكأن التشهير بهؤلاء (الأشرار) وملاحقتهم هي الكفيلة بأن ترفع عنهم واقع الذل والتخلف والجهل والفقر والمرض والتبعية!! وهو واقعٌ يمثل أقصى صور الاستهزاء والتحقير الحقيقي لكل المقدّسات الأصيلة في الإسلام.
والمُراد أن عملية الردع المقصودة لا تُحقِّقُ في مثل هذه القضايا هدفها المتمثل في صيانة الدين وحفظ دوره في الحياة، لأنها تُمَارَسُ في مجالات هي في غاية الجزئية والفرعية، بينما يتم التعتيم على كثير من المجالات والمواقع التي هي أصلُ البلاء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي في واقع العرب والمسلمين.
في هذا الإطار، يُصبح مطلوباً أيضاً تحريرُ كيفية التعامل مع من نعتقد أنه يمسّ المقدسات.. خاصة حين يكون هذا المسّ بالرأي والكلام.. تحريراً شرعياً مقاصدياً ومنطقياً علمياً، بعيداً عن الاستعجال والاختزال المنبثق من حرارة العواطف، لا من قواعد الشرع والعقل والمنطق.
فنحن نعرف على سبيل المثال أن النصيحة، وأحيانًا كثيرة (النصيحة بالسر)، أصبحت شعاراً يُرفع في كثير من المواقع، بدعوى أنها تمثلُ المنهج الأكثر اعتدالاً وموضوعية وواقعية للتعامل مع بعض مظاهر الأزمات الكبرى في حياة الأمة. وهي مظاهر عملية وفي كثير من الأحيان مؤسساتية صيغت لها القوانين والتشريعات. ويمتد تأثيرها العميق في الواقع بشكل يؤثر في الدين ودوره أكثر بكثير مما تفعله بعض الكلمات هنا وهناك.
فنحن نعرف على سبيل المثال أن النصيحة، وأحيانًا كثيرة (النصيحة بالسر)، أصبحت شعاراً يُرفع في كثير من المواقع، بدعوى أنها تمثلُ المنهج الأكثر اعتدالاً وموضوعية وواقعية للتعامل مع بعض مظاهر الأزمات الكبرى في حياة الأمة. وهي مظاهر عملية وفي كثير من الأحيان مؤسساتية صيغت لها القوانين والتشريعات. ويمتد تأثيرها العميق في الواقع بشكل يؤثر في الدين ودوره أكثر بكثير مما تفعله بعض الكلمات هنا وهناك.
أفلا يمكن قياسًا إذًا ـ والحالُ ذاك ـ أن تكون النصيحة، ويكون الحوار والنقاش والجدال بالتي هي أحسن، نصيبَ من يُعتَقدُ أنه يمسّ المقدسات نظرياً بكلامه وقصصه وأغانيه! أم أن الأمر يتعلق، مرةً أخرى، باختيار المواقع الأسهل لادّعاء القيام بمهمة (حماية الإسلام)؟
واستباقاً لمن ينطلق في قراءته من منهج المتقابلات والأضداد، ينبغي التأكيد بأن هذا الكلام لا يحمل دعوةً إلى الحرية الفوضوية الكاملة، وهي حريةٌ لا وجود لها في أي بقعةٍ من العالم.. وإنما هي دعوةٌ لبناء منهجيةٍ تُحررُ المصطلحات، وتُحددُ الأولويات، وتضع نصب عينها مقاصد الدين الأصيلة. حتى إذا ما تم ذلك التحرير والتحديد صار ممكناً التعاملُ بموضوعية وتوازن مع القضايا الجزئية، التي يجري إيهام الأمة اليوم بأنها كُليَّاتُ الدين وثوابتهُ، بشكلٍ يضع الأمور في نصابها الصحيح.
وإلى أن يأتي يومٌ تصبح فيه أولويتنا متمثلةً في صيانة قيمنا ومبادئنا (الإنسانية) على أنها (المقدساتُ) الحقيقية التي يجب أن يكون حفظُها مناط جهد الإنسان وجهاده، فسنظل نحارب من أجل القشور والمظاهر، ونغفل عن الأهداف والمقاصد الحقيقية التي تمثل جوهر الإسلام.
وإلى أن يأتي يومٌ تصبح فيه أولويتنا متمثلةً في صيانة قيمنا ومبادئنا (الإنسانية) على أنها (المقدساتُ) الحقيقية التي يجب أن يكون حفظُها مناط جهد الإنسان وجهاده، فسنظل نحارب من أجل القشور والمظاهر، ونغفل عن الأهداف والمقاصد الحقيقية التي تمثل جوهر الإسلام.
الأحد 04 / 08 / 2019
أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٣)
لا يمكن تفهمُ ضرورة تحرير كل ماهو متعلقٌ بـ(الثوابت) و(المقدسات) و(المُحرّمات) في غياب إدراكٍ عميق لحجم التغير الذي حصلَ في العالم، وتأثّر به العرب والمسلمون، نوعياً وكمياً.
ثمة نقطةٌ حساسةٌ هنا لابدّ من الانتباه إليها. فالظاهرة التي تُسمّى (الصحوة الإسلامية) في العصر الحديث ظَهرت واشتد عودُها في سبعينيات وثمانينيات القرن الميلادي الماضي. والذي يبدو أن ثقافة تلك الصحوة تعايشت تدريجياً مع ظروف وطبيعة ذلك الزمن (البطيء). ومن خلال التفاعل معها، بَنَت ورسّخت في المجتمعات ذات العلاقة فهماً معيناً للإسلام له تقاليده وقواعده وملامحه وأساليب تنزيله الخاصة على الواقع. كنا إذاً، في ذلك الوقت، أمام لحظة ولادةٍ لنوعٍ جديد من (التديُّن) يختلف تماماً عما كان سائداً قبل ذلك، وينسجم، قدر الإمكان، مع الظروف الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الأيام.
لكن العالم تغيرَ بشكلٍ سريعٍ واستثنائي في طبيعته، خلال العقود الثلاثة السابقة، والواضحُ من استقراء الواقع أن (التديُّن) المذكور حاول مواكبَة هذا التغيير، لكن هذا حصلَ بشكلٍ فوضويٍ على جميع المستويات. كان هذا جلياً في العالم العربي أكثرَ من غيره.
ثمة نقطةٌ حساسةٌ هنا لابدّ من الانتباه إليها. فالظاهرة التي تُسمّى (الصحوة الإسلامية) في العصر الحديث ظَهرت واشتد عودُها في سبعينيات وثمانينيات القرن الميلادي الماضي. والذي يبدو أن ثقافة تلك الصحوة تعايشت تدريجياً مع ظروف وطبيعة ذلك الزمن (البطيء). ومن خلال التفاعل معها، بَنَت ورسّخت في المجتمعات ذات العلاقة فهماً معيناً للإسلام له تقاليده وقواعده وملامحه وأساليب تنزيله الخاصة على الواقع. كنا إذاً، في ذلك الوقت، أمام لحظة ولادةٍ لنوعٍ جديد من (التديُّن) يختلف تماماً عما كان سائداً قبل ذلك، وينسجم، قدر الإمكان، مع الظروف الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الأيام.
لكن العالم تغيرَ بشكلٍ سريعٍ واستثنائي في طبيعته، خلال العقود الثلاثة السابقة، والواضحُ من استقراء الواقع أن (التديُّن) المذكور حاول مواكبَة هذا التغيير، لكن هذا حصلَ بشكلٍ فوضويٍ على جميع المستويات. كان هذا جلياً في العالم العربي أكثرَ من غيره.
فعلى سبيل المثال، كان لدينا، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الميلادي الماضي، في كل دولة قناة تلفزيون (أرضية) يتيمة وإذاعةٌ واحدة. وكان لدينا دائماً، صحيفةٌ واحدة، ولكن بثلاثة أسماء مختلفة.. يُمسك العربي بالصحيفة وينظر إلى الشاشة ويسمع المذياع في نفس الوقت، فيعرف تفاصيل (الخبر). نفسُ الأسماء، ونفسُ الكلمات، ونفسُ الأوصاف، ونفسُ الألقاب، ونفسُ الشعارات، ونفسُ (التهذيب) و(النظام).. كان التهذيب والنظام سائدين في كل شيء: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الفن، وفي الثقافة، وفي الإعلام، وطبعاً في (التديُّن).
حَرسَ العرب حدود الأرض زمناً، وأتقنوا سَنَّ قوانين الضبط والربط في الواقع الحقيقي. ثم انطلقت الأقمار الصناعية إلى السماء، فصارت الحدود وهميّةً، وبقيت القوانين حبراً على ورق أمام الواقع الافتراضي. باغتت التكنولوجيا العرب بشكلٍ غير مسبوق: الرسائل، صارت إلكترونية. الهاتف، أصبح لاسلكياً ونقالاً. النشرُ كان حلماً صعب المنال، فصار حتى الأطفال ينشرون قصصهم في ساحات الانترنت. التوزيع وإيصال الفكرة والمعلومة كان مهمةً دونها تحريكُ الجبال، فأضحت أسهلَ مايمكن أن يقوم به إنسان. وأهمُّ من هذا وذاك. كان البحثُ عن (معلومات) و(إجابات) مثل البحث عن العنقاء، فجاءت (غوغل) وأخواتها وانقلبت المعاناة لتكون من كثرة الإجابات والخيارات والمعلومات.
كانت معركةً خفيةً وغريبةً تلك التي دارت على الأرض العربية في تلك السنوات. حُسمت المعركة في النهاية مع تغيُّر الأعراف العالمية في حقل المعلومات والاتصالات. صار عيباً عدمُ وجود أجهزة كمبيوتر في بلدٍ معين. وأصبح افتقادُ الإنترنت مسبّةً. وغياب شبكةٍ للهاتف الخليوي بات مدعاةً للتهكّم والسخرية. فاستسلم أصحاب الشأن لأمرٍ قد توجَّه.
بمقاييس حياة الشعوب والحضارات، حصل كل شيء بسرعة. لم يكن الواقع العربي، بما فيه من (متدينين)، مهيأً للتعامل مع هذه النقلة، الواسعة بكل الموازين. لم يكن يوجد في ذلك الواقع ما يصلح للتعامل مع النقلة بشكل طبيعي، لا قانونياً ولا ثقافياً ولا اقتصادياً. فقد تمّ بناءُ المنظومة القديمة كلها في اتجاهٍ آخر، وللتعامل مع همومَ مغايرة، ولمعالجة قضايا مختلفة كلياً.
كانت مفارقةً تاريخية كبيرة. ذلك أن عُودَ النظام السياسي العربي الذي اشتدَّ، أيضاً، في السبعينيات تلك، جعلَ الهياكل والأنظمة والقواعد والقوانين والتصورات مصممةً لعالم السبعينيات. وبفعل رؤيةٍ ثقافية ترتاح لاستقرارٍ مجبولٍ بالتقليد والجمود وتفترضه قاعدةً للحياة، كانت القناعةُ سائدةً بأن قواعد ذلك العالم ستبقى كما هي عليه لجيل أو جيلين على الأقل. أما القوى الأخرى في المجتمع، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، بما فيها الإسلاميون أصحاب الصحوة وقادة صناعة (التديُّن)، فقد كانت جزءاً من المنظومة الكبيرة، عرفت ذلك أم لم تعرف. كان بعضُها يحسب نفسه مستقلاً، يتموضع خارج الفضاء السياسي أو الثقافي الرسمي. بل إن بعضها الآخر كان يظن أنه ثائرٌ على تلك المنظومة ومضادٌ لها. لكنها كانت جميعاً في النهاية مولودةً من نفس البوتقة الثقافية/التاريخية. حاملةً لإفرازاتها ولملامحها. مصبوغةً بمعطياتها ومسلّماتها. وحُكماً، كانت لا تمتلك سوى أدواتها ولغتها ومفاهيمها ووسائلها، وإن تغيرت النكهات.
جاءت النتيجة طبيعيةً. عمّت الفوضى في كل اتجاه. وشاع الانتقال من النقيض إلى النقيض في كل مجال، وعلى كل مستوى. صار الممنوع مسموحاً، إن لم يكن بحكم القانون والعرف، فبحكم الحال والواقع. وبدأ التغيير. تدريجياً ولكن مؤكداً.
أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٤)
نعم. نحن بحاجةٍ لإعادة تعريف ماهو (مُقدسٌ) و(مُحرّمٌ) و(ثابتٌ) في الإسلام بشكلٍ دقيق ومنهجي. قد يستنكر كثيرون هذا الأمر ويحاربونه، لكن هذا يمثل جزءاً من المشكلة التي يحاولون، للمفارقة، التعاملَ معها. ينبعُ المأزقُ هنا من التوسيع الهائل الذي طالَ تلك المفاهيم على مدى التاريخ، ثم يبدو وكأنه تضاعفَ في العقود الأخيرة.
لنأخذ مثلاً موضوع (المُقدّسات). فيما أعلمُ أن كلمة (المقدّس) بتصريفاتها المختلفة وردت في القرآن الكريم عشر مرات فقط. وهي، بمُجملها، تتحدث عن (الله القُدُّوس)، و(الروحِ القدُس)، و(الأرض المُقدّسة)، و(الوادِ المُقدَّس)! وإذا استثنينا المثال الأول الذي يستعملُ بتصريفه المذكور حصراً، بحيث لا يُقال (الله المُقدّس)، تبدو الأمثلة الأخرى ذات خصوصيةٍ واضحة.
رغم كل هذا، تراكمَ في أذهان كثيرٍ من المسلمين، خاصةً في العصر الحديث، الشعورُ بضرورة سَحبِ وإضافة وصفِ (التقديس) إلى مئات المسائل في الإسلام، ومنها كثيرٌ يُختلفُ عليه حتى في كتب الفقه والسنة والتفسير!
نسي هؤلاء أن كتاب عقيدتهم يُوصف عندما يُذكر بالـ(كريم) وليس بالمقدّس. وأن نبيهم أيضاً يوصف عندما يُذكر بالـ(كريم) وليس بالمقدس. لم ينتبهوا إلى دلالات الفرق المعرفي والفلسفي العميق بين استخدام وصف (المقدس) للإشارة إلى الكتاب والأنبياء في اللغات الأخرى. غفلوا أن ذلك الكتاب لا يدعو الناس إلى (تقديسه) إطلاقاً. وأنه يدعو بدلاً من ذلك إلى النظر والتفكر والتدبر والسعي والعمل وإشاعة الخير والحق والعدل.. تجاوزوا حقيقة أن الكعبة (مُشرّفة) وليست (مقدّسة). قفزوا فوق المعاني الكامنة وراء عدم إمكانية استخدام تصريف (القدُّوس) إلا للإشارة إلى الخالق، كما ذكرنا أعلاه. لم يدركوا، بِعُمق، الإشارات الكامنة وراء الحرص الشديد الذي كان مطلوباً على تجنّب التقديس للأشخاص وللأماكن وللمظاهر.
نسي هؤلاء أن كتاب عقيدتهم يُوصف عندما يُذكر بالـ(كريم) وليس بالمقدّس. وأن نبيهم أيضاً يوصف عندما يُذكر بالـ(كريم) وليس بالمقدس. لم ينتبهوا إلى دلالات الفرق المعرفي والفلسفي العميق بين استخدام وصف (المقدس) للإشارة إلى الكتاب والأنبياء في اللغات الأخرى. غفلوا أن ذلك الكتاب لا يدعو الناس إلى (تقديسه) إطلاقاً. وأنه يدعو بدلاً من ذلك إلى النظر والتفكر والتدبر والسعي والعمل وإشاعة الخير والحق والعدل.. تجاوزوا حقيقة أن الكعبة (مُشرّفة) وليست (مقدّسة). قفزوا فوق المعاني الكامنة وراء عدم إمكانية استخدام تصريف (القدُّوس) إلا للإشارة إلى الخالق، كما ذكرنا أعلاه. لم يدركوا، بِعُمق، الإشارات الكامنة وراء الحرص الشديد الذي كان مطلوباً على تجنّب التقديس للأشخاص وللأماكن وللمظاهر.
مرةً أخرى، لا مفرَّ من الانتباه إلى السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي كان سائداً خلال العقود الماضية، في عالم العرب تحديداً، وساهمَ بشكلٍ كبير في صياغة طريقة تفكير العرب بدينهم ودُنياهم.
فإذا كان كل شيءٍ مضبوطاً في واقع العرب، حتَّمت التوازنات السياسية والاجتماعية بقاء شيءٍ واحد كان عصياً على الضبط. ذلك هو الإفراط في (الضبط) في مجال الدين. إذ وُجدَ دائماً، وبتزايدٍ ملحوظ، من يشعر بالذعر من التغيرات المتسارعة القادمة، ويؤكد على ضرورة حراسة القيم (والدين ابتداءً)، بأيّ طريقةٍ ممكنة.
وكان المدخل السهل دائماً، هو مدخل المنع والضبط والتحريم، بل والتفنُّنُ في ذلك. فامتدَّت المحاولات تدريجياً إلى كل ما له علاقة بمجال الفكر والثقافة، وطبيعة الحياة الاجتماعية اليومية، وأنماط الحديث والمظهر والتصرفات، والأدب والفن بطبيعة الحال.
هكذا، من ذلك المدخل، سادت بشكلٍ هائل ممارساتُ الإسهام في التحريم، وتوسيع دوائر الثوابت، والإبداع في الضبط، والتفنُّنُ في المَنع، لأحد سببين: فإما أن تصدر الممارسات عن مشاعر حقيقية بالذعر والخوف على (ضياع الدين). أو تكون وظيفةً وطريقاً للموقع الاجتماعي والمكاسب المعنوية والمادية..
وفي الحالتين، اشتعلت المنافسة، واحتدم السباق. وفي كل مجال، صار هناك مَلَكيُّونَ أكثر من المَلِك، كما يُقال.
لم يعد التحريم في الدين، وتوسيع دائرة (الثوابت) وقفاً على عالم دينٍ واعٍ بمقاصد الدين من ناحية، وبظروف عصرهِ وزمانهِ من ناحية ثانية. بل شاركَ فيه كل من تعلَّم آيةً وحديثين. لم يعد الضبط الاجتماعي والثقافي والأخلاقي والأدبي والفني محصوراً في دائرة أهل الاختصاص. وإنما تجاوزَهم إلى كل من هبّ ودبّ.
تمّت محاصرةُ معاني الحرية. وجرى تضييق معاني الاستقلالية والاختيار الشخصي. فأضحى الإنسان العربي المسلم، في مرحلةٍ من المراحل، لايختلف عن الآلة. سوى في قدرته على الطعام والشراب والإنجاب. ظهر (الروبوت الإسلامي)، باستعمال وصف ياسين الحاج صالح.
توقف الإبداع في الفكر والثقافة والأدب والفن. صار سهلاً وصفُ كل إبداع بأنه ابتداع. واتهام كل تجديد بأنه طعنٌ للأصالة. ونَعتُ كل خروجٍ على المألوف بأنه منكرٌ وخطيئة. وكل رأي آخر بأنه مخالفٌ للإجماع!
لم ينتبه كثيرٌ من العرب المسلمين في زحمة الحياة بأن توسيع دائرة المحرمات بشكل سرطاني هو الوصفة المثالية لقتل عقلية المحرمات عندما تأتي ظروف ملائمة لذلك، وهاهي قد أتت. لكن النسيان وعدم الانتباه ليست أعذاراً مقبولة على طريق صناعة مستقبل الجماعات البشرية.
أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٥)
عادةً ما تكون (العناوين) مخيفةً في ثقافتنا العربية والإسلامية. يُصابُ كثيرون بالانزعاج، وربما الغضب، من مجرد قراءة عنوان مقالٍ ما. يحصلُ هذا قبل قراءة شيءٍ من المضمون، فضلاً عن إكمال القراءة، وتمحيص أفكار المقال بحسابات العقل والمنطق.
يظهر هذا الوصفُ واضحاً في مجتمعاتنا حين يتعلق الأمر بالمعتقدات بشكلٍ عام، وحين يتعلق بالدين بشكلٍ أكثر تخصيصاً، وبالإسلام تحديداً.
غريبةٌ هذه الظاهرة وتدفع للتساؤل: هل يمكن تفسيرها بالكسل الذهني، واستسهالِ الحُكمِ على القضايا والأفكار و (الأشخاص) دون جهدٍ وتعب؟، هل تكمنُ وراءَها درجةٌ عاليةٌ من الذعر الداخلي وانعدام الثقة بالنفس، وبالثقافة والدين؟، هل تتكررُ بسبب ما يبدو، أحياناً، من سوء استخدام بعض الكُتّاب لمدخل النقد والمراجعة، واستعماله مدخلاً للإساءة والتحامل، وخلط الأوراق في كل ما يتعلق بالهوية الحضارية لهذه المجتمعات؟
يظهر هذا الوصفُ واضحاً في مجتمعاتنا حين يتعلق الأمر بالمعتقدات بشكلٍ عام، وحين يتعلق بالدين بشكلٍ أكثر تخصيصاً، وبالإسلام تحديداً.
غريبةٌ هذه الظاهرة وتدفع للتساؤل: هل يمكن تفسيرها بالكسل الذهني، واستسهالِ الحُكمِ على القضايا والأفكار و (الأشخاص) دون جهدٍ وتعب؟، هل تكمنُ وراءَها درجةٌ عاليةٌ من الذعر الداخلي وانعدام الثقة بالنفس، وبالثقافة والدين؟، هل تتكررُ بسبب ما يبدو، أحياناً، من سوء استخدام بعض الكُتّاب لمدخل النقد والمراجعة، واستعماله مدخلاً للإساءة والتحامل، وخلط الأوراق في كل ما يتعلق بالهوية الحضارية لهذه المجتمعات؟
بشئٍ من التحليل، تبدو الإجابة بـ (نعم) على الأسئلة الثلاثة السابقة معقولةً على طريق تفسير الظاهرة وفَهمِها.
لكن هذا لا يُبرِّرُ التهرب من مقاربة أي موضوعٍ يتعلق بالمجتمعات المذكورة، مهما كان حساساً. بل إن ثمة إلحاحاً للدخول بقوةٍ في مثل هذه المقاربات، تحديداً لأنها تؤثر في تلك المجتمعات، وتضع حاضرها ومستقبلها على المحكّ.
من هنا تنبثق مشروعية الأسئلة التي تُشكل عنوان هذه السلسلة من المقالات. فمجرد الإنكار لكل ما يجري من تغييرٍ فيما يُعتقدُ أنه (ثوابتُ) و(مُقدّسات) لا يجدي شيئاً في معرض (الدفاع عنها). هذا أسهل الحلول، كما يلوحُ، زيفاً وبُهتاناً. لأنه مجرد تسكينٍ للنفس وتخديرٍ للعقل ومحاولة يائسة للهروب من واقعٍ صلدٍ لا يمكن الهروب منه نهايةَ المطاف.
أشرنا في المقال السابق إلى أهمية الانتباه إلى السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي المحلي، العربي والإسلامي، الذي كان سائداً وكيف ساهم في صياغة (ثوابت) و(مقدسات) معينة، ثم كيف تغيرَ فساهمَ، مرةً أخرى، في تغييرها.
لكنَّ أخذَ السياق العالمي أساسيٌ في هذا المقام، خاصةً فيما يتصلُ بعلاقة العرب والمسلمين مع الدنيا من حولهم.
ففي الماضي، كان لنا مع الغرب خاصةً ومع العالم بشكلٍ عام علاقة. ولكنها كانت علاقةً من نوع خاص. نحن نسمع عنه وهو يسمع عنا، ولكن من بعيد. كنا نعرفه من خلال الفلاتر السياسية والأيديولوجية: استعمار، إمبريالية، عدو، حليف إستراتيجي، بلدان صديقة.. وكان يعرفنا من قراءة قصص علاء الدين وألف ليلة وليلة. وفي أحسن الأحوال، من كتب الاستشراق.
ورغم كل الحروب وكل المشاكل وكل النزاعات، لم يكن الغرب بالذات يكترث كثيراً بما يدور داخل أرضنا في النهاية.
كانت الأمور تسير. ترتيباتٌ معينةٌ هنا وتوازناتٌ معينة هناك. هو في حاله، ونحن في حالنا، والأمور دائماً تسير.
لكن كل هذا تغير مع سبتمبر الأول في الألفية الجديدة. تحطَّمت جميع الموازنات والترتيبات. تغيَّرت كل الحسابات. دخل العرب، تحديداً، الواقع العالمي المعقّد من بوابة سبتمبر بنفس سرعة الطائرات التي اقتحمت الأبراج في نيويورك. وبدأ العالمُ، بالمقابل، يدخل في كل ذرةٍ من نسيج العالم العربي.
وفجأةً، تداخلت القضايا، تشابكت المصالح، تنوعت الاهتمامات، تناقضت الأولويات، و»زادَ في الطنبور نغماً» انفجارُ ثورة المعلومات والاتصالات العالمية، وقدرتُها على اختراق الحدود، وكسر الموانع، وتحطيم أغلب وسائل الضبط والربط والرقابة.
ومرةً أخرى، جاءت النتيجة منسجمةً مع مقدمتها. تسارعت وتيرةُ انهيار المنظومة القديمة من كل ناحية. أضحى كل مسكوتٍ عنه مجالاً للنقد والتحليل والمراجعة بل وللاتهام والهجوم. لم يعد هناك حصانةٌ من أي نوع. لا سياسياً ولا دينياً ولا اجتماعياً. بقيَ البعض القليل يؤمن بِمَراجعَ أيديولوجية أوسياسية، شخصية أو نظرية. لكن عقلية (المرجعية) بدأت تتآكل بشكلٍ ظاهر، خاصةً في أوساط الجيل الجديد. لم تعد هناك جهةٌ أو جماعةٌ أو حزبٌ أو فردٌ فوق نقدٍ يأتي من طرف من الأطراف.
وفي حين كان يمكن كتابة مُجلّد عن (المسلّمات) في العالم العربي منذ سنوات، لم تبق هناك فكرةٌ لا تقبل النقاش أو الجدل أو التشكيك في الزمن الراهن. إن لم يكن في الواقع ففي الصحف. وإن لم يكن في الصحف والمجلات فمن خلال رسائل الهواتف النقالة، وإلا فعلى الفضائيات، وإن لم يكن عليها فعلى الانترنت. وهكذا دواليك. والذي لا يعرف هذه الحقائق بالشواهد والأمثلة لا يعرف شيئاً عن الواقع العربي المعاصر. باختصار، بدأت رحلة سقوط كل ما يُعتقد أنه (ثوابت) و(مقدسات) و(محرمات). وأصبح صعباً أن تتوقف على المدى المنظور.
لكن هذا لا يُبرِّرُ التهرب من مقاربة أي موضوعٍ يتعلق بالمجتمعات المذكورة، مهما كان حساساً. بل إن ثمة إلحاحاً للدخول بقوةٍ في مثل هذه المقاربات، تحديداً لأنها تؤثر في تلك المجتمعات، وتضع حاضرها ومستقبلها على المحكّ.
من هنا تنبثق مشروعية الأسئلة التي تُشكل عنوان هذه السلسلة من المقالات. فمجرد الإنكار لكل ما يجري من تغييرٍ فيما يُعتقدُ أنه (ثوابتُ) و(مُقدّسات) لا يجدي شيئاً في معرض (الدفاع عنها). هذا أسهل الحلول، كما يلوحُ، زيفاً وبُهتاناً. لأنه مجرد تسكينٍ للنفس وتخديرٍ للعقل ومحاولة يائسة للهروب من واقعٍ صلدٍ لا يمكن الهروب منه نهايةَ المطاف.
أشرنا في المقال السابق إلى أهمية الانتباه إلى السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي المحلي، العربي والإسلامي، الذي كان سائداً وكيف ساهم في صياغة (ثوابت) و(مقدسات) معينة، ثم كيف تغيرَ فساهمَ، مرةً أخرى، في تغييرها.
لكنَّ أخذَ السياق العالمي أساسيٌ في هذا المقام، خاصةً فيما يتصلُ بعلاقة العرب والمسلمين مع الدنيا من حولهم.
ففي الماضي، كان لنا مع الغرب خاصةً ومع العالم بشكلٍ عام علاقة. ولكنها كانت علاقةً من نوع خاص. نحن نسمع عنه وهو يسمع عنا، ولكن من بعيد. كنا نعرفه من خلال الفلاتر السياسية والأيديولوجية: استعمار، إمبريالية، عدو، حليف إستراتيجي، بلدان صديقة.. وكان يعرفنا من قراءة قصص علاء الدين وألف ليلة وليلة. وفي أحسن الأحوال، من كتب الاستشراق.
ورغم كل الحروب وكل المشاكل وكل النزاعات، لم يكن الغرب بالذات يكترث كثيراً بما يدور داخل أرضنا في النهاية.
كانت الأمور تسير. ترتيباتٌ معينةٌ هنا وتوازناتٌ معينة هناك. هو في حاله، ونحن في حالنا، والأمور دائماً تسير.
لكن كل هذا تغير مع سبتمبر الأول في الألفية الجديدة. تحطَّمت جميع الموازنات والترتيبات. تغيَّرت كل الحسابات. دخل العرب، تحديداً، الواقع العالمي المعقّد من بوابة سبتمبر بنفس سرعة الطائرات التي اقتحمت الأبراج في نيويورك. وبدأ العالمُ، بالمقابل، يدخل في كل ذرةٍ من نسيج العالم العربي.
وفجأةً، تداخلت القضايا، تشابكت المصالح، تنوعت الاهتمامات، تناقضت الأولويات، و»زادَ في الطنبور نغماً» انفجارُ ثورة المعلومات والاتصالات العالمية، وقدرتُها على اختراق الحدود، وكسر الموانع، وتحطيم أغلب وسائل الضبط والربط والرقابة.
ومرةً أخرى، جاءت النتيجة منسجمةً مع مقدمتها. تسارعت وتيرةُ انهيار المنظومة القديمة من كل ناحية. أضحى كل مسكوتٍ عنه مجالاً للنقد والتحليل والمراجعة بل وللاتهام والهجوم. لم يعد هناك حصانةٌ من أي نوع. لا سياسياً ولا دينياً ولا اجتماعياً. بقيَ البعض القليل يؤمن بِمَراجعَ أيديولوجية أوسياسية، شخصية أو نظرية. لكن عقلية (المرجعية) بدأت تتآكل بشكلٍ ظاهر، خاصةً في أوساط الجيل الجديد. لم تعد هناك جهةٌ أو جماعةٌ أو حزبٌ أو فردٌ فوق نقدٍ يأتي من طرف من الأطراف.
وفي حين كان يمكن كتابة مُجلّد عن (المسلّمات) في العالم العربي منذ سنوات، لم تبق هناك فكرةٌ لا تقبل النقاش أو الجدل أو التشكيك في الزمن الراهن. إن لم يكن في الواقع ففي الصحف. وإن لم يكن في الصحف والمجلات فمن خلال رسائل الهواتف النقالة، وإلا فعلى الفضائيات، وإن لم يكن عليها فعلى الانترنت. وهكذا دواليك. والذي لا يعرف هذه الحقائق بالشواهد والأمثلة لا يعرف شيئاً عن الواقع العربي المعاصر. باختصار، بدأت رحلة سقوط كل ما يُعتقد أنه (ثوابت) و(مقدسات) و(محرمات). وأصبح صعباً أن تتوقف على المدى المنظور.
أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٦)
بين آونةٍ وأخرى، يحصل في ثقافتنا أن يُطلب منك إثباتُ ماهو معروفٌ لدى الكثيرين من ظواهر تتعلق بتلك الثقافة نفسها، وبطبيعة انتشارها وتأثيرها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حتى عندما يتحدث الواقع عن نفسه بلسان الحال!
ورغم التخوّف من الإعادة، أو التعريف بما هو مشهورٌ أصلاً. ورغم إمكانية استغلال مساحة مثل هذا المقام بشكلٍ أكثر فعاليةً وفائدةً، تبدو محاولة التوضيح في هذا المجال، عبر نقل أمثلةٍ وشواهد من الواقع، محاولةً تستحق النظر، بين آونةٍ وأخرى أيضاً. وعسى أن يكون في هذا عونٌ على مزيدٍ من البيان، وإضافةٌ تتعلق بتفسير الظاهرة التي هي مجال البحث.
يتساءل البعض، مثلاً، عن حقيقة توسيع دائرة الثوابت التي نتحدث عنها في هذه السلسلة من المقالات. من هنا، ننقل في هذه الصفحة بضع مقولات عن رجال دين معاصرين ومشهورين تتحدث بشكلٍ صريحٍ وواضح عن الموضوع. من المهم الإشارة هنا إلى أن البحث المتقصي يُظهر آراء مئات من الأسماء المعروفة التي تقول بمثل الآراء الواردة أدناه، بحيث لا يمكن إلا ضرب بضعة أمثلةٍ عليها هنا، وما على المهتم إلا أن يبذل الجُهد بنفسه.
على سبيل المثال، يقول أحد رجال الدين: «فقد صرنا نسمع أخيراً من يقول: إن الدين ينقسم إلى ثوابت ومتغيرات، وهذه عبارة لا وجود لها فيما نعلم في كلام أهل العلم، لأن دين الله كله ثوابت فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعدما أكمل الله به الدين واستقرت الأحكام فلا تبدل ولا تغير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليس لأحد صلاحية بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدل أو يغيِّر».
يتساءل البعض، مثلاً، عن حقيقة توسيع دائرة الثوابت التي نتحدث عنها في هذه السلسلة من المقالات. من هنا، ننقل في هذه الصفحة بضع مقولات عن رجال دين معاصرين ومشهورين تتحدث بشكلٍ صريحٍ وواضح عن الموضوع. من المهم الإشارة هنا إلى أن البحث المتقصي يُظهر آراء مئات من الأسماء المعروفة التي تقول بمثل الآراء الواردة أدناه، بحيث لا يمكن إلا ضرب بضعة أمثلةٍ عليها هنا، وما على المهتم إلا أن يبذل الجُهد بنفسه.
على سبيل المثال، يقول أحد رجال الدين: «فقد صرنا نسمع أخيراً من يقول: إن الدين ينقسم إلى ثوابت ومتغيرات، وهذه عبارة لا وجود لها فيما نعلم في كلام أهل العلم، لأن دين الله كله ثوابت فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعدما أكمل الله به الدين واستقرت الأحكام فلا تبدل ولا تغير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليس لأحد صلاحية بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدل أو يغيِّر».
ويقول رجل دين آخر، في موقعٍ مشهور ومنتشر بين كثيرين من العرب، حسب موقع (أليكسا) المتخصص، يقول: «هُنَاكَ قضية تُطْرَح الآن، تقول: إنَّ هُنَاك ثوابت نَحنُ نَتمسك بها، وهناك متغيرات يَجِبُ أَنْ تَتَغَيَّر، والخطير في الأمر هو أن هناك سَعْيًا حَثِيثًا جدًّا إلى تقليص الثَّوابت وجعلها مُجَردَات عقلية فقط، وتوسيع دوائر المتغيرات حتى تَحوَّل الأمر -وللأسف الشديد- إلى أشياء متنوعة أصوليَّة وعقدِيَّة ومنهجيَّة وتشريعيَّة.»
ثم إنه يضرب أمثلةً على الثوابت المذكورة، ففي معرض العلاقة مع غير المسلمين يقول: «هَذِهِ ثَابِتة لَا يُمْكِن أَنْ تَتَغَيَّر مَع تَغَيُّر الزَّمان والمكان، ولِذَلِك فَإِنَّ هذا من حِفظ هذا الدين. لا يُمْكِن لِأَحَدٍ أَنْ يقول: هَذَا القُرْآن لَا يَصْلُح الْآن؛ لَأَنَّ فِيهِ شِدة فِي العِلاقة مع الكُفَّار!! {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة:73]. إِنَّ هَذِهِ أَحكَام شَرعيَّة لَا يُمْكِن لِأَحدٍ أَنْ يَلْغِي شَيئاً مِن هَذَا.... وعَلَى هَذَا فَأَيُّ حِوَار بين الأديان يَصِلُ إِلَى مُسْتَوَى الْإِقْرَار بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِن بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَد يَكُونُ مُؤْمِنًا؟!! هَذَا نَقْضٌ لِأَصْلٍ ثَابِتٍ، هَذَا لَا يُمْكِن أَنْ يَدْخُلَ مِن ضِمْن المتغيرات. يَعْنِي: لَا يُمْكِن أَنْ نَقُولَ: -والله - الآن ضغط عَالَمِي، وأَنَّ الْحَربَ عالمية في قضايا الإلحاد والماديات وغيرها، فينبغي أن يلتقي أهل الأديان عَلَى أَيِّ شَيء، أَنْ يَعترف بعضهم ببعض!! فنقول: كَلَّا حُكَمَ الله عز وجل -حُكْمًا قَاطِعًا-»
ثم إنه يضرب أمثلةً على الثوابت المذكورة، ففي معرض العلاقة مع غير المسلمين يقول: «هَذِهِ ثَابِتة لَا يُمْكِن أَنْ تَتَغَيَّر مَع تَغَيُّر الزَّمان والمكان، ولِذَلِك فَإِنَّ هذا من حِفظ هذا الدين. لا يُمْكِن لِأَحَدٍ أَنْ يقول: هَذَا القُرْآن لَا يَصْلُح الْآن؛ لَأَنَّ فِيهِ شِدة فِي العِلاقة مع الكُفَّار!! {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة:73]. إِنَّ هَذِهِ أَحكَام شَرعيَّة لَا يُمْكِن لِأَحدٍ أَنْ يَلْغِي شَيئاً مِن هَذَا.... وعَلَى هَذَا فَأَيُّ حِوَار بين الأديان يَصِلُ إِلَى مُسْتَوَى الْإِقْرَار بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِن بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَد يَكُونُ مُؤْمِنًا؟!! هَذَا نَقْضٌ لِأَصْلٍ ثَابِتٍ، هَذَا لَا يُمْكِن أَنْ يَدْخُلَ مِن ضِمْن المتغيرات. يَعْنِي: لَا يُمْكِن أَنْ نَقُولَ: -والله - الآن ضغط عَالَمِي، وأَنَّ الْحَربَ عالمية في قضايا الإلحاد والماديات وغيرها، فينبغي أن يلتقي أهل الأديان عَلَى أَيِّ شَيء، أَنْ يَعترف بعضهم ببعض!! فنقول: كَلَّا حُكَمَ الله عز وجل -حُكْمًا قَاطِعًا-»
وحسب رأيه، ورأي كثيرٍ من رجال الدين المعاصرين فإن صفة (الثبات) لاتقتصر على العقائد وإنما تمتد إلى الشريعة، التي هي في كثيرٍ منها أقوال رجال / بشر، حين نتكلم عن الفقه والتفسير مثلاً. يقول: «بعض الناس يَظُنُّ أنَّ العقيدةَ ثابتة، والشَّريعة متغيِّرَة!! وَيَقولون: الثَّوابت هي العقيدة، وكذا، وكذا...؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ مُتَغَيِّرَةٌ، والعَقِيدَة ثابتة، وَهَذَا خَطَأٌ؛ فالعَقِيدَة ثَابتة، وَالشَّريعة ثابتة».
لاعجب إذاً في ورود الرأي السابق عن العلاقة مع غير المسلمين، والآراء التالية في مسألتي (سد الذرائع) والموسيقى أو (المعازف). يقول فيما يتعلق بالأولى: « قضية سَدِّ الذَرَائع هذه ليسَتْ اخْتِرَاعاً اخْتَرَعَهُ أحدٌ من الناس سواء كان عالماً من علماء الإسلام أو غيره، سدُّ الذرائع هذه مَنْصوصٌ عَلَيهَا» ثم يقول بخصوص الثانية: «الكَلَام في الغِنَاءِ والمَعَازِفِ علَى قول أكْثَرِ العلماء أنَّه حَرَامٌ وهناك قَول أنَّهُ مبَاحٌ ولكنَّهُ مرجُوحٌ واضحُ الخِلَاف، متى كان هذا الاخْتِلَاف؟ قبل مئات السِّنين. إذاً لا يأتي شخص ويقول أنَّهُ اسْتَجَدَّ الخِلَاف. هذا خلاف قديم، إذًا القول الراجح بأدِلَّتِهِ أنَّ الغناء والمعازف حرَام، هذا القول الراجحُ».
ونتابع في المقال القادم ضرب أمثلة من مقولات رجال دين آخرين، لنختم بعدها في المقال الأخير من هذه السلسلة بخلاصة تتعلق بهذا الموضوع.
ونتابع في المقال القادم ضرب أمثلة من مقولات رجال دين آخرين، لنختم بعدها في المقال الأخير من هذه السلسلة بخلاصة تتعلق بهذا الموضوع.
أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (7)
لسانُ الحال أبلغُ من لسان المقال كما قالت العرب.. وحين نتحدث عن تقديس الأفكار والأشخاص في تاريخنا وواقعنا الراهن، فالحديثُ عن مظاهر لا حصرَ لها في الواقع تُظهِرُ تلك الحقيقة، وليس عن ألفاظ شفهية قد يتحرز كثيرون من قولها، ولو صدَّقَت ممارساتُهم العملية إيمانَهم بها.
فعندما تؤكد غالبيةٌ من رجال الدين بأن (الشريعة) من الثوابت، مثلاً، كما نَقَلنا عن أحدهم في المقال الماضي، فهؤلاء يجعلون (أقوال الرجال) التاريخية في علوم التفسير والفقه والسيرة واللغة وغيرها (ثوابت)! مثلها مثل العقيدة.
فعندما تؤكد غالبيةٌ من رجال الدين بأن (الشريعة) من الثوابت، مثلاً، كما نَقَلنا عن أحدهم في المقال الماضي، فهؤلاء يجعلون (أقوال الرجال) التاريخية في علوم التفسير والفقه والسيرة واللغة وغيرها (ثوابت)! مثلها مثل العقيدة.
يُكرر هذا رجل دينٍ مشهورٌ من الجزائر بقوله: «فتقسيمُ الدِّين الإسلاميِّ إلى ثوابتَ ومُتغيِّراتٍ ـ بالمفهوم الاصطلاحيِّ الحديث ـ باطلٌ لا يُعرف له أصلٌ في الشرع، والمعلومُ أنَّ الله تعالى أكملَ أحكامَه وشَرْعَه ودِينَه بنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وتمَّت نعمتُه واستقرَّت».
ثم إن الرجل يضرب أمثلةً حول (الثوابت) بعد التقديم لها بالطريقة التالية: «هذا، وقد ترتَّب عن هذا التقسيم المزعوم ـ بالمفهوم الاصطلاحيِّ الحديث ـ آثارٌ سيِّئةٌ على دين أمَّة الإسلام وأخلاقِها، ومِن هذه الآثار الناجمة عن القول بالمتغيِّرات ما يلي: حرِّيَّةُ الارتداد عن الدِّين وممارسةِ طقوسِ غيرِ المسلمين جهاراً، بدعوى حرِّيَّة الأديان وتقارُبها في ظلِّ الأخوَّة الإنسانية.. تعطيلُ الحدود الشرعية مِن الرَّجْمِ والقطع والقصاص، وإبطالُها بدعوى أنها أعمالٌ وحشيةٌ تنافي العقلَ والطبع.. تجويزُ أشكال الربا باسم البيع لإضفاء المشروعية عليها، وإباحةُ القروض الربوية بدعوى تلبية حاجيات الأمَّة والضغوط الدولية، وتبريرُ ذلك بقصد الالتحاق بركب الحضارة.. تحريمُ تعدُّد الزوجات، ومنعُ الزواج المبكِّر، والمطالبةُ بمناصفة الأنثى للذكر في القسمة الإرثية، كلُّ ذلك بحجَّةِ أنَّ تطبيق تلك الأحكام الشرعية سلوكٌ غيرُ حضاريٍّ وينافي الإنصافَ والعدل.. دعوة المرأة للخروج متبرِّجةً، واختلاطِها بالرجال، وسفرِها لوحدها أو مع أجنبيٍّ، وتزويجِ نفسها بنفسها، بحُجَّة التقدُّم والرُّقِيِّ والتَّحرُّر، ويتمُّ تسويغُ ذلك تحت شعارِ ما يسمَّى بالمتغيِّرات».
الجدير بالذكر أن كثيراً من الأمثلة أعلاه باتت من المسائل التي بدأت تُطرح، شيئاً فشيئاً، للمراجعة وإعادة الدراسة فيما يتعلق بأحكامها.. لم يحصل هذا ولا يحصل من قِبلِ شرائح متزايدة من المتخصصين «ليصلوا بهذا التمييع للدِّين إلى مواكبة الغرب الكافر حضاريًّا وسلوكاً» كما يدّعي الرجل، وإنما غيرةً على الدين نفسه، وحرصاً على تحقيق مقاصده الأصيلة ليتمكن المسلمون من العيش وفق تعاليمه داخل التاريخ بدلاً من هامشه.. ويحيوا بعيداً عن شرعة الإصر والأغلال التي أعادَ فرضها كثيرٌ من رجال الدين بعدما جاءت الرسالة أصلاً لإلغائها.
أما من سوريا، فيقول رجل دينٍ قيادي في هيئة الشام الإسلامية: «وينبغي أن نعلم قبل أن نلج في خضم هذا البحث: أنَ هذا الشعار (الثوابت والمتغيرات) بهذه الطريقة لم يعرفه السلف ولا العلماء المحققون، لأنه من الألفاظ المجملة الموهمة التي يتطرق إليها الحق والباطل». هكذا، يبدؤون جميعاً بمحاربة أصل مبدأ وجود المتغيرات ونفيه! ليسهل بعدها إسباغ صفة (الثبات) على كل ما يتعلق بالدين.. من هنا يقول الرجل بعد ذلك: «ديننا ثابتٌ لا يتغير، فهو شجرة ثابتة الأصول مرتفعة الفروع... وديننا كاملٌ لا نقص فيه، ولا زيادة ولا نسخ بعد كماله... وهذه الشريعة شاملةٌ قد استوعبت الزمان والمكان والناس، فهي تخاطب جميع الخلق من الجن والإنس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم.. وهي مستوعبة لجميع النوازل والأحكام على اختلاف الزمان والمكان، إما تفصيلاً وإما تأصيلاً».
أما المفارقة الكبرى فتظهر حين نرى كيف تخلق عمليات التوسيع الهائلة لدوائر الثوابت والمقدسات مناخاً ثقافياً يأخذُ الظاهرة إلى مساحات مخيفة في تأثيرها على الناس والمجتمعات.. هذا أحد أعضاء مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان في مصر يتحدث في كيفية أن الإسلام كله ثوابت: «ليست محل التشكيك أو المراجعة أو التغيير والتعديل».
لكنه يضيف بعد ذلك قائلاً: «ثم هناك درجة أخرى تُضاف لهذا الأمر، وهو أن يكون لجماعة تعمل للإسلام ولنهضة الوطن.. ثوابت خاصة بها، تلزم أفرادها بها، وليست محل مراجعة منها أو تغيير».. وعندما يضرب أمثلةً على ذلك، يقول فيما يقول: «تُشكِّل أركان البيعة التي حدَّدها الإمام الشهيد، ووضَّح معانيها في رسالة التعاليم ثابتاً من الثوابت... إن التنظيم بما يعني وجود القيادة والصف.. ثابت من الثوابت... إن اسم (الإخوان المسلمين) ببعده التاريخي ومعناه الشرعي، أصبح من الثوابت.. وكذلك بالنسبة لشعار الجماعة وهتافها الدائم: (الله غايتنا.. والقرآن دستورنا.. والرسول زعيمنا.. إلخ) هو من الثوابت لفظاً ومضموناً، وأيضاً شعار (الإسلام هو الحل)، فهو من ناحية المضمون والصبغة ثابت من ثوابت الجماعة والدعوة منذ يومها الأول، ثم في مرحلة أصبح الشعار بألفاظه تلك من الثوابت في شعارات الجماعة مستمر معها، وليس مطروحًا للمراجعة»!؟
كما قلنا في أكثر من مقام: لا تكفي كل إشارات التعجب والاستفهام في الدنيا للتعبير عن غرابة هذه المقولات.. فكيف وصلنا إلى هنا؟ هذا حديث المقال القادم.
ثم إن الرجل يضرب أمثلةً حول (الثوابت) بعد التقديم لها بالطريقة التالية: «هذا، وقد ترتَّب عن هذا التقسيم المزعوم ـ بالمفهوم الاصطلاحيِّ الحديث ـ آثارٌ سيِّئةٌ على دين أمَّة الإسلام وأخلاقِها، ومِن هذه الآثار الناجمة عن القول بالمتغيِّرات ما يلي: حرِّيَّةُ الارتداد عن الدِّين وممارسةِ طقوسِ غيرِ المسلمين جهاراً، بدعوى حرِّيَّة الأديان وتقارُبها في ظلِّ الأخوَّة الإنسانية.. تعطيلُ الحدود الشرعية مِن الرَّجْمِ والقطع والقصاص، وإبطالُها بدعوى أنها أعمالٌ وحشيةٌ تنافي العقلَ والطبع.. تجويزُ أشكال الربا باسم البيع لإضفاء المشروعية عليها، وإباحةُ القروض الربوية بدعوى تلبية حاجيات الأمَّة والضغوط الدولية، وتبريرُ ذلك بقصد الالتحاق بركب الحضارة.. تحريمُ تعدُّد الزوجات، ومنعُ الزواج المبكِّر، والمطالبةُ بمناصفة الأنثى للذكر في القسمة الإرثية، كلُّ ذلك بحجَّةِ أنَّ تطبيق تلك الأحكام الشرعية سلوكٌ غيرُ حضاريٍّ وينافي الإنصافَ والعدل.. دعوة المرأة للخروج متبرِّجةً، واختلاطِها بالرجال، وسفرِها لوحدها أو مع أجنبيٍّ، وتزويجِ نفسها بنفسها، بحُجَّة التقدُّم والرُّقِيِّ والتَّحرُّر، ويتمُّ تسويغُ ذلك تحت شعارِ ما يسمَّى بالمتغيِّرات».
الجدير بالذكر أن كثيراً من الأمثلة أعلاه باتت من المسائل التي بدأت تُطرح، شيئاً فشيئاً، للمراجعة وإعادة الدراسة فيما يتعلق بأحكامها.. لم يحصل هذا ولا يحصل من قِبلِ شرائح متزايدة من المتخصصين «ليصلوا بهذا التمييع للدِّين إلى مواكبة الغرب الكافر حضاريًّا وسلوكاً» كما يدّعي الرجل، وإنما غيرةً على الدين نفسه، وحرصاً على تحقيق مقاصده الأصيلة ليتمكن المسلمون من العيش وفق تعاليمه داخل التاريخ بدلاً من هامشه.. ويحيوا بعيداً عن شرعة الإصر والأغلال التي أعادَ فرضها كثيرٌ من رجال الدين بعدما جاءت الرسالة أصلاً لإلغائها.
أما من سوريا، فيقول رجل دينٍ قيادي في هيئة الشام الإسلامية: «وينبغي أن نعلم قبل أن نلج في خضم هذا البحث: أنَ هذا الشعار (الثوابت والمتغيرات) بهذه الطريقة لم يعرفه السلف ولا العلماء المحققون، لأنه من الألفاظ المجملة الموهمة التي يتطرق إليها الحق والباطل». هكذا، يبدؤون جميعاً بمحاربة أصل مبدأ وجود المتغيرات ونفيه! ليسهل بعدها إسباغ صفة (الثبات) على كل ما يتعلق بالدين.. من هنا يقول الرجل بعد ذلك: «ديننا ثابتٌ لا يتغير، فهو شجرة ثابتة الأصول مرتفعة الفروع... وديننا كاملٌ لا نقص فيه، ولا زيادة ولا نسخ بعد كماله... وهذه الشريعة شاملةٌ قد استوعبت الزمان والمكان والناس، فهي تخاطب جميع الخلق من الجن والإنس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم.. وهي مستوعبة لجميع النوازل والأحكام على اختلاف الزمان والمكان، إما تفصيلاً وإما تأصيلاً».
أما المفارقة الكبرى فتظهر حين نرى كيف تخلق عمليات التوسيع الهائلة لدوائر الثوابت والمقدسات مناخاً ثقافياً يأخذُ الظاهرة إلى مساحات مخيفة في تأثيرها على الناس والمجتمعات.. هذا أحد أعضاء مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان في مصر يتحدث في كيفية أن الإسلام كله ثوابت: «ليست محل التشكيك أو المراجعة أو التغيير والتعديل».
لكنه يضيف بعد ذلك قائلاً: «ثم هناك درجة أخرى تُضاف لهذا الأمر، وهو أن يكون لجماعة تعمل للإسلام ولنهضة الوطن.. ثوابت خاصة بها، تلزم أفرادها بها، وليست محل مراجعة منها أو تغيير».. وعندما يضرب أمثلةً على ذلك، يقول فيما يقول: «تُشكِّل أركان البيعة التي حدَّدها الإمام الشهيد، ووضَّح معانيها في رسالة التعاليم ثابتاً من الثوابت... إن التنظيم بما يعني وجود القيادة والصف.. ثابت من الثوابت... إن اسم (الإخوان المسلمين) ببعده التاريخي ومعناه الشرعي، أصبح من الثوابت.. وكذلك بالنسبة لشعار الجماعة وهتافها الدائم: (الله غايتنا.. والقرآن دستورنا.. والرسول زعيمنا.. إلخ) هو من الثوابت لفظاً ومضموناً، وأيضاً شعار (الإسلام هو الحل)، فهو من ناحية المضمون والصبغة ثابت من ثوابت الجماعة والدعوة منذ يومها الأول، ثم في مرحلة أصبح الشعار بألفاظه تلك من الثوابت في شعارات الجماعة مستمر معها، وليس مطروحًا للمراجعة»!؟
كما قلنا في أكثر من مقام: لا تكفي كل إشارات التعجب والاستفهام في الدنيا للتعبير عن غرابة هذه المقولات.. فكيف وصلنا إلى هنا؟ هذا حديث المقال القادم.
أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (8)
خَتَمنا المقال السابق من هذه السلسلة بالحديث عن (ثوابت) جديدة، وضعها أحد قادة جماعة (الإخوان المسلمين) في مصر، تتضمن فيما تتضمن «أركان البيعة» في الجماعة، واسمها، وشعارها، ومقولة «الإسلام هو الحل»! يجدر التنبيه إلى أن الرجل ذكر أن (الثوابت) المذكورة تنطبق على من يكون عضوًا في الجماعة.. لكن هذا لا يلغي الإشكالية الكبرى الكامنة في هذا الموضوع، بأصله، وبما ترتّبَ، تاريخيًا، ويترتبُ، راهنًا، على ذلك الأصلِ من إشكاليات.
نتحدث هنا عن موضوع التوسيع المُفرط لدوائرِ ما يتم التعاملُ معها على أنها (ثوابت) و(مقدّسات)، ولو لم يتمَّ، لفظيًا، وصفُ تلك القضايا بتلك الصفة.. والحقيقة أن المثال المذكور أعلاه مُعبّرٌ في معرض توضيح خطورة ذلك التوسيع.. لأنه يخلق في المجتمعات المسلمة أجواء نفسية وفكرية تسمح، كما ذكَرنا، بشيوع درجةٍ من الفوضى في فهم الدين وتنزيله على الواقع لا يعود لها ضابط.
المفارقة أن القرآن نفسَه يوضح، بشكلٍ مباشر وغير مباشر، حِرصه على إبعاد المسلم بكل طريقة ممكنة عن الغرق في أبعاد عملية (التقديس) المادي للأشخاص والأشياء والأفكار.. والهدف الحساسُ هنا هو تجنُّبُ أن تصبح هذه العملية، في يومٍ من الأيام، لُبَّ الإسلام، والدليل بـ(أل التعريف) على احترامه والالتزام به.. وتجنُّبِ أن تصبح هذه المسألة مناطَ الحُكمِ على الأشخاص والمجتمعات والأفكار ومقياس التعامل والعلاقة معها، بدلاً من النظر إلى شمول القضايا وتعقيدها وتداخلها.
لنأخذ مثالًا حساسًا وأساسيًا يتمثل في شخص الرسول.. (وقالوا يا أيها الذي أُنزل إليه الذكر إنك لمجنون)، (وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذاب)، (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون)، (أم يقولون به جِنّة)، (قال الكافرون إن هذا لساحرٌ مبين)، (ثم تولوا عنه وقالوا معلّمٌ مجنون).
معلمٌ مجنون، ساحرٌ، كذّاب، مسكونٌ بالجنّ.. هذه بعضُ الأوصاف التي أطلقها على رسول الإسلام أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته.. حدثَ الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا.. كان يمكن بسهولةٍ وبَساطة أن يَطويَ التاريخ هذا النوع من التصرفات ويسكتَ عن الموقف، وأن تموت معهُ تلك الاتهامات.. خاصةً وأن (المُتَّهم) انتصر على خصومه المذكورين بطريقةٍ أو بأخرى.. ونحن نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون كما يحلو لهم في أغلب الأحيان.
مع هذا.. لم يُبدِ القرآن أي حرصٍ على إخفاء الأوصاف، رغم كل ما تَحمِلُه من تحدٍ وهجوم.. لم يحاول قطّ أن يطمسها في عالم النسيان، مع أنه كان يستطيع ذلك دون أن يخطر في بال أحد أن يتساءل عن السبب.. لم يخشَ من تأثيرها على مقام النبي الذي جاء بالرسالة في عيون أتباعه، وفي عيون الناس من ورائهم إلى يوم الدين.. لم يرَ في إيرادها وتكرارها والتفصيل في الإخبار عنها طعنًا جوهريًا في شخص الرسول الكريم، ولا مَسًا حقيقيًا بكرامته وسمعته.
لم يحصل ذلك كله وإنما حصل العكس.. خطَّ القرآن في موقفه من المسألة درسًا في الممارسة الحضارية كان لابدّ أن يُسجّلَ في تاريخ الإنسانية.. وذلك حين ضَمِنَ لتلك الاتهامات الحفظَ إلى يوم القيامة من خلال خلوده.. وتَركَ المجال مفتوحًا لقراءتها واستعراضها ومعرفة خلفياتها وأبعادها ودلالاتها.. ويمكن القول بأنه اعتبرها بِلُغة هذا العصر (رأياً آخر) يستحق أن يبقى وأن يَسمعه الناس في كل زمانٍ ومكان.
بل تجاوز القرآن كل ما سبق وقام بعَرضها في إطار أسلوبه الأنيق بكل ما فيه من بلاغةٍ وبيان، وجمالياتٍ في الألفاظ والجمل والتراكيب يتذوقُها من يعرف شيئًا عن اللغة العربية، مسلماً كان أو غير مسلم.
لم يحدث هذا عبثًا.. لم تأتِ هذه المعالجة للموضوع خطأً أو سهواً!
كان القرآن فيما نحسب يريد أن يضبط التصورات والمفاهيم في قضيةٍ حساسة وخطيرة تؤثر على الوجود البشري في هذه الأرض على الدوام.. كان ولا يزال يهدف إلى تحرير الإنسان من تقديس الإنسان.. حتى لو كان الأمرُ يتعلق بصاحب الرسالة الأخيرة.. وبالرجل الذي تعتبرهُ الرسالةُ نفسها خيرَ بني البشر.. الرجل الذي يؤكدُ القرآنُ أن الله وملائكته يُصلّون عليه، وهي منزلةٌ ليس كمثلها منزلة في مقاييس الرسالة.
كان القرآن ولا يزال يهدف عندما عالج الموضوع بتلك الطريقة إلى ضبط التوازنات في العلاقة بين الإنسان والفكرة.. وإلى التأكيد بأن الهدف النهائي والأكبر يتمثل في ربط الناس بفكرةٍ ترمي لتأكيد قيم الحق والعدل والحرية والجمال في حياة البشرية على هذه الأرض.
من هنا، لم يرَ القرآنُ أن مكمن الخطر على الفكرة يتمثل في تحدّي حاملها، ولا في الإساءة إلى شخصه، ولا في التهجم عليه، ولا في توجيه الاتهامات عليه.. حتى ولو كان يرى في مثل تلك التصرفات درجةً من الافتراء.. كان هذا هو الدرسَ الكبير، ولا يزال.
كانت النيةُ ختمَ هذه السلسلة من المقالات هنا.. لكن تعليقات بعض القراء تستحق التفاعل معها في المقال القادم.
نتحدث هنا عن موضوع التوسيع المُفرط لدوائرِ ما يتم التعاملُ معها على أنها (ثوابت) و(مقدّسات)، ولو لم يتمَّ، لفظيًا، وصفُ تلك القضايا بتلك الصفة.. والحقيقة أن المثال المذكور أعلاه مُعبّرٌ في معرض توضيح خطورة ذلك التوسيع.. لأنه يخلق في المجتمعات المسلمة أجواء نفسية وفكرية تسمح، كما ذكَرنا، بشيوع درجةٍ من الفوضى في فهم الدين وتنزيله على الواقع لا يعود لها ضابط.
المفارقة أن القرآن نفسَه يوضح، بشكلٍ مباشر وغير مباشر، حِرصه على إبعاد المسلم بكل طريقة ممكنة عن الغرق في أبعاد عملية (التقديس) المادي للأشخاص والأشياء والأفكار.. والهدف الحساسُ هنا هو تجنُّبُ أن تصبح هذه العملية، في يومٍ من الأيام، لُبَّ الإسلام، والدليل بـ(أل التعريف) على احترامه والالتزام به.. وتجنُّبِ أن تصبح هذه المسألة مناطَ الحُكمِ على الأشخاص والمجتمعات والأفكار ومقياس التعامل والعلاقة معها، بدلاً من النظر إلى شمول القضايا وتعقيدها وتداخلها.
لنأخذ مثالًا حساسًا وأساسيًا يتمثل في شخص الرسول.. (وقالوا يا أيها الذي أُنزل إليه الذكر إنك لمجنون)، (وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذاب)، (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون)، (أم يقولون به جِنّة)، (قال الكافرون إن هذا لساحرٌ مبين)، (ثم تولوا عنه وقالوا معلّمٌ مجنون).
معلمٌ مجنون، ساحرٌ، كذّاب، مسكونٌ بالجنّ.. هذه بعضُ الأوصاف التي أطلقها على رسول الإسلام أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته.. حدثَ الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا.. كان يمكن بسهولةٍ وبَساطة أن يَطويَ التاريخ هذا النوع من التصرفات ويسكتَ عن الموقف، وأن تموت معهُ تلك الاتهامات.. خاصةً وأن (المُتَّهم) انتصر على خصومه المذكورين بطريقةٍ أو بأخرى.. ونحن نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون كما يحلو لهم في أغلب الأحيان.
مع هذا.. لم يُبدِ القرآن أي حرصٍ على إخفاء الأوصاف، رغم كل ما تَحمِلُه من تحدٍ وهجوم.. لم يحاول قطّ أن يطمسها في عالم النسيان، مع أنه كان يستطيع ذلك دون أن يخطر في بال أحد أن يتساءل عن السبب.. لم يخشَ من تأثيرها على مقام النبي الذي جاء بالرسالة في عيون أتباعه، وفي عيون الناس من ورائهم إلى يوم الدين.. لم يرَ في إيرادها وتكرارها والتفصيل في الإخبار عنها طعنًا جوهريًا في شخص الرسول الكريم، ولا مَسًا حقيقيًا بكرامته وسمعته.
لم يحصل ذلك كله وإنما حصل العكس.. خطَّ القرآن في موقفه من المسألة درسًا في الممارسة الحضارية كان لابدّ أن يُسجّلَ في تاريخ الإنسانية.. وذلك حين ضَمِنَ لتلك الاتهامات الحفظَ إلى يوم القيامة من خلال خلوده.. وتَركَ المجال مفتوحًا لقراءتها واستعراضها ومعرفة خلفياتها وأبعادها ودلالاتها.. ويمكن القول بأنه اعتبرها بِلُغة هذا العصر (رأياً آخر) يستحق أن يبقى وأن يَسمعه الناس في كل زمانٍ ومكان.
بل تجاوز القرآن كل ما سبق وقام بعَرضها في إطار أسلوبه الأنيق بكل ما فيه من بلاغةٍ وبيان، وجمالياتٍ في الألفاظ والجمل والتراكيب يتذوقُها من يعرف شيئًا عن اللغة العربية، مسلماً كان أو غير مسلم.
لم يحدث هذا عبثًا.. لم تأتِ هذه المعالجة للموضوع خطأً أو سهواً!
كان القرآن فيما نحسب يريد أن يضبط التصورات والمفاهيم في قضيةٍ حساسة وخطيرة تؤثر على الوجود البشري في هذه الأرض على الدوام.. كان ولا يزال يهدف إلى تحرير الإنسان من تقديس الإنسان.. حتى لو كان الأمرُ يتعلق بصاحب الرسالة الأخيرة.. وبالرجل الذي تعتبرهُ الرسالةُ نفسها خيرَ بني البشر.. الرجل الذي يؤكدُ القرآنُ أن الله وملائكته يُصلّون عليه، وهي منزلةٌ ليس كمثلها منزلة في مقاييس الرسالة.
كان القرآن ولا يزال يهدف عندما عالج الموضوع بتلك الطريقة إلى ضبط التوازنات في العلاقة بين الإنسان والفكرة.. وإلى التأكيد بأن الهدف النهائي والأكبر يتمثل في ربط الناس بفكرةٍ ترمي لتأكيد قيم الحق والعدل والحرية والجمال في حياة البشرية على هذه الأرض.
من هنا، لم يرَ القرآنُ أن مكمن الخطر على الفكرة يتمثل في تحدّي حاملها، ولا في الإساءة إلى شخصه، ولا في التهجم عليه، ولا في توجيه الاتهامات عليه.. حتى ولو كان يرى في مثل تلك التصرفات درجةً من الافتراء.. كان هذا هو الدرسَ الكبير، ولا يزال.
كانت النيةُ ختمَ هذه السلسلة من المقالات هنا.. لكن تعليقات بعض القراء تستحق التفاعل معها في المقال القادم.
أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٩)
«بصراحة كلامك غامض وغير دقيق أبداً، مثلاً تقول: (أصبحت آراء بعض العلماء وفتاويهم، سواء كانوا معاصرين أو قدماء، ضمن دائرة المقدسات تلك. لا يجوز مناقشتها والحوار فيها، فضلاً عن تفنيدها والرد عليها وإظهار عيوبها ومثالبها). وبصراحة لم أسمع مثل هذه التهمة من شخص لديه معرفة بسيطة بالشريعة والفكر الإسلامي!!. وأنا واثق أنك تعلم ذلك جيداً، لذا السؤال هو: ما الفائدة أن نتوهم تهمة غير موجودة، أو نخترعها، لنقوم بالرد عليها؟»
كان الكلام أعلاه تعليقاً من أحد القراء الكرام، وهو أستاذٌ للشريعة كما ذَكَر، على مقالٍ من هذه السلسلة. وأنا أنقله هنا حرفياً، باستثناء تصحيح همزات القطع أعلاه، والتي كانت في الأصل كلها همزات وصل!
ثمة في الموضوع مفارقةٌ كبيرة تُعبّرُ عن حقيقة الوقوع في مأزق ما يُسمى علمياً (عقلية الإنكار) Denial Mentality ، ليس فقط لدى شرائح كبيرة من عموم أفراد مجتمعاتنا، وإنما أيضاً لدى كثيرٍ ممن يُفترضُ أن يكونوا متخصصين. وهذه ظاهرةٌ تزيدُ من خطورة الأمر وتأثيره السلبي في حاضر ومستقبل المجتمعات الإسلامية، بثقافتها وممارساتها وواقعها ومصيرها بشكلٍ عام.
لقد ذكرنا، قصداً، في بداية المقال السابع مايلي: «لسانُ الحال أبلغُ من لسان المقال كما قالت العرب. وحين نتحدث عن تقديس الأفكار والأشخاص في تاريخنا وواقعنا الراهن، فالحديثُ عن مظاهر لاحصرَ لها في الواقع والتاريخ تُظهِرُ تلك الحقيقة، وليس عن ألفاظ شفهية قد يتحرز كثيرون من قولها، ولو صدَّقَت ممارساتُهم العملية إيمانَهم بها». والذين يُجادلون في الموضوع، ويتحدَّونَ أن نأتي بمن يقول بـ (التقديس) لفظاً يُمارسون نوعاً من (الظاهرية) و(الحَرفية) لا تخدم الموضوع في قليلٍ أو كثير.
لم تكن نية كاتب المقالات معقودةً على الدخول في تفاصيلَ مثل المذكورة أدناه. لكن هذا يبدو ضرورياً لكيلا يحسبَ غيرُ المتخصصين من القراء أننا ندعو لفتح الملف كنوعٍ من العبث. لنستعرض إذاً بعض الأمثلة.
عن أبي الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي أحد (كبار) العلماء وأعلام المذهب الحنفي، وَصَفهُ من تَرجمَ له بأنه انتهت إليه رئاسة الحنفية.. يقول: « الأصلُ أن كل آيةٍ تُخالِفُ قولَ أصحابنا فإنها تُحمَلُ على النسخ أو على الترجيح والأولَى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق». وهي مقولةٌ لم أجد من يُنكِرُها. فماذا يعني القول المذكور بهذه الصراحة؟ ألا يعني (تقديس) آراء المذهب وعلمائه؟ هذا مع ذكر المفارقة التي تتمثل فيما نُقل عن ابن حنيفة ذاته حين قال: «إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي».
وماذا عن مقولة ابن عابدين (في رسائله)، ومقولة غيره، بأن من بعد المائة الرابعة قد أغلق باب للقياس، وأن من كان بعد المائة الرابعة فليسوا بأهل للقياس. ألا تعني إضفاء نوعٍ من (القداسة) على مقولات السابقين؟
وكيف نفسر قول محمد بن موسى الحنفي - قاضي دمشق - المتوفى سنة 506هـ: «لو كان لي من الأمر شيء لأخذت من الشافعية الجزية». وكذلك قول أبي حامد الطوسي المتوفى سنة 567هـ: «لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية». كما ورد في (البداية والنهاية). وبالمقابل، نجد الشيخ ابن حاتم الحنبلي يقول: «من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم»، في (تذكرة الحفاظ).
بل إن التقديس (العملي) للأشخاص والفتاوى وصل إلى حد القتل! فهذا الفقيه - أبو منصور - المتوفى سنة 567هـ قتله الحنابلة بالسم تعصباً عليه، قال ابن الجوزي: إن الحنابلة دسوا إليه امرأة جاءت إليه بصحن حلاوة، وقالت: هذا يا سيدي من غزلي، فأكل هو وامرأته وولده وولدٌ له صغير فأصبحوا موتى، وكان من علماء الشافعية المبرزين. كما ورد في (طبقات الشافعية).
أما آخرون فقد افتروا على الرسول كذباً، (تقديساً) لشيخهم، وذلك مثل قولهم عن الرسول أنه قال: «آن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من أمتي اسمه النعمان». وأنه قال: «الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني»، كما ورد في (الياقوت في الوعظ).
وادعت المالكية لإمامهم أموراً، منها: «أنه مكتوب على فخذه بقلم القدرة مالك حجة الله في أرضه، وأنه يحضر الأموات من أصحابه في قبورهم ويُنّحي الملكين عن الميت، ولا يدعهما يحاسبانه على أعماله»، كما ورد في (مشارق الأنوار).
ولقد حظي أبو حنيفة وحده، رغم أنه ذكرَ المقولة الذهبية التي أوردناها أعلاه، من هذه الفضائل بمجموعة من الكتب، نذكر منها على سبيل المثال: (عقود المرجان في مناقب أبي حنيفة النعمان)، لأبي جعفر الطحاوي. و(مناقب أبي حنيفة) للخوارزمي. و(البستان في مناقب النعمان) للشيخ محي الدين عبد القادر بن أبي الوفاء، و(شقائق النعمان في مناقب النعمان) للزمخشري..
هذا غيضٌ من فيضٍ متوفرٍ في كتب منظومة الفقه والتفسير والسنة السائدة في تاريخ المسلمين. وإن زعمَ البعض أن هذا الغيض وحدهُ لايدعم مقولتنا في هذه المقالات، فسنَحارُ بالتأكيد في الإجابة عليه!.
ثمة في الموضوع مفارقةٌ كبيرة تُعبّرُ عن حقيقة الوقوع في مأزق ما يُسمى علمياً (عقلية الإنكار) Denial Mentality ، ليس فقط لدى شرائح كبيرة من عموم أفراد مجتمعاتنا، وإنما أيضاً لدى كثيرٍ ممن يُفترضُ أن يكونوا متخصصين. وهذه ظاهرةٌ تزيدُ من خطورة الأمر وتأثيره السلبي في حاضر ومستقبل المجتمعات الإسلامية، بثقافتها وممارساتها وواقعها ومصيرها بشكلٍ عام.
لقد ذكرنا، قصداً، في بداية المقال السابع مايلي: «لسانُ الحال أبلغُ من لسان المقال كما قالت العرب. وحين نتحدث عن تقديس الأفكار والأشخاص في تاريخنا وواقعنا الراهن، فالحديثُ عن مظاهر لاحصرَ لها في الواقع والتاريخ تُظهِرُ تلك الحقيقة، وليس عن ألفاظ شفهية قد يتحرز كثيرون من قولها، ولو صدَّقَت ممارساتُهم العملية إيمانَهم بها». والذين يُجادلون في الموضوع، ويتحدَّونَ أن نأتي بمن يقول بـ (التقديس) لفظاً يُمارسون نوعاً من (الظاهرية) و(الحَرفية) لا تخدم الموضوع في قليلٍ أو كثير.
لم تكن نية كاتب المقالات معقودةً على الدخول في تفاصيلَ مثل المذكورة أدناه. لكن هذا يبدو ضرورياً لكيلا يحسبَ غيرُ المتخصصين من القراء أننا ندعو لفتح الملف كنوعٍ من العبث. لنستعرض إذاً بعض الأمثلة.
عن أبي الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي أحد (كبار) العلماء وأعلام المذهب الحنفي، وَصَفهُ من تَرجمَ له بأنه انتهت إليه رئاسة الحنفية.. يقول: « الأصلُ أن كل آيةٍ تُخالِفُ قولَ أصحابنا فإنها تُحمَلُ على النسخ أو على الترجيح والأولَى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق». وهي مقولةٌ لم أجد من يُنكِرُها. فماذا يعني القول المذكور بهذه الصراحة؟ ألا يعني (تقديس) آراء المذهب وعلمائه؟ هذا مع ذكر المفارقة التي تتمثل فيما نُقل عن ابن حنيفة ذاته حين قال: «إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي».
وماذا عن مقولة ابن عابدين (في رسائله)، ومقولة غيره، بأن من بعد المائة الرابعة قد أغلق باب للقياس، وأن من كان بعد المائة الرابعة فليسوا بأهل للقياس. ألا تعني إضفاء نوعٍ من (القداسة) على مقولات السابقين؟
وكيف نفسر قول محمد بن موسى الحنفي - قاضي دمشق - المتوفى سنة 506هـ: «لو كان لي من الأمر شيء لأخذت من الشافعية الجزية». وكذلك قول أبي حامد الطوسي المتوفى سنة 567هـ: «لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية». كما ورد في (البداية والنهاية). وبالمقابل، نجد الشيخ ابن حاتم الحنبلي يقول: «من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم»، في (تذكرة الحفاظ).
بل إن التقديس (العملي) للأشخاص والفتاوى وصل إلى حد القتل! فهذا الفقيه - أبو منصور - المتوفى سنة 567هـ قتله الحنابلة بالسم تعصباً عليه، قال ابن الجوزي: إن الحنابلة دسوا إليه امرأة جاءت إليه بصحن حلاوة، وقالت: هذا يا سيدي من غزلي، فأكل هو وامرأته وولده وولدٌ له صغير فأصبحوا موتى، وكان من علماء الشافعية المبرزين. كما ورد في (طبقات الشافعية).
أما آخرون فقد افتروا على الرسول كذباً، (تقديساً) لشيخهم، وذلك مثل قولهم عن الرسول أنه قال: «آن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من أمتي اسمه النعمان». وأنه قال: «الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني»، كما ورد في (الياقوت في الوعظ).
وادعت المالكية لإمامهم أموراً، منها: «أنه مكتوب على فخذه بقلم القدرة مالك حجة الله في أرضه، وأنه يحضر الأموات من أصحابه في قبورهم ويُنّحي الملكين عن الميت، ولا يدعهما يحاسبانه على أعماله»، كما ورد في (مشارق الأنوار).
ولقد حظي أبو حنيفة وحده، رغم أنه ذكرَ المقولة الذهبية التي أوردناها أعلاه، من هذه الفضائل بمجموعة من الكتب، نذكر منها على سبيل المثال: (عقود المرجان في مناقب أبي حنيفة النعمان)، لأبي جعفر الطحاوي. و(مناقب أبي حنيفة) للخوارزمي. و(البستان في مناقب النعمان) للشيخ محي الدين عبد القادر بن أبي الوفاء، و(شقائق النعمان في مناقب النعمان) للزمخشري..
هذا غيضٌ من فيضٍ متوفرٍ في كتب منظومة الفقه والتفسير والسنة السائدة في تاريخ المسلمين. وإن زعمَ البعض أن هذا الغيض وحدهُ لايدعم مقولتنا في هذه المقالات، فسنَحارُ بالتأكيد في الإجابة عليه!.
أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات) (١٠)
قال الجويني، إمامُ الحرمين، في كتابه (مغيث الحق في ترجيح القول الحق): «نحن ندعي أنه يجب على كافة العاقلين وعامة المسلمين شرقاً وغرباً بُعداً وقُرباً انتحال مذهب الشافعي ويجب على العوام الطغام والجهال الأنذال أيضاً انتحال مذهبه بحيث لا يبغون عنه حولاً ولا يريدون به بدلاً».
وقال الإمام الفخر الرازي في (مناقب الشافعي): «القول بأن قول الشافعي أخطأ في مسألة كذا إهانة للشافعي القرشي وإهانة قريش غير جائزة فوجب ألا يجوز القول بتخطئته في شيء من المسائل».
وقال السيوطي في كتابه (جزيل المواهب في اختلاف الذاهب): «من أدى صلاته على مذهب الشافعي كان على يقين من صحتها، ومن صلاها على مذهب مخالف وقع الخلاف في صحة صلاته».
مقابل ذلك، قال علاء الدين الحصفكي، الفقيه والمحدث وإمام الحنفية في دمشق في زمانه: «فَلعنةُ ربِّنا أعدادَ رملٍ على مَن ردَّ قول أبي حنيفة».
أما محمد بن موسى الحنفي، قاضي دمشق فقد قال: «لو كان الأمر لي لأخذتُ الجزية من الشافعية»، كما نقل الذهبي في (ميزان الاعتدال في نقد الرجال).
ونجد في (سير النبلاء) أن أبو إسماعيل عبد الله الهروي الأنصاري، الفقيه الحنبلي، وشيخ خراسان الذي يعود نسبه إلى الصحابي أبي أيوب الأنصاري، يقول: «أنا حنبليٌ ماحييتُ وإن أمُتْ فوصيتي للناس أن يتحنبلوا».
وأخيراً في هذا المقال، يجدر ذكر ماورد في كتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد بن حنبل من أقاويل بحق أبي حنيفة (تشيبُ لهولها الوِلدَان) كما تقول العرب.
وفيما يلي بعض ماهو واردٌ في الكتاب المذكور: «أُخبِرت عن إسحاق بن منصور الكوسج، قال: قلت لأحمد بن حنبل يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة وأصحابه؟ قال: إي والله..... حدثني منصور بن أبي مزاحم، سمعت مالك بن أنس، ذكر أبا حنيفة فذكره بكلام سوء وقال: (كادَ الدين، وقال: من كادَ الدين فليس من الدين).... حدثني أبو معمر، عن الوليد بن مسلم، قال: قال مالك بن أنس (أيُذكر أبو حنيفة ببلدكم؟) قلت: نعم، قال: (ما ينبغي لبلدكم أن يُسكن).... حدثني الحسن بن الصباح البزار، حدثني الحنيني، عن مالك بن أنس، قال: (ما وُلد في الإسلام مولودٌ أضرُّ على أهل الإسلام من أبي حنيفة)...».
ومن الذين طعنوا كذلك في أبي حنيفة، في هذا الكتاب، حماد بن زيد وشريك بن عبدالله ووكيع بن الجراح وأبو إسحاق الفزاري ويوسف بن أسباط وأبي عوانة وسلام ابن أبي مطيع وأبو جعفر بن سليمان الذي كان يرى أبا حنيفة زنديقاً، وحسن بن صالح والأصمعي وحماد بن سلمة الذي أكثر الفُحش في أبي حنيفة حتى وصلت شتائمه للرجل حد التواتر من طرق كثيرة، وكذلك إمام التصوف عبدالله بن المبارك وسفيان بن عيينة وأبو خالد الأحمر وحفص بن غياث وأبي حمزة السكري وأسود بن سالم وأبي زائدة وعبدالرزاق الصنعاني ومحمد بن جابر وهوذة بن خليفة وعبدالله بن يزيد وأبو سلمة الجهني وقتادة بن دعامة..
وفي الكتاب اتهاماتٌ لأبي حنيفة يكاد لايصدقها عقلٌ منها أنه «كافرٌ، وزنديقٌ، ينقض عُرى الإسلام عروةً عُروة، وأنه أبو جيفة وليس أبو حنيفة، وأن الخمّارين خيرٌ من أبي حنيفة، وأن الحنفية أشدُّ على المسلمين من اللصوص، وأن المسلم يُؤجرُ على بغضه...» إلى غير ذلك من أوصاف ساقها كثيرٌ ممن اتهموه بدعوى دفاعهم عن السنّة، وأنه يقول في الدين برأيه.
الجدير بالذكر أن ممن وثّقَ الكتاب المذكور النسائي والدارقطني والبغدادي والذهبي، والتوثيق في عُرف أهل الحديث أن روايته صادقة لا تُرد، بما يعني قبولهم بمحتوى كتابه (السنة) وكتابه الآخر (المسند).
ثم وصلنا في القرن الثالث عشر الهجري مع أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي المالكي إلى قوله: «إن من خرج عن هذه [المذاهب] الأربعة فهو ضالٌ مُضِلّ ولو وافق الصحابة والحديث الصحيح والآية، وربما أداه ذلك إلى الكفر لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»!؟ وذلك في حاشيته المُسمّاة (بَلغةُ السالك لأقرب المسالك).
هذا جزءٌ من تاريخنا سيجده من يعود إلى الكتب الموجودة أعلاه. والمشكلة أن كثيرين يتملصون منه لأسباب عديدة: فالبعض يرى فيه إساءةً لعلماء كبار! والبعض الآخر يقول إن طرح مثل هذه القضايا يُشكِّكُ الناس بالدين، والبعض الثالث لايرى علاقةً بين هذا الجزء من تاريخنا وبين واقعنا المعاصر، وهو، لهذا، لايرى أي جدوى من وراء طرحِهِ أو الحديث فيه.
يعجز هؤلاء عن رؤية الصيرورة التي شكّلت ثقافتنا الإسلامية الراهنة بكل سلبياتها، وهي الثقافة التي شكّلت وتُشكِّلُ، بدورها، واقعنا العملي المعاصر. يتهربون من حقيقة أن مثل تلك الطروحات، في زبدتها، هي أصلٌ من الأصول التي تؤدي إلى (تقديس) الأشخاص وآرائهم. يتجاهلون أنها جذرٌ أصيل من جذور الخلاف والانقسام بين المسلمين تاريخياً، وفي يومنا الراهن.
كل المذكورين أعلاه بشر. وبشيءٍ من البحث، ستجد لهم آراء ومقولات قد تبلغ درجة الروعة في فهم الإسلام وطريقة تنزيله على الواقع. وستعرف أن لهم جهوداً في البحث والتأليف والتصنيف لايكاد يوجد مثلُها في هذا العصر. بل وستدرك أنهم ذكروا ماذكروه أعلاه نتيجة اعتقادٍ لديهم بأنهم يدافعون عن الدين (الصحيح).
لكنهم، أولاً وآخراً، بشر. بمعنى أنهم ليسوا معصومين من الخطأ. ولسنا هنا في مقام إلقاء اللوم عليهم، لأنهم بشر، ولكل الأسباب الواردة في الفقرة السابقة.
لكن هذا لايتناقض مع ضرورة إدراكنا لماهيّة الأسباب التي أنتجت واقعنا، وللبذور التي غُرست في التاريخ وأثمرت هذا الواقع بكل سلبياته وأخطائه.
بهذا، تكون المسؤولية مسؤوليتنا، ولايكون بالإمكان إلقاء اللوم سوى علينا، وتُصبح مسؤولية إصلاح واقعنا مُلقاةً على عاتقنا. هذا مايضيع في خضم الفوضى المتعلقة بالحديث عن التراث، وهو، تحديداً، مايجب أن يكون مجال البحث والجهد والعمل والإنتاج.
وقال الإمام الفخر الرازي في (مناقب الشافعي): «القول بأن قول الشافعي أخطأ في مسألة كذا إهانة للشافعي القرشي وإهانة قريش غير جائزة فوجب ألا يجوز القول بتخطئته في شيء من المسائل».
وقال السيوطي في كتابه (جزيل المواهب في اختلاف الذاهب): «من أدى صلاته على مذهب الشافعي كان على يقين من صحتها، ومن صلاها على مذهب مخالف وقع الخلاف في صحة صلاته».
مقابل ذلك، قال علاء الدين الحصفكي، الفقيه والمحدث وإمام الحنفية في دمشق في زمانه: «فَلعنةُ ربِّنا أعدادَ رملٍ على مَن ردَّ قول أبي حنيفة».
أما محمد بن موسى الحنفي، قاضي دمشق فقد قال: «لو كان الأمر لي لأخذتُ الجزية من الشافعية»، كما نقل الذهبي في (ميزان الاعتدال في نقد الرجال).
ونجد في (سير النبلاء) أن أبو إسماعيل عبد الله الهروي الأنصاري، الفقيه الحنبلي، وشيخ خراسان الذي يعود نسبه إلى الصحابي أبي أيوب الأنصاري، يقول: «أنا حنبليٌ ماحييتُ وإن أمُتْ فوصيتي للناس أن يتحنبلوا».
وأخيراً في هذا المقال، يجدر ذكر ماورد في كتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد بن حنبل من أقاويل بحق أبي حنيفة (تشيبُ لهولها الوِلدَان) كما تقول العرب.
وفيما يلي بعض ماهو واردٌ في الكتاب المذكور: «أُخبِرت عن إسحاق بن منصور الكوسج، قال: قلت لأحمد بن حنبل يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة وأصحابه؟ قال: إي والله..... حدثني منصور بن أبي مزاحم، سمعت مالك بن أنس، ذكر أبا حنيفة فذكره بكلام سوء وقال: (كادَ الدين، وقال: من كادَ الدين فليس من الدين).... حدثني أبو معمر، عن الوليد بن مسلم، قال: قال مالك بن أنس (أيُذكر أبو حنيفة ببلدكم؟) قلت: نعم، قال: (ما ينبغي لبلدكم أن يُسكن).... حدثني الحسن بن الصباح البزار، حدثني الحنيني، عن مالك بن أنس، قال: (ما وُلد في الإسلام مولودٌ أضرُّ على أهل الإسلام من أبي حنيفة)...».
ومن الذين طعنوا كذلك في أبي حنيفة، في هذا الكتاب، حماد بن زيد وشريك بن عبدالله ووكيع بن الجراح وأبو إسحاق الفزاري ويوسف بن أسباط وأبي عوانة وسلام ابن أبي مطيع وأبو جعفر بن سليمان الذي كان يرى أبا حنيفة زنديقاً، وحسن بن صالح والأصمعي وحماد بن سلمة الذي أكثر الفُحش في أبي حنيفة حتى وصلت شتائمه للرجل حد التواتر من طرق كثيرة، وكذلك إمام التصوف عبدالله بن المبارك وسفيان بن عيينة وأبو خالد الأحمر وحفص بن غياث وأبي حمزة السكري وأسود بن سالم وأبي زائدة وعبدالرزاق الصنعاني ومحمد بن جابر وهوذة بن خليفة وعبدالله بن يزيد وأبو سلمة الجهني وقتادة بن دعامة..
وفي الكتاب اتهاماتٌ لأبي حنيفة يكاد لايصدقها عقلٌ منها أنه «كافرٌ، وزنديقٌ، ينقض عُرى الإسلام عروةً عُروة، وأنه أبو جيفة وليس أبو حنيفة، وأن الخمّارين خيرٌ من أبي حنيفة، وأن الحنفية أشدُّ على المسلمين من اللصوص، وأن المسلم يُؤجرُ على بغضه...» إلى غير ذلك من أوصاف ساقها كثيرٌ ممن اتهموه بدعوى دفاعهم عن السنّة، وأنه يقول في الدين برأيه.
الجدير بالذكر أن ممن وثّقَ الكتاب المذكور النسائي والدارقطني والبغدادي والذهبي، والتوثيق في عُرف أهل الحديث أن روايته صادقة لا تُرد، بما يعني قبولهم بمحتوى كتابه (السنة) وكتابه الآخر (المسند).
ثم وصلنا في القرن الثالث عشر الهجري مع أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي المالكي إلى قوله: «إن من خرج عن هذه [المذاهب] الأربعة فهو ضالٌ مُضِلّ ولو وافق الصحابة والحديث الصحيح والآية، وربما أداه ذلك إلى الكفر لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»!؟ وذلك في حاشيته المُسمّاة (بَلغةُ السالك لأقرب المسالك).
هذا جزءٌ من تاريخنا سيجده من يعود إلى الكتب الموجودة أعلاه. والمشكلة أن كثيرين يتملصون منه لأسباب عديدة: فالبعض يرى فيه إساءةً لعلماء كبار! والبعض الآخر يقول إن طرح مثل هذه القضايا يُشكِّكُ الناس بالدين، والبعض الثالث لايرى علاقةً بين هذا الجزء من تاريخنا وبين واقعنا المعاصر، وهو، لهذا، لايرى أي جدوى من وراء طرحِهِ أو الحديث فيه.
يعجز هؤلاء عن رؤية الصيرورة التي شكّلت ثقافتنا الإسلامية الراهنة بكل سلبياتها، وهي الثقافة التي شكّلت وتُشكِّلُ، بدورها، واقعنا العملي المعاصر. يتهربون من حقيقة أن مثل تلك الطروحات، في زبدتها، هي أصلٌ من الأصول التي تؤدي إلى (تقديس) الأشخاص وآرائهم. يتجاهلون أنها جذرٌ أصيل من جذور الخلاف والانقسام بين المسلمين تاريخياً، وفي يومنا الراهن.
كل المذكورين أعلاه بشر. وبشيءٍ من البحث، ستجد لهم آراء ومقولات قد تبلغ درجة الروعة في فهم الإسلام وطريقة تنزيله على الواقع. وستعرف أن لهم جهوداً في البحث والتأليف والتصنيف لايكاد يوجد مثلُها في هذا العصر. بل وستدرك أنهم ذكروا ماذكروه أعلاه نتيجة اعتقادٍ لديهم بأنهم يدافعون عن الدين (الصحيح).
لكنهم، أولاً وآخراً، بشر. بمعنى أنهم ليسوا معصومين من الخطأ. ولسنا هنا في مقام إلقاء اللوم عليهم، لأنهم بشر، ولكل الأسباب الواردة في الفقرة السابقة.
لكن هذا لايتناقض مع ضرورة إدراكنا لماهيّة الأسباب التي أنتجت واقعنا، وللبذور التي غُرست في التاريخ وأثمرت هذا الواقع بكل سلبياته وأخطائه.
بهذا، تكون المسؤولية مسؤوليتنا، ولايكون بالإمكان إلقاء اللوم سوى علينا، وتُصبح مسؤولية إصلاح واقعنا مُلقاةً على عاتقنا. هذا مايضيع في خضم الفوضى المتعلقة بالحديث عن التراث، وهو، تحديداً، مايجب أن يكون مجال البحث والجهد والعمل والإنتاج.
+++++++++++++++
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق