تصنيف المُناظر
ففي المدارس الدينية، مثلاً، نرى تغليب العقل مطلقاً هو منهج الاعتزال. بينما نرى الاعتماد على
النقل مطلقاً هو منهج السلفية. كما نرى أن الأخذ بظاهر النص مجرداً، هو منهج فكر الظاهرية. وفي المدارس السياسية مثل آخر، فالمحافظ هو اليميني الذي يتبع منهج التشدد مطلقاً في اتباع أصول القومية التي قامت عليها بلاده في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعكسه الليبرالي وهو اليساري.
والأذكياء والمستقلون فكرياً والمتحررون من التبعية لا تجدهم ينتمون إلى منهج معين، بينما يتبعون الحجة المنطقية أينما كانت.
فمثلاً، ومن أجل الإيضاح، قد يُقال مثلاً لوصف فكر شخص ما: هو سلفي النزعة معتزلي الفقه إخونجي الهوى صوفي القلب لبيرالي الفكر.
فسلفي النزعة تعني أنه يتبع الدليل من الكتاب والسنة، فإذا كان هو كذلك لكنه خُصص بأنه معتزلي الفقه، فيعني أنه يحكم العقل بطرق فلسفية معقدة في فهم النصوص الشرعية التي يستدل بها، حتى قد يعطلها عن معناها إذا لم تتفق مع رأيه العقلي عند التطبيق. فمتى أضيف له أنه «إخونجي الهوى»، فهذا يعني أنه يتبنى الإسلام السياسي. ومنهجه هو. نزوله منزلة بين مهادنة السلفية والمعتزلة للأمراء من جهة، ومنزلة العنف والخروج والقتال عند الخوارج من الجهة الأخرى. فإذا أضيف تصنيفه بأنه صوفي القلب، فيعني أنه قد يخالف اعتزالية فقهه العقلية ويخالف سلفيته النقلية، عند الرقائق والروحانيات فهو يستشهد بالموضوع والضعيف والمحال عقلاً، إذا ما تلبس لباس الزهد. فإذا أضيف إلى ذلك كله بأنه ليبرالي الفكر، فهذا يعني أنه يميل إلى الحرية الفكرية والاجتماعية والسياسية سواء أوافقت آراءه أم خالفتها.
وشاهد المثال السابق، أمران اثنان: الأول: أن التصنيف إيجاز للكلام البيان والوضوح، فلا يُصرف التصنيف على الذم ولا المدح.
والأمر الثاني: أن المُلتزم التزاماً كاملاً بمدرسة ما أو منهج فكري، لا يحيد عنه في كل المواضيع الفكرية، فإنما هو مجرد مقلِّد تابع، المُتنقِّل بين المناهج الفكرية في داخل موضوع واحد من مواضيع الحياة الفكرية (كأن يكون مثلاً في باب الفقه سلفياً تارة ومعتزلياً أخرى وظاهرياً في هذه المسألة وصوفياً في تلك ليبرالياً هنا محافظاً هناك)، فهذا في الواقع لا عقل له يعقله، بمنطق تفكيري.
ومن لا منطق لفكره فلا يُمكن مناظرته. لذا إلزام المناظر بمنهجه الفكري هو أساس مُنطلق المخالف لبناء الحجة عليه. فاختلاف المنطق الفكري في الاستدلال والاستنباط في جزئية معينة، هو دليل على بطلان الحجة أو ما يوصف بالجدل البيزنطي.
لذا فتصنيف المناظر قبل المناظرة، يختزل زمن دراسة فكره، مع توفير غزارة معلوماتية عن منطقيته وطريقة تسبيبه الأسباب واستنباطه للنتائج.
+++++++++++++++++++
الحرية
الثورات تخلق الفتن، وفي الفتن تُرفع العقول ويُوضع الجهل وتموت الضمائر وتغيب الإنسانية وتحضر الحيوانية، وتنقلب معاني الوفاء والمروءة إلى أضدادها.. وفي الفتن تضيع الحقوق ويُثبت الظلم ويُلغى العدل.. ومن شأن الفتن إيقاظ روح الإجرام في الخامل الكسول.. فينهب ويسرق.. ومن شأنها استثارة نفس المحروم اللئيم، فيعتدي على الأعراض في نزوات شيطانية خبيثة.. والفتن، ألا لعنَ الله الفتن، تُحيي الثأرات وتنبش الأحقاد الخامدة في القلوب، فتُزهق الأنفس، وتُسال الدماء من غير سبب.
تتحوَّل الثورات إلى فتن دموية شرسة عنيفة متى خلقت فراغاً دستورياً يضيع فيه التحكم بالجيش والقوات الأمنية، فيتعطّل بعضه ويتحوَّل بعضه الآخر إلى عصابات سرق ونهب وتدمير وقتل، وظهور الفراغ الدستوري عند قيام الثورات، هو أمر نسبي تختلف احتمالية وقوعه، أو حتميته من مجتمع إلى آخر.
فاحتماليات حدوث الفراغ الدستوري تنعدم أو تقل في المجتمعات التي تحتوي على مجالس برلمانية ونحوها من المجالس الدستورية التي تتمتع بوضوح أنظمتها واستقرارها في أنفس الناس، والتي يخوّلها هذا النظام بتولي السلطة مؤقتاً في تنظيم وشكل معين واضح عند انهيار السلطة الرسمية لسبب أو لآخر. وأما في حالة غياب مثل هذه المجالس والتنظيمات، فإن حتمية ظهور الفراغ الدستوري إثر انهيار السلطة العليا في الدول أمرٌ لا مفر منه. وما يلحقه من حتمية دخول البلاد في فتن دموية مريعة تنشر الرعب والقتل والموت وانتهاك الأعراض والأموال والمروءات، وتمهد للسفلة والقتلة والمجرمين تولي زمام السلطة وتحكيم الدكتاتورية ووضع الظلم دستوراً جديداً للبلاد.
الحرية
الثورات تخلق الفتن، وفي الفتن تُرفع العقول ويُوضع الجهل وتموت الضمائر وتغيب الإنسانية وتحضر الحيوانية، وتنقلب معاني الوفاء والمروءة إلى أضدادها.. وفي الفتن تضيع الحقوق ويُثبت الظلم ويُلغى العدل.. ومن شأن الفتن إيقاظ روح الإجرام في الخامل الكسول.. فينهب ويسرق.. ومن شأنها استثارة نفس المحروم اللئيم، فيعتدي على الأعراض في نزوات شيطانية خبيثة.. والفتن، ألا لعنَ الله الفتن، تُحيي الثأرات وتنبش الأحقاد الخامدة في القلوب، فتُزهق الأنفس، وتُسال الدماء من غير سبب.
تتحوَّل الثورات إلى فتن دموية شرسة عنيفة متى خلقت فراغاً دستورياً يضيع فيه التحكم بالجيش والقوات الأمنية، فيتعطّل بعضه ويتحوَّل بعضه الآخر إلى عصابات سرق ونهب وتدمير وقتل، وظهور الفراغ الدستوري عند قيام الثورات، هو أمر نسبي تختلف احتمالية وقوعه، أو حتميته من مجتمع إلى آخر.
فاحتماليات حدوث الفراغ الدستوري تنعدم أو تقل في المجتمعات التي تحتوي على مجالس برلمانية ونحوها من المجالس الدستورية التي تتمتع بوضوح أنظمتها واستقرارها في أنفس الناس، والتي يخوّلها هذا النظام بتولي السلطة مؤقتاً في تنظيم وشكل معين واضح عند انهيار السلطة الرسمية لسبب أو لآخر. وأما في حالة غياب مثل هذه المجالس والتنظيمات، فإن حتمية ظهور الفراغ الدستوري إثر انهيار السلطة العليا في الدول أمرٌ لا مفر منه. وما يلحقه من حتمية دخول البلاد في فتن دموية مريعة تنشر الرعب والقتل والموت وانتهاك الأعراض والأموال والمروءات، وتمهد للسفلة والقتلة والمجرمين تولي زمام السلطة وتحكيم الدكتاتورية ووضع الظلم دستوراً جديداً للبلاد.
وتختلف الثورات في عنفها ودمويتها باختلاف ثقافات شعوبها وأوضاعهم الاقتصادية.. فكلما اغتنت الشعوب وارتقت فكرياً.. خفَّت حِدة دموية الثورات فيها، وما رواندا وأشباهها من الدول الأفريقية المتخلفة إلا بعض شواهد ذلك حديثاً.. وأما قديماً فكفى بثورات أوربا المظلمة شاهداً ودليلاً.
لم تتحوَّل أوربا من الدكتاتورية إلى الديمقراطية عن طريق الثورات الشعبية، بل بالاعتبار من الغير والتحول التدرُّجي. فبريطانيا فهمت درس الثورة الأمريكية ضدها، فأدخلت الإصلاحات الدستورية تدريجياً، حتى انتقلت سلمياً من الدكتاتورية إلى الديمقراطية.. وكذا فعلت فرنسا، فثورتها الدموية الكارثية انتهت إلى يد ديكتاتوري دموي، هو نابليون الشهير.. ثم عادت فرنسا إلى أحضان الملكية من جديد بعد أن أدركت خطورة ثورة الشعوب وعواقبها، فانتقلت تدريجياً إلى الديمقراطية.. وكذا كان الحال في أوربا الغربية، وكذا تفعل الصين الآن، والتي أدركت مبكراً فساد نظامها الشيوعي، فسعت إلى تغييره تدريجياً، بينما تأخرت روسيا في اعترافها بفساد النظام.. فانهارت انهياراً، ولم تنتقل انتقالاً.
لم يحدث في التاريخ أن انتقلت دولة من الديكتاتورية إلى الديمقراطية في فترة وجيزة، وأمريكا نفسها تدرجت في مساواة الحقوق، وبريطانيا وفرنسا وأوروبا احتاجت إلى عقود لتنقل الحكومة إلى الدستورية الديمقراطية.
وخلاصة القول: إن الحرية ثقافة، والثقافة يكتسبها المجتمع خلال عقود وأجيال، ولا تُفرض فرضاً في أشهر أو سنوات.
+++++++++++++++++++++++
من شواهد فقه سد الذرائع
ضعف التأصيل الفقهي للزكاة عموماً، وكثرة الاختلافات في أحكامها، مع توقف الاجتهاد، تسبب في تردد بعض الفقهاء في حكم وجوب زكاة النقود الحديثة، وذلك في بدايات قدوم النقد الورقي للعالم الإسلامي.
فقد كانت النقود الورقية هي غالب أموال الناس قبل قرن تقريباً، بخلاف نقود اليوم فهي رقمية. كما أنها كانت إيصالات بذهب في الواقع؛ لكون البنك المركزي ملزماً باستبدالها ذهباً. فبناءً على المعطيات السابقة، خشي الفقهاء أن تُترك الزكاة، فحرصوا على إلحاق النقود بالذهب والفضة؛ لتأخذ حكم وجوب زكاتها، وبالتالي جاء الحكم بربويتها تبعاً لذلك.
فصارت الزكاة أحد أهم الأسباب وأقوى العوامل التي أثرت في فهم الربا عند الفقهاء، والتي بمجموعها وجهت تفكير الفقهاء للاحتياط والعمل -بما ظنوه اجتهاداً خاطئاً- أنه يحقق حكم جريان الزكاة في الأوراق النقدية. فألزموا أنفسهم بما هو ليس لازماً، فقرنوا الربا بالزكاة، ثم حرصوا على إلحاق النقد بالذهب. وذلك؛ لعدم تأصيل السلف لعلة الزكاة، فأجروا الربا في النقد كوسيلة لتحقيق ضمان الوصول للزكاة. (على أساس أن التكييف الأول هو إلحاقها بالفلوس القديمة. والفلوس القديمة اختلف في زكاتها بين المذاهب وضمن المذاهب. وسبب الاختلاف، أنهم كانوا يرجعونها لأصلها وهو النحاس أو النيكل أو الحديد ويعاملونها معاملة عروض التجارة، على ضعف تأصيل زكاة العروض).
وبغض النظر عن وجاهة الرأي الذي قال بربوية النقد عندما كانت مجرد إيصال بالذهب، إلا أن ربط حكم الربا بحكم الزكاة، هو من فقه المتأخرين، ومن تشديدهم على الناس. (والمتأخرون هنا، هم من لم يدرك صحابي).
فالأمر بالزكاة والنهي عن الربا أمران مختلفان تماماً، بالنصوص الشرعية، ومتضادان في التأصيل الشرعي، فالممنوعات ضد المأمورات، ومتناقضان في الأصل، فالوجود أصل الزكاة، والعدم أصل الربا، والوجود نقيض العدم.
ومع مرور الزمن، والتكتم على ضعف التأصيل الفقهي لربوية النقود الحديثة خوفاً من تجاهل الناس للفتوى فتضيع الزكاة، نُسي أصل سبب الاحتياط، وأصبح جريان الربا في النقود مطلباً شرعياً! فسبحان الله كيف تصير الكبيرة الممنوعة المعدومة، مطلباً شرعياً! فترى بعضهم يصر على ربوية النقد الحديث، فيقول احتجاجاً على المخالف: «فلا ربا إذن»! فسبحان الله: أو يجب على المسلمين إيجاد الحرام، فيصير عدمه حجة من أجل تحقيق وجوده؟ رغم أن أصل الربا هو العدم، ووجوده مُحدث.
++++++++++++++++++
أشكال الإنتاجية
الإنتاجية تكون في الإنسان وتكون في الأموال، والحديث في هذا المقال عن الإنتاجية في الأموال من سلع وخدمات. وهذه تنقسم عندي لأربعة أشكال. المقصود من تصنيفها، تقريب تصور الأموال عند النظر والتأمل في إلحاق بعضها ببعض، عند التخطيط الاقتصادي لتنظيمات السوق من ضريبة وإعانة، وعند تحكيمها قضائياً.
الشكل الأول: أن تكون إنتاجية المال مما ينمو بزيادة المال نفسه بنفسه حجماً أو عدداً، دون تدخل الإنسان كالأنعام والخيل والحمير والفيلة والنعام ونحوها، والحمام والدجاج والزراف ونحوها.
الشكل الثاني: نمو بتنمية الإنسان وتكون بزيادة مال مُختلف في شكله عن المال المُنمى، إما نوعاً أو جودةً أو خدمة أو كمّاً. كالمستغلات عموماً وهي كالمصانع وشركات الخدمات من صيانة واستشارات، ومزارع الأسماك واللؤلؤ والدجاج والألبان والمزارع بأنواعها.
ويلاحظ أن أصل المال هنا هو المُنمّى بالصناعة الإنتاجية أو الخدمية أو التعدينية، أو المالية أو الحيوانية أو الزراعية، وأن نتاجه سيكون مالاً مختلفاً عن أصله. كسيارات تتولّد عن مصانع، ولحوم عن مزارع دجاج وسمك. فهذه المزارع، كالمصانع لا تنمو وحدها، بل هي قابلة للنماء كالمصانع. فالجهد الإنساني ركن أساسي فيها، وهذا فارق جوهري، لمن أراد أن يتأمل. فالاقتصاد يدور حول الإنسان وإنتاجه واستهلاكه.
الشكل الثالث: نمو حقيقي في القيمة دون أي زيادة لكمية أو لنوعية. وهذا خاص بالتجارة الإيجابية. فالتجارة الإيجابية هي كموردي السلع ومستورديها والوكلاء وتجار الجملة والتجزئة، وشركات الدعاية والإعلام، ونحوها مما يوصل السلعة أو العلم بها للمستهلك.
فتوصيل البضائع والخدمات من مصادرها وتوزيعها، ونشر العلم بها هو من أهم العوامل المؤثرة على الإنتاجية بزيادة الطلب الحقيقي. والطلب هو دافع الإنتاج. وتوصيل السلع والخدمات المنتجة يزيد الطلب مما يحفز المُنتج على رفع الإنتاجية الكمية والنوعية. وتطوير الأراضي مثلاً، هو من التجارة الإيجابية لأنه توصيل لها للمستهلك. وأما المضاربة فيها أو تجميدها ومنعها من الناس، فهو من التجارة السلبية وستأتي في الشكل الرابع.
الشكل الرابع: هو كل ما تشمله التجارة السلبية من المضاربات بالسلع وتدويرها. وحدها الضابط الذي يفرقها عن التجارة الإيجابية هو أنها لا تضيف أي قيمة للإنتاج، وغالباً ما تتسبب في ارتفاع الأسعار غالباً دون إضافة أي قيمة حقيقية للسوق. فالتجارة السلبية تشمل كل عمليات البيع والشراء لسلعة لا يؤدي بيعها وشراؤها لزيادة الإنتاج، ولا لتوصيل مكاني أو معلوماتي، بل هي فقط قد تؤدي لزيادة الأسعار. كمضاربة الأسهم والسلع. لأن كل من اشترى السلعة يريد بيعها بربح. وهذا ليس زيادة في قيمتها الحقيقية، بل زيادة في أسعارها الاسمية. والزيادة في الأسعار هي التضخم، بينما الزيادة في القيمة هي النمو والتطور للسلعة.
++++++++++++++
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق