السبت، 21 ديسمبر 2019

صراع في اﻹنترنت

تغيير نشهد شرارته الآن في انشغال التشريعات بقوانين الخصوصية (قضية فيسبوك المعروفة مثلًا) أو تصاعد الاهتمام بتكنولوجيا «سلسلة الكتل» (Blockchain) والبيتكوين وإصدار فيسبوك لعملتهم الرقمية Libra  في يونيو مثلًا– العملات الرقمية المشفرة (cryptocurrency) وخلافه من محاولات الانفلات من المركزيات السائدة الآن.

مر بعض الوقت قبل أن يحضر في ذهني مدى تطابق الصراع الحالي مع تخوفات رددها هايدجر وبعده هوركهايمر (مدرسة فرانكفورت النقدية) من الطريقة التي تتحرك بها التكنولوجيا، خصوصًا بعد الثورة الصناعية، أطلق هايدجر على ما لاحظه «التفكير الحسابي» وحذر في كتاباته من الطبيعة الاحصائية للتكنولوجيا «في اختزال تقدير المكاسب والخسائر في حسابات وأرقام لما يمكن قياسه بشكل كمّي/حسابي (الزمن والمسافة أو بالتحديد هنا اقتصاد السوق وكفاءة الإنتاج مثلًا)، عقلانية ديكارتية مطلقة امتدت لتسطو على كل ما كان «روحانيًا» أو «أخلاقيا» في عالم ما قبل عصر النهضة.

كان يشير إلى أخطاء معاصريه وادعاء العالم الفيزيائي ماكس بلانك أن «الواقع هو فقط ما يمكن حسابه/قياسه».
 «كل المسافات في الزمان والمكان تتقلص [..] يتلقى الإنسان الآن معلومات فورية، عن طريق الراديو، عن الأحداث التي كان قديمًا لا يمكنه أن يعرفها إلّا بعد سنوات، هذا إن عرفها أصلًا [..] يشاهد المواقع الأثرية للحضارات القديمة في الأفلام كما لو كانت أمامه في هذه اللحظة وسط ازدحام اليوم [..] يقطع الإنسان مسافات طويلة ويضعها خلفه [في ذاكرته] في أقصر وقت، وبالتالي يضع كل شيء أمامه وعلى أقصر مدى [..] سنجد ذروة عملية إلغاء المسافة هذه في جهاز التلفاز، والذي سينتشر ويهيمن مستقبلًا على آليات ودوافع التواصل عند الإنسان [..] لكن في الحقيقة أن هذا الإلغاء المسعور [للمسافات]  لا يجلب أي قرب، لأن القرب لا يكمن في قصر المسافة».
كتابه «نقد العقل الأداتي» بأنها نمط تفكير غرضه الأول الوصول إلى حلول للمشاكل انطلاقًا من سؤال الكيفية والكفاءة (الممكن حسابه) مع انفصال عن أسئلة إنسانية/أخلاقية حول هذه الحلول، انفصال كان هيوم حريصًا على توضيحه في كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية» عن الفارق بين مسألة وصف الكينونة (سؤال بني عليه المنهج العلمي في الأصل) ومسألة الوجوب (سؤال أخلاقي اختصت به الأديان والتشريعات المجتمعية المشغولة بعلاقات وبنيان الكينونة؛ قوانين الدول والشرائع الدينية مثلًا)  (Is-Ought distinction). أشار هيديجر إلى هذا الفارق الواضح بين الأمرين ولم يتوقف عند أيّا من جوانبه بالتحديد في تكوين منهجه الفلسفي كما فعل هيوم، ولكن لاحقًا سيلتقطه هوركهايمر على أي حال لتشكيل نقده لأطوار الإنتاج في عصر ما بعد الثورة الصناعية: وضع هيديجر فلسفته في إطار علاقة الإنسان بأطوار المعرفة (Ontic-Ontological distinction) وهذا يجعله أنسب لتطبيقه على طبيعة مستخدمي التكنولوجيا (في هذه الحالة الإنترنت)، في حين وضعها هوركهايمر في إطار الإنتاج (كما المتوقع من فيلسوف ماركسي عتيق) وانشغل باستخدامها في نقد عملية الإنتاج في عصرنا الحالي. هذا يجعله أنسب لشرح محاولات التطوير في الإنترنت التي تدور معاركها في الخلفية بعيدة بعض الشيء عن مستخدمي الإنترنت الآن، وإن كانت تتسرب أحيانا في الإعلام من أخبار عن التقنيات الجديدة كالبلوك تشاين وخلافه، ولكن قبل الخوض فيما يحدث الآن وراء الستار في عالم الإنترنت سنعود قليلًا إلى سؤال أساسي، ما هو الإنترنت أصلًا؟

 ما هو اﻹنترنت أصلًا؟

 للوهلة الأولى قد يبدو هذا السؤال سخيفًا، لكن في الحقيقة أن الفكرة الشائعة عن الإنترنت لا تختلف كثيرًا عن فكرة أحد والديك أو أقاربك الأكبر حين تسألهم عن الإنترنت ليجيبوك أنه فيسبوك أو جوجل أو خلافه من الخدمات الموجودة فيه.
حتّى لو كانت إجابتك أنه الشبكة التي تتصل بها لتزور الموقع هذا أو ذاك أو أن تستخدم الخدمة هذه أو تلك فأنت لم تبتعد كثيرًا عن التصور القاصر هذا لحقيقة الإنترنت. ما وصفته أو بدر إلى ذهنك الآن في الحقيقة هو الشبكة العنكبوتية (WWW) وليس الإنترنت بالتحديد، هو فقط البروتوكول الأهم والأكثر حضورًا على الإنترنت في وقتنا الحالي لا أكثر ولا أقل، حتّى لو امتد فهمنا/تفسيرنا للإنترنت ليضم كل التقنيات التي بنيت عليه الآن (الشبكة العنكبوتية والإيميل والتورنت مثلًا) ستجد أن هذا التفسير الجامع للوظائف (أو النتائج بالتحديد) الحالية للإنترنت لا يزال قاصرًا على محتوياته من وظائف في وقتنا الحالي دون النظر إلى ظروف وحقيقة هذه التقنية فعلًا. يجعل هذا التفسيرات مفتقدة لما سمّاه هيدجر الإطلاق (releasement)، أو بمعنى آخر فإننا نخلط بين نتائجه ونظن أنها حقيقته بدلًا من أن نطلقها بعيدًا لنرى/نستوعب حقيقته، وهذا بالضبط ما يسمح بأخطائنا وأخطاء أقاربنا في تفسير معنى ووظيفة الإنترنت في حياتنا كما ذكرت. الاعتراف والوعي بهذا القصور أو كما أطلق عليه هيدجر «السمو» (Transcendentalism)، هو ما سمح بظهور محاولات في تطوير/تصحيح الإنترنت التي سنتحدث عنها في الجزء الثاني، ولكن قبل أن نخوض في هذا يجب أن نذكر الظروف والنوايا التي سمحت بوجود الإنترنت والشبكة العنكبوتية أولًا..

كيف بدأ الإنترنت؟ (الدافع إلى بناء شبكة اتصالات لمواجهة الكوارث النووية)


 وزارة الدفاع الأمريكية تحاول بناء شبكة اتصالات يمكنها البقاء والعمل حتّى بعد هجوم نووي. كانت الستينات وذروة الحرب الباردة، والنتيجة أن تمكن بول بارين، أحد العاملين على المشروع، من تطوير تقنية جديدة لنقل البيانات تسمى «تبديل الرزم» (Packet switching) غرضها الأول هو بناء شبكة غير مركزية (موزعة) بالطبع لأن الشبكة المركزية سيكون من السهل تدميرها عبر تدمير المركز فقط. بعدها في عام 1974، سيطور فينت سيرف وبوب خان بروتوكول اتصالات جديد يسمح بنقل البيانات بشكل أكثر كفاءة وأمانًا (TCP/IP). هذا البروتوكول لاحقًا أصبح الأرضية التقنية التي سمحت بوجود الإنترنت. وتبعًا لهذا البروتوكول، فلكل جهاز يتصل بالإنترنت رقم معرِّف/عنوان مميز له يسمح بالاتصال بين كل حواسيب هذه الشبكة. الخلاصة، الغرض الأصلي هو بناء شبكة اتصالات موزعة لامركزية. النتيجة: أجهزة وحواسيب متصلة بموفري خدمات (ISPs كشركة TeData/WE في مصر مثلًا) تدير الشبكات الأصغر (إقليميًا) ومتصلين بالشبكة الأم/الأكبر (الإنترنت) المكونة من موفري خدمة مماثلين في البلاد الأخرى.
سمحت هذه التقنية ببناء بعض البروتوكولات التي نستخدمها يوميًا على الإنترنت كالـHTTP والـBitTorrent والإيميل في الأصل، كانت هناك في البداية بروتوكولات وتقنيات بنيت فوق الإنترنت كـARPANET وUsenet قبل أن يجتاح كل هذا بروتوكول HTTP بالتحديد والذي نشأت به الشبكة العنكبوتية العالمية أو «الويب».

 كيف بدأت الشبكة العنكبوتية/الويب؟ (الدافع إلى مشاركة المعارف)

++++++++++---------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق