الثلاثاء، 25 يونيو 2019

نيتشه

نيتشه والميتافيزيقا

 وجه نيتشه نقدا رياديا وعنيفا للميتافيزيقا التقليدية الغربية، ضمن فلسفته التي حملت عنوان الشك - في النصف الثاني من القرن التاسع عشر- و التي عمدت إلى قراءة تاريخية نقدية للميتافيزيقا كما تأصلت منذ سقراط الأخلاقي، راصدة كل أسسها ومبادئها الرئيسية، " ولم يكن لنقده هذا من هدف إلا القضاء على ما تدعيه تلك الميتافيزيقا لنفسها من ترفع عن هذا العالم وعلو عليه، والحملة على العالم المفارق الذي تخلقه وتضفي عليه من الفضائل ما تأباه على عالمنا الأرضي.
 و هو النقد الصادر عن قناعته الراسخة بأن الميتافيزيقا، تلخص في رأيه كل ما خلفه ماضي العقل الإنساني من أخطاء ، تغلغلت في آليات التفكير وتصوراته للطبيعة والعالم والوجود، حتى غدت من المسلمات البديهية التي يصعب الخروج عن قداستها. ويمكن القول، إن التفكير الثوري الذي اجترحه (نيتشه) ، سيحدث تغييرا في " مسار العقلانية الأوربية من خلال فتح المجال أمام اقتحام (الخطوط الحمراء) في كل شي

، فلم يعد هناك شيء مقدس، ولم يصمد الفكر الموروث والكلاسيكي أمام التظاهرة الفلسفية النيتشوية، ولهذا لم يتجاوز الفكر الغربي الحديث أفكار نيتشه بل وضعها في ميدان التطبيق.." . 

لا شك إذن، أن " المعطيات النيتشوية مغرية بالتبني بالنسبة للنهج النقدي المعاصر، لأنها تمثل نظرية في القيم، فاللاحقيقة التي أشاعها نيتشه تحمل قيمة أكثر مما تحمله الحقيقة نفسها-بالنسبة للنقد الحديث- لأن الإنسان هو الذي يخلع القيمة على الأشياء ويحددها ويضفي عليها المعنى" 
 وهذا التوجه التشككي هو ما يفسر رفض (نيتشه) الشرس للأفلاطونية والكانتية والهيجلية والفكر الديني و الميتافيزيقيا بشكل عام، والدعوة في مقابل ذلك، إلى تبني قيم جديدة تحقق مبدأ الإنسان الحر الأعلى، لذلك خصصت أعماله لتبيان أخطار القيم السائدة، عبر الكشف عن آليات عملها عبر التأريخ، ثم العمل على قلبها وتحريرها من كل قيود المعايير الأخلاقية والدينية والمعرفية المتداولة

نيتشه ونقد القيم الأخلاقية


تذكر كتب التاريخ والفلسفة أن سقراط في لحظات احتضاره، نطق بعبارة صادمة: "ليست الحياة سوى مرضا عضالا". والحق أن كلام سقراط، لم يكن هلوسة لسكرة الموت، أو قاصدا به، الانقلاب على النظام الأخلاقي الصارم، الذي أرسى قواعده وقيمه العليا، بوصفه منبع الشر والقمع في حياة البشر. بل كان كلامه إمعانا، وتعبيرا فطريا عن قناعة فلسفية راسخة، مفادها إدانة الحياة نفسها، ولكن منظورا إليها من جانبها القذر المنحط، والمغرق في الخطيئة والزلل، ذلك الجانب المرتبط بالحواس والغرائز والجسد، والذي ما برحت تكشف دنسه، أخلاقيات سقراط المثلى، كما قعد لها في فلسفته. من هذا المنطلق، ستواصل الفلسفة الأوروبية مشروعها الأخلاقي المبني على العقل، مع أفلاطون وأرسطو وغيرهما، وسيكون ذلك على أرضية صلبة من الميتافيزيقا، في شكل مبادئ وقيم متعالية قيدت معرفة الإنسان بذاته وعالمه وبمسألة الوجود عموما



في مقابل ذلك، سيعرف المشروع الجينيالوجي عند الفيلسوف الألماني ( نيتشه nietzsche) أوجه، من خلال كتابه (عن أنساب الأخلاق of morals on the genealogy) الذي صدرت ترجمته إلى الأنجليزية عام 1969م ، وقد ضمنه فلسفة مغرقة في نقد ميتافيزيقا القيم الأخلاقية العليا، وطرح بذلك أفكارا بديلة للتعاطي مع مفهوم القيم. إن نيتشه "ينظر إلى القيم على أنها بمعزل تماما عن طبيعة الأشياء: فمكانها الحقيقي في ذهن الإنسان الذي خلقها، أما العالم، فليس موافقا أو مخالفا لها، وإنما هو مستقل عنها فحسب. وهكذا نرى القيم لا تؤثر في الواقع الطبيعي أي تأثير، ولا الواقع يؤثر في القيم. وبعبارة أخرى، فلن يزيد الشيء صفة جديدة إذا اكتسب قيمة، وستظل جميع صفاته العقلية في صلة ببقية الأشياء وبالنظام العام للكون كما هي دون أدنى تغيير" ، ووفق هذا التحليل يستطيع نيتشه أن يجري فصلا حادا بين القيمة وموضوع القيمة، طالما أن الرابط القائم بينهما اعتباطي تواضع عليه البشر، يذكرنا بالعلاقة بين الدال والمدلول كما رصدا (سوسير)، وبالتالي فهو قائم في الذهن من خلال المعنى الذي يضفيه العقل البشري على الشيء. وهو معنى ميتافيزيقي وجب تفكيكه ومحاربته.



لقد أرجع نيتشه موضوع القيم إلى الإنسان، وأطلق دعوة صريحة لهذا الإنسان كي يمارس فاعليته على أوسع نطاق ممكن. "فلن يقف في وجه هذه الفاعلية شيء إذا تبين أن العالم لا يحمل معنى ثابتا، وأن في وسع الإنسان أن يضفي عليه بمجهوده الخاص، من المعاني ما يشاء، مثلما أضفى عليه من قبل معناه القديم، دون وعي منه ثم ثبته وقدسه." والقيم الأخلاقية تصير وفق هذا التحليل ضربا من العدمية، رهن نيتشه مشروعه للتحرر من ربقتها، لأن الميتافيزيقا – في تصوره- "محكومة بما يميز العدمية في موقفها من الحياة وتفسيرها للعالم وللتاريخ" . ويصل الحال بنيتشه في بعض الأحيان إلى أن يصف الأخلاق العدمية، بأنها (غريزة القطيع) في الفرد، وذلك لتحكم الشعور بالطاعة فيها، وتجانس سلوك الجميع في ظل قواعدها العامة . 



إن العدمية بهذا المفهوم هي مبدأ متغلغل في التاريخ، يقوم على قمع البشر باسم عالم مافوق حسي، من أسوأ تداعياته –كما يرى نيتشه- أن انشطر الوجود بين الحياة والفكر، فوقع انقلاب غريب تحدد من خلال موقف سقراط، الذي يحط من قيمة الجسد وغرائزه وحواسه، ويعلي من شأن الفكر ومثله، معتبرا إياه أصل الإبداع والحقيقة. فأضحى الإنسان الحق هو إنسان الفكر . في ضوء ذلك سيكون الإنسان البديل عند نيتشه، الثائر على قيم العدمية الأخلاقية، هو الإنسان الأرقى الذي يمتلك مصيره وقيمه الخاصة متجردا من إرادة العبيد. إنه إنسان إرادة القوة. 



نيتشه وفلسفة إرادة القوة 



إن الإنسان الأرقى لا يعترف بالثنائية الهرمية الميتافيزيقية، التي تقسم" الوجود إلى عالمين، عالم الآيديا الذي يمثل الحقيقة المثلى، والعالم السفلي حيث الشر والضلال والمظاهر أو الصور المحرفة" . وهو لا ينفك يؤمن بفكرة موت الإله، بوصفه إلها رمزيا يشير" إلى عالم الآيديا، وعليه فلا يمكن إقامة عالم ميتافيزيقي جديد معاصر مخالف لما أسسته الميتافيزيقا الغربية إلى حدود الآن بوصفه عالما حقيقيا، من دون فعل التهديم هذا، أي من دون فلح الأرض لعالم جديد يقوم على قيم مبدءها الأساس هو مقولة الحياة، حياة (الإنسان الأعلى)" . وعليه، إذا كان الإنسان العدمي، قديم ومتجاوز، فإن الإنسان البديل هو –كما ينعته نيتشه- " إنسان المستقبل الذي سيخلصنا في آن واحد من المثال الأعلى الحالي ومما لا بد أن ينشأ عنه بالضرورة، من القرف العظيم، من إرادة العدم والعدمية.." . 



وإذا كان إنسان العدمية محكوما بنظام أخلاقي واهم، فإن البديل الذي يطرحه نيتشه، هو" الإنسان الأرقى، الذي تسود حياته (الغرائز) أي القوى الحيوية التلقائية، لا العقل المجرد." وهكذا يصير "المقصود في نهاية الامر بإرادة القوة هو أن تحل محل الأخلاقية. فحين يأبى الإنسان أن ينحصر في نطاق نظام من الأوامر والنواهي، وأن يقيد نفسه بقيم ثابتة، أيا كانت، فعندئذ سيتخذ لنفسه هدفا آخر، هو المزيد من العلاء بحياته، والسعي إلى إثرائها وتركيزها سعيا لا يقف عند حد، وهذا السعي هو إرادة القوة." يقول (نيتشه) مبشرا بعظمة هذا الإنسان المستقبلي: " ذلك الإنسان المخلص، إنسان الحب العظيم والاحتقار العظيم، تلك الذهنية الخلاقة التي ستزجي بها قوة اندفاعها دائما نحو ما هو أبعد وأبعد عن جميع (المطارح القريبة) وعن جميع (الحدود الماورائية)، ذلك الانسان الذي ستتنكر الشعوب لعزلته كما لو كانت هروبا من الواقع : بينما لا يزيده ذلك إلا تصميما على الغوص في الواقع، على الاستغراق والاندفاع فيه، لكي يعمد ذات يوم، عندما يعود لتخليص هذا الواقع وإنقاذه، إلى تحريره من تلك اللعنة التي أنزلها عليه المثال الأعلى القائم حاليا." 



نيتشه ونقد المنهج الفلسفي : 



 فضل (نيتشه) أن يعيش طريدا في صقيع الشك، على أن يقيم في قصور المفاهيم والنظريات الصلبة، رغم دفء يقينها وحقيقتها الكاملة. 



 كل ما ينتجه العقل من مفاهيم وأنظمة فلسفية وعلمية هو –حسب نيتشه- مجرد تأويلات وأوهام تتحول تدريجيا إلى أصنام (idoles)، وأن (إرادة القوة) هي الكفيلة بالتصدي لتلك الأصنام وتحطيمها" .



مسألة المعرفة لا ينبغي أن تختزل إلى مجرد فعل حصر عقلي تجريدي للموضوعات، تقرر فيه الذات العارفة بحسب إرادتها، وإنما هي قضية سياسية أخلاقية، تكون تابعة لمعنى ما نتصوره ولقيمة ما نعتقده.



 الإشكال الذي خلفه الفكر الفلسفي، هو إضفاء قيمة و عملية شرعنة مغرضة للحقيقة الفلسفية، عن طريق ألاعيب المنهاج الفلسفي وآلياته العقلية، مما أوقع الفلسفة الغريية في وهم مضاعف، و هو أنها آمنت بالمنهاج على علته الاستعارية التي سنأتي على ذكرها لاحقا، وكذا نسيان السياسة والقيم السلطوية التي تتحكم في توجيه هذا المنهاج. 



ويبدو لكل متأمل في هذا الطرح النيتشوي، أنه على الرغم من جرأته وثوريته، ظل سجينا لجدران الذات، إن لم نقل لجدران الميتافيزيقا. فهو برفضه قيما أخلاقية معينة نابعة من العقل الفلسفي الغربي، يستدعي التفكير في نسق قيمي بديل، إذ يستحيل تصور إنسان يعيش خارج القيم. وهو برفضه للعقل ودعوته لإحلال الغرائز، يكون قد ثبت طرفا ميتافيزيقيا على حساب الآخر.



النقد النتشوي لم يتجاوز مفهوم الذات، إذ أنه انتقدها بوصفها (أنا عاقلا ومنطقيا) ولم يرفضها من حيث هي إرادة قوة . 



نيتشه ونقد اللغة الفلسفية



إن المتأمل في لائحة الاتهام التي يوجهها نيتشه للغة الخطاب الفلسفي، سيقف على نقد آخر. يتعلق الأمر هذه المرة، بإدانتها بالتخفي وراء بلاغة خادعة ترتدي حلة العقل والمنطق، لتزكي الأفكار والقيم الأخلاقية. وهو ما حذا بنيتشه إلى "الاهتمام بأصول الكلمات وتاريخ اللغة باعتبار أن اللغة تلعب دورا رئيسيا في تكوين ما يمكن اعتباره حقيقة" . فرجوعه بالفلسفة إلى أصلها كان الهدف منه تفكيك الاستعارات الأساسية للعقل نفسه، محاولا بذلك خلع تلك الطبقات من المعاني البلاغية، التي تكلست على سطح اللغة، والقبض على الدلالة الأولى المتحررة من قيود الفكر، والعمل على تثبيتها. 



إن جينيالوجيا (نيتشه) كما يرى (عبد العزيز حمودة) تختلف عن تفكيك(ية) دريدا، فبينما فلسفة نيتشه"كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى البحث عن المعنى الأول أو الدلالة الأولى ثم تثبيتها، بينما تهدف بينصية (دريدا) إلى تتبع المعنى الأول لتفتيته وتدميره بصفة مستمرة."



 نظرة نيتشه الاستعارية للغة، إذ ستفاقم من موقفه التشككي اتجاه المعرفة الموروثة،

، وكذا القمع الذي تعرضت له الاستعارة باسم الفلسفة، كما فعل أفلاطون في نقده لللمحاكاة، وطرده الشعراء من مدينته الفاضلة، جاعلا من الشعري والأسطوري والتخيل أوهاما تضيع الحقيقة، وفي مقابل ذلك أسس فلسفته على المنطق. إن الحقيقة التي باسمها حارب الفلاسفة البلاغة في لغة الشعر والأدب، سيوظفها نيتشه كعنصر إدانة لهؤلاء الفلاسفة، بحجة أنهم حافظوا على هذه الحقيقة، عن طريق تحييدهم للاستعارة التي أوجدتها . فمن منطلق أن اللغة استعارية الأساس وبنية معقدة من الشبكات، يصبح الفكر -بحسب نيتشه- مضللا وواهما في بحثه عن الحقيقة الكامنة وراء اللغة. أو كما تقول الدكتورة أمينة غصن، يصبح الفكر بمفاهيمه بلاغيا بصورة نهائية وحاسمة، حتى إن الحقيقة فيه تبدو كجمهرة من الاستعارات والانزلاقات اللاإرادية في المعنى . 



لقد زرع (نيتشه) بذرة شك في اللغة، ستعطي أكلها في تفكيك(ية) دريدا، وهي تحت شعار: يستحيل التفكير خارج البلاغة، وكل عمله بهذا الخصوص، الذي "يبرز الطابع المتناقض والمأزقي للظواهر اللغوية والميتافيزيقية يجعل منه رائدا لجاك دريدا في مهماته التفكيكية" . ويمكن القول بهذا الصدد، إن ما يتحراه ويستقصيه (نيتشه) ومن بعده (دريدا) "ليس شكلا من أشكال المنطق (البديل) للغة المجازية وإنما تعدد مفتوح للكلام تذوب معه كل تلك الأولويات في (المناورة الحرة) للإشارات" . فاللعب الحر للمعنى هو خصيصة لغوية، وإن تعلق الأمر بلغة الفلسفة والمنطق، بل إن مفهوم الاستعارة سيتطور عند (دريدا) ليصبح هو ذاته استعاريا. "هكذا يحبط دريدا مفهوم الاستعارة، يفككه: يطور كتابة (بلاغية) تُحل محل المفاهيم الماورائية صورا مثل (أثرtrace ) أو (بعثرة dissémination)" . فالقول بإمكان أن تنقل اللغة واقعة في ذاتها، سواء كانت هذه الواقعة لغوية أو خارجية، يعني الدخول في التمركز حول العقلlogocentrism - والذي تشكل القسط الأكبر منه (ميتافيزيقا الحضور) . 



 نخلص على لسان (الدكتور عصام عبدالله) إلى نتيجة مهمة مفادها، أن المفهوم الفلسفي والاستعارة، لا يخرجا بدورهما عن نمط الثنائيات الميتافيزيقية التي كرسها العقل الغربي، وأعطى لأحد أطرافها أفضلية على حساب الطرف الآخر، من حيث كون الأول أصلا والثاني هامشا . 

وبموجب هذا المرتكز الذي أرساه نيتشه، سيتم سحب معنى الوجود من أرضية اللغة القائمة على المنطق والعقل، ليصبح تائها في مهب الاستعارة، رهينا بتوالد المعاني والقيم المتحركة. وعليه فنيتشه "حين يندد بالفلسفة كمجموعة (استعارات ميتة) يفعل ذلك من خلال اللغة وباسم اللغة" . من هذا المنطلق سيهيئ الشكاك الأكبر الأرضية اللازمة، للاحقيه من فلاسفة الشك، وأهمهم (دريدا)، للارتماء في لعبة البلاغة بهدف تفكيك معاني اللغة، بعيدا عن التمركزات الميتافيزيقية التي تكرست عبر تاريخ الفلسفة فيما قبل (نيتشه). أو كما تقول الدكتورة (أمينة غصن) " لإحلال مفهوم لعبة الدلالات المتعددة المعاني في مفهومي الكون (Etre) والحقيقة (vérité) الماورائيين" . 



 الطرح النيتشوي قد أسس لمرحلة ما بعد البنيوية من خلال تبني نقادها له، لا سيما جاك دريدا الذي استمد صورة تفكيكه من الهدم النيتشوي، وحمل الجهاز الدلالي له. ولا يختلف اثنان، أن نيتشه دشن فجر التفكيك بتحطيمه صنمين جبارين هما الإله والعقل بمقتضى إرادة الحياة والقوة، وكذلك كان النقد المعاصر الذي اتجه صوب إزالة بعض المفاهيم المرتبطة بمحيط النص والانتقال من الخلاف حول وظيفة الدليل المتحصل من التحليل النقدي للنص، وعلاقته بالدال والمدلول إلى تفعيل الدال وتعدد المدلول-مع بارت- وإلى تفعيل الدال وتوالده مع غياب المدلول –عند دريدا- ضمن ما يصطلح عليه بنظرية اللعب الحر . 



*******************************

فريدريك نيتشة – اسلوبه ورأيه في المرأة

إنسان مفرط في إنسانيته
أسلوبا محيرا
الذي يتعمق في الأمور، يعرف أنه دائما مخطئ، مهما كان اختياره
اسلوبه استفزازي
ليس هناك توافق  بين طلب الحقيقة ورفاهية الإنسان
اسلوبه مثيرا للجدل
ما نطلق عليه الآن اسم العالم، هو نتاج تراكم أخطاء وتهيؤات وأوهام، ظلت تتراكم تدريجيا مع الوقت وتتطور، وأصبحت متداخلة ومتشابكة مع بعضها، نتوارثها من جيل إلى جيل، على أنها كنوز الماضي الثمينة

يستخدم الاستعارة والتشبيه والرمز. كان يتجنب المناقشات العميقة، لأنه يعرف أنها طريقة تفكير الأكاديميين المتحزلقة. الذين يسلكون طرقا ضيقة ببطء، في بحثهم عن الحقيقة المطلقة، أو البحث عن نظام فكري كلي يصف أفكارهم.
كتب يقول بأنه لا يثق في الأنظمة الفكرية ويحاول تجنبها

كتب عام 1887م، "العلم الجذل"
أعامل المشاكل العميقة، مثل أخذي لحمّام بارد. سريعا أدخل، وسريعا أخرج
هل تبقى الأمور حقا غامضة إذا قمنا بلمسها، رؤيتها، فحصها، أو إضاءتها بمجرد المرور بها؟
هل من الواجب حتما الرقاد علي المشكلة أولا لكي تفقس، كما نرقد على البيض؟

المفكر العظيم له لمسة سحرية وروح طليقة. مثلما تخبرنا السحب عن اتجاه الريح فوق رؤوسنا. كذلك اللمسة السحرية والروح الطليقة للمفكر تتنبأ بما يخبئه المستقبل لنا. لكن، يفقد هذه الروح الطليقة، الأكاديميون الذين تختلط عليهم الأمور

العالم الأكاديمي الذي يشبه عالم النمل، ينتج الكثير من المراجع والكتب للقراء، يؤكدون مقولة، إن الأفكار العميقة، يجب عرضها بشئ من التطويل الممل. لكن نيتشة يختلف هنا
ما يقال باختصار، يمكن أن يكون ثمرة تفكير طويل. لكن القارئ عديم الخبرة، يرى في كل شئ قيل باختصار، شيئا لم يقم المؤلف بخدمته جيدا. 

معظم المفكرين، يكتبون بطريقة رديئة. لأنهم لا يناقشون أفكارهم فقط، وإنما يناقشون معها رأيهم فيها. لهذا يجب استخدام الكلمات بعناية وشغف. اكتب بالدم. فقط، القارئ الفطين هو الذي سيفهم المعنى. 

الأقوال المأثورة والأمثال، هي صيغ خالدة. كل ما أرجوه، هو أن أقول في عشرة جمل ما يقوله، أو لا يقوله، غيري في كتاب كامل. 

لماذا أكتب؟ لأنني لم أجد طريقة أخرى للتخلص من أفكاري
الأفكار الحقيقية للشعراء الحقيقيين، نجدها دائما منقبة، مثل المرأة المسلمة
ما هي أهمية كتاب، لم يستطع اخذك إلى ما هو أبعد من عالم الكتب؟
التناقض، ما هو إلا أدلة، يبغي المؤلف اظهارها جلية، أو ربما يحاول تضليلنا أو خداعنا.
"الكتاب، يكون أفضل، بأفضل القراء. وأوضح، بأشد الخصوم
السطور غالبا ما تختفي بتفسيرات القراء

في النهاية، لا يستطيع أحد استخراج من الأشياء، بما في ذلك الكتب، أكثر مما يريد أن يعرفه. لا أحد يستطيع الحصول على خبرة غير مهيأ لقبولها

قد يصف أحد الناس أن هذا الكتاب ضار. لكن دعه ينتظر، ربما ليوم واحد، ستجده يقر بينه وبين نفسه بأن هذا الكتاب قد أسدى له خدمة كبيرة. لقد بين له أمراض نفسه وقلبه وجعلها ظاهرة جلية

الصعوبة التي واجهتني في تأليف هذا الكتاب إنسان مفرط في إنسانيته، لا تجعل احد يريد تأليفه بأي ثمن
 نيتشة قد دفع ثمنا باهظا لأفكاره العقلية

إذا كان قدرك هو أن تفكر، اعطي أفكارك احترام وشرف إلهي. ضحي من أجل أفكارك بأعز ما لديك وأغلى ما تحب. كل انتصار للمعرفة، يأتي بعد صعابات ومكابدة للنفس

ماذا لو جاءك شيطان يوما في خلوتك ووحدتك، وقال لك
هذه الحياة التي عشتها وتحياها الآن، عليك أن تعيشها مرة أخرى وأخرى وأخرى،... إلى مالانهاية. لا شئ جديد فيها، غير ما قد عانيته سابقا من ألم وما صادفته من سرور، وكل ما مر بك من أفكار وتنهدات، وكل ما قابلته من أحداث، كل ذلك سوف يعود ثانية إليك مرارا وتكرارا
ألا تلقي بنفسك أرضا، وتصر بأسنانك غيظا، ثم تلعن الشيطان الذي يخاطبك؟
ربما نجد مثل هذه الأفكار كئيبة، لكنها في نفس الوقت، تعطينا راحة ميتافيزيقية. تخبرنا بأن الموت ليس هو نهاية كل شئ. فكرة "العود الأبدي"، تعطي معنى لسلوكنا الحالي
ما نفعله الآن، سيرتد إلينا، مرارا وتكرارا. مما يؤكد حقيقة مسؤولياتنا عن هذه الأحداث.
يعني هذا أننا يجب أن نكون أكبر مما نحن، لكي نتحكم ونتغلب على أنفسنا. يجب أن نستخدم أنفسنا واللحظة التي نحن فيها أفضل استخدام. 

هكذا تكلم زرادشت
هل قلتم نعم للسرور يوما؟ آه يا أصدقائي، ثم قلتم نعم أيضا لكل المحن. كل الأشياء متسلسلة ومجدولة ببعضها. كل الأشياء في حالة حب واندماج. إذا أردت تكرار لحظة سعادة معينة، فأنت تطلب تكرار كل شئ

كلما وجدت الحياة، جاء من يتكلم عن الطاعة. أينما تعيش، لابد أن تطيع.

المرأة ذكية، والرجل شخصية وشهوة
الغباء ليس من شيم النساء
هل هناك قداسة أجل من حالة الحمل عند المرأة؟
العلاج الأكيد لمرض احتقار الرجل لنفسه، هو حب امرأة لها إحساس

المرأة في الأساس غير مسالمة
بالنسبة للحب والانتقام، المرأة أكثر بربرية من الرجل
الرجل الحق يريد شيئين: الخطر والتنوع. لهذا هو يريد المرأة، وهي أخطر الأشياء
المرأة الكاملة، تمزقك إربا عندما تحبك

"كلما كانت المرأة أكثر أنوثة، كلما كانت أكثر استخداما لأنيابها وأظافرها، ضد الصحيح بصفة عامة، والطبيعي من الأشياء
المرأة تفهم الأطفال أفضل من الرجل. الرجل أكثر طفولة من المرأة
الرجل بالنسبة للمرأة، وسيلة إنجاب للأطفال. لكن من تكون المرأة بالنسبة للرجل؟



نيتشة


أفكار ماركس، في إصلاح النظام الاقتصادي والاجتماعي، وفرويد في التحليل النفسي للعقل الباطن والحياة الجنسية للفرد، سادت وتم استيعابها جيدا في القرن العشرين. 

لكن أفكار نيتشة المقلقة والمرعبة، ظلت طافية على السطح الواعي للفكر الحديث طول الوقت. تخيل مفكرا يحدثك عن لاشئ سوى أحداث خارج نطاق الممكن والمعقول، أو عن تجارب فريدة نادرة لا تحدث، أو عن لغة لا تسمع، مفرداتها التجربة، والتجربة وحدها. 

الآن وبعد وفاته بأكثر من قرن من الزمان، بدأنا ندرك ببطء مدى التغيير الذي سببه نيتشة في فهمنا العميق للعلوم والأخلاق، كما تصورهما وكما تنبأ بهما.

 اكتشف نيتشة بالصدفة كتاب "العالم كإرادة"، تأليف الفيلسوف الألماني شوبينهاور (1788-1860). كل سطر في الكتاب، مصبوغ بالفكر الإلحادي المعادي للأديان. 
من هنا، يقول نيتشة، ومع كل سطر، اسمع صرخة الاستنكار والانكار والاستسلام للإنسان البائس. لقد رأيت في الكتاب، مرآة تعكس صور مرعبة للعالم وللحياة نفسها وحياتي وروحي، صور واضحة كل الوضوح.

بالنسبة لشوبنهاور، وكذلك الفيلسوف العظيم كانط قبله، هناك فرق أساسي بين العالم كما يبدو لنا خلال حواسنا (فينومينا)، والعالم على حقيقته (نومينا). العالم الظاهري، هو مجرد واجهة أو تعبير عن الحقيقة، وليس الحقيقة نفسها. 
مياه المحيط تبدو لنا زرقاء، لأن السماء الزرقاء تعكس لونها على سطحها. لكن في الحقيقة، مياه المحيط ليست زرقاء. والسماء زرقاء بسبب انكسارات الضوء في الغلاف الجوي. خارج الغلاف الجوي، السماء سوداء كالكحل. الحقيقة شئ مختلف عن ما تدركه حواسنا. 

لكن ماهي الحقيقة؟ الحقيقة هي في نظر شوبنهاور قوة خفية أسماها "الإرادة" أو "القدرة". الإرادة هنا، ليست الإرادة الإلهية، ولكن لها نفس المفعول. بمعني آخر، هي "الإرادة الإلهية" بدون إله. هناك إرادة وراء حركة الكواكب. كذلك، وراء حركة جسدي الظاهرة، توجد ارادتي ورغبتي. 
هذه الإرادة، خارجة عن عالم الزمان والمكان. إنها ليست شئ فيزيائي بالمرة. لكنها وراء كل الأشياء الثابتة والمتحركة في هذا الكون. هذه الإرادة، الغير فيزيائية، والتي توجد خارج نطاق الزمن والمكان، هي البديل للإله في نظر شوبينهاور. 

لكن هذه الإرادة، هي سبب كل هذا الشقاء والمعاناة. لأن الإرادة لا تكتفي ولا تقنع، ولا حدود لطمعها وجشعها. دائما تطلب المزيد. بوذا 
لهذا نحن محكوم علينا بملاحقة لا تنتهي، لرغبات لا تنتهي مستحيلة. نحن في الواقع، نقوم بمواصلة النفخ في فقاعة صابون، لكي نجعلها أكبر حجما، بقدر الإمكان، ونحن نعرف مسبقا أنها سوف تنفجر في النهاية إلى لاشئ. 

الرغبات التي لا تتحقق، والجهود اليائسة، وخيبة الأمل التي يسوقها القدر، وأخطاء الحياة، وزيادة المعاناة، والموت في النهاية. هذا، عند شوبينهاور، يعني اليأس، والاستسلام حتى نستطيع تحمل الحياة بقدر الإمكان

لكن نيتشة، رفض الاستسلام لليأس، ورفض نظرة شوبينهاور الحزينة والتي سمي بسببها فيلسوف التشاؤم. رفض نيتشة أيضا فكرة إن الكون يدار بإرادة عمياء، لا هدف لها ولا معنى. كان يقول، إذا كان شوبينهاور يدعو للتقشف والزهد ورفض الحياة، فأنا سوف أدعو إلى العكس وتأكيد الحياة. 


الثقافة والأخلاق


بداية كتابات فريدريك نيتشة، كانت ضد العقلانية وفلسفة سقراط. كانت تفضل عليها الإلهام وشهوانية الفن الدايونيسي الجمالي. في كتابه "هذا هو الإنسان" المنشور عام 1878م، نرى أن نيتشة يزداد انفصالا ونقدا للعقلانية والفكر الأرسطي.

 الخطر الذي يشكله التاريخ الإسلامي السلفي على واقعنا المعاصر.

 إن الإنسان الحديث ليست له ثقافة يمكن أن يدعي أنها ثقافته. لكننا نملأ حياتنا بعادات غريبة عنا. نستخدم فنونا وفلسفة وديانات وعلوما، كلها أشياء لا تخصنا. نستخدم ونسيء استخدام التاريخ. نهضم الماضي ونجعله يملأ رؤوسنا وعقولنا، لكي نبني به حاضرنا وحضارتنا. التاريخ عبء ثقيل مميت لحاضرنا ومستقبلنا. 

 إن التعليم بصفة عامة يعطينا معلومات عن الثقافة، لكنه لا يثقفنا كما يجب. الإنسان المتعلم حسب مفهومنا، هو الإنسان الذي يحفظ الكثير من المعلومات التاريخية، بدون أن يحيا حياة جمالية. 

بمعنى أن التعليم يركز على التفاصيل الدقيقة التاريخية، فيفقد بذلك الشخص المتعلم الموضوعية. هذا يعطل نمو الإنسان الوجداني ونشاطه الخارجي. الإنسان يمكنه أن يكون إنسانا متعلما، بدون معرفته تفاصيل أحداث التاريخ بالمرة. إذا أردنا أن نبني ثقافة جمالية حيوية، علينا أن نكون أقل تعليما بالمعنى التقليدي للتعليم.

الثقافة والإيمان والقيم التي تشكل المجتمعات، لا يمكن بناؤها بالتعليم وحده. الشعوب العظيمة تنتج عادة جهابذة، لكن يحدث هذا بكثرة عندما تكون الدولة أقل تدخلا في أسلوب تعليم الأفراد. الثقافة والدولة أعداء ألداء. 

في الواقع، كل فترات الثقافة العظيمة، هي الفترات التي تضعف فيها سلطة الدولة ويضعف معها تحكمها في الأفراد. السلطة السياسية والإقتصادية وسلطة البرلمان أو الكنيسة أو الأزهر أو الجيش، عادة تضعف مستوى الثقافة عند الأفراد. 

لكن كيف نصلح من شأن الثقافة الألمانية وننتشلها من الحالة البائسة التي تغوص فيها؟ من المضحك أن الإصلاح يأتـي عن طريق هؤلاء الذين لا نعيرهم انتباها، وهم الشباب. 

في البداية، سيكونون أكثر جهلا من طبقة المتعلمين الحاليين. لأنهم لم يتعلموا ما فيه الكفاية، كما أنهم ليست لديهم الرغبة في مناقشة ما ينقصهم من تعليم. ستنقصهم المعرفة، وتصيبهم اللامبالاه وصعوبة الوصول للجيد والصالح من الأشياء. 

حينئذ، يكونون مستعدين لبناء ثقافتهم الجديدة على "مية بيضة" كما نقول بالبلدي. بدلا من السير على نهج الثقافة القديمة، وبلعها كما يبلع التمساح فريسته، ثم يصاب بالتخمة، فيخلد للكسل والراحة. 
لكن الناسك مستمر فى صب الشاي فى الكوب. فقال له العالم: "ياسيدي، لقد ملئ الكوب ولم يعد يقبل المزيد." فأجابه الناسك على الفور: "هكذا يمتلئ عقلك بالأفكار السابقة. كيف أعلمك شئ وعقلك، ممتلئ مثل هذا الكوب، ولم يعد يقبل المزيد." 

هذا هو السبب فى أن الأفكار الجديدة تجد صعوبة بالغة لكي تجد لها مكانا بين الأفكار القديمة الراسخة فى عقول الناس. هذا ينطبق على النظريات العلمية وعلى الأديان والعادات والتقاليد. 

هذا هو السبب في معارضة نظرية التطور لداروين. لأن الكوب ليس فارغا بحيث نستطيع أن نرى ما قد رآه داروين. العقيدة والمعلومات القديمة، دائما تقف حجر عثرة فى طريق الفكر الجديد. 

التخلص من القديم، وعدم المبالاه بالتاريخ والتعليم، سوف ينتج عنه ثقافة حقيقية حيوية، تمثل حرية النفس والروح. وبعد العلاج والشفاء، يصبح هؤلاء رجالا مرة أخرى، لا مجرد ظلال آدمية تمشي على قدمين. 

لقد سلك نيتشة هذا المنحى، لكي يشفي نفسه من سقامها. هذا هو الطريق الوحيد الذي استطاع عن طريقه تحقيق اسلوبه النقدي للجيد والمهم من الأشياء. مما تسبب في ثورة فكرية جديدة في المعرفة والأخلاق وسيكلوجية الإنسان. 

هدف الإنسانية، كما يقول نيتشة، لا يتحقق في نهاية الزمن، وإنما في الوصول بالإنسان الآن إلى أعلى المراتب. إذا كان للإنسان أية قيمة، فقيمته تقع في الأعمال الثقافية التي ينتجها عباقرة مفكرين عصره، لا مفكرين ومفسرين ومشايخ من عصور بالية. 

 لكن ما هي الفائد من فهم أو قبول وجود عالم الميتافيزيقا هذا؟ 
بالتأكيد ستكون معرفتنا بعالم الميتافيزيقا، في هذه الحالة، هي معرفة عديمة الجدوى. مثل معرفة التركيب الكيميائي للماء (H2O)، لرجل يغرق. 
لماذا؟ لأننا ورثة عالم محسوس فيزيائي. داخله فقط تنحصر وتتشكل حياتنا وآمالنا وأفكارنا ورغباتنا. في هذا العالم الفيزيائي، يأتي نقد نيتشة الذكي الذي سيكون له أكبر الأثر في تشكيل الفكر المعاصر. 

هنا يهتم نيتشة بفلسفة عمانويل كانط (1724-1804م). كانط هو أعظم الفلاسفة المثاليين الألمان. الفلسفة المثالية هي الفلسفة التي تعتبر أن حقيقة الكون عبارة عن أفكار وصور عقلية، وأن العقل وحده هو مصدر المعرفة. 

فلسفة كانط ترجع جذورها إلى أفلاطون، الذي يبحث عن الحقيقة المطلقة في عالم المُثل، وهو عالم خارج هذا العالم المحسوس. شوبنهاور لديه مثل هذا العالم الغير محسوس وأسماه عالم الإرادة. 

لأننا مقيدون باستخدام العقل والحواس، لن يكون في استطاعتنا أبدا معرفة العالم الغير محسوس "نومينا". وبالرغم من ذلك، يصر كانط على وجود هذا العالم. هو يعتقد أننا معزولين عنه وممنوعين من معرفته بسبب حواسنا. 

حواسنا تعمل مثل النظارة المطلية باللون الوردي، تجعل المرئيات كلها وردية اللون. نظارة الزمن ونظارة المكان، لا نستطيع منهما الفكاك. فهما يضعان حائلا يمنعنا من المعرفة الحقة. لذلك، يقول نيتشة، سوف أرفض ميتافيزيقا كانط. وسأقصر بحثي على ما نستطيع معرفته وفقا لقدراتنا. 

يقول نيتشة إننا لسنا بحاجة إلى وجود عالم خارج نطاق الزمن والمكان. لسنا في حاجة للميتافيزيقا. لأنها لا تزيد عن كونها غضبة الفلاسفة لعدم ادراكهم للحقيقة. مفهوم "التغير إلى" عند نيتشة، سوف يقودنا إلى مفهوم "كن كما هو أنت"، ثم إلى مفهوم "السوبرمان".

نظرية كانط في الأخلاق، تبين تأثره بالفكر المسيحي. لكن محاولته جعل "الواجب" عملا منطقيا، وليس مجرد أوامر إلهية. وضعته بين مفكري عصر التنوير. حيث نجد أن سبب الأخلاق علمي عقلاني لا ديني
القيم الخلقية يمكن استنتاجها بالعقل فقط. يقول كانط، علينا أن نتصرف كما لو كانت الحكمة من تصرفاتنا، هو عمل قوانين عالمية لكل الناس، بدون أن تتعارض مع المصلحة العامة. 

لنفرض أنك قد استلفت من صديق لك 5 جنيهات. ولنفترض أن الصديق لم يراع أصول الصداقة، وقام بالمطالبة بالمبلغ وملاحقتك ومضايقتك. مما جعلك تقول فى نفسك، لو قمت بقتل هذا الصديق الرزل، سيكف عن ملاحقتي ومضايقتي، وأفوز بالخمس جنيهات. 
لكن كمعجب بفلسفة كانط وملتزم بأفكاره، سوف تختبر تعميم مبدأ القتل عالميا. وتسأل نفسك، ماذا يحدث لو لجأ كل واحد منا، إلى قتل الآخرين، لتحقيق أغراضه؟ طبعا هذا من الجنون. لأنه لن يبق أحد يمكن أن نطبق عليه القانون الأخلاقي. 

 كيف يستقيم أي شئ، لو كانت كل الناس شيمتها الكذب؟ الأخبار في الصحف ومحطات التليفزيون والراديو، كلها كذب في كذب. تصريحات المسؤولين كلها كذب. نصائح المحامي أو الطبيب، كلها كذب. هل يستقيم أي شئ؟ 
يقول كانط، علينا أن نعامل الناس كما نحب أن يعاملوننا. كانت المبادئ الأخلاقية لكانط، لها تأثير عملي كبير بالنسبة لقضايا المساواة والتفرقة بسبب الجنس أو الدين أو العرق. 

كان كانط، حريصا على أن يجعل التمسك بالأخلاق القويمة، نوع من الواجب الإنساني. فعل الصواب كواجب في رأي كانط، أفضل بكثير من فعل الصواب تحت تأثير الشفقة أو العطف. 

مبادئ كانط الأخلاقية مستقاه من العقل، وليست منالكتب المقدسة. دافعها الواجب نحو الإنسانية، وليس الخوف من عذاب النار، أو الطمع في ثواب الجنة والحور العين. 
لأن المعرفة الإنسانية محدودة، كما يقول كانط، فالإخلاق يجب أن تتعدي النظرة الضيقة التي تنحصر في المنفعة الشخصية.

لكن نيتشة لم تعجبه فلسفة كانط في الأخلاق. يسميها "التعصب الأخلاقي". إنها تبين غريزة كانط الدينية

الذي يحطم الإنسان ويذله، بأسرع مما تظن، هو شعوره بالخواء الداخلي. هذا الشعور، يجعله قليل الحيلة عديم النفع، ليست له خيارات هامة، يعيش بدون هدف وبدون سعادة وبهجة، إنسان آلي مبرمج لتأدية الواجب فقط. الفضيلة يجب أن تكون من اختراعنا نحن، تنبع من حاجتنا ورغبتنا في الدفاع عن أنفسنا

 هذا يقود نيتشة إلى بيت القصيد. الأخلاق لا يجب أن تعتمد على العقل وحده. لأنها لو كانت تعتمد على العقل وحده، فعقلي ليس مثل عقلك. بتعدد العقول تتعدد القيم الخلقية.

يقول نيتشة أنه على كل واحد منا يجب أن يبني عالمه الأخلاقي بنفسه، هذا هو ضروراته الحتمية. الناس تهلك إذا أخطأت وامتثلت للواجب العام بدلا من واجبها الخاص. فلسفة كانط الأخلاقية، فلسفة خطرة.


 هكذا تكلم زرادشت


الحاجة للعيش في مجتمعات، تحتم علينا الالتزام بما يسمى أخلاق. وإلا تصبح العملية معجنة وغابة يأكل فيها القوي الضعيف. لكن الأخلاق هي قيود تحد من حرية الفرد. 

ما ينطبق على الأخلاق، ينطبق أيضا على القانون والسياسة والديموقراطية. إذن، وجب علينا الشك في موضوع الديموقراطية السياسية. 

مجتمع، يعني قيم خلقية. الديموقراطية السياسية، تعني دولة. قانون الدولة يظهر كقيم خلقية للمجتمع، يجب الالتزام به. ليس السؤال هنا، ماذا تريده أنت من الدولة؟ إنما السؤال، ماذا تريده الدولة منك؟ 

إذا كانت رغبتي تتفق مع رغبة المجتمع، فهذا من حسن الطالع. لكن الأمور لا تسير دوما هكذا. مما يجعل الديموقراطية شيئا محيرا. الديموقراطية تجعلني ملتزما بشيئين: رأي الأغلبية، ورأيي أنا كفرد. ولا يوجد سبب يجعل هذين الشيئين يتطابقان على الدوام. 

رأي الفرد يصادر بقرارات الحكومة. نوع من الدارونية السياسية. هنا ينتصر القطيع على الفرد مرة أخرى. هذه المرة تحت أعلام الدولة.

كلما كانت الدولة أو الحكومة قوية، كلما كان ذلك على حساب تقدم الفرد، وبالتالي البشرية. لذلك يجب أن تكون الحكومة أصغر ما يمكن. 

من يفكر بعمق، لا يصلح لكي يكون رجل حزب. لأن هذا التفكير، سيقوده سريعا إلى خارج الحزب. هل نيتشة يقول لنا أن الأحزاب ليس بها مفكر أو فيلسوف حقيقي؟ نعم، هذا ما يقوله نيتشة. 

إنه يقول بأن أحزابنا السياسية وجماعة الإخوان وحزب النور، كلها ليس بينها مفكر عظيم وفيلسوف حقيقي. لماذا؟ لأن المفكر يكون في هذه الحالة ملتزما بأفكار الحزب أو الجماعة. 

أي أنه يكون بالتزامه، قد وضع نفسه داخل صندوق الحزب ولا يستطيع الخروج عنه. وعدم التفكير خارج الصندوق، لا يخلق منه مفكرا أو فيلسوفا. 

الرجل الذي يميل للتفلسف، ليس لديه الوقت لممارسة السياسة. سيبتعد من نفسه عن قراءة الجرائد أو النشاط الحزبي. 


الرجل السوبرمان



كان يرفض الأفلاطونية والمسيحية الميتافيزيقية. ابتعد عن أفكار كلا من كانط وهيجل والفكر الديني. كان يعتبر القيم السائدة والأخلاق المتوارثة، ما هي إلا قيم وأخلاق خطرة. 

مفاهيم مثل: "المثل" أو "الجوهر" أو "الهيولي" أو "الله" غير موجودة في حد ذاتها. إنما الموجود فقط هو شظايا متفرقة من المعطيات، تخيلات وتفاسير في حالة فوضى أو في حالة فيض متصل، نقوم نحن بتشكيلها وترتيبها حسب إرادتنا. 

 لا توجد معرفة حقيقية حسب المفهوم الأفلاطوني (المثل). كل المعارف من اختراعنا، لأنها أسيرة اللغة. اللغة أكاذيب، وكل المعارف أيضا أكاذيب. والأكاذيب خداع للنفس. الناس التي تخدع نفسها تفعل ذلك وتسميه معرفة. 

إذا كان لابد من الكذب، على الأقل يجب أن يكون كذبا خلاقا. ولكي يكون الكذب خلاقا، يلزمنا ما اسماها  نيتشة "إرادة القوة" أيضا ب "دافع الحرية".

يقول نيتشة أن غرائزنا البيولوجية وأفكارنا ولغاتنا، هي العوامل التي تجعلنا نخدع أنفسنا. هي التي تشكل ما نسميه "إرادة القوة" أو "دافع الحرية" عندنا. 

اللغة التقليدية عند نيتشة تبنى على الكذب. فمثلا، ليست هناك ورقتي شجر يشبهان بعضهما في كل شئ. بالرغم من ذلك نسمي كل ما ينبت من الأغصان أوراق شجر. سواء كانت الشجرة، شجرة تين أو تفاح أو موز. 

بصمة الإصبع في الإنسان تختلف من شخص لآخر. ولا توجد بصمتان متشابهتان. اللغة هنا عبارة عن أداة لتشويه الحقيقة، وطرق تقريبية لفهمها. 


اللغة ينتج عنها أكاذيب تستعبدنا في حياتنا. لكن كون اللغة تكذب، هذا يجعلها أداة قادرة على الإبتكار والخلق. تتمثل في الشعر والبلاغة والمحسنات البديعية من طباق وجناس وسجع، إلخ. وقد قيل أن أعذب الشعر أكذبه. وكان الرازي يقول: "كل شاعر ترك الكذب، والتزم الصدق؛ نزل شعره ولم يكن جيداً". انظر إلى أبيات عنترة وقل لي بالله عليك، أليس هذا كذب جميل:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل - مني وبيض الهند تقطر من دمي 

فوددت تقبيل السيوف لأنها - لمعت كبارق ثغرك المتبسم

إذا لم يكن أمامنا سوى الأكاذيب التي تتمثل في الشرح والتفسير والترجمة لشظايا المعارف الغير واضحة، التي تصلنا متفرقة أو في سيل متصل، فماذا نفعل؟ يقول نيتشة، الكذب الذي يعلي شأن الإنسان هو الذي يجب أن نأخذ به. باقى أنواع الكذب مصيرها الفناء.

لذلك يقول نيتشه، أن إرادة القوة يجب أن تكون مليئة بالضحك والرقص والسرور، علينا أن نلوم أفلاطون والمسيحية. لأنهما في سبيل طلب الحياة الأخرى، قاما بالتضحية بالحاضر والواقع كما نعرفه. أي أنهما رفضا الإعتراف بالواقع كشظايا متفرقة، يجب علينا تشكيلها حسب إرادة القوة. 

الحل الديني يؤدي إلى تغريب الإنسان عن ذاته، ويفقده الثقة في نفسه كلية، ويجعله يضع ثقته المطلقة في "الرب"، راجيا أن يرضى عنه، متوسلا إليه لكي يحل مشاكله. 

الحل الديني عند كيركجار، كما يراه نيتشة، غير ممكن الآن، لأن الرب قد مات. مقولة "موت الرب"،

كتابه "العلم الجزل"، يخبرنا عن قصة المجنون الذي يسير في رائعة النهار حاملا مصباحا، يذهب به إلى السوق للبحث عن الرب. ثم يقف ليعلن على الملأ: "مات الرب، لقد قتلناه أنا وأنت ".

الرب الذي أماته نيتشة، ليس هو الرب الأبدي خالق كل شئ. إنما نيتشه كان يعني، موت إيماننا المطلق بالرب. ألا يعني هذا أننا نكون قد فقدنا بموت الرب، الأساس الذي بنينا عليه مفاهيمنا للحق والعدل والأخلاق؟ الم يعتمد ديكارت على وجود الرب كضمان لصحة أفكاره وحمايتها من عبث الشيطان؟ الرب عند ديكارت هو أساس كل الحقائق والمعرفة. 

هنا يعترف نيتشة أنه حقا، بموت الرب، نكون قد فقدنا الأسس التي نبني عليها المعرفة الحقة والقيم. لكن، هذا سوف يجعلنا نفقد الإعتماد المطلق علي الرب أيضا. 

أي علينا أن "نفطم" أنفسنا، كما تفطم الأطفال عن ثديي الأم، لكي يزول الإعتماد والتوكل الكلي على الرب في كل الأمور. الإنسان يجب عليه الآن أن يجد الشجاعة لكي يعتمد على نفسه في حل مشاكله. لأنه ليس هنك قوى أخري سوف تقوم بمساعدته في محنته هذه.  الوحي مرحلة طفولة

واجب الحضارة الآن هو خلق إنسان جديد، إنسان أعلى (Superman). إنسان صلب قوي شجاع ذكي، مستقل أخلاقيا عن القيم الدينية القديمة التي تستعبد الجنس البشري بدون رحمة. 

القيم الوحيدة التي يلتزم بها الإنسان الأعلى، السوبرمان، هي القيم التي تعلي من شأن الإنسان والحياة معا. قيم جديدة تجعل الإنسان قوي خلاق سعيد حر، قادر على تشكيل مستقبله.

يخبرنا كيركجارد بأنه، لكي نتخلص من آلامنا ومتاعبنا، علينا أن نغرق في اليأس والشجن حتي يمكننا الإستسلام والإيمان المطلق بالرب. لكن نيتشه يطلب منا أن لا نعتمد على أحد سوى أنفسنا لكي نكون أقوياء سعداء. أي لكي نكون سوبرمان. 

الإستسلام والخنوع واليأس والخوف من عذاب الآخرة، لن تحل مشاكل الإنسان، وإنما تلغي عقله، وتشل تفكيره وتدمره نفسيا ومعنويا. الفلسفة بالنسبة لنيتشة، ليست رياضة ذهنية فقط، إنما أداة. قادرة على خلق إنسان أفضل جديد. 


 ما لهُ وما عليه



في العالم / أقوياء وضعفاء , سادة ومسودين , طيور وجوارح , حيوانات مفترسة وحملان !

تجمع بينهم علاقات ماديّة بحته , يغيب عنها العنصر الأخلاقي , إنّها علاقات الحياة نفسها .

 فلسفة الأخلاق بما لا يقبل الجدل .لكن ضدّ الأديان في الواقع

 أخطر الناس هم أدعياء العدل والصلاح . رجال الدين الذين يحاكمون ويكذبّون ويقتلون ( بكل عدل ) , فهم يمارسون وصايتهم على البشرية ويعرفون خيرها وشرها .


 نسبيّة الخير والشر , يجعل نيتشه الإنسان نفسهُ هو المسؤول عن وصولهِ للجادة التي يبغيها .

عند نيتشه لا مساواة , لكن نعم للعدالة .

وعلى الإنسان إستخدام أسوء ما فيه للوصول لأحسن مافيه !

ديونيسي / نسبةً الى ديونيس / إله الخمر والخلاعة والمجون عند اليونان , وهذهِ شخصيّة تميل الى إلغاء القيود المفروضة من المجتمع .


نموذج الإنسان الخارق للعادة / السوبرمان , المتحرّر من القيود الإجتماعيّة والأخلاقيّة , مثل إنسان عصر النهضة .

كان نيتشه شديد الإعتداد بنفسهِ , يقول عن لغتهِ / لقد أوصلتُ الالمانية الى ذروةِ كمالها .

نيتشه حطّم الإيمان بالحقيقة المُطلقة . كسر جميع الحواجز التي صادفتهُ حتى القيم الإنسانية منها .

يقول / ليس هناك وجود مُطلق , لكن وجود يتكوّن .
يقول / ليس هناك تحديد لا نهائي , لكن عودة أبدية .
كالساعة الرمليّة الأبديّة للوجود , تعيد دورتها بإستمرار .
يقول / لايحتاج الإنسان الى شعور رقيق , كلّ المبدعين يجب أن يكونوا أقوياء الارادة .
ويقول / إنّ الحقيقة والكذب يوظفان دوماً لأجل الكائن المُتفرّد .



ملاحظات حول فلسفة نيتشه هشام غصيب



 وأنا في الواحدة والعشرين من عمري. لكني قرأته في حينها بوجداني، لا بعقلي. فزعزع كياني آنذاك بأسلوبه اللاذع الحارق وأفكاره الجنونية غير المألوفة وتحدياته التي لا تنقطع وقحته اللامحدودة. فعل فعله في ذاتي وصرت أردد كلماته وأفكاره بلذة وفخار من دون أن أكون مقتنعا تماما بها، لأنها لم تكن تستجيب بالفعل لما كان يعتمل في ذاتي آنذاك من هواجس وآلام وإشكالات وتناقضات وأسئلة وشكوك وحيرة. لذلك، فسرعان ما قادني نيتشه إلى طريق مسدودة، كان المكوث عندها يعني الانتحار الروحي. لذلك، كان لا بد لي من تخطيه من أجل الحياة والفعل الخلاق. وهذا ما أتيح لي أن افعله حين اكتشفت التراث الهيغلي، وبخاصة كارل ماركس. فساعدني ماركس على تخطي نيتشه بخاصة، والفلسفة البرجوازية بعامة، صوب آفاق جديدة لا حصر لها. وهاأنذا أعود إلى قراءة نيتشه بعد عقود من الزمان، ولكن هذه المرة ليس بوجداني وحماسي الغض، وإنما بعقلي البارد. ويبقى ماركس شامخاً وماثلاً ورائعاً ومؤسساً لآفاق لانهائية. فماركس هو الأًصل والأساس.


 فماركس لا غنى عنه للحياة والسياسة والعمل العام والاقتصاد والثقافة. أما نيتشه، فتنحصر أهميته في الفلسفة البحتية والسيكولوجيا. ولئن كان ماركس مثال الثوري والفكر الثوري بامتياز، فإن نيتشه لم يكن ثوريا بمعنى ماركس أو داروين أو آينشتاين، لكنه اتسم بقحة فكرية قل نظيرها وتجعل منه مثالا لفلسفة الحداثة بامتياز.

 منجم من الأفكار العميقة والمثيرة، لكننا نشعر أن هذه الأفكار غير مؤسسة عقليا وتخلو من الحجج المفصلة, علاوة على أنها، ظاهرياً على الأقل، غير مترابطة، بل وتبدو متناقضة معا في كثير من الأحيان، برغم وحدة روحيتها.

ومع ذلك، فإن قراءة نيتشه تولد الشعور أن هناك ترابطات عميقة مستترة بين هذه الأفكار. لكن اكتشافها يستلزم التأويل، بل عدة تأويلات، لأنه ليس هناك تأويل واحد احد يمكن أن ينسج كل هذه الأفكار في نسيج واحد موحد. فقد يفلح التأويل في ربط بعضها فقط، لكن ليس هناك تأويل واحد جامع شامل. إذ إننا في حاجة إلى عدة تأويلات، قد يكون بعضها متناقضاً مع بعضها الآخر، لاستيعاب جلّ أفكار نيتشه.

 يريد أن يزعزع يقينه الأفكار
 كان يعد الدحض المنطقي نوعاً من الدجل والخداع والفساد والانحلال الثقافي لا يليق بفيلسوف أصيل.

سعيه الدؤوب للغوص في أعماق الأعماق وتفكيك الأسس والمسلمات والأصول النهائية، فقد كان فيلسوفا بامتياز،

لقد كان نيتشه فيلسوفا بامتياز، لكنه لم يكن مجرد فيلسوف، وإنما كان أيضاً عالم نفس بمعنى من المعاني، وشاعراً متميزاً، وناثراً نادراً باللغة الألمانية، وموسيقاراً. وقد اخذ من فن الرسم فكرة المنظور Perspective، التي شكلت محوراً أساسيا من محاور فلسفته.

وببحثه عن جذور قيمة إرادة الحقيقة يصل نيتشه بنا إلى جذور الميتافيزيقا نفسها. ويبدو أن نيتشه يعتبر أي نظام فكري يرتكز إلى مسلمات ومطلقات ميتافيزيقيا، سواء أبانها العقل، كما في الفلسفة، أو أبانها “الوحي”، كما في الدين. إذ يرى أن الميتافيزيقيين جميعا ينطلقون من التعارضات المطلقة، بين الحقيقة والخداع، بين الكرم والأنانية، بين الحكمة والرعونة.


إن نيتشه يريد أن يكتشف السر اللاعقلي، أو ما قبل العقلي، للخطاب الفلسفي الكلاسيكي، أي للميتافيزيقا.



هل يعني ذلك انه أراد أن يكتشف السر الآيديولوجي للفلسفة، كما أراد ماركس؟ لا أظن ذلك. فلم يكن نيتشه معنيا بالآيديولوجيا بالمعنى الاجتماعي، وإنما كان معنيا بالمعنى السيكولوجي، أو الفيزيولوجي، كما عبر عنه. وبصورة خاصة، فقد أراد الوصول إلى السر الأخلاقي للفلسفة. والأخلاق، وفق نيتشه، تنبع أصلاً من السيكولوجيا والفيزيولوجيا. ذلك أن نيتشه لم يعد الفلسفة أو الميتافيزيقا ظاهرة معرفية في جوهرها، وإنما عدها ظاهرة أخلاقية بامتياز، وإن حاولت أن تخفي قلبها الأخلاقي بغطاء معرفي منطقي.

 الوعي متجذر في الغريزة. وهو قد سبق فرويد إلى ذلك. بل ربما اشتق فرويد هذه الفكرة أصلا من نيتشه نفسه بصورة مباشرة. فالوعي، وفق نيتشه، توجهه الغريزة والمتطلبات الفيزيولوجية. لذلك نراه يطرح السؤال الفضائحي الآتي: هل يمكن أن تشكل اللاحقيقة شرطاً من شروط الحياة؟ وهنا، لا بد من الإشارة إلى أهمية مفهوم الحياة لدى نيتشه. فهو قد وضع الحياة انطولوجيا فوق الواقع الموضوعي وفوق العقل. وهو بهذا المعنى كان فيلسوف اللاعقلانية بامتياز، كما وصفه جورجي لوكاتش.




أن يحسدك الناس أفضل من أن

يشفقوا عليك  

++++++++++++++++++++++++++++

 نيتشه وكتابه «هكذا تكلم زرادشت»

هكذا تكلم «زرادشت» هو أول بيان شامل لفلسفة نيتشه، وكُتبت فى شكل رواية نثرية، بدأت بقصة زرادشت وهى نسبة إلى «زارا» وهو شخص جاء بعد سنوات من التأمل أعلى جبل ليقدم حكمته إلى العالم، يطرح نيتشه فى فلسفته، فكرة أن الإله قد مات، ولعله يشير بذلك إلى أن معبود الناس قائمًا من وهمهم، وأنه تعبير مجازى لم يقصد به الإله السماوى، وعلى الرغم من أنه عمل فلسفى بشكل أساسى، إلا أنه يعتبر تحفة فنية فى الأدب. وله تأثير كبير فى الفنون والفلسفة، وتأثر به عدد من المفكرين فى القرن العشرين. فى مُؤلفه، دعا إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها وإلى خلق دستور جديد، كان يرفض الأديان، فأراد أن يقيم من الإنسان إلهًا لا ينازع، وتصور الإنسان صانع قدره، فمجَّد فى كتابه «الإنسان المتفوق»، فيقول: «لقد علمتنى ذاتى عزة جديدة اُعلمها الآن للناس. علمتنى ألا أخفى رأسى بعد الآن فى رمال الأشياء السماوية، بل أرفعها رأسًا عزيزة ترابية تبتدع معنى الأرض»، ويقول: «غدا سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة وبعد غد سيستبدل بها أجدّ منها، ففكرته تشبه الشعب تذبذبًا وتوقدًا وتقلبًا».
وعن الخير والشر، يطرح نيتشه فى فلسفته، فيقول: «لقد أقام الناس الخير والشر فابتدعوهما لأنفسهم، وما اكتشفوهما ولا أنزلا عليهم بهاتف من السماء.. لقد وضع الإنسان للأمور أقدارها ليحافظ على نفسه، فهو الذى أوجد للأشياء معانيها الإنسانية.. ما خلق الخير والشر فى كل عصر إلا المتهوسون المبدعون، وما أضرم نارهما إلا عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل».
ويستكمل نيتشه فى فلسفته: «إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد علوت حتى أصبحت اتطلع إلى ما تحت أقدامى، فهل فيكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف على الذُرى».

+++++++++++++++++++++

الفيلسوف ذو المطرقة

في السنوات القليلة الماضية أصبح فريدريك نيتشه من أكثر الفلاسفة الذين ذاع صيتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة بين الشباب والمراهقين، لما يقدمه من رؤية ثورية مغايرة للأخلاق والمفاهيم التقليدية للخير والشر، ولأسلوبه الناعم الجذاب وكلماته القوية الدقيقة الواضحة، وهذا ما يتناسب مع طبيعة فترة الشباب والمراهقة. 2018

شوبنهاور معلمًا:

كان نيتشه قد فقد إيمانه بإله آبائه وبدأ في البحث عن إله جديد في مستهل حياته، وقد وقع في يده تحفة شوبنهاور “العالم كإرادة وفكرة” وعندها بدأت تتكون أفكاره وتتبلور في شكل فلسفة، ويقول نيتشه عن هذا الكتاب “إني ولأول مرة أرى العالم بهذا الوضوح”، ويصف مدى تأثّره بأفكار شوبنهاور بقوله “لقد شعرت وكأن شوبنهاور يكتب لي خصيصًا، شعرت وكأنه جالس أمامي ويحادثني وجهًا لوجه”، كان شوبنهاور هو الشرارة التي أشعلت في نيتشه ولعه بالإرادة ومعرفة قدرها الحقيقي وجعلها هي الأساس الذي انطلق منه لتأسيس نظرته عن العالم، وكان هو أيضًا الناقوس الذي أعلن عن الحرب التي سيشنها نيتشه على الأخلاق بمفهومها التقليدي لاحقًا.

نيتشه والمرأة:

لم يبتعد نيتشه كثيرًا عن رأي معلمه آرثر شوبنهاور في النساء، فكان شوبنهاور يرى أن المرأة ما هي إلا فخ نصبته الطبيعة من أجل استمرار إنفاذ إرادة الحياة على الجنس البشري عن طريق التناسل، فالمرأة كل مبتغاها النهائي هو أن تصبح أمًا بحسب شوبنهاور، وتعيش حياتها من أجل إغواء الرجل لدفعه للتكاثر ومن ثم استمرار الحياة
لم يبتعد نيتشه كثيرًا عن هذا بل بالغ في احتقار المرأة والتقليل من شأنها، وأعلن عن هذا بمنتهى الوضوح في كتابه الأشبه بالكتب الدينية من حيث الصياغة وانتقاء الكلمات هكذا تكلم زرادشت في قوله “عندما تذهب لمقابلة امرأة لا تنسَ السوط”، فقد رأي أن الرجال يرغبون في النساء من أجل طلب اللذة وليس أكثر من ذلك، ولو كان هناك كائن أكثر رقة من النساء لطلبه الرجال بدلًا من النساء.
وتساءل نيتشه عن نوع التوافق الذي يمكن أن ينتج بين عقل الرجل الميال للحروب والنزاعات والقتال وعقل المرأة الذي لا يوجد فيه سوى المزاح والرقص واللهو، وأن المرأة على الدوام لم تكن إلا بهجة لنفس الرجل المتوترة، ويزيد على ذلك فيُثني نيتشه على الرؤية الكلاسيكية الشرقية للمرأة ويقول: “علينا أن نتخذ المرأة كمتاع كما يفعل الشرقيون”، ويختتم بقوله الأشهر عن المرأة وهو “المرأة هي خطيئة الرب الثانية” في إشارة قوية عن نفوره من النساء واحتقاره الشديد لهم، وأيضًا على سخطه الأنطولوجي من الرب، ويجب أن نذكر في ذلك الصدد علاقته النسائية الوحيدة الأشهر في تاريخ الفلسفة على الأرجح مع لو سالومي تلك الفتاة العشرينية الروسية الجميلة التي أحبها نيتشه حبًا جمًا وطلب منها الزواج عدة مرات ولكنها رفضت جميعها، واقتصرت علاقاته النسائية على قصة الحب الفاشلة تلك، وعلاقته العائلية الطبيعية مع أمه وأخته.

نيتشه والمسيحية:

لم تَسْلم المسيحية من مطرقة نيتشه الثقيلة في النقد، فالتفت نيتشه لتفنيد المسيحية تفنيدًا صارمًا وبحث في جذورها بحثًا أركيولوجيًا دقيقًا، فرأى نيتشه أن المسيحية نشأت في مجتمع تسوده القوة الرومانية الجامحة، وكانت الأخلاق الرومانية آنذاك تمثل المعيار الخيّر للأخلاق، القوة والجموح والعنفوان وأخلاق الأبطال كانت تمثل القيم الخيّرة في المجتمع، وعكسها بالطبع ما كان يمثل الشر، ولكن ما أن نشأت المسيحية بين طبقة اليهود المُحتلّين المغلوبين على أمرهم بدأت في قلب مفاهيم الخير والشر، بدأت في اعتبار أن القوة بكل مفرداتها هو ما يمثل الشر بعينه وعلى الإنسان أن يتجنبه بل ويخجل من الانتساب إليه، ثم بدأت في الإعلاء من قيمة ما يمثل النقيض وهي أخلاق العبيد كما سماها نيتشه في مصطلحه الشهير، الأخلاق التي تدعو لنبذ إرادة القوة والشهوات واحتقار الغريزة والتقليل من كل ما يتأتى عن القوة وهذا ما كان يراه نيتشه ما يمثل الخير للإنسان.
أتت المسيحية حتى تصنف تلك القيم على أنها شرور يجب على الإنسان الابتعاد عنها، وفسر نيتشه ذلك بأنه كان بسبب ضعف اليهود وعدم قدرتهم على مجاراة الأخلاق الرومانية فكانت النتيجة هي قلب القيم في صالح الأخلاق التي ينتسبون إليها، ويقول نيتشه عن المسيحية “إنها كالمرض قادرة على تحويل أقوى الأبطال إلى عبد جبان عن طريق إخماد إرادته وتحويلها إلى احتقار لذاته”.
.يصنف نيتشه العدمية إلى أربعة تصنيفات أساسية؛

أولًا العدمية السالبة

وهي العدمية التي تنكر قيمة الحياة وقيمة الإرادة وتحتقر اللذات والشهوات وكل ما هو إنساني وبشري في سبيل قوة مفارقة متعالية، ويمكن أن يتمثل ذلك النوع من العدمية في الأخلاق المسيحية.

ثانيًا العدمية الارتكاسية

ويمكن أن نقول إن ذلك النوع هو نقيض النوع الأول، فيرى نيتشه أن تلك العدمية تنكر وجود أي قيم مفارقة أو متعالية، وتعوض عنها بالقيم الوضعية في مغالاة شديدة لاحترامها بل والتضحية في سبيلها، وقد أسمى نيتشه تلك الحالة “بالإنسانية المفرطة في إنسانيتها” ويمكن أن نرى ذلك النوع في قيم فترة الحداثة والتنوير في حقبة ما بعد الثورة الفرنسية.

ثالثًا العدمية السلبية

 فالأول ينكر القيم الأرضية في سبيل قيم مفارقة والثاني ينكر القيم المفارقة في سبيل قيم أرضية، ولكن العدمية السلبية تنكر الوجود بكل صفاته
تنكر القيم المفارقة والمحايثة معًا، تقول إن الإنسان وحيدٌ ولا جدوى من أي شيء وأنه ليس عليه إلا الهدوء وأن عدم الإرادة هي أفضل من إرادة العدم، ويلقب نيتشه هذا العدمي “بالإنسان الأخير”، الإنسان الذي أدرك زيف القيم المفارقة والمحايثة معًا ولكنه غير قادر على إنتاج قيم جديدة، ويمكن أن نعتبر هذا الرأي من المرات التي نقد فيها نيتشه معلمه شوبنهاور نقدًا مباشرًا، فحتى شوبنهاور الذي كتب نيتشه فيه كتابًا بعنوان “شوبنهاور معلمًا” يذكر فيه مدى تأثيره على أفكاره لم يسلم من هراوة نيتشه الطائشة.

رابعًا العدمية الفاعلة

وهذا النوع من العدمية الذي يعلن نيتشه عن انتمائه إليه بمنتهى الفخر، فيقول عن نفسه أنه أكبر عدمي في أوروبا، ويصف نفسه بأنه “عاش العدمية وذاقها وشعر بمرارتها وأحس بها من فوقه ومن تحته وعلى جانبيه”، ذلك النوع الذي يرى العدمية ليس نموذجًا من القيم يجب على الإنسان الالتزام به، وليس رؤية منهجية للوجود على أساس مفارق كان أو محايث، ولا حتى تخلٍّ عن الإرادة، ولكن هي رؤية لاتخاذ الإرادة كبديل عن كل هذا من أجل تجاوز العدمية، فيقول مارتن هايدجر عن نيتشه إن كل مشروعه الفلسفي كان قائمًا على تفنيد العدمية تفنيدًا صارمًا من أجل تجاوزها، ويصف هايدجر أن هذا كان أهم حدث في تاريخ أوروبا الحديث.

مرضه ووفاته :

في أواخر أيامه بدأ نيتشه في فقدان بصره حتى اقترب من العمى، وكان يعيش حياة صعبة مليئة بأوهام العظمة والاضطهاد، وهذا ما دفعه إلى كتابة “ربما أنا أعلم أكثر من غيري لماذا الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك، لأنه وحده الذي يتألم أشد الألم مما دفعه إلى اختراع الضحك”، حتى جاءته الضربة القاضية في تورينو بإيطاليا حين بدأ يتخبط في غرفته ويهزي كالمجانين فأرسلوه إلى مصحة نفسية، ولكن سرعان ما جاءت أخته لتأخذه ليعيش معها، وأخيرًا استطاع العيش حياة هادئة بعيدًا عن آلام الحياة والعقل بعد أن تخلص من العقل نفسه وأَرْدَاه البحث عن المعرفة مجنونًا، ويذكر أنه في نهاية أيامه سمع أخته تتحدث عن الكتب، فأضاء وجهه المريض الشاحب وابتسم ابتسامة بريئة وقال لها “آه، أنا أيضًا كتبت كتبًا جيدة يومًا ما”، وتوفى نيتشه في أغسطس من عام 1900.
وفي النهاية أحب أن أذكر بعض ما كُتب عن نيتشه فيقول ويل ديورانت المؤرخ الشهير: “لا نجد عبقريًا دفع ثمنًا لعبقريته ما دفعه نيشته”، ويقول إيميل فاكيه عضو المجمع العلمي الفرنسي: “ما من مفكر أشد إخلاصًا من نيتشه، إذ لم يصل أحد قبله ما وصل إليه وهو يسبر الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي بما يعترض سبيله من مصاعب لأنه ما كان ليرتاع من الاصطدام بالفجائع في قراراتها أو انتهائه إلى لا شيء”.
+++++++++++++++

نحن و العالم بين سيد قطب و نيتشه : محاولة قتل ديونيسيوس بعد موت الآلهة 2019


"لهذه الطليعة المرجوة المرتقبة كتبت معالم في الطريق" , لم يخاطب سيد قطب العامة بل خاصة الخاصة .. نيتشه أيضا كتب لقلة من الناس فقط , "ربما لم يولد أحد منهم بعد" .. هناك شعور هائل بمسؤولية تاريخية خاصة عند سيد قطب و نيتشه و احتقار بلا حدود للواقع المنحط , فالاثنان يعيشان عزلة شعورية عما حولهما , داخل أفكارهما أو في المستقبل ( أو في مكان ما في الماضي عند قطب ) .. و وسط كل ذلك لا يوجد أي تواضع مزعوم بل ثقة مطلقة و كبرياء جريح , و خلف كل ذلك جملة من الإحباطات الحياتية و العاطفية و سلسلة أطول من الآلام الجسدية و النفسية .. من الجسد المحطم و الآمال المنهارة يصدر شيء ما , جامح , ثائر 

ا خصوم الرجلين و مريدوهما عليهما : إرهابي , نازي , منظر الإرهاب المعاصر , أبو النازية , عدمي , متشائم , مجنون

 بينما يتحدث قطب عن الرجوع إلى النبع الخالص , النص القرآني المقدس , العودة إلى الماضي , عن مستقبل يوجد بالكامل في ماض سحيق يجب إعادة إنتاجه بحذافيره دون أي تعديل , عن استسلام مطلق ينأى عن أي نقد أو تفكير أو أي وجود مستقل للذات التي عليها أن تفنى نهائيا في النص المقدس , "إخلاص العبودية لله" , ليس الإنسان إلا عبدا و الاعتراف بهذه العبودية و ممارستها هي أرقى درجات الوجود الإنساني , لا يجب فقط تذكير الإنسان بذلك بل يجب أن تفرض عبودية الإله المطلقة على الجميع , و في هذا خلاصنا الوحيد ... 

 على الجهة الأخرى : ثورة على كل شيء , تحطيم لكل الأصنام , اعتراف حزين بموت الإله , و دعوة متشائمة مرحة إلى مواصلة الحياة في عالم ما بعد الزلزال , إلى اكتشاف السوبرمان داخلنا بديلا عن الآلهة التي ماتت , شخص يصر أنه ليس نبيا و لا قديسا و لا معلما , بل فوق كل ذلك : شخص لا يعد بتحسين البشرية , "هذه ليست موعظة و ليس مطلوبا منكم أي إيمان" , إنه يرفض حتى الإيمان به , "إنني يا مريدي أمضي وحيدا ! و أنتم أيضا انطلقوا وحيدين" .. أدرك الاثنان ( قطب و نيتشه ) جيدا أن "الله قد مات" , "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم , كل ما حولنا جاهلية" ( معالم في الطريق - سيد قطب ) .. ليس هذا فقط , بل إن قطب ينبهنا إلى أن الإسلام السائد قد تلوث هو الآخر و انحط إلى جاهلية محض .. يعترف قطب أيضا أن زمن المعجزات قد ولى و أن الدين قد قفد سحره في العالم المعاصر ( 1 )

 هو يرى أن الله قادر "طبعا" على تغيير هذا كله لكنه - سبحانه - شاء أن يتحقق منهجه الإلهي عن طريق الجهد البشري و في حدود الطاقة البشرية لحكمة يعلمها هو وحده ,

 ( "لم يكن نيتشه ملحدا لكن إلهه مات" - كارل يونغ )

و لامنا بقوة نحن القتلة على جريمتنا الشنعاء , لكن نيتشه قبل على مضض دفن الآلهة التي قضت و قرر البدء من جديد بتشاؤم مرح في عالم لا مركز فيه و لا ثوابت .. أما قطب فقد أصر , و نحن معه , ليس فقط على تحنيط جثة الإله بل على فرض عبادتها على الجميع .. لكن هذا لا يكفيه , إنه يحلم بالانتقام من كل الذين قتلوه أو جاهروا بموته .. هذا لا يجعل قطب و نحن معه مثل ذلك الناسك المنعزل الذي لم يسمع بعد بموت الإله ... لقد شاهد قطب بأم عينيه العالم و هو يعيش و يتطور و يمضي في طريقه دون إله 
لم يقتل البشر آلهتهم فحسب , بل اقتربوا كثيرا هم أنفسهم من مصاف الآلهة

 في كتاب قطب عن أمريكا لا نجد أي شيء مختلف عن الصورة النمطية السائدة بيننا عن الغرب , هجاء مرير لمادية الغرب و لا أخلاقيته بعد أن قتل إلهه .. ليس الغرب اليوم كما وصفه قطب و كما نراه إلا حفلة ماجنة من احتفالات ديونيسيوس , إله الخمر .. يكفي أن يحل ديونيسيوس هذا في أي مكان ليصاب الجميع بالجنون و يبدؤوا بالتصرف دون ضوابط , كي تراق الخمور و الدماء و تنتهك كل "الحرمات" , بقدر ما أصبح الغرب ديونيسيوسيا بقدر ما نراه مثيرا للتقزز و الكراهية .. لكن ما هو سبب ذلك الغضب الهائل الذي ينتابنا من ديونيسيوس 
 لماذا نرفض الحياة بعد أن اتضح أن كل الآمال فيما وراءها هي مجرد أوهام ؟ و من هو الإله الذي ندافع عن جثته بهذه الشراسة .. نحن لسنا أبولونيون ( أبولو إله العقل عدو ديونيسيوس حسب نيتشه ) , إلهنا ( إله سيد قطب ) يرفض العقل بنفس الدرجة التي ينكر فيها الجسد , أي إله إذن نريد للجميع أن يخشعوا له صاغرين ؟ هل ندعو الناس لعبادة إله الموت , إله العالم السفلي , أم إله الحرب , أم ماذا .. ما هي الشريعة التي نريد فرضها على الجميع كما على أنفسنا : شريعة الغاب باسم الرب أم شريعة الغاب باسم الإنسان في مقابل شريعة الغاب باسم العدم , أم ماذا 

 فإننا نريد أن نقتل كل من تجاسر على أن يعيش في عصر ذابت فيه الحدود بين البشر و الآلهة لأننا نعتقد أننا مجرد عبيد و أن هذا من حقنا بالتحديد لأننا عبيد جيدون .. هل انتقامنا من ديونيسيوس يعود إلى أنه قد سرق مجد إلهنا و تركه جيفة بينما واصل هو سيره العشوائي نحو القمم ؟ هل السبب في ذكورتنا , في تقديسنا للأب و رعبنا من الإقرار برغبتنا في قتله 
 هل هو الخوف من النظر في المتاهة , أم هو كما نحب أن نردد : الكبرياء الجريح لامبراطورية غربت شمسها و تفسر موتها على أنه موت البشرية بأسرها أم أنه الروح الكئيبة لدين يعارض الحياة بما بعد الحياة أم أنها الصدفة المحضة عندما رفض عبد الناصر تعيين قطب وزيرا للمعارف ثم عندما نبع النفط في الصحارى الكئيبة و أصبح من المتاح لبعض الأمراء أن يتسلوا بتحديد ما نسمع و نقرأ و نرى و نعتقد ..

لماذا نرفض الإنسان الأعلى لصالح القطيع , أخلاق السادة لصالح أخلاق العبيد .. ألم يعبد أجدادنا باخوس ذات يوم , ديونيسيوس الشرق , ألم تعبده كثرة من الفرق الباطنية لعقود بل لقرون .. ماذا نريد فعلا ؟ أن ننضم إلى قطيع الإنسان الأخير كما سماه نيتشه , العاجز حتى عن احتقار نفسه , التواق إلى الحياة السهلة , أن نكون أكثر نسخ هذا الإنسان الأخير بلادة و تفاهة و غباءا و كسلا أم نطمح إلى هرمجدون أخيرة على طريقة شمشون , هل نريد ابتزاز الإمبراطورية أم تهديمها .. بماذا نحلم في عالم ماتت آلهته و ضاعت بوصلته .. أن نعيد عقارب الساعة إلى ما قبل ألف و خمسمائة عام , أن نوقفها , أن ندفعها بعنف إلى الأمام بطريقة غير مسبوقة , أم ماذا .. لقد ثار سبارتاكوس ضد عبوديته , فهل نثور نحن ضد حريتنا , أو ضد حرية الآخرين .. هل الحرية التي نتوق إليها هي حرية عبادة جيفة ميتة ..... أم ماذا

*

أخلاقيات نيتشه


يعد الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» أكثر الفلاسفة جدلاً وعلى رأسها: «أبعد من الخير والشر»، وكتابه «علم الأنساب الأخلاقي» (Genealogy of Morality).
فلقد مثل بحق صدمة للنمط الفكري السائد في عصره المدرسة الوجودية، مدرسة ما بعد الحداثة. كما أنه كان أيضاً الفكر الذي تملقه النازيون والفاشيون،
وعلى غير عادة الفلاسفة الألمان العظماء الذين سبقوه، من أمثال «كانط» و«هيغل»، فإن «نيتشه» لم يشغل نفسه وفكره بالنظريات المعرفية أو «الأيبستيمولوجية» في سعيه لوضع مفاهيم للحياة، ولكنه كان أقرب ما يكون للفيلسوف العملي النفسي الأخلاقي، فكتبه تقترب من السهل الممتنع، باستخدامه للأفكار الصادمة المغلفة بلغة مبسطة، ولكنها مركبة المعنى عميقة الأثر، مستخدماً الحِكم وصانعاً للأقوال المأثورة المتعمقة (Aphorism) التي يحتاج المرء لقراءتها أكثر من مرة والتفكر فيها لقبولها أو رفضها.
ويمكن عد كتابه «علم الأنساب الأخلاقي» أكثر الكتب تعبيراً عن فكره، فهو كتاب صادم بكل المعايير، إذ يبدأ أو ينتهي إلى أن العالم الغربي يفتقر في عصره إلى نقطة القاسم الأخلاقي المشترك التي كانت تمثلها المسيحية بصفتها محوراً لصناعة القيم على مدار قرابة ألفيتين، ولكنها فقدت رونقها أو جذورها بصفتها مصدراً للأخلاق بسبب العلم الذي جعل العقلانية العلمية منافساً شرساً لها بصفتها مصدراً للأخلاق، وهو ما دفعه للإعلان صراحة أن المسيحية قد ماتت؛ أي أنها اختفت عن الرادار الأخلاقي أو الفلسفي الأوروبي.
ومن هذه الفرضية، قدم «نيتشه» رؤيته لوضعية الأخلاق وفقاً له، فعد أن هناك نوعين من الأخلاق خلال الألفيتين: «أخلاق السادة» و«أخلاق العبيد».
فمن خلال الأولى تصنع أنماط الأخلاق المرتبطة بالطبقات الحاكمة أو المسيطرة التي تقدر القوة والجمال والشجاعة والنجاح... إلخ، والتي تكون لديها ما سماه «الرغبة في السلطة» التي تعد بالنسبة له المحرك الأساسي لطبقة من البشر، بكل ما تعنيه كلمة سلطة من مال ونفوذ... إلخ، فهم صُناع أنماط الحياة التي يفرضونها على باقي المجتمع، بما في ذلك المفاهيم الأخلاقية.
أما «أخلاقيات العبيد» فترتكز إلى مجموعة قيمية أخرى مرتبطة بالطيبة والتعاطف، وتكريس مفاهيم الحب والتواضع والتسامح والخنوع... إلخ، وقد ساهمت المسيحية في انتشار هذه المنظومة القيمية، مقابل منظومة القيم الأخلاقية للسادة، ولكن الأخطر كان منحها العامة ما كان ضرورياً لقبول قيم السادة، حتى إن اختلفت عن قيمها، على اعتبار أن الجائزة الكبرى ليست في هذه الدنيا، وهو ما دفعه للتحقير من شأنها، مبرراً الفكرة الماركسية بأن «الدين أفيون الشعوب» الذي استخدمته الطبقات الحاكمة لفرض الطاعة لها، ولمنظومتها السلطوية والأخلاقية.
وبناءً على هذا الفكر، رأي «نيتشه» أهمية أن يهتم المرء بضرورة اتباع ما سماه «التكرار الأبدي»؛ أي أن يتأقلم المرء على الحياة التي يعيشها حتى يجعلها تستحق الحياة مهما كانت صعبة، فيستمتع بأكثر ما يمكن أن تقدمه له.
ويرى «نيتشه» أن القيم أو الأخلاق هي أصعب ما يمكن للمرء أو المجتمع تغييره لأنها قوية الركيزة عميقة الجذور، وهي أكثر العوامل تأثيراً على سلوك البشر، وتحتاج لفترات زمنية كبيرة حتى تترسخ، ومن ثم صعوبة اقتلاعها، ومن هنا كانت دعوته الشهيرة لإعادة تقييم قيمنا القائمة، وصناعة نمط جديد مرتبط بالإنسان وتاريخه وكينونته، واضعاً عبارته الشهيرة «إن الإنسان يجب أن يتغلب على الإنسان» بالدخول في آفاق قيمية أرحب مما هي لدينا، بما يجعله وفقاً لوصفه «الرجل الخارق» (Oubbermench)؛ أي أن الإنسان بحاجة إلى تطوير قيمه المجردة المستندة إلى تاريخه وسلوكياته، وليس بالأنماط السابقة.
ولا خلاف على أن «نيتشه» كان أثره كبيراً على أجيال من المفكرين الذين تلوه، ولكن التقدير أنه وقع في الخطأ نفسه الذي يقع فيه كثير من الغربيين اليوم في سعيهم لصياغة المطلق على تجربتهم التاريخية والقيمية المجردة، فرفضه لأي دور للدين المسيحي في التطور التاريخي الأوروبي إنما أفقد فكره قدراً كبيراً من الشمولية المطلوبة، فلا خلاف على أن القيم الأخلاقية مسألة تراكمية على مر الزمن، تؤثر فيها عوامل كثيرة، منها السلطة والأبعاد الميتافيزيقية، خاصة أن التاريخ بقدم لنا نماذج لعظماء قوم ساهموا في صناعة ما وصفه بـ«أخلاقيات العبيد»، وعلى رأسهم الإمبراطور الروماني «ماركوس أوريليوس»، النموذج العملي والفكري للروائية الذي اتبع ما وصفه «نيتشه» بـ«أخلاقيات العبيد» وهو إمبراطور، تماماً مثل الخليفة عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز، وغيرهما.
الحقيقة أن فكر «نيتشه» يحتاج منا إلى قدر من الحيطة والحذر والتفكر في آن، فالإنسان ليس في صراع مع تاريخه وعوامل صناعته بهدف التجرد منها حتى يصبح «الرجل الخارق» وفقاً له، ولكنه بحاجة إلى التصالح والتفاهم مع تاريخه بعين على الماضي وعين وعقل على المستقبل لتنظيم إحداثياته الإنسانية في مسيرته، خاصة المتعلقة بالأخلاق ومفاهيمها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق