لعبت الأديان تاريخًا -ولا تزال- أدوارًا مهمة فى حياة الإنسان، سواء أكانت أديانًا وضعية، أم أديانًا سماوية؛ لأنها ساهمت فى تلبية الجوانب والاحتياجات الروحية فى النفس الإنسانية، وفى الإجابة عن أسئلة الوجود والعدم، وفى الحث على عمل الخير، والمحبة، ومناهضة الشر
ساهمت الشروح والتأويلات الدينية وتراكماتها فى حركية بعض الأديان، واستمراريتها عبر الزمن، وفى الوقت ذاته فى إنتاج
وإعادة إنتاج السلطات الدينية التى لعبت أدوارًا بارزة فى الضبط الاجتماعى، والهيمنة الرمزية على حركة جماعات المؤمنين بهذه الديانة أو تلك،
فى ظل تراكمات البُنى الشارحة للدين، حاولت هذه السلطات أن تضفى غلالة من القداسة حول موروثها التفسيرى والتأويلى، ومع مرور الزمن حدث بعض من الاندماج النسبى بين غالب هذه السلطات الدينية، وبين الدين ذاته
الدور المحورى للأديان وسلطاتها الدينية فى السيطرة الرمزية، وقدراتها على التعبئة والحشد لم يكن بعيدًا عن السلطات السياسية -أيا كان شكلها وزمانها ومكانها- التى استخدمت الديانات ومعها سلطاتها الدينية فى السيطرة السياسية على المحكومين وإخضاعهم للحكام، ومعهم رجال الدين فى غالب الأحوال، ومن ثم
كانت تبعية السلطات الدينية إلى الحكم والحاكم أساسية
لا شك أن هذا الميراث التاريخى الطويل والممتد لا يزال مؤثرًا على الرغم من أن تطورات سياسية، وثقافية، واجتماعية، واقتصادية كبرى ونوعية، أدت إلى بعض التحولات فى بعض الأديان كالمسيحية، فى ظل إصلاح مارتن لوثر وكليفن والبروتستانتية، والتى أدت إلى المساهمة فى التفاعلات التى أدت إلى حركية الرأسمالية الأوروبية والغربية، واستطاعت تحرير الإنسان المسيحى الغربى من سطوة تأثير المؤسسة الدينية المسيحية الكاثوليكية، بل ويمكن القول إن البروتستانتية والأنظمة الماركسية ساهموا -ضمن أسباب أخرى- فى تحريك الرؤى اللاهوتية الكاثوليكية،
تظل المؤسسات الدينية ذات تأثير كبير فى أنماط التدين التى تشيع كجزء من السلوك الاجتماعى للمؤمنين بهذه الديانة أو تلك، وعندما تجدد المؤسسة من الفكر الدينى المسيطر عليها، وتستجيب لظروف وسياقات، وضرورات وأسئلة عصرها، تعيد تجديد ذاتها، وذلك على الرغم من التحديات الدينية والمذهبية فى عالمنا، والمنافسات الضارية بين الأديان الكبرى والمذاهب فى السوق الدينى الكونى. أحد أهم التحديات التى تواجه المؤسسات الدينية عمومًا، هى مدى قدرتها على التجاوب مع أسئلة عصرنا، لاسيما فى ظل السيولة وعمليات التشكل وإعادة التشكل المتغيرة، فى سياقات الثورة الصناعية الرابعة وتغيراتها، والذكاء الصناعى الذى سيدخل فى مناطق لم تكن جزءًا من اهتمامات الأبنية اللاهوتية أو الفقهية وإجاباتها عن الأسئلة التى طرحت فى عصورها التأسيسية الأولى، أو تطوراتها الداخلية وتفاعلاتها مع تحولات الأزمنة.
الإسلام العظيم لا توجد وساطات أو سلطات أو مؤسسات دينية تلعب دور الوساطة بين المسلم ورب العزة جل جلاله وعلت قدرته وشأنه، وإنما العلاقة مباشرة بين المؤمن المسلم وبارئه وخالقه سبحانه، ومن ثم حرر الإنسان المسلم من قيود أى سلطة دينية، إلا أن التطور التاريخى أدى إلى ظهور أدوار دينية لرجال الفقه والتفسير والتأويل والإفتاء، وقام هؤلاء بأدوار مهمة فى تأصيل المفاهيم الدينية وشرح النظام العقدى والطقوسى للدين، وكانت المذاهب الإسلامية استجابة لظروف وسياقات نشأتها التاريخية، وأثرت طبيعة الحكم أو السلطان السياسى السائد على حركة الفكر الدينى، وتعرض بعض الفقهاء إلى عسف وعنت الاستبداد السياسى، وقاوموا السلطات المستبدة فى شجاعة نادرة، وبعضهم الآخر ساير السلطان السياسى، ولعبوا أدوارًا فى تبرير وتسويغ وشرعنة بعض اتجاهاته ومصالحه.
الإنتاج الفقهى والتفسيرى والتأويلى الوضعى، هو إنتاج عقلى وفكرى بشرى حول الدين الإسلامى، ومن ثم لا يكتسب قداسة الأصول الدينية السماوية المتعالية والمنزهة، ومن ثم يخضع للبحث التاريخى، فى نشأته وتأسيسه وعلاقاته وظروفه وأسئلة عصره، ومن ثم هى اجتهادات إنسانية لا قداسة لها، على الرغم من احترامها وتقديرها الواجب، لكن البحث التاريخى فى الفقه والتأويل والتفسير الوضعى، يساهم فى الحث على تطوير الدراسات الإسلامية فى عديد فروعها ويعمل على إضفاء حركية تاريخية على الفكر الإسلامى.
الدراسات التاريخية حول نظم الأفكار الفقهية والتأويلية، تساهم فى الكشف عن العلاقات بين بعض الفقهاء وبين السلطات السياسية الحاكمة تاريخيًّا، وأهدافها ومصالحها، ويساعد على تحرير العقل الإسلامى من سطوة السياسة وأهدافها فى توظيف بنُى من التأويلات الدينية لصالحها فى تسويغ الهيمنة والقمع، والمساهمة فى تحريك العقل النقلى، وتجديد العقل الفقهى الإسلامى، فى تطوير وإنتاج نظريات فقهية ومقاربات جديدة تواجه التطورات الكبرى التى تتم فى عصرنا، والأسئلة التى تطرحها على الإنسان المسلم.
الحاجة الموضوعية للتجديد فى الفكر الدينى، تتطلب تطور الدراسات التكوينية لرجال الدين، وذلك لاستيعاب التعقيدات والتطورات العلمية فى العلوم الطبيعية والتكنولوجية لعصرنا المتغير، وفى الوقت ذاته التغيرات الكبرى فى العلوم الاجتماعية، فى الفلسفة، والتاريخ، والقانون، والدراسات اللغوية التى شهدت نقلة نوعية، وأثرت على غيرها من العلوم الاجتماعية.
إن تكوين دارس العلوم الدينية الإسلامية، لابد أن يشمل بعض هذه العلوم وذلك للمساعدة على تكوين عقلى قادر على تقديم اجتهادات جديدة تستجيب لمشكلات المسلم المعاصر. لا شك أن تطوير السياسة التعليمية الدينية فى الأزهر ستساهم فى تجديد الفكر الإسلامى، وهو ما يحتاج إلى إصلاح المجال السياسى من خلال الإقرار بالحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان، وذلك لاستكمال عمليات الإصلاح فى الفكر الدينى الإسلامى التى بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر، وحتى أوائل النصف الثانى من القرن العشرين، والتى برزت فيها اجتهادات الإمام محمد عبده، والكواكبى، والمشايخ خليفة المنياوى وعلي ومصطفى عبدالرازق، والإمام الأكبر مصطفى المراغى، وعبدالمتعال الصعيدى، والإمام الأكبر محمود شلتوت، ومحمد عبدالله دراز، والشيخ محمود بخيت، والشرباصى، وآخرين، حيث أدت المرحلة شبه الليبرالية وفوائضها التاريخية إلى بروز مشايخ مجتهدين حاولوا أن يقدموا اجتهادات تستجيب لتغيرات وظروف عصرهم.
لا شك أن الحاجة إلى الاجتهاد العقلى، تؤدى إلى تجديد الفكر الدينى الإسلامى، وتساهم فى إيجاد التوازن بين الإنسان المسلم، وبين عصره ومجتمعه وعالمه، لاسيما فى ظل التحولات الكبرى فى الحياة الإنسانية. الاجتهاد ضرورة حياة، وذلك دون شطط أو غلو فى ظل حرية العقل والتدين والاعتقاد وانفتاح والحياة السياسية والفكرية والبحثية فى ظل الحريات العامة والفردية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق