الفلسفة بين الكونية والخصوصية
لا شك أن الخطاب الفلسفي في جوهره خطاباً كونياً، يخاطب الإنسانية جمعاء لأن موضوعه موضوع شامل كونه مرتبط بحاجات الإنسان (أيّ إنسان)، النظرية والعملية، النظرية مرتبطة بسؤال الميتافيزيقا عن أصل الوجود، والعملية متعلقة بالقيم (أخلاق، جمال، سياسة)، فما يُميز الخطاب الفلسفي أنه خطاب غير منحاز، يُخاطب الإنسان بما هو إنسان، بمعزل عن دينيه أو عرقه أو لونه، ولذلك فكل خطاب فلسفي يحمل هذا الهم هو خطاب كوني.
أما الخصوصية في الخطاب الفلسفي، فمصدرها لغة هذا الخطاب التي تكلم بها الفيلسوف، فلكل لغة بنية اجتماعية وتاريخية ذات طابع خاص، فلا خطاب فلسفي من دون لغة، وهو بالتأكيد يحمل تعقيدات اللغة المكتوب بها وتاريخانيتها، مضافاً لذلك البعد الإصطلاحي للمفهوم الفلسفي تداولياً في لغة الفيلسوف، فقد قال هيدغر من قبل أن "الفلسفة تتكلم اللغة اليونانية". هناك مُحدد آخر للغة هو الحضارة، فليس بإستطاعة الفيلسوف أن يخرج من دائرة الزمن الحضاري الذي قذفه القدر ليكون به وفيه، والحضارة، عمران وأدب وعلم وثقافة، وكل فيلسوف هو إبن عصره، وكل مقومات زمنه الحضاري لا بد أن يكون لها حضوراً فاعلاً في فلسفته. أما المحدد الثالث، فهو القومية على الرغم من كل النقد الموجه للممارسات السياسية ل "القومجية"، ولكن القومية عامل مؤثر في طبيعة الخطاب الفلسفي وإن يكن أقل فاعلية من العاملين السابقين، لكن يجوز لنا أن نضع سمات ذات بعد أو طابع قومي للفلسلفة، فالفلسفة الألمانية لها بعدها القومي في خطاب فخته وكانت وهيدغر، وهذا ينطبق على الفلسفات الأخرى: الإنكليزية بطابعها التجريبي، والفرنسية بفذلكاتها اللغوية ونخروجها عن نمطية الأنساق الميتافيزيقية الألمانية، والأمريكية بفلسفتها البراجماتية، وحتى الصينية في فلسفة التاو والكونفشيوسية ببعديهما الإنساني الصوفي، واليابانية بفلسفة "الكايزن" أو التحسين المستمر والسير نحو الأفضل، والهندية البوذية واليوغا والفيدا، وحتى الفلسفة العربية الإسلامية في توفيقها بين "الحكمة والشريعة".
لكل فلسفة حقيقية كونيتها وخصوصيتها في الآن ذاته.
*
الدين والسراطات المستقيمة
كل المتذهبين والطائفيين والمتدينيين يدعون أنهم "سفن النجاة"، أو من سماهم سروش "الحصريون" الذين يُقابلهم "التعدديون"
العاطفة سبيل العامة للإيمان
الدنيا ستدور وتدو ويبقى"كل حزب بما لديهم فرحون"، وستبقى "بلورالية" سروش وتعدديته حُلماً من "يوتوبيا" الحالمين، حالها كحال "المدينة الفاضلة" عند إفلاطون والفارابي، فلا الأدلة والبراهين تُثني "الحصريين" وليس بمقدورها كفهم عن نزوعهم الطائفي والمذهبي، ولا دور كبير لتعطيل "البلوارليين" التعدديين، عن حُلمهم، وسيظل منظري كلا الفريقين يعملون ليُغيروا قناعات بُنيت فق مقتضيات الصراع الاجتماعي: الديني والطائفي، الذي نزفت كل طائفة أو دين دماءً لتثبيت الإيمان بمعتقداتها، وإن غيّر البعض جزءً أو كل قناعاته العقائدية والفكرية التي حكمتها آيديولوجيا الصراع، فلا يُغير ذلك من الأمر شيئاً، وإن حلفت للمؤَدلجين بكل الرسل والأنبياء بأن سراطات الحقيقة ليست واحدة وإن نظّرت وإستخدمت منطق أرسطو أو منطق الإستقراء البيكوني أو منطق النقائض الهيجلي، فلن تجد مُجيباً، وإن وجدت فلن تجد منهم سوى آحاداً، لأن التربية الاجتماعية الدينية بطابعها التسليمي الإيماني غرست وزرعت وحصدت وستجني ثمار غرسها وزرعها وستحصد ما غرست دماء شبابها أُضحية لركوب "سفينة النجاة".
فلا يوجد تأثير إلا قليلاً للتربية النقدية في التعليل والتحليل دراسة ودراية، وليس بمستطاع الجميع سوى القلة الجمع بين "النقل والعقل" على مستوى الدراسة والدراية وشحذ همم العقل لرفض تواتر الحكاية وثُقاة آحادها ونقض أقوال القائلين بها، وليس بإستطاعة مفكر تغيير معتقد جماعة وإقناعها برفض أو حتى نقدٍ لفكرة "النجاة" وركوب سفينتها، فمن تعلق بها وركبها فقد نجى ومن تركها فاليأمل بكرم الله المُرتجى. وعند الشيعة حديثٌ شريفٌ: "أن أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك وهوى"، فتعدد الفهم للنص الديني لا يعني القبول بالتعددية الدينية كما يعتقد بذلك سروش، فالنص القرآني بإعتقاد "الحصريين" ليس صامتاً كما يُصرح بذلك سروش، وتعددية تفسيره عند المُغايرين لا يعني أن حقيقته وصدقيته عند المذهبيين مفقودة لأن خلوده مُتحقق عند الجماعة الذين بنوا رؤيتهم للنص وفق قابليته للتفسير الأحادي، فهو عند الشيعة يُفسره المعصومون الذي منحهم الله هبةً هي إدراك ظاهر النص وباطنه. والنص عند "الجماعة" هو الحكم، "فلا حُكم إلا لله"، وكلا الفريقان من "الحصريين" الطائفيين يدعي معرفة ودراية بعلم التفسير وأسباب التنزيل، وطُرق التأويل.
لم أجد في كتابات سروش سوى أحلاماً "يوتوبية" لا يغيب عنها ولا يُغيب البُعد الصوفي الحالم والتجربة القلبية على وفق ما أطلق عليه المتصوفة "وحي القلب" أو "الكشف" الصوفي
فهو مرةً يقول "الحقيقة واحدة، ولكن هؤلاء الأنبياء ينظرون إليها من ثلاث زاويا"، و "لهذا قدموا لنا ثلاثة أديان"، وكأن ما قدمه الأنبياء فهماً بشرياً للحقية الإلهية وهذا الفهم يتعدد بتعدد الفهم البشري، مُستشهداً بقول المولوي:
إن صوت الناي ينفخ فيه العازف.
إنما يخرج الصوت بمقدار الناي لا بمقدار العازف.
والواضح أن الناي هو مُعجزة النبي، (القرآن)، والعازف هو النبي، مُبلغ الوحي، فسيكون مقدار الأثر والتأير للمعجزة وليس للنبي
"الحصريين" سيُحافظون على حصريتهم، سنة كانوا أم شيعة، وليس بإستطاعة الفكر الحر تغيير مُعتقداتهم، ولا أجد في عمل المثقف النقدي هماً وإنهماماً وفق المصطلح الفوكوي لتغيير مُعتقد المُعتقِد، إنما الهم والإنهمام مُنصب على إقناع المُعتقِد بمصداقية مُعتقده بأن هناك آخراً مُختلف، فتقبل حقه في المُغايرة والإختلاف.
كتاب شيخ الازهر المتصوف
فلا يوجد برأينا "صراطات مُستقيمة"، ولكن توجد تأويلات مُتنوعة لفهم النص الديني المُقدس تفرضها معطيات الواقع السياسي والبيئي والاقتصادي والثقافي، وأؤكد على الثقافي، لأن فهم النص وتفسيره وتأويله مرتبط بمقدار ثقافة الفرئ أو المُتلقي، فإن كانت نشأته الثقافية والاجتماعية نشأةً فيها كثير من منتجات الوعي النقدي، فلا بد لمثل هكذا عقل وفق مواصفات التنشئة الثقافية والاجتماعية الحرة أن يكون عقلاً فاعلاً مؤنسناً.
*
تداخل الدين والعلم والفلسفة والآيديولوجيا
كل حزب بما لديهم فرحون"، فللدين أحزاب وللعلم أحزاب وللفلسفة في بعض صراعاتها مع الدين أو العلم نزوع نحو التحزب. والآيديولوجيا هي العامل المشترك والمحرك لعوامل الصراع بين الجميع، فللدين بكل تمظهراته نزوع نحو الآيديولوجيا، وللعلم آيديولجيته الخاصة، ولم تستطع الفلسفة على الرغم من نزوعها الأنسني والعقلاني الخلاص من هيمنة الآيديولوجيا وسطوتها.
الآيديولوجيا هي الحصان الرابح في خضم الصراع بين العلم والدين، وبين الفلسفة والدين، أو بين العلم والفلسفة وحتى بين العلم وتحولاته. فالنفس الإنسانية تهوى التدين كما يؤكد علماء الاجتماع، فإن لم تجد لها ديناً في السماء أوجدته في الأرض، وكما يبدو لنا اليوم ومن قبل أن النزوع الديني لدى الإنسان سجية وفطرة، ولا مشكل في ذلك، ولكن المشكل الحقيقي ليس في الدين أو التدين حينما يكون حاجة مُلحة ومصيرية تستشعرأهميته بعض الشعوب أو كثير وتعتقد بأنه حاجة اجتماعية وحياتية مُلحة تُلبي بعض مُتطلبات النفس البشرية الطامحة للإستمرار والخلود في الدنيا أو في الآخرة.
لكن اللامبرر واللامقبول عند دعاة التفكير الديني هو إعتقادهم الجازم بأن العلم كله، طبيعي "فيزيقي" و ما وارئي "ميتافيزيقي" هو من ممكنات التفسير الديني، وأن في الدين إجابة نهائية وتفسير يقيني لكل خلجات النفس الإنسانية وإضطراباتها العقلية والنفسية والعلمية.
والأدهى من ذلك هو حينما يجعل دُعاة النص الديني "المُقدس" من رؤاهم دستوراً للحياة، علمية كانت أم سياسية أو أخلاقية، متناسين أن المَهمة الرئيسة للدين هي مَهمة أخلاقية طِبقاً لقول النبي الأكرم "إنما جئت لأُتممَ مكارم الأخلاق". ولذا فإني أرى أن المشكل الأساسي ليس في تدين الناس ولا حتى في التعبير الطقوسي المُفرِط لإظهار أو الظهور بالتقمص الجسدي طقوسياً تارة، أو بالتعبير الخطابي تارة ثانية أو في كلاهما معاً تارة أخرى. على ما في طرق التعبير هذه من تقزيم للآخر (الموطن) المغاير لنا في الدين والملة والمُعتقد، وإن كان يعتقد المُتبنون لهذه الرؤى أن أشكال التعبير الطقوسي والشعائري للمعُتقد الديني إنما هي شكل من أشكال التعبير عن حرية الرأي والفكر، وعلى الرغم مما في طرق التعبير هذه عن الولاء من إقصاء وتهميش، إلا أنني أجد أن هذا ليس المشكل الوحيد، بل المشكل الأساس كما أعتقد كامن ويكمن خلف طُرق التعبير هذه والمسكوت عنه فيها، وهو الإعلان ضمناً وربما صراحة عن أن طرق التعبير الولائي هذه عن الإنتماء لهذا المقدس، إنما هي رسالة صريحة أو ضمنية لكل مُغاير أو مُعارض أو مُعترض على الكيفية التي تتم بها عملية التعبير الطقوسي على أنه خارج عن الملة، وما إعتراضه على قاعدة (سوء الظن) في هذا المُغاير حتى وإن أظهر بعض تقبل، ولا يُشكل مُعتقد بأفضل حالات التسامح والقبول به كشريك سوى النظر لإعتقاداته على أنها سوء تقدير منه وتفريط بالحق الذي "لا مجمجة فيه"، وأن كل مختلف أو مُخالف إن لم يكن في خانة المُلحدين، فإنه حتماً سيكون في خانة المُعاندين. وهنا أصل المشكل الحقيقي، فليس المشكل في تدين الناس وقناعاتها المذهبية والأثنية، بل المشكل في تصور (جماعات الضغط) هذه أن متبنياتهم هي "السراط المستقيم"، وحين ذاك سيتحول الدين من حاجة إنسانية طبيعية إلى آيديولوجيا ضاغطة، تُقسر الجماعات المغايرة والمختلفة "الشريك الوطني" على التماهي مع رؤية (جماعات الضغط)هذه.
كثير من العلماء والفلاسفة قد وثقوا بالعقل الإنساني وقدرته على الإحابة عن جميع ما يعترضنا في دنيا الواقع، إلا أن جل هؤلاء قد وقعوا أسارى آيديولوجيا العلم نفسه، ولم يستطيعوا إيجاد جواب عن سؤال سبب الوجود أو معناه، فأجاب الوضعيون المناطقة بجواب اللاجواب عن سؤال الأصل (الوجود) وسببه.
كلام لا معنى له ومحض هُراء
ولكن هذا السؤال باق والوضعيون المناطقة مضوا.
المشكل الحقيقي في العلم الفيزيقي حينما يكون أداة بيد الدول الأقوى لتهديد الدول الفقيرة والتلويح ب "الفيتو" لكل قرار يخدم الدول المغلوبة، فمن حق إسرائيل المُتصهينة إمتلاك النووي وإغتصاب أراضي الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم وإنشائهم المستوطنات على أرض فلسطين المُغتصبة، وكل العالم الغربي المُتقدم علمياً وسياسياً ساكت وصامت. ولا حق لدول الممانعة والرفض للسياسة الشايلوكية الروبسن كروزية الإعتراض والرفض أو في السعي لإمتلاكها السلاح النووي أو الذري. هنا يكون العلم علمان علم يخدمك وعلم تخدمه، والسياسة الشايلوكية تُريد لك علماً تخدمه لا علماً يخدمك.
ولم تتخلص الفلسفة على الرغم من تبنينا لها والدفاع عن مُتبنياتها العقلانية والأنسانية، من هيمنة الآيديولوجيا وقناعة أغلب فلاسفتها بأنهم أدركوا اليقين المعرفي ووصلوا للحقيقة. إلا أن اجل الفلسفات لم تستطع الخلاص من سطوة هذه الآيديولوجيا، فهناك فلسفة تأملية مُغرقة في المثالية يدعي أصحابها أن هذا العالم الذي نعيش فيه ما هو إلا عالم زائف وخلاصنا يكمن في مُفارقتنا له، إنهم يعيش في "أبراج عاجية" ينظرون للحقائق وفقاً لرغاباتهم وأهوائهم في تكوين مجتمع مثالي لا كون له في دنيا الواقع وليس بإستطاعته التواصل مع حركيته وديناميكيته.
ولم تكن الفلسفة المادية ببعيدة عن آثار الآيديولوجيا وسطوتها بعد إقصائها لكل عوامل التغيير الاجتماعي وإصرارها على تفسير مُتغيراته طِبقاً للعامل الاقتصادي (المادي)، ومحاولة تفسير المتغيرات الاجتماعية والحتمية التاريخية لمُقتضيات التغيير على أساس غلبة "البروليتاريا" للرأسماليين، وسيطرتهاعلى وسائل الإنتاج للوصول للمُبتغى في التعايش الشيوعي خارج الهيمنة للطبقة البرجوازية ورأسها الرأسمالي.
ليس المشكل في الدين ولا في العلم أو في الفلسفة، بل فيما نبغي نحن الحالمين (المثقفين) كما ندعي فيما يجب أن يوجد ويتواجد ويفعل فعله في التأثير التكاملي بين قوائم المثلث، الدين والعلم و الفلسفة، حينما نُلغي التداخل بين فروعهما المعرفية، وحينما نُخّلص كل فرع منهما من هيمنة الآيديولوجيا وسطوتها.
*
اليسار واليمين والطريق الثالث
تبنت جماعة اليسار أو دُعاة الإشتراكية فكرة هيمنة الدولة على جميع المؤسسات الإنتاجية، ودعت إلى المساواة الإقتصادية. بينما دعى أصحاب اليمين من الليبراليين إلى "الحرية الفردية" وفتح الأفق أمام العقل الإنساني ليُنتج وليُغير مسارات الحياة على قاعدة "دعه يعمل دعه يمر"، وهذه المقولة فيها إمعان وتأكيد على الفروق الفردية بين بني البشر، وفيها بعض تعارض مع مقولة المساواة.
في حضم هذا الصراع طرح إنطوني جيدنز في كتابه:"الطريق الثالث" معالجته للصراع الدائر بين دُعاة اليسار ودُعاة اليمين، في رؤية تحمل في طياتها جذور مستمدة من الإشتراكية والليبرالية معاً، بما سماه "الديمقراطية الإجتماعية" بوصفها "الطريق الثالث" الذي يُمثل إعادة صياغة برأينا لمفوم الوسط الذهبي عند أرسطو في فلسفته الأخلاقية وهو "وسط بين رذيلتين كلاهما إفراط وتفريط"، وحسب جيدنز، ففي الإشتراكية تفريط بالفردية وبرغبة الإنسان الفطرية والغريزية في تحقيق التميز والفرادة الذاتية على منافسيه من بني البشر. كما في الرأسمالية في طابعها الفرداني تغييب لنزعة الفرد الإجتماعية، لأن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه كما يقول أرسطو.
تغييب الفرد لصالح الجماعة كما يفعل الإشتراكيون، ولا لصالح تغييب الجماعة لصالح الفرد كما يفعل الليبراليون الرأسماليون.، في محاولة منه لتجاوز التقسيم التقليدي للفكر والمجتمع في أن يكون يسارياً أو ليبرالياً.
طرح "جيدنز" مفهوم "الديمقراطية الاجتماعية" في محاولة منه لضبط وإعادة تحديد للحقوق والواجبات بين الفرد والجماعة أو بين الجماعة والفرد، وهذه الحقوق والواجبات تتمحور حول إدراك الجميع لمفهوم "المسؤولية" الذي شكل أُس الفلسفة الوجودية بطابعها الهيدجري والسارتري، فالفرد مسؤول عن إختياره وهو حر فيما يختار، ولكن في إختياره دعوة للتمثل والسير وفقاً لإختيار هذا، لذلك تكون حرية الفرد مُقيدة ولا إفراط فيها لأنها تتبع وعي الفرد بدوره في المجتمع وبالمسؤولية المُلقاة على عاتقه.
وهو كلام عبد المجيد الشرفي 2020
ولم يكن "جيدنز" ببعيد عن هذه الرؤية رغم ما عُرِف عن الوجودية من نزوع فرداني، إلا أننا نجد في إطروحاته بعض أو كثير من رؤى الفلاسفة الوجوديين.
ولم يكن تأثير الفوضويين الإشتراكيين غائباً فيما طرحه "جيدنز" حول مسؤولية الحكومات تجاه بناء الدولة والحرص على حماية الضعفاء وضياع حقوقهم في خضم نزوع الإغنياء للملمة بقايا "فائض القيمة" الذي جمعه الرأسماليون من كد الكادحين و "أولاد الخايبة"، وكان لنا في العراق تبني له عند "جماعة الأهالي" ممثلة بعبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وكامل الجادرجي وجعفر أبو التمن رغم نزوعه الديني في تبنيهم لل "الديمقراطية الشعبية" المُستقاة من ديمقراطية "حزب العمال" البريطاني الذي تأسس وفقاً لآراء "الفابيين" المتمثلة بأطروحات سان سيمون و برنارد شو.
لذلك يطرح "جيدنز" أسساً للديمقراطية الاجتماعية، بما سماه "قيم الطريق الثالث" وأهمها:
- المساواة.
- حماية الضعيف.
- الحرية كإستقلالية.
- لا حقوق من دون مسؤليات.
- لا سلطة من دون ديمقراطية.
- التعددية الكوزموبوليتانية.
- المحافظة كفلسفة.
وكأني أجد "جيدنز" يقترب من رؤية محمد باقر الصدر في كتابيه: "فلسفتنا" و "إقتصادنا" على ما فيما بينهما من تباين وإفتراق
رؤية محمد باقر الصدر مُتبناه الآيديولوجي والعقائدي لل "الطريق الثالث" أو للديمقراطية الاجتماعية"
"الإسلام" ضمانة للحفظ على التوازن بين الحرية الفردية وبين نزوع الإنسان للمساوا الإقتصادية وحماية الضعفاء من ضياع حقوقهم في لظى وحمى وشراهة الرأسماليين.
الصدر في نزعته الدينية ورغبته بحسم الصراع العقائدي عبر الإنحياز لصالح معتقده كما تصوره وتمناه هو، في بعده المثالي لا التاريخاني والواقعي.
بمساعدة مجتمع مدني فعال، يتبنى الدفاع عن إقتصاد مختلط جديد بوسائل تُيتحها الديمقراطية وتسمح بها، ديمقراطية همها الأول والأخير أن تكون سياستها المساواة كإحتواء في ظل دولة إستثمارية لا تغييب فيها ومعالجة للفوارق الاجتماعية لتكون أمة كونية، تعيش ديمقراطية كونية من نوع خاص تختلف عن الديمقراطية الإشتراكية ببعدها الجمعي ولا تلتقي مع الديمقراطية ببعدها الفردي أو الفرداني.
*
تحرير الذات من سطوة الذات نفسها وجبروتها
حينما نعترف بأن الإنسان لا يرى الحقائق كما يراها الله وسله و الأنبياء، لأن فيه من العيوب والنزوات ما يجعل نفسه لوامة تميل بفطرتها وبغريزتها وبطبيعة وجودها للخطأ إن لم نقل أنها تميا للخطيئة والمعصية،
*
إله الفلاسفة والمتصوفة وإله المتدينين "الفقهاء":
الفلسفة يؤدي إلى الإلحاد
وإله الفلاسفة غير مشغول بالمتغير العرضي ولا بالجزئي الزائل، فهو مهندس الكون كما أكد آينشتين ف "الله لا يلعب النرد"، وهو إله الكون الذي يحل فيه ليُصّير للوجود وحدة مع المُوجِد كما ذهب إلى ذلك إبن عربي وإسبينوزا في تصوره لوجهتي الوجود "الطبيعة الطابعة" = "الله" و "الطبيعة المطبوعة" = الوجود، وكلاهما وجهان لعملة واحدة.
أما إله المتصوفة، فهو إله العشق والجمال المتوحد مع موجوداته التي يَحل فيها ليُزيل سنيناً ضوئية من العزل بين العاشق والمعشوق، ليكون هو العاقل والمعقول بلغة ابن رشد لا وفق ما تقتضيه العقلانية الرشدية بطابعها البرهاني، بل بقدر ما تُتيحه بعض مساحات الوجدان والعرفان للخروج من النمط الإستدلالي الفلسفي التجريدي المُستغرِق في الإنبهار بقدرة العقل الإنساني في تجاوز البعد الوجداني.
وبين إله الفلاسفة وإله الصوفية يوجد إله الفقهاء الذي لا يرى في الإله سوى إله طاغية يشبه مديري الأمن في الأنظمة الإستبدادية، لا شغل له ولا شاغل سوى تكميم الأفوه وقطع الألسن التي تتأوه، فتقول آه، لعجزٍ فيها أو ربما لا تقدير عندها لمرامي الإله في الإثابة أو في العقاب. فالله عند هؤلاء دائم الطلب لتنفيذ العبد لرغبابته في خضوع المطيعين له و المستمتعين في كونهم عبيد للخلاص من السادة والإنصياع لأوامر " الله الذي وضع لكل دين أوامرٍ ونهاوٍ في تنفيذ وخضوع المؤمن لمنظومة عبادية غايتها الإلتزام بتطبيق توصيات التشريع الفقهي بطابعه التعبدي الشكلي، الذي يقتضي إلتزام العبد بطاعة المعبود الكامنة ليست في ما ينبغي لنا إيجاده من تجليات الوجود الإلهي في الفكر والعمل وفي التعبير والعِبر، إنما تتجلى عبادة الله عند الفقهاء في الإلتزام بأوقات الصلاة وبإيتاء الزكاة وفي حج بيت الله الحرام، ولم يكن الإيمان بإله الفقهاء من المسلمين، سُنة وشيعة، مرتبط بالإلتزام بالأصول والثوابت المعروفة في الإسلام، إنما تعدى ذلك لأن نكون، سنة وشيعة إتباعيين مُقلدين ببغاويين لمسلك التراثيين في تنميط حياتنا في القول والمأكل والملبس، وكأن الزمن ساكن ولا قبول لتغيّره وتجديده حتى وإن كان في قبول التغيّر والتجديد تأكيداً لفاعلية النص القرآني في التغيير والتجديد في إعادة صياغة العلاقة بين الدين والأخلاق، لا على قاعدة أن الدين مرادفٌ للأخلاق، لتغيب الأخلاقيات المجتمعية لصالح الدين وجعل الأخلاق جزءً من كل ما هو ديني مُقدس يروم دعاته جعل الأخلاق مطوية من مطوياته وتصييرها أُساً لمنظومته العقائدية عبر جعل دعاته ومبشريه رسلاً سماويين لا مناص لمُصدّقيهم من القناعة بأن الدين هو أصل والأخلاق فرع منه، وتناسوا ألّا وجود لدين من غير رؤى أخلاقية قد مهدت لقبوله والقناعة به بوصفه مُكملاً لمرامي الرؤى والسلوكيات الخُلقية تطابقاً مع الحديث النبوي "إنما جئت لأُتمم مكارم الأخلاق"، فالأخلاق موجودة كأصل لوجود المجتمعات، وجاء الدين ليُزيد من أهميتها وحضورها وفاعليتها في الأمة الإسلامية التي أدركت قول الشاعر أحمد شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا".
إله الفلاسفة إله لا يُعاقب الغافلين ولا يُعاقب المجتهدين على قاعدة "أن لكل مجتهد نصيب"، وإله المتصوفة عاشق محب لكل بني البشر، فليس بمقدور المحبوب مُعاقبة الحبيب. ولم يبق سوى إله الفقهاء الذي ديدنه العقاب، ولا سماحة عنده لمخطئ عنه فالويل له لكل من لم يلتوم بخطى الفقيه، فعقابه جهنم والسعير ولا رحمة تُرتجى له لأنه خرج عن توجيهات الفقيه اللبيب الذي أدرك مقاصد النص ومراميه والخروج عن تفسيره وقوع في الحذور وسعي مُضمرٌ عنده للتخريب.