السبت، 12 سبتمبر 2020

سينما تحذر من النيولبرالية ومن الاستهلاك العاطفي

 إحدى السمات المميزة للاقتصادات التي تحولت فجأة إلى النيولبرالية هي التحول من الاقتصاد المادي الذي ينتج منتجات صناعية ومادية حقيقية، إلى ما يسميه سلافوي جيجيك في كتابه “سنة الأحلام الخطيرة” (2012)، “العمل الانفعالي – العاطفي”؛ أي القائم على خدمات الترفيه والتسلية والأنشطة الطفيلية ومضاربات البورصة والتسويق العقاري والإسكان الفاخر والاستثمار السياحي وخدمات الاتصالات والمعلومات… إلخ. هذا التحول الحاد والصادم (والصدمة عنصر أساسي في سياسات النيولبرالية) بدأ في العالم مع تولي مارغريت ثاتشر رئاسة وزراء بريطانيا (مايو 1979)، ورونالد ريغان رئاسة أميركا (يناير 1981).

فمنذ ذلك الحين تم إطلاق يد الرأسمالية العالمية؛ وبدأت عمليات توسيع الخصخصة، ومنح المزيد من الإعفاءات والامتيازات للشركات الكبرى العابرة للقارات، وانسحبت الحكومات من السوق، وتقلصت اعتمادات التأمين الصحي، وتم تحجيم نفوذ النقابات العمالية، وزادت الضرائب على الطبقة الوسطى، وتم تخفيضها عن الشركات الكبرى، وانتهجت سياسات مالية واقتصادية لا تعير اهتماماً لطحن الطبقات الوسطى والفقيرة.

وكانت النتيجة هي عملية مستمرة من التدهور الطبقي الذي أخذ في الاتساع يوماً بعد يوم، فاتسعت الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء، وبرزت سياسات اقتصادية وإدارية تسمح للأغنياء بأن يزدادوا غنى، وتدفع الطبقة الوسطى والفقراء نحو المزيد من الفقر.

مما أجبر النخب المهنية للطبقة الوسطى على الهجرة إلى الخارج بحثاً عن الخلاص الفردي؛ كحال شاكر في فيلم “عودة مواطن”، وخالد (نبيل الحلفاوي) والد الطفلة ناهد الذي هاجر إلى الكويت في “سوبرماركت” (1990)، وابن المدرس عبدالعظيم في “فارس المدينة” (1991)، في حين انغمس من تبقى منهم في الدوامة المعيشية لتوفير الاحتياجات الضرورية والصراع من أجل البقاء، كحال باقي شخصيات أفلام محمد خان.

بينما يصبح يحيى (خالد أبوالنجا) بطل فيلم “في شقة مصر الجديدة” (2007) سمساراً في البورصة؛ كصدى للتغير الحاد في مجتمع مصر الجديدة. لقد باتت هذه هي المهن التي تسمح بالأمان المالي والترقي الطبقي. ولا يفوت خان هنا أن يُظهر يحيى كسليل تافه لفوارسه في “طائر على الطريق” (1981)، و”الحرّيف” (1983)، و”فارس المدينة”.

عودة مواطن” هو من الأفلام الأولى في تاريخ السينما العالمية التي ترصد بوعي عميق التحولات في المجتمعات الاشتراكية التي انتقلت إلى اقتصاد السوق الحرّ، وأثر تلك التحولات على الطبقة الوسطى. وينتبه في وقت مبكر جداً إلى الآثار التي سترصدها بعد ذلك بعقد كامل السينما في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية (وهي الدول التي خضعت لشروط النيولبرالية وصندوق النقد الدولى، كحال مصر). وهو ما نرى صداه القويّ مثلاً في الفيلم الروائي للمخرج الروماني ناي كارانفيل (Nae Caranfil) “المؤسسة الخيرية” Filantropica) 2002)، والذي تبدأ افتتاحيته باللوحة الاستهلالية التالية: “في رومانيا الآن، هناك طبقة صغيرة من فاحشي الثراء، وطبقة صغيرة من المعدمين، وبينهما عدد كبير جداً من الشحاذين كان يُطلق عليهم في ما مضى: الطبقة الوسطى”. من اللافت أيضاً أن خان يصنع فيلماً سابقا لهذا الفيلم بعشر سنوات؛ هو”فارس المدينة”، وفيه إشارات بينة للخراب الذي لحق بالطبقة الوسطى. إن أستاذ التاريخ في الفيلم (عبد العظيم: حسن حسني) هو شحاذ ينصب على الأغنياء، كحال بطل فيلم “المؤسسة الخيرية”، الذي هو نفسه أيضاً مدرس ثانوي ينصب ويحتال على الأغنياء ليوفر لقمة عيشه.

“سلوك المستهلك المتطلع وغير القادر مادياً”. فالعصر الانفتاحي الجديد قد فتح الشهية للاستهلاك المفرط والإنفاق المتهور، وأصبح إنسان الطبقة الوسطى محاطاً من كل جانب، وفي كل وقت، بالضغوط الثقافية والسلوكية والاجتماعية التي تدفعه دفعاً نحو الإنفاق المتهور، وهو عاجز في الوقت نفسه عن تلبية تلك الرغبات؛ لتدنّي الأجور، والغلاء، والبطالة المتفشية، وأزمات الإسكان والغذاء.

 تدهور المصنع الذي يمثل أفول العمل المادي في مقابل صعود العمل الانفعالي والترفيهي، وتفسخ الرابطة الأسرية في “عودة مواطن”، وتدهور مكانة العمل الزراعي، والضغوط المادية على الطبقة الوسطى في “خرج ولم يعد” (1984)، والثقافة الاستهلاكية، وتسليع الإنسان في “سوبرماركت”، وما أدى إليه انسحاب الدولة من السوق من فساد وخراب عام في المجتمع كله في “فارس المدينة”، كل تلك المظاهر

إن الهدف المسيطر على فارس هو جمع المال، ولكن ليس بدافع الجشع أو زيادة الثروة الشخصية، بل بدافع مضاد لطبيعة رأس المال الذي لا يعبد إلا الربح. إن فارس وهو يسعى لجمع المال تسديداً لديونه ووفاءً لكلمته -بعد الخراب الذي لحق بمصر في عملية النصب التي قامت بها شركات توظيف الأموال الإسلامية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي- يبدو كما لو كان شخصية من المجتمعات البدائية التي تتحرّك بدوافع الشرف والفخر والكرامة والوهب.

إنها أخلاق البطولة التي تجلب الاحترام، ويُبنى عليها التماسك الاجتماعي. ولذلك يبدو فارس شخصية أسطورية، بالرغم من معرفتنا بمصدر ثرائه الذي تراكم بطرق غير مشروعة.

فقد ترافق مع الانفتاح والاقتصاد الهش الذي يعطي الأولوية للقطاعات الخدمية والاستهلاكية، تفشي القيم الطفيلية في المجتمع. واتخذت الأنشطة الطفيلية صوراً عديدة مثل: استغلال السلطة والنفوذ الإداري والارتشاء والعمولات والتواطؤ مع مصالح القطاع الخاص على حساب مصالح القطاع العام والمضاربات في الأراضي والعقارات والعملات الأجنبية والاتجار في السوق السوداء والتهريب والاستيلاء على أموال الدولة وأراضيها. وكانت لهذه الظواهر تأثيرات بالغة الخطورة على النظام القيمي للطبقة الوسطى، لأنها أدت إلى شيوع روح “الفهلوة”، وفقدان الإيمان بالعلاقة بين العمل والكسب. ممّا أدى إلى عواقب وخيمة على النظامين الاقتصادي والإداري في مصر؛ لأنه أدى إلى انهيار مبدأ ربط الأجر بالجهد، والعزوف عن العمل المادي الحقيقي المنتج (والذي هو أساس التنمية الحقيقية) لصالح الأنشطة الطفيلية والخدمية والمضاربات.

وفي ظل مجتمع السوبرماركت، يحرص رأس المال على طمس وعي الناس، ليس فقط بالشروط الاجتماعية للعمل (أي الاستغلال)، بل أيضاً بالشروط التقنية والفنية للمنتجات السيئة، والتي يجد أن متطلبات إنتاجها بنوعية جيدة أكثر كلفة. فنجد تماثلاً، على سبيل المثال، بين رداءة السلع الغذائية وبين انحدار “السلع الفنية” وتدهورها.

إن النصائح الثلاث التي يقدمها الدكتور عزمي لرمزي في دروسه عن كيف يصبح المرء مليونيراً هي: ضربة حظ + التنازل الأخلاقي + الاحتكار. هذه النصائح هي صدى لصيحات رأس المال المتحكم في مجتمع السوبرماركت. لقد أصبحت سلعاً أساسية كمواد التموين والحديد والأسمنت والسماد محتكرة في أيدي قلة من كبار المستوردين ورجال الأعمال الجدد من أمثال الدكتور عزمي. فإذا أضفنا إلى ذلك انسحاب الدولة من السوق واستقالتها من وظيفتها التنموية وبيع مصانع وشركات القطاع العام، أدى ذلك، لا فقط إلى تمزيق الطبقة الوسطى، بل إلى الخراب العام الذي ينتصب فوقه “فارس المدينة” شامخاً كشاهد عليه.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق