الاثنين، 14 سبتمبر 2020

المحتوى الدينى المقدم عبر الفضائيات العربية

  يفجر جدلاً كبيراً، خصوصاً بعدما بات أكثر انخراطاً فى القضايا السياسية، وأكثر رغبة فى توسيع نطاق الدور الذى يلعبه التصور الدينى على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والفنية.

لا يكاد يمر يوم إلا والفضاء العربى يشهد مخالفة صارخة تأتى عبر إحدى «القنوات الدينية»؛ فمرة ترد فتوى صادمة منتزعة من سياق مهجور عبر إحدى الفضائيات لتعيدنا قروناً إلى الوراء، ومرة ثانية تؤجج تصريحات يدلى بها «عالم دين» نار فتنة طائفية، ومرة ثالثة يُغرق أحد البرامج مشاهديه فى عوالم الدجل والشعوذة، ومرة رابعة يستغل مقدم أحد البرامج الدينية حادثاً سياسياً أو اجتماعياً، ليتخذ موقفاً حاسماً إزاءه، وادعاء تأسيس هذا الموقف على أدلة قطعية من المعلوم من الدين بالضرورة. ليست تلك بالطبع جميع المخالفات التى يمكن أن تصدر عن القنوات الدينية الناطقة بالعربية أو عن البرامج التى تقدم محتوى دينياً على الفضائيات؛ إذ يهيمن الفقر الإنتاجى على معظم تلك الفضائيات والبرامج، وينحسر الخيال الإبداعى للقائمين عليها، فلا يدركون أن ثمة أكثر من عشرين نمطاً لتقديم عمل تليفزيونى ذى إسناد دينى مبدع، ويحصرون كافة تلك الأنماط فى نمط واحد تقريباً، لا يخرج عن «واعظ أو عالم أو داعية» يتحدث إلى الجمهور من جانب واحد، أو محاور «مستسلم» تماماً يجرى حواراً مع أحد العلماء. لا ينطوى العالم العربى على حالة فريدة أو مستعصية فيما يتعلق بتنوعه الدينى والمذهبى، بل على العكس تماماً؛ فثمة درجة مقبولة من التجانس الدينى والطائفى والإثنى يتمتع بها، بما يضعه بين المجتمعات الأقل قابلية للتفتت نظرياً، إذا ما تمت مقارنته بغيره من المجتمعات الأكثر محدودية جغرافياً والمكتظة بخليط متنافر من أديان وطوائف متعددة يجمعها التناقض والإقصاء. لكن الحالة السياسية التى يعيشها العالم العربى، وتردى الاقتصاد، والتراجع العلمى والثقافى، وبعض مروجى الفتن من أصحاب المصلحة فى إنهاك المجتمع العربى وصرفه عن قضاياه الرئيسية، كلها عوامل زادت قابلية الجمهور للانقياد إلى بعض الممارسات الخاطئة التى ترد عبر الإعلام الدينى الفضائى. لقد دفعت الانتقادات المتزايدة لأداء بعض القنوات ذات الإسناد الدينى، خصوصاً بعد ظهور آثار واضحة لتجاوزاتها، إلى ظهور بعض الدعوات بإغلاق أو تقييد أو الحد أو الرقابة المباشرة على أداء هذا النوع من القنوات فى بعض بلدان المنطقة. والواقع أنه لا يصح التسامح مع مثل تلك الدعوات؛ فالشعوب العربية شعوب معروفة بالتدين بالأساس، وهى تجل الدين وتقدسه وتضعه فى أفضل المراتب، وتستمد منه معظم الإشراقات التى تتحلى بها فى نسقها القيمى وبنائها الأخلاقى. لا يجوز أن يطالب أحد بمنع أو تقييد أو الحد من المحتوى الدينى المقدم عبر الفضاء، خصوصاً أن هذا المحتوى ليس بالكثافة التى يعتقدها البعض. هناك أكثر من 150 قناة فضائية ناطقة بالعربية دينية أو يهيمن المحتوى الدينى على معظم أجندة البث بها، لكن مع هذا فإن القنوات الدينية تأتى فى المرتبة الرابعة بين أنماط المحتوى الأخرى. لا تحتل القنوات الدينية رأس أجندة أولويات الجمهور العربى، ولا تمثل الوجهة الأولى لصانعى الفضائيات، ولا تظهر بكثافة لافتة بين أنماط المحتوى الأخرى، لذلك فليس هناك أى مبرر للحديث عن تقييد من أى نوع لإطلاق مثل تلك الفضائيات، خصوصاً أن مجتمعات غربية أخرى تعرف درجة كبيرة من النزوع المادى تشهد نسب مشاهدة وبث لمحتوى دينى مقاربة لما يحدث فى العالم العربى. لكن الإشكال الأكبر فيما يتعلق بمنظومة القنوات الدينية الناطقة بالعربية يتعلق بنوع الإسناد الدينى الذى يقف وراءها. فثمة قنوات سلفية تهتم بالترويج لقيم السلف وإعلاء شأنها، لكن قنوات سلفية أخرى تجعل الهجوم على الشيعة هدفها الرئيسى. وهناك قنوات شيعية تركز على تقديم الفتاوى أو استعراض سير المراجع، لكن قنوات شيعية أخرى تنال من كرامة الرموز السنية وتجعل من السلفيين هدفاً لهجماتها المتلاحقة. الأمر يتكرر أيضاً من خلال بعض القنوات المسيحية، خصوصاً تلك التى تبث من خارج المنطقة، والتى تهين المسلمين وتشكك فى عقيدتهم، وترد على قنوات إسلامية تجعل أهدافها الحط من عقيدة المسيحيين و«النيل» من كتابهم المقدس. يقدم هذا النوع من المحتوى أفضل الذرائع لدعوات منع القنوات الدينية أو حظر ترخيصها، خصوصاً أن تلك القنوات أفرزت نجوماً باتوا رموزاً للفتنة ووقوداً مؤججاً لها، والواقع أن المنع والحظر لن يفيد فى وقف التجاوزات، ليس لأن المجتمع سيقف ضده لتناقضه مع الحريات، ولكن أيضاً لأنه لم يعد ممكناً. فى ظل ثورة الاتصالات الأخيرة، ستتكفل «الإنترنت» والهواتف الذكية وطرق البث المبتكرة عبر الأقمار الاصطناعية الأوروبية، التى يمكنها أن تدور فى ذات المدارات التى تستخدمها أقمارنا، بتقديم أفضل الفرص لـ«الدعاة» الممنوعين لكى يصبحوا نجوماً ويتضاعف عدد أتباعهم ومناصريهم مرات ومرات. وبعد استبعاد المنع، سنعرف أن القانون أيضاً لن يكون قادراً على ملاحقة جميع مواطن الفتن والخلل فى أنماط المحتوى الدينى المقدم فضائياً؛ فثمة أنماط لا تعاقب عليها القوانين فى بعض بلادنا، وهناك «دعاة» وصناع برامج يبثون من خارج المنطقة، كبعض القنوات الشيعية والمسيحية التى تبث من أوروبا أو الولايات المتحدة. لم يبق لصداع بعض القنوات الدينية علاج حاسم؛ ولذلك يجب العودة إلى العمل المنهجى المؤسسى المنظم؛ الذى يبدأ بإنتاج محتوى دينى أكثر منافسة وجودة وحداثة واتساقاً مع المقاصد النبيلة للأديان من خلال مؤسسات التلفزة العامة، ويمر بعلاج التشوهات والاختلالات الاجتماعية والثقافية الناجمة عن قصور فى أدوار مؤسسات التعليم والثقافة وأنماط التنشئة، ويصل إلى تطوير «التنظيم الذاتى» للبث الإعلامى الناطق بالعربية، الذى يعلن معايير واضحة وملزمة يجب الالتزام بها عند صناعة البرامج، على أن تحظى بفرص إدانة المخطئين علناً، وحملهم على الاعتذار.

يجب ألا نسعى إلى الحد من المحتوى الدينى الذى يقدم عبر فضائياتنا، ولا إلى منع أو تقليل عدد القنوات الدينية، ولكن علينا أن نسعى إلى تقديم محتوى دينى أقل انغلاقاً وتعصباً وأكثر حداثة ومنافسة واتساقاً مع المقاصد النبيلة للأديان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق