لا خلاف بيننا وبين المتأسلمين على شمولية الدين لكل مناحي الحياة. لكن، الخلاف واقع على طبيعة هذه الشمولية،
أصالة الإباحة، وعلى عمومية الاستخلاف الإلهي الذي هو -في جوهره- ابتلاء، مع يقين تام أن الله من وراء كل شيء، وبكل شيء محيط..
يصدر التكفير ولواحقه (من تبديع وتضليل وتفسيق واتهام بالنفاق والخيانة والعمالة) عن احتكار التأويل الديني، حيث يعتقد المتطرف المتعصب لتأويله الخاص، أنه وحده صاحب التأويل الحق، ومن ثَمَّ، أنه وحده مَن يمتلك مشروعية تمثيل النصوص المُؤسِّسة في الواقع، وأن غيره- سواء قام بتفعيل تأويل مغاير لتأويله المقطوع بصوابه لديه،
يرى المتأسلمون أن عليهم مهمة أسلمة كل شيء. وفي المقابل، ترى الأغلبية الساحقة من المسلمين أن كل شيء لم يرفضه الإسلام صراحة يدخل في دائرة المباح، وأن كل ما فيه مصلحة، أو يقود إلى مصلحة، هو – بالضرورة - من الإسلام، أي في دائرة الأشياء المؤسلمة ضمنا؛ دون أن تحتاج إلى دمغ كل شيء بشعارات تحمل طابع المزايدة على الالتزام الديني، خاصة تلك المزايدة التي تتضمن – بطريقة غير مباشرة – تزكية للنفس، بل وغرورا لا يتوافق مع متطلبات الالتزام الديني المُعلن.
كل المسلمين (إلا فيما ندر جدّا؛ والنادر جدّا لا يخرق التعميم هنا) يعتقدون جازمين – صّرحوا بذلك أم لم يُصرّحوا – أن الإسلام هو أهم وأغلى وأجمل ما يملكون، بل ويرون أنه المعادل لوجودهم ذاته؛ إذ لا معنى لوجودهم بدونه. ولكنهم مع ذلك لا يُزايدون عليه، ولا يُتاجرون به، ويرون أنهم يتمثّلونه وفقا لتأويلهم، الذي هو في النهاية تأويل بشري؛ مع اعترافهم الدائم بالقصور في التأويل، وبالتقصير في العمل، وسعيهم -الدائم أيضا- لتلافي هذا التقصير وذاك القصور.
لا يعني أنك لا تستحضر النصوص الشرعية في كل مفردة من خطابك أنك تضادها بشكل أو آخر، وإنما يعني ذلك -فيما يعني- أنك ترفعها عن مستوى امتهانها في معارك جدلية، هي في النهاية لا تنتج إلا تأويلات بشرية متغيرة؛ مهما ادعى أصحابها لها القداسة والثبات. فالتركيز على مَدنيّة الخطاب في كل ما هو مدني من قِبَل العقلانيين/ التنويريين، هو إصرار على مدنيته، وعلى بشرية الفضاء التفاعلي فيه، ومن ثم؛ على أن كل محاولة لتديينه اعتسافا هي حركة إيديولوجية؛ تستتبع بالضروة مصالح حركية/فئوية، لا تصب -في النهاية- في مصلحة الدين؛ حتى وإن بدت أنها تتغيا مهمة تعزيز الديني في الواقعي.
عندما تطرح رأيك في أي قضية من قضايا الواقع، أو تفسر أية واقعة من وقائع التاريخ، أو تقرأ أي رمز من رموزه؛ بما يخالف فهم المتأسلمين، فلا يواجهونك بالنقد، ولا بالرد العلمي المفند، وإنما يواجهونك (= المتأسلمون المتحزبون) بالاتهام بأنك ضد الدين، وأنك ضد الأمة، وأنك حرب على الإسلام والمسلمين وأنك لا تريد إلا شرا...إلخ الاتهامات التي لا تبحث عن الحق والحقيقة؛ بقدر ما تبحث عن إسقاطك في معركة صراع التيارات المتنافسة، وسعيها الحثيث للهيمنة على مكونات الواقع. وهذا يعني أنها تيارات سياسية تستخدم الدين – بامتهان رخيص – لتحقيق أهدافها؛ بدل أن تخدم قيم ومبادئ الدين بصيانة هذا القيم والمبادئ والنصوص عن الامتهان في المُدنّس الواقعي.
عندما يقف اثنان إزاء مسألة ما، وتختلف وجهتا نظرهما فيها، فلا يعني هذا أن الذي يُؤسلمها صراحة، ويستحضر النصوص - بمناسبة وبلا مناسبة – هو الأقرب للإسلام من الذي يعاينها بمعايير مدنية خالصة لا تتمسح بالدين على هذا النحو العبثي الذي يمارسه المزايدون على ولاءات المؤمنين الدينية. وإذا كان هذا الأمر من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى توضيح عند كل من يشتغل على مسائل الفكر من قريب أو بعيد، فإنها غير واضحة للجماهير العريضة من المتعاطفين مع شعارات الأسلمة ومع الحراك العام للمتأسلمين. يقع في هذا الفخ الحركي كثيرون، بما في ذلك المتعلمون الذين يظنون أنهم قادرون فرز الآراء، وعلى تجنب الانسياق الأعمى وراء دعاة يتوسلون السياسة بالدين عن طريق استثمار مشاعر المتدينين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق