الدين هو أحد مصادر القوة الناعمة للدولة والتى تستخدمها لزيادة مكانتها الدولية بل خدمة أهدافها الجيوبوليتيكية، و العديد من الدول أدركت أهمية استخدامه فى إطار سياساتها الخارجية، بما فى ذلك الدول التى ترفع شعار العلمانية، على سبيل المثال قامت إسرائيل باستخدام الدين لتطوير علاقتها مع المسيحيين الإنجيليين بالولايات المتحدة، وتقوم تركيا وإندونيسيا بدمج الدين فى أنشطتها الخارجية، ولا شك ان الأزهر كجامعة ومؤسسة دينية سيظل دائما أحد المصادر الهائلة للقوة الناعمة المصرية، كما أن قيام مصر بتطوير نموذج للإسلام المعتدل والوسطية الدينية فى الفكر والممارسة، سوف يعزز أيضا من مكانتها الدولية.
اسئلة مشروعة
هل ابتعاد الغالبية عن السياسة سيطول مدى الحياة؟ لا.. هل هناك خطورة من اقتصار الحراك السياسى والنقاش الأيديولوجى على العالم الافتراضى دون أرضية حقيقية ممثلاً في حزب هنا أو مجموعة هناك؟ نعم دون شك. فما يجرى في الفضاء الافتراضى يظل افتراضيًا، لكنه في الوقت نفسه قادر على تحريك الرأى العام
والشارع، سواء كان ذلك بحسن نية أو بسوئها.
***************************
مؤمنون بلا حدود
الدين والسياسة وظهور الفكرة "العلمانيّة"
الفيلسوف الإيطالي "مكيافيلي" (1469-1527)، الذي يُعَدُّ أول منظر حقيقي للدولة المدنية بالمعنى المتعارف عليه الآن.
كنا أمام «ديني» يسجن «الدنيوي»، و«روحي» يسجن «الزمني». وقد اكتسب رجال الدين سلطتهم على رقاب الناس بما يملكون من احتكار لفهم النص الديني، وهي سلطة صارت مسيطرة على الروح والجسد معًا، على شؤون الدين وشؤون الدنيا على السواء.
إدخال «الديني» لتنظيم الشئون الزمنية أدى- تاريخيًّا- إلى نقد الدين، باعتباره أداة سجن وقمع كما يقدمه رجال الكنيسة وليس أداة تحرير كما هو في رسالته الأصلية. لم يكن دور «الديني» و«الروحي» في حياة الناس محدّدًا، بل صار مهيمنًا على شؤون «الزمني» و«الدنيوي»، وصار له الحق في صياغة قوانين «الزمني» وفقًا لما تمليه مصالح رجال الدين في كثير من الأحيان.
( أ ) - ( 1 ) مكيافيلي وصعود الفكرة "العلمانية".
يمكن القول إنّ الموقف العلماني والقطيعة السياسية مع تراث العصور الوسطى ظهر مع كتابات «مكيافيلي»، الذي يُعَدُّ أول من دعا إلى تقويض السلطة الكنسية، مؤسّسًا لفكرة "العلمانية" في السياسة، والتي تقوم على أساس الفصل بين «الديني»، و«السياسي»
قد أسهم كتاب "الأمير" لمكيافيلي في صعود «الفكرة العلمانية» في السياسة، والانتصار النسبي لفكرة الدولة- القومية. وتقوم فلسفة مكيافيلي -في مجملها- على فكرة عدم إمكانية قيام دولة حديثة قوية، إلَّا عن طريق استقلال السياسة عن كل المعايير التي تحكم المجالات الإنسانية الأخرى بما في ذلك المجال الديني، والعلمانية بذلك تعني الفصل بين السلطتين السياسية والدينية.
إن الدولة المدنية- أو الدولة العلمانية- دولة تقوم على أساس واقعي لا ديني. وإذا كانت العلمانية تعني التفكير في النسبي بما هو نسبى وليس بما هو مطلق، فإن الأمر كذلك بالنسبة إلى الدولة العلمانية، أو الدولة المدنية في جانبها السياسي، ومن ثم فإن أيّة محاولة لإقحام الدين في السياسة، أو جعل الدين متحكمًا في تصريف شؤون الدولة من شأنه أن يضر بالدين والدولة معًا. ومن هنا تمثل العلمانية حماية للدولة المدنية الديمقراطية من تدخل رجال الدين،
فقد جاء مكيافيلي إبان عصر النهضة، حاملًا معه أفكاره الواقعية في السياسة، ليؤسس نظرية في الدولة المدنية محاولًا تقويض "نظرية الحق الإلهي" التي كانت سائدة خلال العصور الوسطى؛
شخص يحوز على سلطات واسعة ومطلقة، وحيث يكون من حقه استخدام كافة الوسائل الممكنة، بما في ذلك القوة، والكذب والخداع والعنف، لتأسيس الدولة المدنية القوية، وإصلاح ما فسد في الدولة القائمة. ومن هنا جاءت أطروحاته مرتكزة على مبدأ تمجيد القوة، في محاولة منه لإصلاح الواقع الإيطالي، والقضاء على الفتن الداخلية من جانب، وصد العدوان والغزو الخارجي من جانب آخر.
كان مكيافيلي من أقوى خصوم الكنيسة، ومنتقديها، لأنها تركت أمراء إيطاليا يتناحرون، ويتقاتلون،
من هنا وشيئًا فشيئًا، تداعت نظرية «الحق الإلهي» في أوروبا، وقد مثَّلت الفكرة العلمانية جوهر تأسيس الدول القومية الحديثة، وعلى حد تعبير «مارسيل جوشيه» (Marcel Gauchet): «كان للعلمانية؛ أي النزعة التي تنادي بانفصال سلطة الدولة عن سلطة الكنيسة، الدور الرئيس في تأسيس الدول القومية والجمهورية الحديثة، كما أسهمت إسهامًا كبيرًا في تمجيد الدولة والرفع من شأنها»([1]). كذلك فرضت العلمانية أن تكون الدولة محايدة تجاه الأديان والمعتقدات الدينية. والحياد بهذا المعنى، يعني الاستقلال التام عن كل المعتقدات الدينية في تنظيم أمور السياسة([2]).
فكرة «الاستثناء» أو «الضرورة القصوى» تشكل عصب السياسة عند مكيافيلي، وتمثل نقطة انطلاقه الأساسية في تمجيد سياسة القوة والعنف، فإن أساس هذه الفكرة عنده هو أساس علماني بحت- وليس دينيًّا- بمعنى أنه يقيم هذه الفكرة على اعتبارات فلسفية بالدرجة الأولى، وليس على أية ركائز دينية أخرى.
( أ ) - ( 2 ) الدين والحداثة السياسية
شهد العصر الحديث صعود النزعات العلمية والعقلانية الأوروبية في السياسة، ويُعَدُّ «فرانسيس بيكون» و«ديكارت» من أوائل فلاسفة العصر الحديث الذين أكدوا على ضرورة إعمال العقل في جميع المجالات الإنسانية، والابتعاد عن التفكير الغيبي. وقد جاءت الدفعة الثانية مع «هوبز» (1588-1679) و«لوك» (1632-1704) مؤسسي العقلانية الأوروبية التي تطورت الحداثة في أحضانها، وازدهرت بظهور فلسفات «كانط»، و«هيجل»، و«ماركس». وقد أكد جون لوك على فكرة «سيادة القانون» (Rule of Law)، وأن القانون هو الذي يؤسس السيادة، كما عارض "السلطة المطلقة" من منطلق إيمانه بالقانون الطبيعي الذي لا يحوي أي استثناء([3]).
( أ ) - ( 3 ) فلسفة التنوير وظهور «الدين الطبيعي»
جاءت الدفعة المهمة لانتصار فكرة الدولة القومية الحديثة- بعد كتابات مكيافيلي- مع فلاسفة الحداثة والتنوير الأوروبي؛ إذ فصلوا تمامًا بين الديني والزمني، وحاولوا تأسيس نظرية في الدولة لا تستند إلى أي اعتبارات دينية. وقد ساعد على تراجع نظرية «الحق الإلهي»، ظهور مذهب الرّبوبيّة* Deism، الذي أسَّس لما أصبح يُعرف «بالدين الطبيعي» (Natural Religion)، في القرن الثامن عشر، عند كل من "فولتير" (Voltaire) (1694-1778)، و"هيوم" (David Hume) (1711-1776)، و"جان جاك روسو" (Rousseau) (1712-1778) وغيرهم.
ويقوم هذا المذهب على الاعتقاد في وجود الله، وخلود الروح، لكن مع عدم التسليم بصحة العقائد الدينية والمذهبية التقليدية؛ أي عدم الإيمان بالوحي والنبوة، وهو بذلك يختلف عن مذهب الألوهيّة Theism من حيث إيمان الأخير بوجود الله، وخلود الروح، والتسليم بصحة الوحي والنبوة والمعجزات، والإقرار بأن الله يتحكم في تسيير أمور العالم والكون وتنظيمهما. وقد ساعدت على ظهور هذا المذهب، كثرة الصراعات الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، علاوة على ما أحدثته الثورة العلمية في القرن السابع عشر في أوروبا من تغيرات على جميع المستويات، وهو ما حدا بفلاسفة التنوير بعد ذلك إلى تفسير الكون بشكل عقلاني، والإيمان بأن الله لا يتدخل في أمور الكون والعالم، ويمكن معرفته- أي الله- بالطرق العقلانية لكن ليس بطريق الوحي؛ أي إنهم لم يؤسسوا الدين على الوحي المُنزل.
حي اين يقظان
كذلك اعتقد فلاسفة التنوير أن الكون يسير بِناءً على قوانين دقيقة دون تدخل إلهي مباشر، وبالتالي رفضوا الاعتقاد في المعجزات والنبوات واعتبروها غير علمية وغير قابلة للتفسير، الأمر الذي أدى بهم إلى إنكار فكرة التدخل الإلهي في الأمور البشرية وفي سير العالم الطبيعي بأي شكل من الأشكال، سواء عن طريق الوحي أو الأحداث الخارقة كالمعجزات. وهذا ما جعلهم يذهبون إلى القول بحتمية «قوانين الطبيعة»، ونفي أية إمكانية لتعليقها أو خرقها.
ومن هذا المنطلق، رفضوا فكرة وجود "الاستثناء" في النظام الطبيعي، وفي النظام السياسي أيضًا. ويوضح الفيلسوف الألماني كارل شميت هذا العامل الأخير بقوله: «إن صعود نظرية الدولة الدستورية الحديثة يرجع في المقام الأول إلى ظهور مذهب الرّبوبيّة، الذي أسس لأفكار ونظريات تنفي فكرة المعجزة من العالم. وتقوم هذه الأفكار والنظريات على رفض أية إمكانية لخرق "قوانين الطبيعة" عن طريق الاستثناء الناجم عن التدخل المباشر كما في حالة المعجزة، وكذلك رفض التدخل المباشر "للإله صاحب السيادة" “Sovereign God” في النظام التشريعي القائم. كما رفضت عقلانية عصر التنوير قبول فكرة الاستثناء في جميع صورها»([4]).
إذن، فقد أبرز فلاسفة التنوير التوتر الداخلي في البنية اللاهوتية المسيحية بين التصور التوحيدي ومفهوم المعجزة الذي يفضي إلى التدخل الإلهي في الطبيعة. وبالتالي كان ظهور مذهب الرّبوبيّة رد فعل على هذه البنية اللاهوتية التي بررت شرعية الأنظمة الملكية والاستبدادية. ومن هنا يمكن اعتبار «الدين الطبيعي» بمثابة التخلص من الحكم الديني في السياسة وهيمنة السلطة الكنسية على الشؤون الزمنية، ودفعة قوية لتأسيس الدولة القومية الحديثة التي تستند إلى الموقف العلماني الذي يؤكد وجوب التطوير التشريعي للقوانين الوضعية لكي تحاكي الطابع الكلي لقوانين الطبيعة، واستحالة تدخل المعجزة الإلهية في مجرى التاريخ والطبيعة. وقد جاءت الثورة الفرنسية عام 1789 فجسدت هذه الأفكار بامتياز.
( ب ) نقد فلسفة عصر التنوير
( ب ) - ( 1 ) الهجوم من التيارات المحافظة
قُوبلت فرضية العَلْمَنة والتحديث التي حاول فلاسفة التنوير ترسيخها في الوعي الأوروبي، برفض كبير من جانب الفلاسفة والمفكرين المحافظين، الذين حاولوا إحياء الموقف الديني المحافظ الذي يركن إلى الإبقاء على الأخلاق والتقاليد الموروثة المستندة إلى الإيمان بإله متعال مفارق. لقد قاوم هؤلاء الفلاسفة والمفكرون المحافظون، وعلى رأسهم «إدموند بيرك» (Edmund Burke) (1729-1797)، ما أسفرت عنه نتائج الثورة العلمية في القرن السابع عشر، وهاجموا العقلانية الأوروبية التي احتضنت فكر الحداثة، كما نبذوا الفكر الرّبوبيّ الذي يتبنى فكرة الحتمية الصارمة لقوانين الطبيعة ويقول بأن الإله- على الرغم من قدرته وعلوه- لا يتدخل في أمور الكون والعالم.
ويوضح كارل شميت هذا بقوله: «سعى الكُتَّاب المحافظون والمعارضون للثورة الفرنسية- وكان معظمهم يؤمن بمذهب الألوهية- إلى تدعيم نظريات "السيادة الشخصية" Personal Sovereignty للملك، من خلال العودة إلى "لاهوت التّوحيد". ويمكن أن نجد مثل هذا التناظر عند المفكرين المسيحيين الذين تبنوا الاتجاه المضاد للثورة الفرنسية، مثل "جوزيف دي ميستر" (Joseph de Maistre) (1753-1823)، و"لويس دي بونالد" (Louis de Bonald) (1754-1840)، و"دونوسو كورتيس" (Donoso Cortés) (1809-1853)»([5]).
( ب ) - ( 2 ) «عَلْمنة» المفاهيم اللاهوتية
"الله القادر على كل شيء" “Omnipotent God”، والذي أصبح يشير إلى "المشرِّع القادر على كل شيء" “Omnipotent Lawgiver”.

+++++++++++++++++++
لم تكن الشعوب العربية ديمقراطية اجتماعيا حينما انتشرت الديمقراطية السياسية في مجتمعاتها. فالأنظمة والمؤسسات الدينية قد حولت العرب إلى مزاج آخر لا يفكر إلا بالحلال والحرام وليس بالحريات وتداول السلطة. فانشغلت الشعوب بإرضاء السماء بدل محاولة دمقرطة الحياة الاجتماعية والسياسية في أوطانهم.
+++++++++++++++++
لم تكن الشعوب العربية ديمقراطية اجتماعيا حينما انتشرت الديمقراطية السياسية في مجتمعاتها. فالأنظمة والمؤسسات الدينية قد حولت العرب إلى مزاج آخر لا يفكر إلا بالحلال والحرام وليس بالحريات وتداول السلطة. فانشغلت الشعوب بإرضاء السماء بدل محاولة دمقرطة الحياة الاجتماعية والسياسية في أوطانهم.
+++++++++++++++++
جدليّة الدّين والدولة في الفكر السياسي الإسلامي
نظرا لأهميتها الكبرى في الحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه، والحقيقة أن مسألة الدين والدولة في الاجتماع الإسلامي،
جذور ممتدة إلى الفترة التي أعقبت ولاية عثمان، حيث شاع ما عُرف بفقهاء السلطان، كإشارة إلى الفقهاء الذين يوظُفون النص الديني لما يخدم الدولة أو الحاكم.
دلالة فكرة تشييد المسجد النبوي تنطوي على نية إقامة الدولة لتنظيم حياة الناس بالمدينة؛ ففضلا عن أنه مكان مقدس لممارسة فريضة الصلاة، شكل أيضا فضاء لممارسة فعل السياسية، من خلال عقد الاجتماعات، وخطط الغزوات ومناقشة القضايا التي تهم الناس فيما بينهم وتنظم حياتهم، علما أن المدينة كانت موطنا لليهود كذلك، بمعنى أن المسجد النبوي لعب دورا اجتماعيا وسياسيا غير المشروع الدعوي، وبمقتضى ذلك فالدولة التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة "إنما أنشأها باجتهاد منه لا بنص ملزم"[2].
ما دام الوحي الإسلامي، لم يدع إلى بناء الدولة الإسلامي بنظام محدد، كما هو الشأن مع العبادات والفرائض، فإن طبيعة العلاقة بين الدين والدولة تبقى مسألة اجتهادية
تتوخى وضع قوانين إنسانية، باعتبارها كيانا سياسيا مستقل، مؤسس عن تعاقد اجتماعي، يسعى إلى تدبير الصراع وتحقيق العيش المشترك، والدولة بهذا المعنى تعكس مظهرا من مظاهر تطور الإنسان، وتسمو به إلى أعلى الدرجات، وتنقله من ضيق الرؤيا إلى سعتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق