ستيفن هوكينغ الذي عنون كتابه الأخير قبل وفاته وصدرت ترجمته الفرنسية في أواخر شهر أكتوبر الماضي 2018 " إجابات موجزة على الأسئلة الكبرى" وكتب مقدمته عالم الفيزياء الشهير كيب ثورن . فهل يجب أن يطرح الإنسان مثل هذه التساؤلات ولماذا؟ وعلى رأس هذه التساؤلات التي أرقت البشرية العاقلة منذ ظهورها على الأرض هو السؤال الأزلي والأبدي:هل الله موجود؟ وكيف وجد الكون وكيف بدأ وهل هناك خالق لهذا الكون؟ وهل هناك حضارات عاقلة ذكية ومتطورة ومتقدمة جداً في أرجاء الكون المرئي الشاسع؟ هل يمكننا في يوم ما أن نتوقع ما سيحصل في المستقبل؟ وماذا يوجد داخل الثقوب السوداء؟ وهل يمكننا السفر والترحال عبر الزمن؟ وهل ستبقى البشرية على قيد الحياة وموجودة إلى الأبد أم ستباد وتندثر؟ وهل يجب على البشر استعمار الفضاء والكواكب الأخرى بعد أن ضاقت بهم الأرض ؟ وهل سيتجاوزنا الذكاء الإصطناعي وسيشكل خطر علينا؟ وماذا يعد لنا المستقبل من مفاجئات ؟ هل سنتوصل يوما ما إلى النظرية الموحد الجامعة والشاملة ؟ وهل كوننا المرئي وحيد في الوجود ولايوجد غيره أم أن هناك أكوان أخرى بعدد لامتناهي ؟
ليس بوسع أحد تقديم إجابة قطعية مثبتة بالدليل على وجود أو عدم وجود " إله خالق ، مهما كان إسمه" لأن ذلك شبه مستحيل في الوقت الحاضر. فالأديان تتحدث عن " كينونة " عليا متسامية خارج المكان والزمان الماديين ، سماها البعض المهندس الأول، أو المصمم العظيم، وأطلقت عليها الأديان تسمية " الله" الذي هو " إيل" في الحضارات الرافدينية القديمة" قام بخلق السماوات والأرض في ستة أيام كما تروي لنا الأساطير الدينية الخرافية، كما خلق الجحيم والفردوس أو الجنة، التي لا ندري أين توجد، هل هي على الأرض أم في السماء؟ وهل لها وجود خارج الكون المرئي أم على إحدى الكواكب؟ كما تخبرنا الأديان التوحيدية أن هذا " الإله" الخارق ، خلق كائنات أخرى هي الملائكة والشياطين والجن وغيرها وهي ذات قدرات وإمكانات خارقة أيضاً، قبل أن يقرر، ولا ندري لماذا، أن يخلق بشراً ضعيفاً فانياً، هو الإنسان الأول ، كما تقول الأسطورة الدينية ، واسمه " آدم " ومن ضلعه أو معه ، خلق الأنثى " حواء" وأسكنهما الجنة ، ومنعهما من الاقتراب من شجرة المعرفة وأكل ثمارها ، وكانا يتمتعان بالخلود كما تروي أسطورة سفر التكوين، إلا أنهما عصيا الأمر الإلهي وتناولا الثمرة المحرمة ، وهي الخطيئة الأولى كما يسميها المسيحيون، مما أغضب خالقهما وأنزلهما إلى " الأرض" عقاباً لهما وعرضهما للموت والعذاب والمعاناة والعمل الشاق للبقاء على قيد الحياة ومواجهة أخطار الطبيعة وما فيها من كائنات أخرى خلقها نفس " هذا الخالق" ومنها حيوانات مفترسة ونباتات سامة ، وبكتريا قاتلة الخ... وملأ البحار والمحيطات بمختلف الكائنات من الصغيرة للغاية إلى العملاقة كالحيتان ، ونفس الشيء على اليابسة من البعوضة إلى الفيل والديناصورات الضخمة وهي موجودة على الأرض حتى قبل خلق البشر بملايين السنين كما تقول النظريات العلمية. ولا ندري لماذا اختار الأرض من دون باقي الكواكب التي تعد بمليارات المليارات في مجرتنا درب التبانة لوحدها، فما بالك بعدد الكواكب الموجودة في باقي المجرات التي تسبح في أرجاء الكون المرئي ويصل تعدادها التقريبي إلى 200 مليار مجرة ، وكل مجرة تحتوي على 200 إلى 300 مليار نجمة مثل شمسنا أو أكبر منها بملايين المرات أو أصغر منها، فهي من الحجم المتوسط الاعتيادي المبتذل ولا يميزها عن غيرها سوى كتلتها وقدرتها على الاحتراق وتوليد الطاقة التي تستهلك مع مرور الوق حيث سوف تموت في نهاية المطاف بعد 5 مليار سنة تقريباً كغيرها من النجوم التي ولدت وعاشت واندثرت عبر الزمن وهي تصل إلى مليارات المليارات من النجوم التي ماتت منذ نشأة الكون المرئي قبل 13.8 مليار سنة، فالأرض كوكب عادي جداً لا قيمة له في المنظومة الكونية فلماذا ختاره الله وأولاه مثل هذه الأهمية؟. فهناك الواقع الملموس على الأرض وفي النظام الشمسي ، أي الشمس وكواكبها، وبقية النجوم وكواكبها وأقمارها، وهناك " الماوراء الغيبي المجهول" حيث " يوجد " الله " والكائنات التي تسبح بحمده وتخدمه بلا كلل أو توقف أو اعتراض أو احتجاج ، وجاءت الأديان ، وهي قطعاً من اختلاق البشر أنفسهم ، لتدعي أنها على اتصال بهذا " الماوراء" من خلال الرسل والأنبياء " وأنها قادرة عل تقديم الإجابات على كافة التساؤلات الوجودية لأنها تمتلك الحقيقة المطلقة. والمدهش في الأمر أن مليارات البشر ، على مر التاريخ، صدقوا، وما يزالون يصدقون، هذه الخرافات كأنها حقائق لا تقبل الدحض أو النقاش أو المراجعة والمناقشة والتساؤل. لم يكن بوسع أحد أن يجادل أو يعترض على هذه الأطروحة الدينية الغيبية الغبية لأنه مصيره سيكون الموت حتماً بعد التعذيب أو الحرق حياً كما حصل لـ "جيوردانو برونو" و"الحلاج" وغيرهم من شهداء الفكر المتجاوز والمتحدي للمؤسسات الدينية التقليدية.
تخلخلت المعادلة عندما دخل العلم إلى ساحة الصراع الفكري وظهرت شخصيات علمية لامعة مثل كوبرنيكوس وكبلر وغاليلو ونيوتن و ماكس بلانك وآينشتين وبور وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر، ليقدموا رؤية مغايرة تماماً للرؤية الدينية عن الكون والوجود والمادة والطبيعة والحياة والموت وتفسير الظواهر الطبيعية علمياً. واكتشف العلماء قوانين الطبيعة الجوهرية الأربعة الرئيسية ، وهي الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوة النووية الشديدة أو القوية. وذهب آينشتين إلى ابعد من ذلك عندما دمج الزمان والمكان في كينونة واحدة بأربعة أبعاد أسماها " الزمكان" في حين كشفت لنا الفيزياء الكمومية أو الكوانتية عوالم غريبة وحدثنا أحد أعمدتها وهو الدانيماركي بور Bohrعلى أن المادة خرجت من نطاق قدرتنا التخيلية حيث الجسيم الأولي هو حجر الأساس للبناء المادي بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر، في حين نسف " هابل" أطروحة الكون الثابت الساكن ، الأبدي والأزلي ، واستبدله بالكون المتسع ، ومن ثم صاغ العلماء بناءاً على ذلك، نظرية الإنفجار العظيم . وساهم عالم الرياضيات " غوديل Gödel" بنظريته الرياضياتية عن " اللاتكامل incomplimentarité" وأقنعنا بأن " المنطق" نفسه قد تخلى عن جزء من مجاله وترك مساحة ومجال أو حيز بين الحقيقي والمزيف حيث يوجد " المتردد أو اللامتقرر indécidable ، وفي الأثناء جعل علماء البيولوجيا مثل كريك Crick و واتسون Watson و داروين Darwin سر الحياة الغامض مجرد تفاعلات بيولوجية، أي لعبة عادية بين قوى أولية في قلب الحامض النووي ADN. شعرت الكنيسة الكاثوليكية، ومعها بقية المؤسسات الدينية التوحيدية التقليدية، بخطورة مثل هذه الأطروحات العلمية على سلطتها ونفوذها وتحكمها بعقول وعواطف وسلوكيات البشر، ومعتقداتهم فيما يخص أصل الحياة واصل الكون ، المقولبة دينياً بمقولات جامدة وفاقدة للمعنى وغير قابلة للتصديق من قبل العقول العلمية العقلانية النيرة، كانت و ما تزال تردد في المعابد والكنائس والجوامع للتعبير عن أفكار وأحداث بالية خرافية أكل الدهر عليها وشرب وباتت ميتة. فالمؤسسات الدينية كانت ، وما تزال ، تخشى من تداعيات وانعكاسات تغيير أي معتقد أو نص ديني خوفاً من تأثير "
تساقط أحجار الدومينو" الواحد تلو الآخر وتهديم الصرح العقائدي المزيف الذي بنته عبر القرون فأين الله من كل ذلك؟. كلهم عاجزون عن تقديم تعريف واحد واضح ومتفق عليه عن " الله" ، فمن الذي أوجده؟ وهل هو موجود منذ الأزل قبل الخليقة؟ وما هو حجمه وشكله وعمره وهيئته وماهيته وجوهر تكوينه وهل لديه جنس ذكوري أو أنثوي؟ ماذا كان يفعل قبل خلق الخليقة؟ ولماذا أوجد معادلة العقاب والثواب والخير والشر وإبليس والشيطان والرحمن الخ من المفاهيم العقيمة؟ وكان ستيفن هوكينغ قد أدلى بدلوه في هذا المجال عندما تحدث في كتابه السابق ما قبل الأخير المعنون " التصميم العظيم" عن عدم ضرورة أو لا حاجة لوجود خالق للكون ،
وبخصوص التساؤل الوجودي الأول عن وجود " الله" كان لا بد من التفكير بالأمر معنوياً ونفسياً وأخلاقياً ودينياً واجتماعياً بالتوازي مع المنهجية العلمية العقلانية المادية المحضة.
الواقع البسيط الملموس الذي تجادل بشأنه الفلاسفة القدماء ورجال الدين وعناصره الأربعة الماء والهواء والماء والتراب ، وهناك الواقع المادي الذي تناوله العلم الحديث بالدرس والتفكيك والتشريح والذي يتطور يومياً حسب تقدم العلم والتكنولوجيا والرصد والمراقبة والمشاهدة والتجريب ، أي الواقع المنظور، وخاصة مكونات المادة في حدودها القصوى في اللامتناهي في الصغر أي مادون الذرية. فالذرة نفسها ، التي كانت في الماضي تعتبر اصغر وحدة مادية غير قابلة للإنقسام، باتت قابلة للإنقسام والإندماج ومكونة من نواة تدور حولها الإلكترونات ، والنواة نفسها مكونة من نيوكليونات nucléons ، أي بروتونات ونيوترونات، وهذه بدورها مكونة من كواركات quarks، وهناك ما هو أدنى من الكواركات إلا أن أجهزتنا عاجزة عن كشفها في الوقت الحاضر. يوجد في الواقع المادي ما يعرف بالجسيمات الأولية les particules élémentaires والتي يتطلب قياسها وحسابها ليس فقط معرفة مداراتها وموقعها أو تموضعها وسرعتها فحسب، بل وكذلك معرفة " دالة الموجة فيها fonction d’onde" لحساب الإحتمالية la probabilité بشأن تواجدها، رغم أننا لا نراها و لا نلمسها و لا نشعر بها بأحاسيسنا الخمسة لكنها موجودة في الواقع الحسي المادي وإن لم تكن غير مرئية.
هي الثغرة التي استغلتها الأديان لتقول أن هناك أشياء لا مرئية وماورائية وغيبية موجودة وعلينا تصديقها والإيمان بوجودها حتى لو كانت تتجاوز قدراتنا الحسية .
:" اهتموا أنتم معشر العلماء بما بعد البغ بانغ" الانفجار العظيم" واتركوا لنا نحن رجال الدين ما قبل البغ بانغ" ولهذه الحادثة، لو كانت قد حصلت فعلاً دلالات عميقة سنتطرق لها لاحقاً. فمنذ القرن السابع عشر بدأت العلم يقتحم الحصون المغلقة التي كانت حكراً على الأديان والمؤسسات الدينية إذ أن هذه الأخيرة نصبت نفسها كمرجعية نهائية ووحيدة للإجابة على تساؤلات وجودية من قبل من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون و ما هو مصيرنا ولماذا نحن هنا والإجابة هي أن " الآلهة هي التي وراء ذلك، بالنسبة للأديان غير التوحيدية ، وإن الله أو الرب أو الإله الأوحد هو الذي يقف وراء ذلك ، بالنسبة للأديان الإبراهيمية السماوية المنزلة فالأديان تدعي أنها الوحيدة التي تمتلك الحقيقة المطلقة. ولقد استغلت الأديان جهل وخوف الأقوام البدائية البشرية الساذجة من الموت والمجهول وظواهر الطبيعة المدمرة والمخيفة ، لتغرس في الأذهان أن هناك قوة خارقة تختفي وراء كل الظواهر التي ترهب البشر كالبراكين والرعد والعواصف والبرق والخسوف والكسوف وغيرها من الظواهر الطبيعية التي بدأ العلم بتقديم إجابات علمية عقلانية مقنعة عنها في القرون اللاحقة، منذ القرن التاسع عشر إلى يوم الناس هذا. بيد أن الغالبية العظمى من البشر لا تفهم العلم ولا تستوعب أطروحاته ومفاهيمه ومصطلحاته لذلك تراهم يركنون إلى الأجوبة والتفسيرات الدينية المطمئنة والبسيطة . وبمناسبة صدور كتابه " التصميم العظيم" أو " هل يوجد هناك مهندس كبير للكون" حسب الترجمة الفرنسية، نشرت صحيفة التايمز بعنوان كبير على صفحتها الأولى " هوكينغ يقول : الله لم يخلق الكون " و " الكون ليس بحاجة لخالق لكي يوجد" وكانت هناك صورة للوحة للفنان مايكل أنجلو Michel Ange تظهر الله المنتقم وصورة لستيفن هوكينغ بمظهر المدعي المتحدي يواجه غضب وانتقام الله الخالق، وكأنها مبارزة بين الله وهوكينغ في حين لايوجد موقف شخصي من قبل هذا العالم حيال الله ومن يؤمن به فهذا مجال لا يعنيه ولا يخصه فأبحاثه لاتثبت وجود أو عدم وجود إله خالق بل هي تسعى للتوصل إلى طريقة عقلانية علمية مقبولة لفهم الكون المرئي
فخلال قرون طويلة كان الناس يعتقدون أن المصابين بإعاقة جسدية هم ضحايا لنوع من العقوبة الربانية المسلطة عليهم ، وبالتالي ربما يكون هذا هو عقاب ستيفن هوكينغ الذي أرسله الله لكي يكبح جماحه العلمي، كما ردد كثير من المتدينين بعد انتشار تصريحاته في وسائل الإعلام . الرجل يفضل أن يجد الأجوبة والتفسيرات حسب القوانين الطبيعية الجوهرية في الكون وإنها كانت و ما تزال تعمل منذ بدء الكون ولمليارات السنين القادمة كما يعتقد العلماء وستيفن هوكينغ أحدهم وأكثرهم شهرة بعد آينشتين ونيوتن. ولو ادعى رجال الدين أن هذه القوانين هي من صنع الله فهذه المحاولة ليست سوى تعريف لبعض وظائف الله وليس دليلاً على وجوده.
هل أنت ملحد أم تعتقد بوجود الله" لأنك تحرجنا مع بقية الأديان لاسيما بابا المسيحية ، فرد عليه آينشتين : أنا أؤمن بوجود إله لكنه ليس الإله الذي تتحدثون عنه بل هو إله سبينوزا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق