الأربعاء، 17 أغسطس 2022

كيف تصبح مفكراً متمرداً كُن نسبياً و كن في الحيرة ولا تكن في اليقين *******************

May 12, 2019 Dec 19, 2021




عبدالوهاب المسيري -رحمه الله-، وهي معبرة جداً عن مضمون كلامي الآتي حول مفهوم (النسبية المطلقة)، يُروى أن قاضياً ضجر من متهم يؤتى به دائماً إلى المحكمة لأجل تعاطي الحشيس، وأراد أن يوقظ ضميره وينصحه ، فقال القاضي : " لماذا تتعاطى الحشيش دائماً ؟ " فقال المتهم : حتى أنسى يا حضرة القاضي ! فسأله : تنسى ماذا ؟ فقال الحشاش : " والله مش فاكر" .

كل شيء في هذا العالم بل وفي الحياة المعاشة لا يمكن معرفة هل هو صواب أو لا ؟ .. عليك ألا تعتنق أي يقين ولا تطمئن إلى أي مُسلمة، وكن كمثقفي ( ما بعد الحداثة )، الذين حطموا كل اليقينيات والمسلمات، ووقفوا ضد أي أساس، فالعالم بلا أصل ولا مركز ولا معيار يُحتكم إليه ، عليك أن تنزع القداسة عن كل شيء وأي شيء في العالم ، كما يقتضي مبدأ النسبية المطلقة !

 يرى "سيوران" أن أي يقين هو دجل وكذب، وكل الصدق والنزاهة في أن تكون محتاراً متردداً، يقول في ذلك : ( تردُدُنا علامة على نزاهتنا ، أما يقيننا فلا يدل إلا على دجلنا !) .
:
- ويقول في سياق المعنى السابق : ( الآراء نعم ، أما القناعات فلا ، وتلك ركيزة كل عزة فكرية) .
:
- و يُحقر الاقتناع والترجيح ويُثني على التذبذب واللا أدرية ، فيقول : ( وحده يملك قناعات ، من لم يتعمق في شيء !) إذن أنت عميق في حالة واحدة أن تكون لا أدرياً شاكاً غير واثق من شيء .
:
- وأي إنسان يدافع عن أفكاره يصفه بالغشاش ، فيقول : ( يُعرف المفكر الغشاش من حصيلة الأفكار الدقيقة التي يُدافع عنها )
:
ما المطلوب يا "سيوران" إذن ؟ يجيب صاحب كتاب "موجز العفن" : كُن نسبياً ولا تؤمن بشيء ولا تدافع عن شيء وكن أنت لا شيء ، أليست أفضل صيغة للوجود عنده هي ألا نكون موجودين ؟! هذا هو رأيه بلا تحريف .

 ويُحذر أن يكون لك أي موقف فكري أو تتبع أي مذهب أو منهج ، فيقول : ( المذهب أخطر أنواع الاستبداد في الفلسفة وفي كل شيء ) وهذا تقديس صريح للفوضى الفكرية ، وعداء جلي للعقلانية المنظمة الواعية .
:
- ويذم الفهم ويُطري الحيرة واللا استقرار ، فيقول : ( نبدو على هيئة مجرمين في اللحظة التي نعتقد فيها أننا فهمنا كل شيء )
:
- وفي السياق ذاته يُمجد " اللا معنى " يقول : ( مأساة الكاتب الحقيقية حين يتم فهمه ) إذن المطلوب هو ألا يكون لك أي رأي محدد في أي شيء لئلا يفهمك أحد !
:
- ويذكر حميد زناز (ص 66 ) أن " سيوران " ردد في العديد من المناسبات أنه عمل كل ما في وسعه لخلط الأوراق ، وزرع سوء الفهم بين دارسيه !!
:
.. هذا معنى أن تكون "نسبياً " أي تظاهر بأنك لا تفهم شيئاً ، ولا أحد يفهم أي شيء ، فالعالم بجملته لا معنى له ، ولهذا فالنتيجة : تقديس " البلاهة " وتمجيد الجهل واللا معنى ، وكل مواقفك زئبقية بامتياز ، تقبل الساعة ما ترفضه بعد ربع ساعة ، ولا حرج عليك .

فلسفة " هيجل " فسأله طالب : ما معنى مقولة " تجسد العقل في التاريخ " ، وبعد محاولات متكررة لشرح الفكرة ، أصر الطالب على أنه لم يفهم شيئاً ، فقال الأستاذ غاضباً : ( أتريد يا بني أن أشرح لك أمراً أنا شخصياً لا أفقه منه شيئاً ! )

 تناصر (اللا فهم واللا يقين واللا قيم ) هو "نيكولا غوميز دافيلا" في كتابه "بؤس الديمقراطية" الذي يصرح فيه : ( من لم يُدر ظهره للعالم الحالي يفقد كل شرفه )
فالمطلوب ألا تهتم بأي شيء ، أدر ظهرك ولا تبالي بكل شيء أو أي شيء ، وكن أنت لا شيء .
:
وشخصية أخرى "جيرار دو نيرفال" يمدح أن يكون الإنسان كئيباً ويقدم تبريراً لهذه التفاهة : (الكآبة ذلك المرض الذي يجعل المرء ينظر إلى الأشياء كما هي) .
ولك أن تتخيل الإنجازات الكثيرة في هذه الحضارة المادية المعاصرة هل يمكن للكآبة أن تكون هي السبب في إنجازها ؟
:
.. هل يملك الكئيب أن يصنع شيئاً مهماً كـ "الهاتف الذكي" أو "الآي باد" أو "اليوتيوب" رغم كل الصعوبات والإحباطات التي عادة ما تحيط بالمخترعين في كل خطوة ؟
.. وفكر معي هل التفاؤل بالمستقبل والأمل مفيد لأي مكتشف أو مهندس لينجح في غايته أم أن الكآبة بكل تشاؤمها وقلقها وكسلها وفراغها هي التي تجعله يرى الأشياء كما هي ؟
.. ألا سحقاً لهذا الهراء والعفن ؟!
:
إياك أن تدافع عن المبادئ :
:
وقد عبر عن مضمون فكرة ( كن نسبياً) الفيلسوف "برتراند راسل" كما ورد في سلسلة حواراته التلفازية التي أجراها "وودرو ويات" ، المنشورة تحت عنوان "الفلسفة وقضايا الحياة" (ص 20) حيث قال:
(علينا ألا نكون واثقين من أي شيء ، إن كنتَ واثقاً فأنت مخطئ بالتأكيد ؛ لأن لا شيء يستحق الوثوق) .
يا لهذا المقياس الفكري العجيب الذي لا يسأل عن دليل القول ولا عن جذوره ونتائجه ، وإنما يُعمم بأن " كل واثق فهو مخطئ بالتأكيد " ، إن مثل هذا الكلام جناية حقيقية على أفكار شاب مبتدئ ، ولكم أن تتصوروا نتائج الإيمان بالشك إلى هذا الحد ، هل تظنون أنه سيخرج لنا أناساً يتمتعون بالثقة والعزيمة والقوة ، أما سنبتلى بشخصيات من المهزوزين المترددين الحيارى ممن لا يملكون قوة الاعتقاد وبالتالي لن يكونوا قادرين على قوة البناء والفعل والتأثير الحقيقي في العالم .

وقد عبر " راسل " مرة فقال : (لستُ على استعداد أن أموت في سبيل مبدأ ؛ لأني غير متأكد من أي شيء) ، وفي عبارة أخرى : (لن أموت دفاعاً عن قناعاتي ، فقد أكون مخطئاً ) .

مقولة : (لا يمكن القطع بشيء ) تطرح ما يكشف تناقضها ، وهو أن هذا الكلام فيه إسقاط لمنفعة العقل والإشادة به .
ألستم تبجلون العقل لحد التأليه ، إذن ما فائدة العقل إذا كانت وظيفته هي الشك والتردد والحيرة فقط ؟!
هذا عقل عابث لا فائدة تُرجى منه 

المنافقين : ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) النساء :143
فالمنافقون في الحقيقة يُشابهون " النسبيين " و اللا أدريين . ولهذا إذا سئل المنافق في القبر كما ورد في الحديث الصحيح عن خالقه ودينه ورسوله يقول : ( هاه هاه ، لا أدري )


وإن كنتم تقولون بالنسبية المطلقة خوفاً على العقل من التحجر والجمود ، سأنقل لكم رأي فيلسوف " نقد العقل " في الحضارة الغربية " إمانويل كانت " - في رسالته " ما التوجه في التفكير ؟ " (ص112) ترجمة محمود بن جماعة - حيث يؤكد على ضرورة أن يكون للعقل قوانينه وأن هذا لا ينافي حرية التفكير: ( إذا كان العقل لا يريد الخضوع للقانون الذي يسنه بنفسه ، فلا مناص من أن يرزح تحت نير القوانين التي سنها له الغير ؛ لأنه من غير قانون أياً كان ، لا شيء ... يظل زمناً طويلاً على الإطلاق .
فالنتيجة الحتمية لغياب القانون في التفكير - أي التحرر من الضوابط الصادرة عن العقل - هي أن حرية التفكير تتحمل في النهاية تبعات ذلك ، وستضيع بالمعنى الحقيقي للكلمة ).
فلا حرية للتفكير بلا معايير وقوانين ، وبدونها لا مستقبل لحرية التفكير إلا ضياعها في متاهات الفوضى والعبث والعشوائية .
إن الحماس لفكرة " النسبية المطلقة " بالصورة التي عرضنا لها ، تعيد إلى أذهاننا مقولة الروائي الانجليزي " جورج أورويل " : ( إن بعض الأفكار هي من الحماقة بمكان ، بحيث إنه لا يمكن أن يصدقها إلا مثقف ) .
وهذه حال فكرة أنه لا يوجد استقلال فكري إلا بتبني مقولة " النسبية المطلقة " ، فكرة حمقاء لا يصدقها إلا بعض المثقفين أما عموم الناس فينفرون منها بقوة .

 لا يمتلكون صبراً على استقصاء المعرفة ، ولا يتقنون مناهج البحث العلمي ، ولا يفرقون بين أنواع الأدلة والبراهين . يقول قائلهم : إن ما أقوله اليوم قد أنقضه بعد ساعة ففي عصر الإنفجار المعرفي تتجدد المعلومات في كل ثانية ، لذا أغير رأيي باستمرار .
حسناً أيها الذكي بناء على تعميمك المدهش :
هل الأندومي الذي تأكله يتجدد كل ثانية ؟
هل مسكنك يتجدد كل ساعة ؟
هل حقائق الفلك والرياضيات تتجدد كل يوم ؟!
فترتسم ابتسامة بلهاء على محياه ، ويقول : غيرت رأيي في ثانية ! ألم أقل لكم : مواقفهم زئبقية ؟!

صرح بكراهة المتدينين كثيراً ولكن لا تنس : اسخر من الليبراليين أحياناً ، وأطلق بعض فكاهاتك على زعماء الملاحدة بين وقت وآخر كل أسبوع مرة قبل النوم ، واستهزئ بدعاة حقوق المرأة كل شهر مرة ، وتهكم على دعاة الإصلاح السياسي والاجتماعي كل يومين قبل المغرب .
حاول قدر الإمكان أن تكون بلا ملامح بلا شخصية أو انتماء، إن الشعار الرئيس هو : (( إنما جئتُ إلى هذا العالم لأحتج )) فإن طبقت هذا الشعار فأنت مستقل بأقل تكلفة ، مهنتك أن تحتج فقط ، أرأيت كم هو من السهل أن تصبح مفكراً متمرداً ؟!
إن استقلالك هذا سيحير مخالفيك جداً ، وستكسب الإعجاب السريع في " تويتر" ومواقع التواصل الاجتماعي ، وتحمي نفسك من أي إلزامات في النقاشات والحوارات .

مثلث التمرد الفكري : (كن معارضاً ، كن غامضاً ، كن نسبياً) ، كل ضلع له ثلاث ساعات

*

الوعي .. التمرد

عندما يستيقظ الوعي تتضح للإنسان عبثية الوجود ، وعدم إدراك المصير الإنساني وسط كم هائل من الظلم ؛ وهذا ما يولد التمرد ، الذي يهدف إلى التغيير . فالشخص الذي يقول : لا . التي تنطوي عن معارضة لأمور معينة ، يعلم جيداً أنه سمح لخطوط وحدود سلبية أن تدخل حياته . ويعرف بالتالي دون شك بأن تمرده يحمل قيمة معينة ؛ لذلك هو يعارض كل ما يضر ويضير به ، ومع تطور تمرده يضفي عليه كفرد خاصية جماعية بعيدة عن الانغلاق والحقد والغيرة والفردانية والتزمت ، وحين يدافع عن قناعاته كأنما نجده يدافع عن نفسه ، عن وحدة شخصيته ؛ باطنه مثل ظاهره أي غير مصاب بازدواجية الشخصية . وعبر التاريخ ظهر نوعان من المتمردين الأول نشأ في حضن الفلاسفة أمثال هيغل ونيتشه وغيرهم باعتبارهم أوائل (المتمردين الميتافيزقيين) ؛ هؤلاء الذين تمردوا على النصوص التي درست عليها البشرية ، وقامت على مبادئها أسس النظم السياسية من دولة أثينا الاغريقية إلى روما مروراً بالعصر الوسيط وعصر النهضة . أما (المتمردون التاريخيون) فقد هدفت حركتهم بشكل رئيس إلى تحقيق الحرية والعدل والمساواة في الحقوق ؛ أولئك هم مجموعات من البشر قاموا ضد ما هو قديم ، وراكد ، ومظلم ، ومؤخر لحركة الحياة .
تربة التمرد
عادة التمرد لا يظهر في مجتمعات يطغى عليها الاستبداد طغياناً شديداً ، أو يعيش أفراد مجتمعها تحت مظلة المساواة . فالتمرد يظهر في مجتمعات تتوارى فيها لامساواة واقعية وراء مساواة نظرية ، بالإضافة إلى أن التمرد يخص إنساناً عارفاً ومصلحاً ، ليس جاهلاً ، بل هو مدرك لحقوقه وعليه ؛ فلا يمكن للمتمرد أن يظهر في مجتمعات بدائية تعتقد بالخرافات والتقاليد العتيقة ، وتفسّر الظواهر الحياتية على أسس غيبية وتحريمية .والمتمرد يعيش في الواقع ، ولا يهرب من هذا الواقع ، وإنما يجد قيم وتجارب تصب في مصلحة الناس ضمن هذا الواقع ومن أهم قيم المتمرد الدعوة إلى وجود مجتمع إنساني بعيد عن القداسة ، 
ولكي يحيا عليه أن يتمرد ؛ بشرط أن لا يتخطى حدود الوجود الحقيقي للبشر 
التمرد في الفن بمثابة إعادة تشكيل للكون ، فالمبدع يعتبر أن العالم غير كامل ، أو تشوب سيرورته الشوائب والقبح ، لذلك يحاول ويسعى لإعادة صياغته بإضافة بعض النواقص ، وأحياناً يحطم ما هو بالٍ ، أو يرمي ما هو مكرر وممل ، ويقدم ما هو صادم ومدهش للوهلة الأولى ، وكأنه يجادل الواقع ولا يدير له ظهره ، يحاوره ولا يتحاشاه . الفن يقود المبدع إلى مصدر التمرد في وتر العود ، وفي سطر قصيدة ، أو في مفتتح رواية ، أو تصوير فيلمبنفس النسبة التي يعطي فيها شكلاً للقيم غير المرئية ؛ لكنها مرئية في نظره ويشعر بحساسيتها كمبدع .

*

كن في الحيرة ولا تكن في اليقين


كن في الحيرة، الحقيقة تكمن هنا، في داخلك، أي أنك أنت الحقيقة، وفي الخارج وهم ويقين مزيف. المزيفون هم الذين أيقنوا، ومن أيقنوا توقفوا عن الحركة، ومن توقفوا عن الحركة

 ديكارت، عندما أوصله يقينه الوهمي أنه موجود لأنه يفكر، فقد سبق التفكير الوجود عند هذا الفيلسوف، بينما الحقيقة تقول إن الوجود سابق الفكرة. نحن موجودون قبل التفكير، وإلا كيف يفكر من هو غير موجود. فالإنسان راعي الوجود، كما ذكر مارتن هايدجر، وإذا كنا نحن محكومون بالحرية كما قال سارتر، فإذاً الحرية تتطلب الحيرة قبل اليقين، الحيرة سابقة لليقين، ولكن المزيفين اختصروا الطريق، وأمسكوا بتلابيب اليقين، كي لا يرهقوا أنفسهم، ولا يحركوا سواكن العقل. ما يحدث اليوم من تزييف للدين والحياة،

 الحيرة تجعلك تفكر، واليقين يجمدك لتدخل في المستنقع، وتغزوك الحشرات والنفايات، وتبقى أنت، المكب المفتوح على حثالة الوجود. كل متطرف ومتعصب ومعتصم بحبل اليقين، لا يرى العالم إلا من ثقب إبرة، ومن خلال الثقب لا يرى بشراً، وإنما يرى خيوطاً معقدة، لا يفك عقدتها إلا بالسكين. يجب أن نكون خارج اليقين، لنرى الحقيقة، الحقيقة لا تكمن في قلب اليقين، ولو كان الأمر كذلك، لما كنا بحاجة إلى العقل، فوظيفة هذا العقل هي التوقف عن اعتبار اليقين حقيقة. المرضى النفسيون، وبالذات الفصاميين، يرون أشباحاً وصوراً وهمية، ويتحدثون بيقين، إنها الحقيقة، ولو اقتنعنا أن الجنون، ما هو إلا استمرار الحلم لدى المجانين، لفهمنا أن اليقين ما هو إلا زيف صنعته الأنا، ليقتنع الإنسان أنه العقل المدبر لشؤون الكون، وبالتالي يصبح اليقين ملكية بشرية، ولا حاجة للعقل، ولا داعي للحيرة. ولو صحيح أن الإنسان يملك اليقين، فلماذا يفجر الإرهابي نفسه ويقتل الآخر. فعندما تنتحر، فأنت يائس، ولا يتفق اليأس مع اليقين، فمن يملك اليقين، يملك الحقيقة، ومن يملك الحقيقة يملك الفرح، ومن يملك الفرح، يدخل مدينة الحياة، والحياة غير الموت. اليقينيون أناس محرومون من رؤية الحقيقة، ومن لا يرى الحقيقة، لا يرى الفكرة المؤدية إلى الحقيقة، ومن لا يرى الفكرة المؤدية إلى الحقيقة، يقف في منتصف الطريق حتى يحل عليه الظلام وينام في عرائه، كأنه الطائر الذي فقد سربه.

علي أبو الريش


Aug 25, 2021
*
وإذا اقتحمت الحيرة فكر الإنسان ونفسه فإنها تُغمر مشاعره فوراً بالعجز والتردد، فكل حيرة تتملكه، تُدخله في سباق مع نفسه، في حلقات مفرغة تسرق من وقته وصحته وحياته، أثناء دورانه، دون هدف واضح أو نهاية. فيظل عالقا في حركة مكوكية مرهقة، الى أن يعتاد الأمر، خادعاً نفسه، بأنها انتهت من تلقاء نفسها. وفي الحقيقة، لا توجد حيرة، تتلاشى من تلقاء نفسها، بل ينبغي كسر حلقاتها بالمنطق، وليس بالوهم، لأنها تعود مرة ثانية.

وتتعقد شِباك الحيرة عادة، من عدم فهم الإنسان لِما يدور حوله، ومع ذلك يُفرض عليه اتخاذ قرار، فيخلق ذلك حالة من التردد والقلق. إن طالت مدة تلك الحالة، تتحول الى عصبية وغضب، تُعطل طاقته ومواهبه وإمكاناته وتؤثر سلبا على عملية التفكير العقلاني، باتخاذ قرارات خاطئة. لم يكن ليتخذها، حين يكون في أفضل حالاته النفسية. وإذا فقد الإنسان رؤيته الصائبة للأمور، حتما سيؤدي به ذلك لاتخاذ قرارات خاطئة، قد تفسد حياته.

لحظة الاختيار أثناء اتخاذ القرارات المصيرية، من أكثر اللحظات صعوبة على النفس، وربما الأكثر قسوة، فهي ليست كالاختيار بين نكهتين من نكهات المثلجات، او بين ألوان الملابس. فدائما ما تكون مصيرية وحاسمة، يدرك فيها البعض خطورتها، والمجازفات المصاحبة لها. لذا يظل بعضنا عالقا في دوامة حيرته لسنوات وسنوات، تضيع من عمره ووقته، لخوفه من مغامرة التغيير، التي قد تطرأ على حياته.

قال “نجيب محفوظ” يوماً: “ما أشد حيرتى بين ما أريد وما أستطيع”..
لذا سنظل.. في حيرة دائمة!


يستطيع التعرف على الفروق الصغيرة بين مشاعره واحتياجاته، ويدرك الحجم الحقيقي لقدراته. والأهم ألا يزيف أي صفة أو قدرة لا يمتلكها.

*

عدم اليقين 

 الشك وعدم اليقين وعدم المعرفة. أعتقد أنه من المثير للاهتمام أن تعيش بلا علم أكثر من أن يكون لديك إجابات قد تكون خاطئة ... من أجل إحراز تقدم ، يجب على المرء أن يترك الباب مفتوحًا أمام المجهول.

*

التجديد في الفقه الإسلامي اليقين لا يُزال بالشك ******


 قاعدة (اليقين لا يُزال بالشك) قولهم إن ثلاثة أرباع الفقه تندرج تحت هذه القاعدة

 «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فلا ينصرف حتّى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً»،

من هذه القاعدة استنبط العلماء العديد من القواعد الفقهية الفرعية

(الأصل في الأشياء الإباحة)

ما كان ثابتاً بيقين لا يرتفع بمجرد طروء الشك عليه لأن الأمر اليقيني لا يزيله إلا ما كان مثله في القوة أو أقوى منه.

 إنّ للتحريم منهجاً إلهياً، وله طرقه وأساليبه، ثم ليس أجمل ولا أكمل من قول الشافعي (إن ما يثبت بيقين لا يرتفع إلاّ بيقين

*

عالم اليقين

كان يرحل طوافا فى طلب الحديث حتى نحل جسده وقال (مع المحبرة إلى المقبرة) وكانت محنته الكبرى مع الخليفة المأمون الذى أراد أن يحمله على القول بخلق القرآن وأصر هو على أنه كلام الله وعذب عذابا شديدا حتى أنقذه بعد ذلك الخليفة المتوكل، وفى مسائل عديدة لم يجب الإمام أحمد وكان يقول كل أوجه الرأى وأحيانا يقول لا أدرى اسألوا غيرى.

صدق رسولنا الكريم (لا عبادة كتفكر).

*
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين

 آية «واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» سورة النحل.. فالقرآن الكريم أطلق على الموت صفة اليقين لأنه الحقيقة الوحيدة فى الحياة.. ومن ثم فإن العبادة، من البلوغ للوفاةِ، هى سبيلنا إلى الله وطريقنا إليه كى نصل لليقين..

ولأنى «لمض» من صغرى سألته وهل سيتغير المعنى عندما أكبر.. وهل تفسيرات الآيات تختلف من سن إلى آخر.. ابتسم وقال: ستدرك المعنى الآخر بنفسك كلما قرأت وعركتك الدنيا وخبرت دروبها وشرورها ستهتدى إلى ما يريده الله لك. وتدريجيًا أدركت أن العبادة فقط من صيام وصلاة وزكاة وحج البيت والإيمان بالقضاء والقدر ليست هى فقط اليقين بل هناك أشياء أخرى..
وأنا أدفن والدى نزلت بخطوات مرتعشة وجلة وكان معى خالى رحمة الله عليه فإذا بضوء ضئيل ينبعث من قبر مغلق منذ ستة أعوام.. وعرفت الحقيقة الأولى أن المؤمن الحق يرجو من الله أن يعفو عنه وينير قبره ويفتح له باب الجنة ويذكره دائمًا،

بعدها أدركت الحقائق تباعًا.. فاليقين ليس فقط الموت ولكنه الثبات على الإيمان(اؤمن ان اعوام عجاف يعوضها القليل من الثواني)  وطلب الثواب والرحمة والمغفرة فى كل لحظة.. اليقين هو إدراك أنك ستقابل الخالق برحمته وإحسانه وعطفه مهما كنت محسنًا وعابدًا وصادقا وكريمًا.. المؤمن يدرك تمامًا أن الدنيا مرحلة من مراحل العهود فى الآخرة.. الدنيا هى المزرعة التى لن ترى فيها زرعك أبدا لأنك ستحصده فى الآخرة.. اليقين إذن أن تخاف الله سرًا وعلانية وتحاول جاهدًا تجنب ما نهى الله عنه.. يقول الرسول الكريم صلوات ربى عليه بعد إحدى المعارك «عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» أى جهاد النفس لأنه المخرج من الظلمات للنور.. النفس البشرية بها السيئ والمستقيم، والذى يدرك اليقين هو الذى ينتصر على الوساوس والنوازع الشريرة.. يقول ربى فى كتابه العزيز (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) سورة الشمس.. وفى موضع آخر يقول تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىءٍ قَدْرًا)، سورة الطلاق.
اليقين فى معنى آخر أن تسعى وتجتهد أما النجاح فمن عند الله.. اليقين أن تتأكد أنه لا حول لك ولا قوة ولا تملك لنفسك نفعًا ولا ضرًا (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله).. من معانى اليقين الصبر على البلاء فى هموم الدنيا (المرض والفشل وفقد الأعزاء والإفلاس المادى) والإيمان أنها ابتلاء وامتحان من الله لاختبار أصحاب العزم.. اكظم غيظك إذا غضبت.. لا تيأس إذا فشلت.. (لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).. أى لا يقنط من فرجه ورحمته إلا الكافرون.. اليقين أيضًا أن ذنوبك مهما عظمت يغفرها الله ما عدا الدم والدين فلا مغفرة فيهما.. يقول نبينا فى حديث صحيح «لا يزال المؤمن فى فسحة من دينه ما لم يصب دما حرامًا» لأنه فى هذه الحالة ظالم لنفسه ولغيره.. اليقين هو أيضًا طلب المغفرة دائمًا وفى كل لحظة.. الله يفرح بتوبة عبده.. يقول أبوموسى الأشعرى عن المصطفى رضوان الله عليه «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل».. وأختم فى آخر أيام شهر التوبة والمغفرة والرحمة بقول الإمام على رضى الله عنه «العجيب من يهلك ومعه النجاة، قيل وما هى؟، قال: الاستغفار».. وقانا الله وإياكم شر غفلة الدنيا وغرورها.

*

اليقين في منطق التفكير العلمي يبقى بالأساس موضوعياً لا ذاتياً


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق