Feb 17, 2021 . Oct 6, 2021 Dec 17, 2021 May 4, 2022
العزلة هي قدر الإنسان والحب خلاصه الوحيد
ولماذا تُرعبنا فكرة أننا مقبلون على شيء نجهله ولا نعرف عنه شيئا؟ ولماذا يُصاب الناس بالهلع المُفرط في وقت الأزمات والكوارث؟ ولماذا نُصاب بقلقٍ مُربك حين نضطر لأن نوجد مع أنفسنا لوحدنا؟ وهل هناك أسباب عميقة وراء قلقنا اليومي؟
علم النفس الوجودي، والذي تأسس على أطروحات الفلسفة الوجودية التي أرسى قواعدها عدد من الفلاسفة الوجوديين أمثال كيركيجارد، ونيتشه، وهايدغر، وسارتر
الطبيب النفسي الأميركي إرفن يالوم، أحد رواد العلاج النفسي الوجودي، فإن جذور القلق الإنساني وما يعانيه المرء من مشكلاتٍ ومخاوف في حياته اليومية ليس إلا تشكُّلاتٍ سطحية لأربع أزمات وجودية جوهرية تواجه كل إنسان على الدوام
أولا بالخوف من الحرية الذي يترتب عليه شعورنا بالخوف من فقدان السيطرة على كل شيء، ثانيا الخوف من العزلة والإقصاء الاجتماعي، وثالثا الخوف على الذات من الخواء وفقدان المعنى، وأخيرا الخوف من الموت والفناء، وهو الشكل الأكثر حضورا في حياتنا اليومية
خلافا لباقي المدارس النفسية، يرى رواد العلاج النفسي الوجودي أن جذور القلق الإنساني لا تكمُن في دوافع جنسية أو تشوّهات معرفية، بل في وعينا بواقع الوجود، أي إداركنا أننا الآن هنا في هذا الزمان وهذا المكان(5). الأمر الذي يُحتّم علينا ممارسة حريتنا والتفاعل مع الحياة واتخاذ القرارات وارتكاب الحماقات. ونتيجة لهذا الوعي، نُصاب بالهلع الداخلي، فنقضي حياتنا ونحن نحاول السيطرة على كل ما يصيبنا وكل ما نتعرّض له، آسفين على ما فاتنا، ومذعورين مما سيأتينا.
ما نشهده من هلعٍ وتوتر يوميّ أساسه الخوف من فقداننا السيطرةَ على أنفسنا، وهو ما يتولّد أثناء تجربتنا لممارسة الحرية، إذ بالرغم من قيمة الحرية السّامية في هذا الوجود، فإن ممارستها بحد ذاتها أمرٌ مربك ومثير للذعر. فالإنسان بطبعه يميل للارتكاز على نقاط الأمان التي يعرف (بدءا من الرحم (النقطة الأكثر أمانا ومنعدمة الحرية)، ومرورا بالطفولة (النقطة الأقل أمانا ومتوسطة الحرية)، ثم الشباب (النقطة الأقل أمانا والأعلى حرية). وهكذا فكلما ابتعدنا عن رحم الأم، كنا أكثر عُرضة للهَلع، وفقدنا أماننا المَكين. لكنه هلعٌ لا بد منه، إذ على المرء أن ينضج وأن يمارس حريته، وأن يبتعد عن الاتكاء دائما على والديه أو نقاط الأمان التي يتخذها لنفسه، وإلا سيبقى مكانه دائما وأبدا، دون أن يتقدم خطوةً واحدة إلى الأمام. فكلّ قرار جديد نتخذه إنما هو مخاطرة من حيث الأمان، وتقدُّم من حيث ممارسة الحرية(6).
هكذا وبحسب عالم النفس الألماني إريك فروم، فإن الناس بطبعهم يخافون من الحرية، إنهم يحبون أن يُملى عليهم ما يجب عليهم فعله، يحبون الخُطط المُعدّة سابقا والسير في مسارات مرسومة بالأساس. ولذا يقضي معظم الناس حياتهم كغيرهم؛ خائفين، من دون تفرّد أو امتياز. أما ممارسة الحرية فهي تَقدّم إيجابيّ في خبرة الحياة واكتشافها والتفاعل مع الوجود. ونتاج هذا كله: إيجادنا معنى حياتنا، وأن نغدو أكثر نضجا وحكمة. غير أن عبء الحرية مُكلِّف ومخيف، ألا وهو القلق؛ قلق الحرية(7).
لاحظ علماء النفس الوجودي عددا من الطرق التي يحاول الفرد من خلالها حماية نفسه من قلق الحرية. فقد يلجأ المرء للتسويف، والتأجيل، أو التلكؤ، لكي يتجنّب اتخاذ قرار ما، أو قد يتظاهر المرء باللا مبالاة حالَ عجزه عن القيام بفعل ما، أو قد يُشغلِ الإنسان نفسه بتصرفات غير متعلقة بالحدث الذي يقلقه، كمحاولته تشتيت وعيه من قلق الحرية عبر تطوير سلوك قهري أو وسواسي مثل: وسواس النظافة (وهو أمر يمكن السيطرة عليه ويُشعره بالأمان)، وقد يحاول شاب ما، يواجه قلق الحرية في تحديد مصيره المهني أو الوظيفي، أن يُجنِّب نفسه كل هذه المعاناة من خلال إسقاط مسؤوليته على والديه.
يلجأ الناس كذلك إلى إستراتيجيات دفاعية مماثلة لتجنُّب القلق الذي تتسبب به اختياراتهم السابقة في الماضي، وإحدى أكثر الطرائق شيوعا في حماية المرء لنفسه ضد شعوره بالذنب أو الخزي هو إزاحة مسؤوليته عما حدث في الماضي، باعتبار أن سببا خارجيا أو شخصا آخر كان قد تسبّب به له. وبحسب علماء النفس فإن معظم السلوكيات الدفاعية التي يطوّرها الأفراد لتجنب قلقهم بدلا من مواجهته قد تمنحهم شعورا سطحيا ولحظيا بالأمان، لكنها في نهاية المطاف، بعد مُراكمات متتالية وتجنب مستمر، تتسبّب في مشكلات وتوتّرات عميقة ودائمة(8).
2
خوف من العزلة
(أن تدرك أنك في نهاية المطاف تواجه هذا الوجود لوحدك)
في كتابه "البحث عن الذات"، يلفت رولو ماي الذهن لالتفاتةٍ لطيفة حين يقول: "يتحدث الناس يوميا مع بعضهم بعضا حول الموضوعات نفسها، والأحاديث نفسها التي تحدثوا بها في الأمس. ليس المهم عندهم ما يقال، بل المهم الإبقاء على نوع من التواصل، إنه جزء من تأكيدنا لأنفسنا، أننا ما زلنا موجودين، وجزء منه لطَرد الوحشة، والدافع وراء الأحاديث والأفعال هذه كلها هي تلك الخشية العميقة في قرارة أنفسنا من أن نبقى وحيدين"
"حب التوحُّد معه ومطابقة ذاته مع ذات مَن يحب"، فيسلبه شخصيته، مانعا إياه من التصرف بحرية. لأجل ذلك ينبّه إريك فروم أن الحب الناضج والصحي هو ذلك الذي يدرك فيه الطرفان فرادَة الآخر منهما، في الوقت الذي يلتحمان فيه معا في علاقة واحدة تحترم شخصية الآخر وعُزلته.
أما على الصعيد اليومي، فأبسط تجليات هذا الخوف هو الإرباك الذي يُصيب الإنسان حين يكون وحده، حيث يحاول كثير من الناس تشتيتَ أنفسهم من خلال الإمساك بأجهزتهم عوضَ أن يقضوا وقتا مع أنفسهم ويتأملوها بهدوء، وعوض أن يقضوا وقتا حقيقيا مع أبنائهم أو مع مَن يحبون. يذهب المحلل النفسي البريطاني ستيفين غروش إلى أننا نستخدم التشتيت والانشغال كوسيلة دفاع ضد شعورنا وإدراكنا لأنفسنا، كي لا نستحضر اشتياقنا مثلا لشخص ما، أو لكي لا يصير مطلوبا منا أن نصير أكثر حضورا بشخصيتنا الحقيقية، وهو أمر قلما نعرفه عن أنفسنا.
فروم فالمشغولون مرعبون، "الإنسان الذي يملأ الدنيا ضجيجا وصخبا حاذِره. فهو في الغالب لا يملك جسارة تأمل نفسه في المرآة، والجلوس ساهما لساعات في مساءلة قُبح العالم أو جماله. وبلحظة خروجه من العمل يبدأ تفكيره بالتسكّع، والخروج مع الأصدقاء، والثرثرة فيما يُفيد وما لا يفيد. لا يتحمل بقاءه وحيدا، لا يمتلك شجاعة مواجهة القلق الذي يُستثار حال مواجهة ذاته"
3
الخوف علي الذات من الخواء
(أن تفقد قدرتك على تعريف نفسك أو معنى حياتك)
يخشى أن يمضي العمر به دون أن يعرف قط مَن هو. فالعالم كبير للغاية، وتدفق البشر لا ينتهي، وقد استهلك مَن سبقنا معظم الاختراعات والاكتشافات والتصرفات التي كان بإمكانها أن تجعلنا متميزين. كان الناس في الماضي يولدون بهوية واضحة ومعروفة (كأن تولد ابنا لشيخ القبيلة، أو أن تكون الطبيب الوحيد في القرية)، أما الآن فقد صارت هوية المرء مسؤولية الفرد نفسه في أن يصنعها وأن يجدها في هذا العالم الضخم والسياسات الكبرى التي تُشعِره بالضآلة وتصاغر ذاته وأحلامها وقيمتها في العالم
هناك طُرق احتجاجية عديدة يمارسها الأفراد لتعريف ذواتهم في عالم لا يأبه للهويات الطبيعية المستهلكة، أبرزها العنف أو التطرف المثير للانتباه والملاحظة، وكذا انتهاج سلوكيات غير طبيعية وغير اعتيادية ولو بدت مريضة أو مثيرة للشفقة، لكنها في النهاية تجلب الانتباه والملاحظة.
الشعور بالفراغ والخواء الداخلي ما هو إلا نتيجة طبيعية لغياب المعنى الذاتي وفقدان المرء للغاية من وجوده بالأساس، فإذا لم تكن الغاية من وجودي الوظيفة التي أعمل بها، فماذا إذن؟ يلجأ الناس لسلوكيات عديدة مثل الموسيقى ذات الأصوات الصاخبة كوسيلة لطرد الوَحشَة وزيادة مُدخَلات الذهن فلا يفكر في نفسه، وهو سلوك قديم كان يمارس في الغابة ليلا، لتَطرد به الجماعات وَحشة الغابة والليل عبر التجمهر وقرع الطبول والأصوات الصاخبة والرقص حول النيران(12). وقد تنبّه فيكتور فرانكل إلى أن الناس ينغمسون في الملذات والشهوات اللحظية والآنية بشكل أكبر كلما شعروا بفقدانهم للمعنى والغاية من وجودهم
4
الخوف من الموت
(أن تُدرك أن ما يمضي لن يعود أبدا)
الموت بالنسبة لعلماء النفس الوجوديين هو المصدر الأساس للقلق الإنساني على اختلاف أشكاله(14). ويستهلك الفرد نفسه وطاقاته في الحياة كمحاولة لديه لإنكار الموت. فبالإضافة إلى موتنا الذاتي، تُقلقنا فكرة احتضار مَن نحب، وهذا الوعي بمدى محدوديتنا وفنائنا مع ترقبنا لهذه اللحظة المليئة بالريبة واللا يقين، يستثير لدى البشر قلقا هائلا.
مواجهة قلق الموت، يستخدم الأفراد إستراتيجيات عدة لتقليل وعيهم بقلق الموت، مثل اعتقاد الفرد بأنه ذو خصوصية استثنائية (Specialness) من خلال القيام بأعمال غريبة واستثنائية ونادرة، مثل المخاطرة والعدوانية، وقد يستخدم إستراتيجيات أخرى مثل الانشغال الدائم كإدمان العمل (Workaholics) أو مثل الإفراط في أنشطة جنسية قهرية تهمس في أذن الموت بأنه ما زال يتمتع بالحيوية والنشاط، أو قد يتخفّف من هذا القلق كله عن طريق تجارب الانسحاب من الواقع والذهول عنه من خلال الإدمان على الحشيش والمخدرات التي تخفف من حِدّة إدراكه لواقعه وآلامه
يُخيفنا كل ما يُهدِّد حياتنا، لكننا كبشر نختلف عن الحيوانات في أن الفص الجبهي (Frontal lobe) للقشرة الدماغية (Cerebral Cortex) لدينا يُمكِّننا من إدراك موتنا في أي وقت، حتى في الأوقات التي لا يتهدّدنا فيها أي خطر. فالإنسان هو الكائن الوحيد -فيما نعرف- الذي بإمكانه أن يتخيل موته أو موت عزيز عليه أو موت أي كائن آخر، وهو الكائن الوحيد الذي يعي أن موته أمر محتوم لا مفرّ منه سيحين عاجلا أم آجلا
خوفنا من الموت هو الدافع الرئيسي وراء معظم السلوكيات البشرية، وأنه في حالاته الشديدة هو السبب الكامن وراء الكثير من الاضطرابات النفسية.
نحن نتجاوز الخوف من الموت بإحدى ثلاث طرق: الإنكار، الهرب، التسامي. ويحدث الإنكار والهرب بالانشغال والتشتيت والتجاهل، ويحدث التسامي بالتركيز على حقيقتنا الرمزية والمعنوية، حين نؤمن بأن الموت ليس النهاية إلا لحقيقتنا البيولوجية المادية، أما حقيقتنا الرمزية المعنوية فهي خالدة
مفارقة مخيفة أن يدرك المرء أن هذا الإنسان الذي لديه اسم وعائلة وتاريخ وإنجازات وممتلكات هو نفسه هذا الجسد الذي يغطيه التراب وتبتلعه الأرض ويختفي للأبد.
طقوس التخليد الرمزي والإيمان بحياة ما بعد الموت. وإحدى طرق التخليد الرمزي هي أن ننسب أنفسنا إلى ما يُمثِّلنا ويستمر بعد رحيلنا، مثل: القبيلة، الأمة، الوطن، النسل، الأبناء، مساهماتنا الأدبية والعلمية والفنية. وأقدم القصص التي نعرف حول هذا كله ملحمة جلجامش، فقد كان جلجامش مهجوسا بكونه فانيا، فراح يسترضي الآلهة لكي يمنحوه سر الأبدية، ثم راح يبحث عن ترياق الخلود، وحين فشل في هذا كله، جاء في نفسه أنك إذا أردت أن تكون خالدا فعليك أن تقوم بأفعال خالدة، أن تفعل خيرا وأن تعمر الأرض بالآثار والمنشآت العظيمة.
يتجاوز الناس هذا الهلع والذعر في الأزمات عبر إستراتيجيتين رئيسيتين: أولا، رؤية العالم (Worldview)، أي الإيمان برؤية جماعية يتجاوز فيها الإنسان خوفه من فنائه بالموت من خلال تركيزه على الأفكار والرؤى الكبرى، مثل: الدين، الأمة، الوطن، الجماعة، القبيلة، كمحاولة للتخليد الرمزي من خلال نسبة ذواتنا إلى ما يبقى بعد موتنا. وهكذا يتعاظم الحديث عن مدى تميز أمتنا أو وطننا ومدى خيريته ومدى حبنا وانتمائنا له، ومدى تماسكنا. أما الإستراتيجية الثانية: تقدير الذات (Self esteem)، أي تأكيد الأفراد على أهميتهم الفردية والشخصية من خلال تعظيم الدور الذي كان يقوم به، محاولا أن يؤكد لنفسه وللموت أن هناك دورا مهما أفعله في هذه الحياة، وكأنها وسيلتنا لإقناع الموت باستثنائنا لأننا مهمّون لهذه الحياة. ومن الأمثلة على هذه الإستراتيجية ما يفعله الكثير من الأطباء والمهندسين وذوي التخصصات المختلفة في تأكيد أهمية دورهم في هذه الأزمة، وما يُملون به على الآخرين من تعليمات وخطوات لحمايتهم، وهو أمر مفيد بالطبع، إلى حدٍّ ما(18).
*
"الإنسان كائن اجتماعي بطبعه
"الإنسان كائن اجتماعي بطبعه"
ا نبحث عن أطفال الحارة حتى نلعب معهم، وفي مراهقتنا عندما كانت "الشلة" تعني لنا الكثير، فهم لنا أن نكون ضمن منظومة معروفة لها ملامح أو نجد ملامحنا من خلالها، فكنا نقضي الساعات على الهاتف في أحاديث لا معنى لها سوى أنها دلالة على أننا هنا نتنفس ونمارس الهذيان، ولعل الحال لا يختلف في مرحلة الشباب أو الشيخوخة سوى أن الانتقائية أصبحت تفرض نفسها مع تقدم العمر وتحدد ملامح الشخصية، وكما قلنا في البداية "الإنسان كائن اجتماعي بطبعه".
ولأننا كائنات اجتماعية فإننا نشعر بالأسف لمن هم خارج الجماعة أو "الشلة" أو هؤلاء الذين لا يملكون حس النكتة أو حسن الحديث أو جاهلون في فن الإصغاء وهذه هي المقومات التي تجعلك ضمن "شلة" أو "جماعة"، ونحن نتعاطف كثيراً مع من يشعرون بالوحدة، أو يشتكون من الملل، لذلك تجدنا نتوجه بنصيحة ذهبية لهم "اخرجوا، قابلوا الناس، امضوا وقتاً مع الأصدقاء"، لماذا ننصحهم بالخروج والاستمتاع بقضاء الوقت مع الأصدقاء والأصحاب؟ لأن هذه هي الاجابة الوحيدة التي تتناسب مع الشكوى من "الوحدة" أو "الملل"! وعكس "الشخص الوحيد" هو "جماعة من الناس" أما الملل فإنه حتماً ينتج من الرتابة وهل هناك أكثر رتابة وروتيناً من أن ترى وجهك وشعرك المنكوش في المرآة كل صباح! ونعيد ما قلناه في البداية "الإنسان كائن اجتماعي بطبعه".
لكن... هل يصح لنا أن نبدأ الفقرة بلكن؟ ألا يرغب الشخص منكم في أن يقضي وقته وحيداً؟ هناك أشياء كثيرة لابد أن تقوم بها وحدك.. كالقراءة مثلاً! وأنت تستمتع بالقراءة! قد يكون مثالاً غير موفق! لنسأل سؤالاً آخر، هل كل من كانت الوحدة تلزمهم هو أناس تعساء؟ أليس أكثر الناس إنجازاً وتميزاً هم من يقضون أوقاتاً كثيرة لوحدهم أو يعملون بصمت؟ هل يمكنك أن تعمل أو تنجز أو تحقق شيئاً أو حتى تنجح في امتحان إذا انشغلت اجتماعياً أو إذا أصبحت كائناً اجتماعياً فقط؟ ألا تحتاج أحياناً إلى أن تتحول إلى كائن غير اجتماعي خاصة حين يصبح الآخرون مجرد عائق يبعدك عن نفسك وعن ما تريد؟
++++++++++++++++
وما نشهده من هلعٍ وتوتر يوميّ أساسه الخوف من فقداننا السيطرةَ على أنفسنا، إذ بالرغم من قيمة الحرية السّامية في هذا الوجود، فإن ممارستها بحد ذاتها أمرٌ مربك ومثير للذعر. فالإنسان بطبعه يميل للارتكاز على نقاط الأمان التي يعرف (بدءا من الرحم (النقطة الأكثر أمانا ومنعدمة الحرية)، ومرورا بالطفولة (النقطة الأقل أمانا ومتوسطة الحرية)، ثم الشباب (النقطة الأقل أمانا والأعلى حرية)). وهكذا فكلما ابتعدنا عن رحم الأم، كنا أكثر عُرضة للهَلع، وفقدنا أماننا المَكين. لكنه هلعٌ لا بد منه، إذ على المرء أن ينضج وأن يمارس حريته، وأن يبتعد عن الاتكاء دائما على والديه أو نقاط الأمان التي يتخذها لنفسه، وإلا سيبقى مكانه دائما وأبدا، دون أن يتقدم خطوةً واحدة إلى الأمام. فكلّ قرار جديد نتخذه إنما هو مخاطرة من حيث الأمان، وتقدُّم من حيث ممارسة الحرية(6).هكذا وبحسب عالم النفس الألماني إريك فروم، فإن الناس بطبعهم يخافون من الحرية، إنهم يحبون أن يُملى عليهم ما يجب عليهم فعله، يحبون الخُطط المُعدّة سابقا والسير في مسارات مرسومة بالأساس. ولذا يقضي معظم الناس حياتهم كغيرهم؛ خائفين، من دون تفرّد أو امتياز. أما ممارسة الحرية فهي تَقدّم إيجابيّ في خبرة الحياة واكتشافها والتفاعل مع الوجود. ونتاج هذا كله: إيجادنا معنى حياتنا، وأن نغدو أكثر نضجا وحكمة. غير أن عبء الحرية مُكلِّف ومخيف، ألا وهو القلق؛ قلق الحرية(7).إحدى أكثر الطرائق شيوعا في حماية المرء لنفسه ضد شعوره بالذنب أو الخزي هو إزاحة مسؤوليته عما حدث في الماضيوقد لاحظ علماء النفس الوجودي عددا من الطرق التي يحاول الفرد من خلالها حماية نفسه من قلق الحرية. فقد يلجأ المرء للتسويف، والتأجيل، أو التلكؤ، لكي يتجنّب اتخاذ قرار ما، أو قد يتظاهر المرء باللا مبالاة حالَ عجزه عن القيام بفعل ما، أو قد يُشغلِ الإنسان نفسه بتصرفات غير متعلقة بالحدث الذي يقلقه، كمحاولته تشتيت وعيه من قلق الحرية عبر تطوير سلوك قهري أو وسواسي مثل: وسواس النظافة (وهو أمر يمكن السيطرة عليه ويُشعره بالأمان)، وقد يحاول شاب ما، يواجه قلق الحرية في تحديد مصيره المهني أو الوظيفي، أن يُجنِّب نفسه كل هذه المعاناة من خلال إسقاط مسؤوليته على والديه.يلجأ الناس كذلك إلى إستراتيجيات دفاعية مماثلة لتجنُّب القلق الذي تتسبب به اختياراتهم السابقة في الماضي، وإحدى أكثر الطرائق شيوعا في حماية المرء لنفسه ضد شعوره بالذنب أو الخزي هو إزاحة مسؤوليته عما حدث في الماضي، باعتبار أن سببا خارجيا أو شخصا آخر كان قد تسبّب به له. وبحسب علماء النفس فإن معظم السلوكيات الدفاعية التي يطوّرها الأفراد لتجنب قلقهم بدلا من مواجهته قد تمنحهم شعورا سطحيا ولحظيا بالأمان، لكنها في نهاية المطاف، بعد مُراكمات متتالية وتجنب مستمر، تتسبّب في مشكلات وتوتّرات عميقة ودائمة(8).ثانيا: الخوف من العزلة (أن تدرك أنك في نهاية المطاف تواجه هذا الوجود لوحدك)في كتابه "البحث عن الذات"، يلفت رولو ماي الذهن لالتفاتةٍ لطيفة حين يقول: "يتحدث الناس يوميا مع بعضهم بعضا حول الموضوعات نفسها، والأحاديث نفسها التي تحدثوا بها في الأمس. ليس المهم عندهم ما يقال، بل المهم الإبقاء على نوع من التواصل، إنه جزء من تأكيدنا لأنفسنا، أننا ما زلنا موجودين، وجزء منه لطَرد الوحشة، والدافع وراء الأحاديث والأفعال هذه كلها هي تلك الخشية العميقة في قرارة أنفسنا من أن نبقى وحيدين"(9).تبدأ القصة حين يدرك الفرد أن هناك فجوة غير قابلة للامتلاء بينه وبين أي موجود آخر. فهو يشعر على الدوام بالوحدة، مهما فعل، وفي نهاية المطاف سيعود وحيدا ومدركا أن العالم ليس أنا، وأنا لست العالم. والآخر ليس أنا، وأنا لست الآخر. يتسبب وعينا بهذه الفكرة بشعورنا بالوحدة والعزلة، مما يثير قلقنا الداخلي.
لا يظهر شعورنا بالعزلة والوحدة بشكل مباشر، إنما تتولّد لدينا رغبة أوضح في سعي الناس الدائم لأن يُلاحَظوا ويُنتَبه لوجودهم من قِبل الآخرين. تماما كطفل صغير يصرخ: "انظر إليّ.. انظر إليّ". وقد يذهب الخوف من العزلة لأقصاه حين تتولّد لدى الفرد رغبة مستميتة في الشهرة، فيقوم بأفعال وسلوكيات درامية بطريقة شاعرية غير واقعية كمحاولة للفت الانتباه. والغريب أن كل محاولة للالتفاف على المواجهة الناضجة لشعورنا بالعزلة، تُفضي في نهاية المطاف إلى شعورنا بالمزيد من الوحدة. فكل محاولاتنا للتشبُّث بالآخرين هربا من خوفنا من مصاحبة أنفسنا ومواجهة عزلتنا إنما تُفضي في النهاية إلى المزيد من الشعور بالوحدة.
وأنكر الأخلاق المسيحية وادعى موت الإله الذي تؤمن به أوروبا في ذلك الزمن.
تتمحور أفكار "نيتشه" عن الفرد قبل كلّ شيء، وحول أكثر الثّنائيّات إثارة: الضّعفاء والعبيد من ناحية، والأقوياء والسّادة من ناحية أخرى. لكن "نيتشه" هنا لا يضع طرفا منتصرا نصرا نهائيا، وطرفا مهزوما للأبد؛ لكنه يعلي من قيم الصراع؛ حين يعيب على الضعفاء والعبيد استكانتهم وضعفهم، وفقدهم للإرادة، وتسولهم للرزق والإحسان من الأقوياء، ويطلب أن يكونوا "أفرادا" ويطلب منهم عدم الذوبان في القطيع؛ حيث يقول في كتابه جينالوجيا الأخلاق "وهم يرغبون في التخلّص من حزنهم الدّفين وإحساسهم بالهوان، يتوق كلّ المرضى غريزيّاً إلى تشكيل قطيع"
"الإنسان الصرصار": لقد فقدنا صلتنا بالحياة إلى درجة أننا لا نملك أحياناً إلا أن نشعر بالاشمئزاز من "الحياة الحقيقية". ولهذا فإننا نغضب حين يذكرنا الناس بذلك. لماذا؛ بل إننا ذهبنا بعيداً جداً في هذا، وصرنا ننظر إلى "الحياة الحقيقية" باعتبارها عبئاً ثقيلاً، ونحن جميعاً متفقون على أن "الحياة" كما نجدها في الكتب هي أفضل بكثير. ولماذا نحدث كل هذه الضجة في بعض الأحيان؟ لماذا نخدع أنفسنا؟ ماذا نريد؟ إننا أنفسنا لا نعرف ذلك
يؤكد "نيتشه" على الفردانية والوحدة؛ حيث يقول "بقدر ما يميل الأقوياء بشكل طبيعيّ إلى التّباعد * الصحيح ان امدح بدون مقارنه بنفسي *، بقدر ما يميل الضّعفاء إلى "التوحّد" و"القويّ" الذي يريد من أعماقه أن يكون سيّد نفسه، يحبّ أن يكون فرداً -ذلك التّكوين الأكثر حداثة- إذ أنّ سعادة القطيع أقدم من سعادة الأنا"
ويقول في موضع آخر "تريد ألما أقل؛ انكمش وانضم للقطيع" ، حيث تمثّل العزلة لـ"نيتشه" الخيار الأوحد المتاح وتمثل الوحدة السّبيل الأكثر قسوة وتحفيزاً؛ لكنها الطريقة الأمثل عند "نيتشه" لصقل الموهبة وتحقيق الفردانية والحرية.
كل إنسان في هذا العصر يجهد في سبيل أن يتذوق الحياة كاملة مبتعدا عن أقرانه، ساعيا إلى السعادة الفردية. و لكن هيهات أن تؤدي هذه الجهود إلى تذوق الحياة كاملة، فهي لا تقود إلا إلى فناء النفس فناء كاملا، ولا تقود إلا إلى نوع من الانتحار الروحي بعزلة خانقة. لقد انحل المجتمع في عصرنا إلى أفراد يعيش كل منهم في جحره كوحش، ويهرب بعضهم من بعض، ولا يفكرون إلا في أن يخفوا ثرواتهم عن بعض. وهم يصلون من ذلك إلى أن يكره بعضهم بعضا، وإلى أن يصبحوا جديرين بالكره هم أيضا. إن الإنسان يكدس الخيرات فوق الخيرات في العزلة، وتسره القوة التي يحسب أنه يملكها بذلك، قائلا لنفسه إن أيامه قد أصبحت بذلك مؤمنة مضمونه، إنه لا يرى لحماقته، أنه كلما أوغل في التكديس كان يغوص في عجز قاتل. ذلك أنه يتعود أن لا يعتمد إلا على نفسه، ويفقد إيمانه بالتعاون، وينسى في عزلته القوانين التي تحكم الإنسانية حقا، وينتهي إلى أن يرتعد كل يوم خوفا على ماله الذي أصبح حرمانه يحرمه من كل شيء. لقد غاب عن البشر تماما أن الأمن الحقيقي لا يتحقق في الحياة بالعزلة، وإنما باتحاد الجهود وتناسق الأعمال الفردية"
تحرير الناس ربما يجعلهم في حالة من اللامبالاة، فالفرد هو ألد أعداء المواطن. ذلك لأن المواطن شخص يميل إلى البحث عن رفاهيته عبر رفاهية المدينة، بينما يميل الفرد إلى اللامبالاة والشك في القضية المشتركة والمصلحة العامة"
هذه الشكوك قد تصل بالإنسان الحديث إلى شكوك في الحياة نفسها، في جدوى الحياة، وجدوى التواصل مع البشر الآخرين، وإلى اليأس في أن يجد الإنسان شخصا يثق فيه، أو شخصا يفهمه؛ حتى باتت العزلة الاجتماعية قوية لدرجة "تمكنها من أن تتسبب في الموت المبكر كما يتسبب فيه تدخين 15 سيجارة يوميا"
فالبحوث تشير إلى أن "الشعور بالوحدة له ضعف الأثر السلبي للسمنة على الإنسان، فالجنون، وضغط الدم المرتفع، وإدمان الكحوليات، وحوادث الطرق جميعها مثل الاكتئاب، وجنون العظمة، والقلق، والانتحار، أصبحت منتشرة كلما انقطع تواصلنا مع بعضنا البعض"
رغم التقدم التكنولوجي الكبير في عصرنا الحديث، وتقدم وسائل الاتصال، وانتشار وسائل الترفيه والتسلية؛ حيث تبدلت وتطورت وسائل السفر، وانتشرت وسائل التواصل الحديثة، وأصبح بإمكان كل شخص أن يصل لأي شخص آخر في العالم ويتواصل معه، إلا أن الوحدة لا تزال تنتشر بقوة بين الناس، فهذه التغيرات وحدها "فشلت في شرح انهيارنا الاجتماعي. هذا التغير الهيكلي رافقته أيديولوجية "تجاهل الحياة"، والتي تُفرض علينا؛ بل وتحتفل بعزلتنا الاجتماعية"
فأضحت الحياة عبارة عن حرب الجميع ضد الجميع. حرب الفقراء ضد الأغنياء، وحرب الأغنياء لاستغلال الفقراء، وحرب النساء ضد الرجال، وحرب الرجال لاستعادة مكانتهم، وحروب الجيل الجديد ضد القديم. الحياة اليومية نفسها أمست في عصرنا ساحة معارك لا تنتهي، مكابدة يومية للحصول على الرزق، أو الحفاظ على الوظيفة غير الثابتة، أو الحصول على مقعد في سيارة أجرة.
هذه المعارك أصبحت "مسوغة ومقبولة بميثولوجيا الأبطال، أصحاب الأعمال الخاصة، أصحاب المشاريع الناشئة، والرجال والنساء العصاميين، كل هؤلاء يسيرون في الحياة بمفردهم". فكل هؤلاء الآن لا تهمهم حياة اجتماعية آمنة؛ بل النجاح وحده، النجاح والتفرد وإثبات الذات، والانتصار على الجميع؛ ذلك مطلب كل الأبطال المتفردين الآن.
بيد أن الحياة الآن -خاصة في عالمنا العربي- أضحت لا تستحق المشاركة، حياة مليئة بالأخطار والمصاعب والغد فيها غير مضمون، حياة باهتة وغير حقيقة، يحاصرها الفساد، والاستبداد السياسي، ويسمم هواءها الكذب والنفاق والفقر والظلم، وقد عبر الأديب نجيب محفوظ عن تلك الحياة في روايته "ثرثرة فوق النيل" حيث سيصبح الموظف مثل المثقف التقليدي مثل الفنان التافه.. كلهم عديمي الفائدة، يحيون حياة مضطربة بلا معنى، وسيتم اعتبار رواية "ثرثرة فوق النيل" ضمن روايات "اللامواجهة"؛ "التي تصور الإنسان في حالة هروب من الواقع الاجتماعي، فهو ليس في حالة خضوع للواقع ولا مواجهة، يهرب من واقعه إلى عالم خاص من صنع المُخيَّلة، دون أن يجد ملجأً حقيقيًّا من المشكلات التي تلاحقه، وهي محاولة يائسة لا تزيده سوى حسرة وغربة، فهذا الوهم الذي صنعه لا يقل تعاسة عما كان عليه قبله، فالوهم نفسه أصبح سجنًا آخر. فشخصيات الرواية يحيون غير منعزلين عن الناس يذهبون لأعمالهم صباحا؛ لكن كلا منهم يحيا في وحدته الخاصة؛ فينعزلون آخر الليل في "العوامة" ويسخرون من كل شيء حتى من أنفسهم .
يعتزل الناس بحثا عن ذاته، ولتحقيق حريته الوجدانية الخاصة على طريقة "نيتشه"؛ حيث اعتزل "نيتشه" الناس وعاش وحيدا في نهاية حياته حتى مات، وفي تلك الفترة كتب "هكذا تكلم زرادشت" الذي يعد من أهم كتبه، كما قدم قبل ذلك الإمام أبو حامد الغزالي تجربة ملهمة في الاعتزال؛ حيث سيترك حياة التدريس والمناظرات والمناكفات مع الشيوخ والطلاب، ويعبر الصحراء وحده بحثا عن ذاته؛ متأملا في وجوده، وفي حياته السابقة. وهذا ما سيعتاد عليه الأشخاص الموهوبون في عصرنا؛ حيث لا يصبح هناك مشتركا يجمعهم بالناس خاصة، وقد امتلأت الحياة بالزيف؛ فيلجؤون إلى عزلة يحاولون فيها تجنب الحياة المزيفة والعلاقات المزيفة المليئة بالكذب والنفاق.
كتب المفكر علي عزت بيجوفيتش من محبسه "الإنسان ليس حيوانا اجتماعيا؛ بل كلما زادت إنسانيته زادت فرديته، وسعيه نحو العزلة. والإنسان العادي ليس اجتماعيا بسبب حبه للآخرين؛ ولكن لأنه غير مكتف بذاته، إنه هروب من الخواء والرتابة والحياة الخاصة، والعكس صحيح؛ فالإنسان الروحاني حقا؛ الناسك والزاهد، يمكن أن يقضي حياته كلها وحيدا
لكن يعود بيجوفيتش ويؤكد على الحياة الاجتماعية، وعن احتياج البشر لرفقاء مهما كانت مساحات العزلة والوحدة مهمة للإنسان؛ كي يعيد النظر في حياته وأفكاره فكتب أيضا "مشكلة العزلة؛ يعتقد البعض أن العزلة هي الطريقة الوحيدة لكي يؤكد الإنسان إنسانيته أو يثبتها، ويعتقد آخرون العكس: لا يمكن للإنسان أن يصبح إنسانا ويبقى كذلك إلا عندما يكون محاطا بالآخرين. فقد كتب زوسكيند، وهو كاتب ألماني من الجيل الجديد، قصته "الحمامة" ليوضح فقط أن الإنسان يفقد إنسانيته في العزلة، وأن الوجود الإنساني يكون إنسانيا فقط عندما يكون مع بشر آخرين".
*
العزلة والمهارات الاجتماعية *******
Oct 30, 2020
ذكاء الإنسان لا يتأثر بالعوامل الوراثية فحسب، بل الاجتماعية أيضًا وأحسب أن الثانية تفوق في تأثيرها على الأولى بحيث، الاختلاط بالمجتمع، التجربة، الخطأ والتعلّم، كلها عوامل تنمي ذكاء الفرد وتوسع من خبرته في الحياة، فالانعزال الطويل عن المجتمع يؤثر بالسلب على سلوك الفرد وعلى كافة عناصر تواجده بما ينعكس عليه بالقصور الاجتماعي.
عدم انتماء ولا مبالاةوشعور بالتباعد بين ذاته وذوات الآخرين.
قلة الاحتكاك الإنساني تعتبر عاملًا رئيسا بالشعور بالوحدة والعزلة، رغم أن الشعور بالحاجة إلى العزلة هو جزء طبيعي من حالة الإنسان، لكن عندما تتحول تلك العزلة المؤقتة إلى أسلوب حياة بالكامل، هنا تكمن الفجوة التي قد تدل على ضعف في شبكة العلاقات الاجتماعية ونقص في التفاعل الاجتماعي الذي يعكس بدوره نوعا من القصور في المهارات الاجتماعية للفرد.
طبيعة تفاعل الفرد مع الجماعة التي ينتمي إليها ويكتسب من خلال هذا التفاعل القيم والاتجاهات ويكون عاداته ويتعلم أساليب السلوك المختلفة، ويتحدد من خلال هذا التفاعل مدى تماسك الجماعة ومدى الأثر الذي ستتركه لدى الفرد فإنه حينما تختل علاقات الفرد بأعضاء جماعته ينتج عنها نقص في التفاعل الاجتماعي فينفصل بعيدًا أو يعيش في عزلة.
ما يميز العلاقات الإنسانية هو التماسك الاجتماعي والتجاذب بين الأفراد فهذه تعد من أهم العوامل التي تدفع بالفرد إلى كونه بالفطرة جزءا أساسيا ومكونا لهذه العلاقة التفاعلية؛ لأن المجتمع هو المسؤول عن الجزء الأكبر فيما يخص إكساب السلوكيات وخلق التوجهات حسبما توافق عليها الجماعة ويرتضيها المجتمع. حيث يتعلم كيف يعدل من تصرفاته ليتمكن من البقاء والاستمرار داخل مجتمعه.
الجزء الأهم من خبرة الإنسان يتم اكتسابها عن طريق التعامل مع مختلف الشخصيات.
يجب أن نتعلم التواصل مع الآخرين بطريقة نشعر فيها بالأمان والرضا، وبما يعيننا على ممارسة المهارات الاجتماعية وتطويرها، وإن تخصيص جزء من الوقت والاهتمام في مساعدة الآخرين من الأمور التي تبعث على الراحة في النفس وتزيد من الرغبة تجاه التفاعل الاجتماعي وهذا ما قد يجعلنا نشعر بالسعادة والثقة
*
فالحياة وسط المجموعة أسهل وقاسمها المشترك العمل الجماعي لتأمين الغذاء والتناسل وقبل كل شئ الحماية من المخاطر كمواجهة الحيوانات المفترسة.
أما الشخص الذي يعاني من الوحدة فكانت نسبة الكورتيزول لديه مرتفعة، وأظهرت دراسات أخرى بأن النسبة كانت مرتفعا طيلة اليوم، والنتيجة: يحصل الجسم على إمدادات لمواجهة أعراض صحية محتملة، فيقل النوم وترتفع نسبة السكر والضغط، كما تتدنى كفاءة جهاز المناعة بسبب الكورتيزول.
Oct 3, 2021
من اعتزل الناس سلم
Oct 10, 2021 Jan 10, 2022
كتاب عقدة الخواجة
الانفصال الاجتماعي غالبا ما يُسبب مشاكل على مستوى الصحة العقلية والنفسية.
الوباء الصامت المسمى بالوحدة.
مشاكل اقتصادية وديموغرافية، وأزمات مرتبطة بالعمر ونقص الدعم الاجتماعي.
الافتقار إلى الثقة إلى الشعور بالوحدة المزمنة، وهي مشكلة شائعة جدًا
مبدأ الثقة، يدعم جَودة الروابط الاجتماعية. بيد أنه، عندما يتم تحطيم هذه القاعدة من خلال أفعال وأقوال ومواقف، فإنه عادة ما يترك جرحا كبيرا.
الخيانة صدمات عميقة، تشل الحركة وتعزل الشخص عن المجتمع
يغير الشخص أفكاره ويتوقف عن الإيمان بأبعاد مثل الحب والصداقة والأسرة
في دوامة الشعور بالوحدة، بمجرد أن تعزل نفسك، من الصعب إعادة التواصل الاجتماعي
التوقف عن إنتاج الأوكسيتوسين، الذي يتأثر بالتفاعل الاجتماعي، مما يعني أن منح الثقة مرة أخرى أمر معقد وربما لن يتكرر.
الافتقار إلى الارتباط في مرحلة الطفولة. إن وجود والدين باردين عاطفيا وغير قادرين على توفير الأمن والاهتمام باحتياجات الطفل، يترك دائمًا بصمة عميقة. غالبًا ما تكون إساءة المعاملة في الطفولة أو التنمر أو العلاقات العاطفية المؤلمة، ركيزة هذا الشعور.
افتقار واضح للعدالة في مكان العمل، أو يتعرض شخص ما لموقف مزعج، فمن الشائع أيضًا أن يشعر بنقص الثقة والرغبة في العزلة.
ينتشر الحقد والخوف من الأذى، وهذا يجعل الشخص ضعيف الشخصية.
نسيان جراح الماضي هو أنسب نقطة انطلاق لتكون قادرا على مواجهة الحاضر واكتساب الثقة بالآخرين أو بنفسك مرة أخرى.
*
انعدام التواصل مع الآخرين يسبب أمراض القلب والأوعية الدموية
اختيار الثلاثة الأكثر راحة. وجاءت النتيجة غير متوقعة، ففي المركز الأول كانت القراءة، ويليها التواجُد في بيئة طبيعية، ثم الوحدة، ثم الاستماع للموسيقى، وأخيرا عدم القيام بأي نشاط محدد.
كل هذه الأنشطة تكون فردية. فهل يكون اعتزال الناس هو كل ما نريده حقا لنرتاح؟
وجاءت كل الأنشطة الاجتماعية، مثل الالتقاء بالأصدقاء والعائلة، والتحدث مع الناس، أو احتساء المشروبات مع الآخرين، في ذيل قائمة الأنشطة المريحة. ولا يعني ذلك بالضرورة أن المشاركين ليسوا اجتماعيين، ولكنهم لا يعتبرون أن الأنشطة الاجتماعية على وجه التحديد مريحة.
المدهش أن هذه النتائج يتساوى فيها الاجتماعيون، الذين يُعرفهم العلم بأنهم يستمدون الطاقة من الاختلاط بالآخرين، والانطوائيون، الذين يعتبرون الاختلاط بالآخرين أمر مجهد. الفارق الوحيد هو أنه رغم أن الأشخاص الاجتماعيين وضعوا المحادثات والأنشطة الاجتماعية في مرتبة أعلى، إلا أنهم يقبلون أيضا على الأنشطة المنفردة.
اختيار الوحدة يختلف عن الإجبار عليها.
يركزون على ما يشعرون به، وأجسامهم، مشاعرهم عندما يكونوا وحدهم".
فرضية تواصل الناس مع أذهانهم وأفكارهم وهم منفردون ليست صحيحة بشكل مطلق، فبحسب ألدرسون-داي "يقول المشاركون إنهم يتحدثون إلى أنفسهم 30 في المئة فقط من الوقت. وهي إشارة إلى أن الوحدة لا تعني فقط قطع الاتصال بالناس، ولكن أن يتسني لهم قطع الحوار الداخلي أيضا".
وفي أوقات الراحة، والتي يُفترض عدم القيام بأية أنشطة أثناءها، تميل عقولنا للتساؤل والتفكير. ويكون المخ أكثر نشاطا في فترات عدم التركيز على إنجاز مهام، عنه أثناء القيام بمهام محددة.
وتتضاعف مستويات الصحة العامة لدى من لا يشعرون بالحاجة للمزيد من الراحة، في مقابل من يشعرون بالحاجة للمزيد منها، مما يعني أن فكرة الأشخاص عن الراحة بنفس أهميتها في الحقيقة. فإذا لم نشعر بالراحة، تقل الصحة العامة.
فحقيقة أن من يحصلون على المزيد من الراحة تكون صحتهم العامة أفضل، دليل قوي على الحاجة إلى الراحة."
فالمسؤوليات أصبحت موضع فخر في المجتمعات المعاصرة. والانشغال أصبح مرادفا لاحتياج الآخرين للفرد وأهميته. وعن سماع سؤال "كيف حالك؟" وإجابته بـ"مشغول كثيرا"، ما تأثير مثل هذه الإجابة على حالة الفرد؟ وهل يميل أصحاب الدخول الأعلى إلى القول بأنهم أكثر انشغالا؟ أم أنهم يعملون في وظائف تستخدم التكنولوجيا الحديثة بحيث تتلاشى الحواجز بين العمل والراحة، ويشعرون بعدم القدرة على الانفصال تماما عن بيئة العمل؟
"وثمة حاجة لأن يكون الأطباء أكثر وضوحا بشأن ما يعنية الطبيب بكلمة الراحة عندما يوصي بها. ويجب اكتشاف ما يعتبره الشخص مريحا. وأحيانا يكون القول للمريض بألا يفعل شيئا دافعا للتوتر بدلا من الراحة."
ويبدو أن الكثير من الناس يريدون المزيد من أوقات الراحة، لكن ربما الأمر لا يتعلق بعدد ساعات الراحة أو العمل، بقدر ما يتعلق بأنماط العمل، وأنماط الراحة، وعامل الوقت بصحبة الآخرين أو بمعزل عنهم.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق