Jan 31, 2021
حكم غالب القيادات السياسية في العالم العربي والإسلامي، منذ الاستقلال الموهوم وحتى اللحظة الراهنة، من مزيد من استنزاف الطاقات والثروات، وتهجير العقول، وتكريس الدم والفتن الطائفية والقومية، وزعزعة استقرار البلاد، وتحويل المشتركات إلى متناقضات، وإشعال الحروب البينية التي تغذّي قوة السلطة كالخلاف بين القومي والديني والإسلامي والعلماني وبين أبناء الدين الواحد وبين أتباع دين ودين آخر، ولا نشك أن معظم تلك المواجع المجتمعية يغذيها الرأس المستبد الذي يتبع ثلاثية القهر والإهانة:
كيف يمكن تكوين التشكلات الشعبية التي تدفع المجتمع للبناء، ورفض اتجاه التقوقع داخل مؤسسة الدولة والاستسلام لإكراهاتها؟
الانقسامات والتلفيقات والتخبط لدى الأفراد والجماعات هي سيدة الموقف، وما يوجد هو بالأحرى منصات تتكون وتتفكك وتتنازع وتتقارب وفقا للقوة الدافعة واتجاه الريح. هذا هو التحلل والتفكك.
نحن الآن في معركة إعادة التأليف والنشأة الجديدة وتناقضاتها وتجاذباتها في انتظار أن تتبلور التيارات ومحتوياتها ومعانيها الجديدة لمرحلة ما بعد الثورة. باختصار مسحت الثورة وقوّضت التيارات القديمة أو السابقة، والتحدي يكمن في إعادة بنائها في سياق الصراع على إعادة بناء سورية الدولة والمجتمع.
تلك المصارحة الشافية عن الواقع السوري المرير تحكي قصة مشاهد مكررة في العراق وفي مصر وفي ليبيا، وقابلة للظهور من جديد في ساحات وبلاد عربية أخرى..
غالب خطابات النهضة والإصلاح لا تفكر وفق قاعدة (ما هو كائن وصولًا إلى ما يبنغي أن يكون) بل تعمّق في خطابها (ثقافة القفز فوق الراهن) من خلال (تجاوز ما هو قائم إلى ما ينبغي أن يقوم)، وهذا معطب في التفكير ومطبّ واقعي يحول دون أي تغيير.
فاليوم لم يعد بمقدور أي علماني أو قومي أو ديني أن يدّعي أنه يملك الحل الوحيد، بل لا بد من:
من التوافقات المجتمعية بين كل المكونات التي يجب أن تسود فكر التيار الأساسي الشعبي والنخبوي:
كل تيار يدّعي نفي أي تيار آخر فسوف يتحول إلى جزء من المشكلة وليس إلى جزء من الحل.
الجدل الثري والساخن وعقلية التكامل عين البناء الصحيح،
لا معركة بين قومي وديني وعلماني وإسلامي إذا حرّرت مسطرة لقياس حد كل جهة، فلا مجال لأن يمتطي العلماني الحكم ليركل الديني، ولا يصح لديني أن ينسف أمن المجتمع، ولا يجوز لقومي أن يجعل من قوميته ديانة.
الكنيس والكنائس والمسجد والصليب وطاووس والهلال وكل دين له دوره، وكل منهج سياسي وفكري له طرائقه على أن يلتزم الكل إرادة المجتمع التي تبني السلم.
جديرًا بكل طرف أن يعترف بالقيمة الموضوعية للطرف الآخر، حيث إن كل طرف يمكن أن يعبّر بطريقته ومن الزاوية التي يعتقد فيها نماء وصلاح الوضع في البلاد، وعن المطالب الوطنية والدينية والقومية التي كانت ترمي إلى تحريك عجلة الحياة المدنية وتوجيهها نحو الأهداف المنشودة، فالمساحة المشتركة التي تنضج بالاحتكام إلى القانون وبالتدافع والتلاقي بين كل المشروعات هي ما يمكن أن نطلق عليه تسمية التيار الأساسي.
هذا ما يمكن وضعه حجر أساس في بناء مشروع مواطنة، فالعدل وسيادة القانون وكرامة المواطن ملامح يمكن أن تختزل ما تتفق عليه هذه التيارات في سياق تعاطيها مع متطلبات المرحلة التاريخية وما يمكن تحفيز الجميع عليه.
من المحزن حقًا مع كثرة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أن يبقى قصور الوعي الجمعي حاضرًا، وهذا لم يكن من حظ الشعوب فحسب بل من سمات غالبية النخب.
إن التيارات السياسية والفكرية وإن اختلفت غاياتها وتنوعت، لا بد من أن تلتقي عند غاية واحدة هي خدمة الهدف الوطني المشترك الكبير.
التيار الأساسي لم يتشكل بعد في كل المجتمعات العربية والإسلامية، وهذا فوّت عليها فرصة ذهبية للجمع بين محاور الوطنية والاستقلال والديمقراطية والمرجعية المجتمعية التي تقوم على قواسم الانتماء لهوية المجتمع والعدالة الاجتماعية في نضالها السياسي.
بناء العدالة التي يتطلع إلى تحقيقها أبناء البلد على أرض الواقع بغية تحقيق إطار أساسي ينظم العلاقة بين هذه المكونات المختلفة ويتسع لمختلف التعبيرات دون التنكر للأولويات الوطنية التي تقتضيها المرحلة التاريخية، ينبغي أن يكون جهاد الجميع كما أنه من المفروض أيضًا الوعي بحجم التداعيات التي من الممكن أن تنجم عن غياب هذا الوعي.
فكرة التيار الجامع فكرة يستعصي تحقيقها بالمبادرات الفردية لكونها تولد من رحم التفاعلات السياسية والفكرية المتنوعة، إذ لا معنى لها مع غياب تعدد ينتهي إلى صناعتها وطرحها تتويجًا للجدل الذي يحيط بها.
بناء التيار الأساسي هو نتيجة حوار دائم، وليس عبر حلة من التخوين والشتائم. والحوار ليس مجرد عقد مؤتمرات أو إجراء ندوات في الصحف والكتب، بل هو حوار يشمل: أشكال الالتقاء المبني على المصارحة والمكاشفة والاستقلالية والخروج من النظر من الثقوب والشقوق، والتحاور بین الحركات السياسية ونشاطها السياسي نفسه، وبهذا المعنى تصبح المعركة الانتخابية حوارًا، وتصير نتائجها المستخلصة بغض النظر عن الأرقام والنسب، مرآة تعكس ما قد تتفتق عنه تفاعلات الحركة السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع بتياراتها المختلفة.
وبالنظر إلى أفكار ونضال التيارات الكبيرة، يحق لنا أن نطرح المسألة الوطنية عنوانا جامعا ناظما لجهودها ومؤطرا لجدالاتها الطويلة المضنية.
لقد استهلك التضاد بين مكونات المجتمع طاقات التيارات كلها منذ عقود طويلة متتالية، وقدّر لنا أن نعايش عصر سقوط أنظمة وثورات شعوب تبحث عن سبل تخليص الوطن والمواطنين مما يكبّلهم ويصادر حرياتهم ويعطل طاقاتهم المتطلعة إلى التقدم وکسب معركة التنمية في مختلف أبعادها.
قدّر لنا أن نعيش تلك المعركة القاسية حتى غدت الحاكم والرابط لكل المسائل المختلفة التي ترتبط بها، وإذ تظهر في شكل جدول أعمال نستغرقه في نهاية المطاف فيما نطلق عليه ضياع الوطن والمواطن.
لقد تحول الوطن إلى عائلة الطائفة الحاكمة، والمواطن إلى قتيل وشريد ومنفي ولاجئ، والدين إلى سكين، والقومية إلى حربة، وكل الوطن إلى هويات بدائية، ولم يتوافق الكل على فكر الخلاص الجمعي بل الكيد الضدي، وضاعت المسألة الوطينة. هذا المعطى الذي يمنح قيمة موضوعية ومقياسًا للخطأ والصواب يمكن أن تقیس به مختلف المواقف السياسية والاجتماعية .
الكل لا يزال مشغولًا بالممول وأجندته، لذلك لا يوجد عند تلك التيارات من فصل بين التحرر الوطني وواجبه في استقلال الإرادة على اعتبار أن كلًا من معركة الحرية والسعي نحو التحرر من التبعية وجه للمعركة الطويلة ضد الإهانة بأبعادها المتعددة، وعلى صلة بقضية التحرر، تأتي التنمية باعتبارها من تفريعات المسألة الوطنية التي تشمل في ما بعد الوضع الثقافي ومدى استقلاليته. السبيل الوحيد هو استعادة الثقة بين المكونات ولا فضل لمكون على آخر إلا بالمواطنة والإيمان بالقانون .. ذلك السبيل.
العدل هو الأساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق