الاثنين، 1 أغسطس 2022

الرأي العام *********

Nov 29, 2019 Mar 16, 2021

دور الإعلام الاجتماعي في تكوين الرأي العام 

تُعد صياغة وتشكيل الرأي العام في المجتمعات من الأدوار الرئيسة التي تقوم بها وسائل الإعلام الجديدة، ويتضاعف ذلك مع التطورات النوعية المتزايدة في مجالات تقنية الاتصالات، والتي منحت وسائل الإعلام إمكانيات وقدرات هائلة في التأثير على الآخرين، الأمر الذي جعل من وسائل الإعلام عاملاً رئيساً من العوامل المؤثرة على الرأي العام؛ إن لم يكن أهم تلك العوامل.

وتتم عملية التأثير على الرأي العام بخطواتٍ وأساليب متعددة، فوسائل الإعلام باعتبارها مصدراً مهماً من مصادر المعلومات تقوم بتزويد المتلقي بشكل مستمر بكم هائل من المعطيات والمعارف المختلفة في شتى القضايا والموضوعات، وهذه المعلومات قد تكون صحيحة ضمن سياقاتها الطبيعية، وقد تنزع منها فتتغير دلالاتها، وقد تكون معلومات ناقصة ومشوهة، بل وقد تكون مكذوبة، كما أنها قد تكون معلومات محايدة لا يُراد منها خدمة توجه معين، وقد تكون معلومات موجهة.

كذلك، ساعدت وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة على ربط التواصل بين الشعوب بمختلف توجهاتها الحضارية؛ متجاوزة بذلك الحدود السياسية والجغرافية، والعزلة الحضارية التي كانت تعيشها معظم المجتمعات البشرية، إذ يشهد عالمنا المعاصر تحولات كبيرة في تكنولوجيا الاتصال، تؤثر في العلاقات السياسية والاقتصادية، وفي أنماط التفكير في المجتمعات المختلفة.

وشكلت هذه الوسائط عنواناً رمزياً لكثير من الفعاليات والتظاهرات والاحتجاجات والحراكات الشبابية، سواء أكانت موجهة للنظام السياسي، أو ضد توجهات أو ممارسات تقوم بها أطراف رسمية أو أهلية تتعارض مع أهداف وتطلعات الشباب وحقوقهم وآمالهم.

فنحن اليوم نعيش مرحلة جديدة لشكل جديد من أشكال صناعة الرأي العام، ونقل صورة مغايرة لما كان ينقله الإعلام التقليدي والرسمي في منطقتنا. وحتى أن ظل التلفزيون سيد المشهد فإنه اليوم لا يستغني عن المحتوى الذي يصله من صناع الخطاب (المحتوى) الجديد في مناطق الحراك العربية.

وقد قامت هذه الوسائط الحديثة، ولا تزال، بدورٍ فعال في إمداد الإنسان بكثير من المعلومات والمواقف والاتجاهات؛ مساهمة بذلك في تشكيل وعيه، وبإعداده ليكون أكثر قدرة على التأثير في الآخرين واستمالتهم.

أن حجم تأثير شبكات التواصل الاجتماعي يتناسب طرديا مع نهضة المجتمع التكنولوجية والمعرفية، وأنها شبكات اتصال اجتماعية تتيح لجميع المشتركين التنسيق والتواصل بحرية مطلقة والمشاركة في صنع الأحداث ومتابعتها وكسر حاجز الخوف وحولت العمل السياسي السري إلى نشاط علني.

وانطلاقاً من تزايد عدد المشتركين في تلك الشبكات والوسائط الرقمية، لا سيما في الوطن العربي، فقد أدى إلى تصاعد تأثيرها ودورها في المجتمع والتحولات الجارية، وزيادة مستوى منافستها لوسائل الإعلام التقليدية في تشكيل الرأي العام حول العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.  

ولكن يجب الإقرار، هنا، أنه رغم أن هذه الوسائط الإعلامية ساهمت في زيادة قدرات الناشطين والممارسة السياسية وبلورة وتشكيل الرأي العام إلا أنه لا يمكن في الوقت الحالي اعتبارها بديلا يعوض عن الممارسة السياسية التقليدية.

إن وسائل الإعلام الحديثة تدفع الجمهور إلى تبني رأي معين من خلال إيهام المتلقي بأن موقفها يمثل الرأي العام، فتصفه مثلاً بأنه يمثل" الموقف الوطني"، أو " الإحساس العام"، أو أن " معظم الناس يؤيدون"…"، أو من خلال اللجوء إلى التقاليد الاجتماعية، والادعاء بان الآراء الأخرى تخالف تقاليد المجتمع، وأنها آراء شاذة، أو عبر تقديم تفسيرات قانونية اجتهادية؛ لتصبح أعمال أصحاب الآراء الأخرى وأنشطتهم خروجا عن القانون، وإن كانت هذه التفسيرات غير مسلمة وقابلة للنقاش. 

*

عندما يصبح الرأي العام شريكا

العراق مثلا، أسس المتلاعبون بالوعي بعد الاحتلال فكرة أن (البلد) لا تستقيم إدارته إلا بالحكم الطائف
فإذا قبلنا بمفهوم الرأي العام على أنه: حكم عقلي إزاء مسألة من المسائل التي يثار حولها الجدل المجتمعي. ذلك يعني أن الرأي العام يفترض أن يدور مع العقل وجوداً وعدماً، فهو صوت الأمة الذي ينبني عليه الإجماع في الأمور الشرعية والعقلية كما يراه الأصوليون. وفي مفهوم الديمقراطيات والنظم الحديثة يفترض أن يكون الرأي العام حاكما في اتخاذ القرارات وتقرير مشروعية الأحكام استنادا لنتائج الرأي العام والمناقشات المجتمعية.
تعتمد أنظمة الاستبداد العربي عادة على صناعة الرأي العام وتوجيهه باتجاه مقاصد سياساتها، عن طريق حجم الدعاية والإعلام على قاعدة شرعنة العلاقة بين الرأي العام وصانعيه. باستهداف العقل مناط الرأي والإرادة. وتكون بداية توظيف الرأي العام دائما مع الفكرة عن طريق دور الجماعات التي تضع البذرة. مثل قولهم (الشعب العربي لا يحكمه إلا العسكر) أو قولهم (الحرية لا تنسجم مع العقل العربي). فكرتان معناهما الحقيقي لا ينسجم إلا إذا كان موجها لطبقة من العبيد. والمهارة تأتي لاحقا في اسلوب الاقناع والحشد لهذه الفكرة كي تنمو فتغطي المساحة الأوسع للمجتمع، يأتي بعدها ظهور الزعامة والقيادة فتتبعها المرحلة التي تتسع فيها دائرة النقاش ويشترك فيها عدد كبير من الناس لا يعرف بعضهم بعضا لكنهم أصبحوا ينتمون إلى الفكرة بل قاموا بتبنيها.
شواهد تسويق المعلومة وإدارة العقول تتجلى في مظاهر وحوادث كثيرة.. هناك في بلاد التنوع الحضاري - العراق مثلا، أسس المتلاعبون بالوعي بعد الاحتلال فكرة أن (البلد لا تستقيم إدارته إلا بالحكم الطائفي) ولحقتها في الدورات الانتخابية اللاحقة فكرة (الترجيح بين قوة المترشحين باعتبار الداعم الإيراني أو الأمريكي). الغريب وبعد مناقشات واسعة ومشاركات مجتمعية عامة جعل عدداً كبيراً من الناس يتقبلون هذه الأفكار ويتبنونها أيضا، لينتهي الأمر بالجماعات السلبية في المجتمع إلى السير في ركب التائهين والتأييد بالتصفيق أو التظاهر  وغير ذلك، فيما المعارضون لهذه الأفكار يقعون في حبائل الحرج في مخالفة الأغلبية فيميلون إلى الصمت مما يسهم في عزل الصوت المعارض. وإلى أن يستفيق المنقادون سلبيا والقوى المعارضة، يكون الرأي العام قد تكون. وهذا ما يفسر اليوم خواء ونشاز أصوات الطبقة التي تدعي الثقافة والنخبوية في رفض الانتخابات المقبلة على الأسس الطائفية لأن الطبقة نفسها قبلت أن تكون يوما ما جسرا للطائفية وارتضت أن تسير خلف كل ناعق. وهي نفسها التي أسهمت في تكوين الرأي العام الفاسد.
هناك أيضا مراحل أكثر تعقيدا وخطورة متمثلة بتضليل الرأي العام من خلال التأثير على عقلية المتلقي وجعلها متقبلة ومهيأة لحالة الوهم والتزوير والإرباك المتلائم مع الأهداف التي خططت لها الجهات المسيطرة والمالكة والمتنفذة في إدارة الرأي العام ما قد يصل إلى حد الجريمة من خلال تبرير جرائم القتل الجماعي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وربما تصويرها على أنها بطولات يستحق أصحابها الأنواط والنياشين .
بهذا الوصف لا يخرج تضليل الرأي العام عن إطار الجريمة، بالنظر إلى ركنها المادي الذي يكتمل بثلاثية الفعل المتضمن الدفع بالإرادة إلى الضلال وعدم الاهتداء إلى الاختيار السليم. إضافة إلى السبب والنتيجة .
تضليل الرأي العام أمر خطير يتحدث به الكثيرون، لكن القليل من يدرك أثرة ومراميه ونتائجه. وحدهم المتلاعبون بالعقول قادرون على إدارة هذه اللعبة.
إنها لعبة الشياطين
يرى هربرت أ. شيللر في كتابه المتلاعبون بالعقول، " أنه عند وقوع أزمة فعلية أو حتى كاذبة ينشأ جو هستيري محموم بعيد عن المعقولية. يؤدي إلى النفخ في أهمية الموضوع، ومن ثم تكون الخطوة التالية إفراغه من أي أهمية. ونتيجة لذلك تضعف القدرة على التمييز بين الدرجات المتباينة للأهمية 
الرأي العام مع اختلاف أنواعه هو المستهدف الطبيعي، فلا فرق بين رأي عام كامن لأسباب سياسية ينتظر الانفجار ليتحول إلى ثورة شاملة، وبين رأي عام ظاهر تقوده أجهزة الدول مستغلة الإعلام والجماعات السياسية الانتهازية.
المختلف هو فعل التضليل من حيث آلياته وأهدافه. ذلك يعني أن صناعة الرأي العام تختلف باختلاف عقائد وأفكار الأمم والدول، وهذا الاختلاف والتمايز محكوم بالقدرة على إنتاج فكرة التضليل واختبارها وتنفيذها.
ذلك التنفيذ الذي يجسد حالة الارتباط بمنظومة تزييف الوعي وتضليل الرأي العام، من خلال تفعيل وتجسيد دور (حراس البوابة) التي أشار إليها العالم (كرت لوين) في أن هناك في كل حلقة ضمن السلسلة فردا ما يتمتع بالحق في أن يقرر ما إذا كانت الرسالة التي تلقاها، سينقلها إلى الجمهور أو لا ينقلها، وما إذا كانت تلك الرسالة ستصل إلى الحلقة التالية بالشكل نفسه الذي جاءت به ، أم سيدخل عليها تغييرات جوهرية توحي بعكس الواقع ،الأمر الذي يعتبر شكلا من أشكال تضليل الرأي العام بجميع وسائله المتمثلة بالانتقائية المتحيزة والتلاعب بالمعلومات باستخدام مفردات معينة تؤدي إلى إصدار أحكام بالإدانة على المواقف والأشخاص والجماعات . وإرغام الشعوب على القبول بالنفايات المعلوماتية لتشتيت الانتباه عن القضايا الأصلية. وبذلك يتم إبعاد الرأي العام عن إنتاج حكم عقلي لحسم قضايا الجدل المتعلق بمصير الأمة.
إذن الرأي العام لا يأتي من فراغ. وبالمقابل إذا أحسنت قوى المعارضة صنع الرأي العام والحشد الصحيح له، فان ذلك سيرقى لمرتبة المعادل الموضوعي لنجاح أي فكرة وإخراجها من محيطها الضيق إلى ساحات الرأي العام التي سوف لن تكون حكرا للمتلاعبين بالأفكار.

*

الرأي العام الإسلامي الذي احتقره "العقلانيون" وعظّمه الفقهاء


الرأي العام" مفهوم واسع متعذّر الضبط متعدّد التعريفات لتوزعه بين حقول شتى منها السياسي والاجتماعي والنفسي والإعلامي،

كان العامّة دائما مادّة النزاع بين علماء الدين وحملة الفكر ورجال السياسة، ونقطة الصراع بين المتشابكين من زعامات الفِرَق والطُّرُق والمذاهب الفقهية والفكرية؛ فكلّ فرقة تخاطب العامّة بمذهبها وتعرض عليها أفكارها وتسوّق لها مواقفها. وانطلاقا من تلك الحقيقة؛ نجد الدراسات الإنسانية اليوم كلها تتجه إلى العامّة دراسة وتحليلا واستقراء لآرائهم وسلوكهم، لتحديد كيفية استقطابهم أو التعامل معهم بما يتوافق مع رغبات الفاعلين المجتمعيين.

بالعودة إلى التراث الإسلامي الديني والاجتماعي والسياسي؛ سنجد أن "العامة" لم يكونوا مهمشين في الشأن العام المعرفي والواقعي، بل كانوا هم مادته المركزية لدى فئتيْ العلماء والأمراء، باعتبارهم محل الرضاء والمقبولية والسيادة والخشية في الآن نفسه. فضلا عما كان لهم من "رقابة شعبية" كثيرا ما دفعتهم للتحرك من موقع الرأي إلى موقف الفعل، وما كان يؤدي إليه ذلك من ثورات وهبات اجتماعية ملأت التاريخ السياسي والاجتماعي في الحضارة الإسلامية.

علماء الشرع؛ فقد حاول العلماء أن يجعلوا إيمان العامة قويا والتزامهم الديني عميقاً؛ فبحثوا دور العامة في صياغة "الرأي الشرعي" وخاصة في المجالين الرئيسيين: العَقَدي (أصول الدين) والتشريعي (أصول الفقه)؛ فبحثوا ما يلزم "العامِّيّ" (نسبة إلى العامة) في صحة الاعتقاد والاجتهاد، وحددوا منزلة موقفه فيهما والمساحة التي يعمل فيها ومدى حجية رأيه فيهما.

 فخر الدين الرازيّ (ت 606هـ/1209م) خلاصة نقاشات العلماء بشأن موقع العامة في مراتب الناس على سلّم المعرفة، وما يجب على المنتسب إلى العامة طبقا لموقعه المعرفي؛ فيقول -في كتابه ‘المحصول‘- إن مراتب المشتغل بالعلم ثلاثة: 

 يكون عاميا صرفا، أو عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد، أو عالما بلغ درجة الاجتهاد". ثم أوضح أن الشخص إذا كان عاميا فإن العلماء جَوّزوا له استفتاء العلماء، وإن كان عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز له تقليد عالم غيره.

اختيار حرّ

مع إلزام العلماءِ "العامةَ" باستفتائهم في الأحكام؛ فإن الإمام الغزالي (ت 505هـ/1111م) يلفت انتباه زملائه من العلماء إلى ضرورة النظر إلى فلسفة الدين ومقاصد الشريعة، فيدعوهم إلى إقناع العامة بذكر الدليل الشرعي لهم مقرونا بالآراء العقدية والفقهية حتى ترتاح نفوسهم، ويُقرر أنّ العامة وإن أُلجِموا عن تعاطي مسائل "علم الكلام" إلا أنّ الاعتقاد ينبغي أن يُبنى عن دليل تطمئن به قلوبهم.

يقول الغزالي في ‘إلجام العوام عن علم الكلام‘: "فإن قلتَ: العاميُّ إذا لم تسكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية إلا بدليل؛ فهل يجوز أن يُذكَر له الدليل؟ فإن جوزتَ ذلك فقد رخصتَ له في التفكر والنظر، وأي فرق بينه [في هذا النظر] وبين غيره؟ وإن منعتَ فكيف تمنعه ولا يتم إيمانه إلا به؟ والجواب: أني أجوّز له أن يسمع الدليلَ على معرفة الخالقِ ووحدانيته، وعلى صدق الرسول ﷺ، وعلى [ثبوت] اليوم الآخر…".

كتابه ‘القِسْطَاس المستقيم‘؛ يحيل الغزاليُّ العامةَ إلى القرآن الحكيم وأدلته في "الأصول" (العقائد)، وأما في "الفروع" (العبادات والمعاملات ونحوهما) فيحيلهم إلى المتفق عليه بين العلماء. ويقول للعامّي مخاطباً: "لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ عن جميع المتفق عليه". وينصحه إذا احتار في مسألة مختلف فيها بين الفقهاء فيقول: "اجتهد مع نفسك، وانظر: أيُّ الأئمة أفضلُ عندك، وصوابُه أغلب على قلبك" فاعمل به!

كيفية معرفة العامي بالأهلية العلمية للعالِم؛ وهو السؤال الذي طرحه الشهرستانيّ -في ‘المِلَل والنِّحَل‘- دون أن يحسم بشأنه، فقال: "ثمّ إنّ العامي بأيّ شيء يَعْرفُ أنَّ المجتهدَ قد وصل إلى حدّ الاجتهاد؟ وكذلك المجتهد نفسه متى يعرف أنه قد استكمل شرائط الاجتهاد؟ فيه نظرٌ"!

 العامي لا يخلو من نمط ما من الاجتهاد، وإلا كان كسولا في أسمى شيء في حياته وهو الدين وتعاليمه. ويتصل بذلك عدم حصرية ارتباط العامة بتقليد فقيه معيّن، إذ لهم -في أرجح الأقوال- حق استفتاء من يشاؤون من مختلف الفقهاء الموثوق بعلمهم، والدليل على ذلك "ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة، وأنه لم يُنقَل عن أحد من السلف الحَجْرُ على العامة في ذلك"

مساءلة مكفولة

ولم يكتف الفقهاء بتقرير حق العامة في اختيار علمائها ومفتيها واختبارهم قبل هذا الاختيار، بل أثبتوا لها أيضا حق مساءلة الفقيه أو المفتي عن دليله الشرعي على ما يقدمه لها من آراء فقهية، حتى إن الإمام الباقلاني (ت 402هـ/1012م) يوجب "على المستفتي أن يمتحن مَنْ يريد تقليدَه"؛ وفقا لما نقله عنه الجويني في ‘الغِياثي‘.

مسألة وجوب إقناع العامّة -باعتبار ذلك من مسؤولية الفقيه- بسلامة الآراء قبل تقليدهم إياها، وإلا فسيختلّ هذا التقليد إذا برز من شكّك فيه وأطعمَ العامةَ شبهاتِه.

وبعيداً عن تفاصيل الخلاف بين العلماء في جواز تقليد العامة للعلماء في العقائد من عدمه؛ النظرة إلى العامة كانت إيجابية إلى الحد الذي جعل بعضهم يسوّون بين العامي والمجتهد في تحريم التقليد في العقائد! فالإمام الإسْنَوي (ت 772هـ/1370م) يرى -في ‘نهاية السُّول‘- أنه "يجوز للعامة الاستفتاء في الفروع..، واختلفوا في الأصول (= العقائد).. فالأكثرون على أنه لا يجوز لا للمجتهد ولا للعامي"!!

ناقش علماء الإسلام ما إن كانت العامة جزءا من "الإجماع" الفقهي المعبِّر عن "عصمة الأمة"؛ وفي ذلك يقول الخطيب البغدادي -في ‘الفقيه والمتفقه‘ ملخصا النقاش في هذا الموضوع- إن "الإجماع على ضربين: أحدهما: إجماع الخاصة والعامة، مثل إجماعهم على القبلة أنها الكعبة، وعلى صوم رمضان..، والضرب الآخر: هو إجماع الخاصة دون العامة".

مكوِّن أصيل

الجويني -في كتابه ‘التلخيص‘- لكن بصيغة أخرى عمادها التفريق بين "إجماع الأمة" و"إجماع علماء الأمة"، رغم ترجيحه أنّ خلاف العوام لا يقدح في الإجماع؛ فقد رأى "أنا إذا أدرجنا العوام في حكم الإجماع فنطلق القول بـ‘إجماع الأمة‘، وإن لم ندرجهم في حكم الإجماع -أو بَدَرَ (= ظهر) من بعض طوائف العوام خلاف- فلا يُطلق القول بإجماع الأمة، فإنّ العوام معظم الأمة وكُثْرها؛ بل نقول: أجمع علماء الأمة".

 إعطاء الرأي العام "قوة تشريعية" إلى جانب العلماء. وهذا هو أساس مبدأ "عصمة الأمة" الذي تحدث عنه علماء الإسلام مثل الغزالي والآمدي وابن تيمية (ت 728هـ/1328م).

اصطفاء شعبي

وهذا في الواقع مرتبط بحرية الانتماء الطوعي والتنظيم التي كانت تسمح للمجتمع الإسلامي بأن يتشكل في انتماءات مذهبية فقهية وطُرُقية سلوكية، بل وحتى في روابط مهنية وظيفية؛ فهذه المذاهب والطرق والروابط كانت من أكثر محاضن الرأي العام فعّالية في الفضاء الحضاري الإسلامي.

فقد كان من عوامل انتشار المذهب الفقهي أو الطريقة الصوفية التفاف العامة حوله وتكوُّن تيار من الرأي العام داعم له. وهذا لا يأتي عبر الانتخاب الآلي؛ بل بالتفاعل بين الرأي العام ورجال المذاهب والطرق، وبين هذه المذاهب والطرق والواقع الذي تعيش فيه، وبينهما وبين حرية الاختيار والانتماء التي يتمتع بها العامة.

لذا كانت العامة إذا قبلت عالما أو فقيها أو صوفيا مُربِّيا وتكاثرت في حضور مجالسه عُدّ هذا الحضور دليلا على قوة ذلك العالم ومتانة مذهبه أو طريقه، وأثنى عليه المترجمون في كتب التراجم والطبقات المذهبية. فهذا الإمام النووي (ت 676هـ/1374م) يقول -في ‘شرح مسلم‘- في ترجمة الإمام المحدِّث أبي بكر بن أبي شيبة (ت 235هـ/850م) صاحب ‘المصنَّف‘: "واجتمع في مجلس أبي بكر نحو ثلاثين ألف رجل"!

جماهيرية داعمة

كانت "العامة حزبه" أو كان "شيخ العامة"؛ فقد قالوا مثلا إن خطيب البصرة وزاهدها عبد الباقي بن الحسن الشاموخي (ت 485هـ/1092م) "كان مشهورا بزهد وخير وأمر بمعروف، وكان العامة حزبه..، وكانت جنازتُه حَفِلة (= عظيمة)"؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

تنافس محتدم

كلام الجاحظ -بما كان له حينئذ من مكانة داخل النخبة المعتزلية والسلطوية- يثبت أنّ العامة كان تأثيرهم كبيرا على العلماء والفِرَق والتيارات الفكرية، وأنّ تلك النخب غضبت من ميل العامة مع خصومهم من أهل الحديث. ولعل في موقف الجاحظ وخالد بن صفوان -وهما أديبان من المعتزلة- من العامة ما يسمح بمقارنة موقف "التيار العقلاني" قديما بموقف "نظيره" المعاصر حين يأخذ على "العامة" دعمها لخصومه الفكريين المنتمين إلى "التيار المحافظ".

*

ما زال الشأن السياسي والاقتصادي والعسكري يدار في الدول العربية بالمنطق نفسه الذي يتجاهل الرأي العام

لماذا تخشى الأنظمة العربية إجراء استطلاعات نزيهة وحقيقية للرأي العام، تقوم بها مراكز بحثية مستقلة؟

هذه الأنظمة تخاف من إعلان نتائج هذه الاستطلاعات، خصوصا أنها تدرك أن قراراتها وأفعالها لا ترضي الناس أو غالبيتهم على الأقل.

هل يستطيع مركز بحثي عربي مستقل في بلد عربي أن يجري مثل هذه الاستطلاعات للرأي العام؟ وإذا أجراها، فهل يستطيع أن يعلن أن الثقة في الرئيس ومؤسسة الرئاسة منخفضة كما قالت "غالوب" عن الرئيس بايدن؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق