Jun 6, 2020
العقل الجمعي" أو "المطابقة الاجتماعية" تسميات لظاهرة نفسية تحدث عندما يفقد الأشخاص قدرتهم على اتخاذ القرار المناسب، ويفترضون أن الآخرين يعرفون أكثر منهم، وأن تصرفاتهم ربما تكون هي الصحيحة، فينصاعون للسائد دون تفكير، فيما يشبه سلوك القطيع.
وقد أظهرت نتائج دراسات للتحقق من نشاط الدماغ في هذه الحالة، أن المشاركين يغيرون اختياراتهم عندما يجدونها تتعارض مع رأي المجموعة، وكشفت بيانات الرنين المغناطيسي أن الصراع مع معايير المجموعة ينشّط المناطق المختصة بالتكيف السلوكي في الدماغ، حيث تؤثر توجهات المجموعة على الإدراك وصنع القرار، مما يجعل الأفراد يغيرون آراءهم وسلوكياتهم للتوافق معها.
وهو عكس التوافق الاجتماعي الذي يتشارك فيه الفرد مع المجموعة لكي يكون ناجحا ويتقبله الآخرون، وقد يكون له رأي أفضل من رأي المجموعة في موقف ما، وهو ما جسده هنري فوندا عام 1957 بدوره في فيلم "12 رجلا غاضبا" عندما أصر على وجهة نظره حتى أقنع بها بقية زملائه في هيئة المحلفين بعد معركة شرسة.
وضع الباحثون خمسة قرود في قفص مع سلم عليه ثمرة موز، وعندما حاول قرد الوصول إلى الموز، تم رش الباقين بالماء البارد، مما دفعهم إلى ضرب من يحاول صعود السلم باعتباره هو السبب في رشهم بالماء. وبعد استبدال أحد القردة بآخر جديد داخل المجموعة، سارع القرد الجديد نحو الموز، فانهال عليه الباقون ضربا دون أن يعرف السبب.
وعندما تم استبدال قرد آخر، كان القرد الذي سبقه هو أول من قام بضربه. وبعد تغيير جميع القردة بمجموعة جديدة لم تخض تجربة رش الماء البارد، كانت المفاجأة أنهم أظهروا الإصرار نفسه على ضرب من يحاول صعود السلم. وافترض الباحثون أننا لو سألنا القردة: لماذا تفعلين هذا؟ فسيكون جوابها: لأن هذا ما يحدث هنا.
ما يدور في أدمغتنا من سلوك داخلي يسمى "المطابقة الاجتماعية" حيث نتعلّم في سن مبكرة أن نتتبع خطى مجموعتنا ونشعر بالحاجة للانضمام إليها حماية لنا من الاستبعاد، ولأن هذا يجعلنا نبدو اجتماعيين ويعطينا شعورا بالراحة. كما تدفعنا الرغبة في التشابه مع المجموعة للتصرف وفقا لنظرية المطابقة، رغم تأثيرها لا شعوريا على تفكيرنا.
دوافع الانسياق
أجرى عالم النفس الاجتماعي الأميركي سليمان آش تجارب عدة لتحديد العوامل والدوافع المحفزة للانسياق خلف سلوك المطابقة الاجتماعية، من بينها تعدد مصادر التأثير، فالأشخاص الذين يستمعون إلى آراء إيجابية من خمسة قراء عن أحد الكتب سيتقبلون الكتاب أسرع من أن يسمعوا وجهة نظر قارئ واحد فقط.
كما يسهم الارتياب وعدم اليقين في لجوء الناس للعقل الجمعي طلبا للمساعدة، فقد أظهرت الأبحاث أن المستهلكين يأخذون بآراء الآخرين ويميلون إلى تصديقها عندما يحتارون في تقييم أو شراء سلعة.
كذلك تزداد المطابقة الاجتماعية بالرغبة في التماهي مع المجموعة عندما يكون أعضاؤها في وضع اجتماعي أعلى، وينظر الناس إليهم على أنهم أكثر قوة أو نفوذا أو معرفة منهم.
أيضا يُعد التشابه أو التماثل مع المجموعات المحيطة محفزا على سلوك العقل الجمعي، فحينما يدرك المرء أنه مشابه للأشخاص من حوله، فهو يفضل أن يتبنى تصرفاتهم، لذا لوحظ أن ضحكات الأشخاص ترتفع عندما يشاركون من يماثلونهم.
يسهم الارتياب وعدم اليقين في لجوء الناس للعقل الجمعي طلبا للمساعدة
مواجهة السخرية
وفي واحدة من تجاربه النفسية، وجد آش أن الناس كانوا على استعداد لتجاهل الحقيقة وإعطاء إجابة غير صحيحة من أجل التوافق مع بقية المجموعة حتى ولو كانت خاطئة.
حيث تم عرض مقطع لعمود واحد، ثم طلب من المشاركين اختيار العمود المطابق له من مجموعة تحتوي على ثلاثة أعمدة بأطوال مختلفة.
ومن بين 18 تجربة مختلفة، أعطى المشاركون إجابات غير صحيحة في 12 منها، وأشارت النتائج إلى أن المشاركين امتثلوا لإجابة المجموعة غير الصحيحة لاعتقادهم بأنهم أكثر ذكاء منهم.
وعندما سُئل المشاركون عن سبب مجاراتهم لبقية المجموعة في معظم التجارب، أجابوا بأنهم كانوا يعرفون أن بقية المجموعة خاطئة، إلا أنهم لم يرغبوا في المخاطرة بمواجهة السخرية.
العقل الجمعي
وفقا لتجارب آش، يظهر تأثير المطابقة الاجتماعية أو العقل الجمعي في كل مناحي الحياة، ففي المسارح يصفق واحد من الجمهور فيصفق الجميع دون تفكير. وفي فن الإقناع تُظهر الدراسات أن اقتناع الشخص بالتبرع يزداد عندما يجد قائمة بمتبرعين آخرين يعرفهم.
وفي المفاضلة بين شيئين، يختار الناس المطعم أو المقهى الأكثر ازدحاما باعتبار أن الزحام يدل على الأفضلية. كما يزداد اقتناعهم بسلعة ما لكثرة الأشخاص الذين يشترونها، وليس بناء على السعر والميول الشخصية
أيضا في الصحة، حيث القبول الساحق بأفكار غير مؤكدة وطرق علاجية غير مناسبة للعديد من المرضى لمجرد أنها رائجة.
وفي الموضة حيث يبدأ الكثير من الناس في ارتداء نمط معين من الملابس لمجرد انتشارها. وفي الموسيقى، عندما يستمع المزيد من الناس إلى أغنية معينة، فيتبعهم الكثيرون.
وفي مواقع التواصل الاجتماعي حيث ينشر الأشخاص موضوعا دون التأكد من مصدره، لمجرد أنه مذيل بجملة "أرسله لأكبر عدد ممكن"، ويتجنبون مخالفة التعليقات السائدة غالبا.
أكثر ما يكرهه القطيع هو إنسان يفكر بشكل مختلف، القطيع لا يكره رأيه في الحقيقة، ولكن يكره جرأة هذا الفرد على امتلاك الشجاعة للتفكير بنفسه ليكون مختلفاً، وهذا تحديداً ما لا يعرفه القطيع.
*
الضمير الجمعي
المجتمع إلا رابطة تربط بين مجموعة من الأشخاص من أجل تعاون جماعي، لكنه التف على الغاية الحميدة التي على أساسها بني، وابتكر منظومة من الصيغ وثبتها لإحكام السيطرة على أفراده وإلزامهم عدم الخروج عن الجماعة، لأنه يخشى التمرد ويحب التملك إبقاء لمصالحه (مصالح الفئة التي تنتفع من العمل الجماعي).
يظهر جلياً تأثير المجتمع على التفكير الفردي من خلال تحدث الواحد بضمير الـ"نحن" أي بلسان الجماعة، ليس تأدباً أو تواضعاً أو تعظيماً أو إعجاباً، ولا دلالة على مشاركة الفرد العمل مع الآخرين، بل يصدر ذلك لا شعورياً ليؤكد تغلغل الجماعة في الفرد.
للمجتمع قوة خفية تدفع الأنا للاستسلام فتصير أسيرة للجماعة وملكاً لها، تحركها رياح الجماعة حيث تشاء وفوق طاقتها، وبذلك يجد الفرد نفسه يعمل وفق إرادة الجماعة، وليس بحسب إرادته ورغباته وتوجهاته الفكرية.
ينتج المجتمع ضميراً مشتركاً موحداً تحكمه العادات والتقاليد والأعراف والسلوكيات السائدة، بدلاً من المنطق والفكر السليم، فيحتوي الأفكار الشخصية ويقولبها في قوالب جماعية تسيطر على العقول والنفوس.
تتولد عن هذه القيود الاجتماعية قيود نفسية يصعب على الفرد التخلص منها، إن أدركها، لأنها تتغلغل في أعماق النفس ومنذ الصغر، فتولد استعدادات داخلية قوية تدفع الفرد للرضوخ والتبعية والاستسلام، ومن تم يشد الضمير الجمعي ربقته وبإحكام على الفرد ويجعله خاضعاً أي منفعلاً لا فاعلاً.
هكذا فالضمير الجمعي جامد، اتكالي، فاقد للمبادرة ومغيب للحرية الفردية، أما مجال نشاطه فضيق رغم رحابة أفق التفكر، ضمير يقزم إمكانات الفرد ويصده عن الإبداع والتجديد إلا في حدود ضيقة جداً، لأنه يبني حواجز معنوية أمام العقل، بل أكثر من ذلك فهو تفكير نمطي عقيم لا يشجع الأنا على المبادرة، لأنه يخشى التفرد ويعتبره اغتراباً عن الذات الجماعية وتشويها لصورتها وتمرداً عليها...
إن ما نعيشه اليوم في مجتمعنا نتاج لسلطة هذا الضمير المطلقة، لقد سقف أحلامنا وجعلها تتشابه، بحيث أصبح حلم الأغلبية هو امتلاك سكن لائق وسيارة ومبلغ مالي لعوادي الدهر، وقليل من يفكر خارج هذا النطاق.
الجل يجري وراء تدريس الأبناء في مدارس جيدة لا من أجل المعرفة، بل من أجل التفاخر بالنتائج، أصبحت نتائج الأبناء هي من تحدد قيمتهم، هذا ما جعل الأطفال مجرد دمى في يد مجتمع أقبر أحلامهم، وأجهز على حقهم في اللعب، وفي استلذاذ طعم طفولتهم، وحول ذواتهم المبدعة إلى أرقام، وقليل من أضحى يهتم بتوجهاتهم، رغباتهم، سعادتهم، وهنائهم النفسي والروحي.
إنه مجتمع أناني حولهم إلى أشياء في يد الآباء، وحول الآباء إلى مجرد أسماء مختلفة تمثل شخصية واحدة لا أثر للتفرد فيها.
فالتفرد هو الحل وهو الأصل في الطبيعة البشرية التي تهوى التمرد، وبواسطته سيتمكن الفرد من ممارسة حريته الفكرية، أي يعيش متمفصلاً عن الجماعة، ذو شخصية فريدة، وممتلك لأهداف وأحلام ورغبات خاصة.
على كل فرد أراد التخلص من سوط المجتمع المسلط عليه وبيده على أبنائه أن يسعى لفردنة فكره.
أعلم أن المهمة لا تعدو سهلة لكنها ليست مستحيلة، إن الثورة على الضمير الجمعي السالب والسلبي هي السبيل الوحيد لتحرير الذات من قبضة الجماعة، ومن كل التأثيرات المجتمعية التي تكبل الإبداع.
فكسر الأغلال المفروضة على التفكير الفردي هي أساس فكر إنتاجي، واع، مستقل، ومدرك لعورات المجتمع، فكر ينزع ربقة العبودية على التفكير الفردي ويجعله ينظر للوجود بعين العقل والمنطق لا بعين الجماعة.
أكيد أن هذا سيولد في البداية ردوداً غريبة، لكن الغريب اليوم سيصبح فيما بعد مألوفاً، فأغلب الإنجازات في تاريخ البشرية كانت عبارة عن مبادرات فردية غريبة انطلقت من ذاتها إلى المجتمع وليس العكس.
*Sep 4, 2021
عندما يُعجب بك القطيع، ثق تماما أنك على خطأ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق