تبدأ من 80 مترا بسعر مليون و200 ألف جنيه، وتصل حتى 260 مترا بسعر يتجاوز 5 ملايين جنيه مصري.
راتبهم الشهري لا يُقارَن بأي حال من الأحوال بأسعار تلك الوحدات السكنية. بيد أن الجديد هذه المرة هو خطط السداد المعروضة أمام المصريين، التي صُمِّمت لتُغري الطبقات المتوسطة التي ترغب في استثمار يضمن لها مصدر دخل إضافيا، بل وربما يمنحها نوعا من الصعود الاجتماعي.
الحصول على وحدة سكنية في العاصمة الإدارية الجديدة بجوار أحد أفرع الجامعات الأجنبية بمُقدَّم يكاد يقترب من الصفر، مع خطة سداد تتراوح بين 10 سنوات إلى 30 سنة، ومن ثمَّ تصبح الوحدة فرصة استثمارية مُغرية، حيث يمكن أن تؤجَّر لبعض الطلبة الخليجيين على سبيل المثال ممَّن سيُفضِّلون الالتحاق بهذه الجامعات عن السفر للتعليم في أوروبا والولايات المتحدة، حيث تفوق مصروفات السكن والمعيشة والدراسة هناك نظيرتها المصرية بكثير.
الانجذاب لبريق هذه الفرصة الاستثمارية والتسهيلات الكبيرة في السداد التي تُتيحها الشركات العقارية الآن جعل الكثير من أبناء الطبقات الوسطى يتجاهلون احتمالات التخلُّف عن سداد الأقساط السنوية القادمة
"فخ التقسيط" الذي تنصبه الحكومة المصرية الآن يجعلها تمسك المستقبل من خاصرته، وتُعيد تشكيل المجتمع وسلوكه الاقتصادي والأخلاقي بواسطة "اقتصاد الديون"، الذي سيعمل على تحويل دور الدولة من توفير الرعاية والدعم إلى إخضاع المجتمع بسلاسل خفية من الديون والأقساط قد يختفي معها آخر لمحة من الحقوق الجماعية في الصحة والتعليم والعمل.
عصر النمو المدفوع بالقروض والاقتصاد المبني على الديون، إذ يمكنك أن تحصل على أي شيء تريد (شقة، سهم، علاج، تعليم)، ولكن ليس لأنه حقك الذي تضمنه الدولة بموجب الدستور، بل لأنك تستطيع الاقتراض ليس إلا، ولأنك تمتلك "ضمان قرض" أو تستطيع العمل للسداد. أهلا بكم في الشكل العصري لاقتصاد "الكادحين".
اقتصاد الديون.. من الديون العامة إلى الديون الخاصة
الإعلانات ما هي إلا خطأ تسويقي وقعت فيه الشركات العقارية، فهي تستهدف شريحة واسعة غير مناسبة ولا تستطيع الشراء"، هكذا يقول لنا أحد العاملين بالسوق العقاري بمصر،
الشركة سحبت أراضي من أربع شركات عقارية "بسبب تقصيرها في تنفيذ الجدول الزمني الذي وضعته شركة العاصمة الإدارية"، واصفا إياها بـ"الشركات غير الجادة".
حوَّلت تلك المشاريع الهائلة السوق العقاري بمصر من سوق استثماري لجميع المصريين إلى "مقامرة استثمارية كبيرة تكون فيها الدولة المساهم الرئيس"، كما يُشير يزيد صايغ. (2) إذن، فالقروض الكبيرة التي تأخذها مصر تستثمرها في السوق العقاري. وفي خضم تلك المقامرة الاستثمارية، أعلن البنك المركزي المصري عن ارتفاع الدَّيْن الخارجي للبلاد في الربع الأول من العام الجاري إلى 134.8 مليار دولار، بالمقارنة مع 129.1 مليار دولار في ديسمبر/كانون الأول 2020، وبزيادة قدرها 5.64 مليارات دولار. (3)
تعوِّض تكاليف البناء بأرباح عالية. ولكن نتيجة لانكماش الطبقة الوسطى وقلة المستثمرين الأجانب، تعتمد الدولة المصرية الآن على اللعبة التي تربح فيها الحكومات دوما: توفير القروض وتسهيلات الدفع بالتقسيط والفائدة. ولذا، يتحوَّل الاستهلاك تدريجيا إلى مصدر الربح الأكبر للحكومة والبنوك، وتتحوَّل نفقات الأُسر من شراء منزل أو سيارة أو تكبُّد نفقات الدراسة إلى القروض والفوائد البنكية. وأثناء هذه العملية، تصبح الديون العامة للدولة مُقسَّمة -ببساطة- على كل مواطن، فيقع على كاهل دافعي الضرائب من المصريين بصورة غير مباشرة عبء تسديد الديون وفوائد الديون التي يستمر النظام المصري في توقيع عقودها.
إعادة تشكيل المجتمع عبر القروض
قروضا عقارية، أو قروضا لشراء سيارات، أو قروضا لدفع مصاريف الدراسة بالجامعات الخاصة التي زادت في السنوات الماضية.
البنك يضمن قرضا نقديا بضمان تلك الشهادات، مع تسهيلات وامتيازات أخرى يوفرها كل بنك.
معيار "الأهلية" في مجتمع اقتصاد الديون هو الإنسان القادر على الوعد، أي الإنسان الذي يمكنه الدخول في علاقة "الدائن-المَدين" مع قدرة على الوفاء بدَيْنه. هذا ما يذهب إليه الفيلسوف الألماني "فرِدريك نيتشه" في كتابه "جينالوجيا الأخلاق"، مُشيرا إلى أن علاقة "الدائن-المَدين" هي العلاقة الأقدم والأكثر بدائية التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة.
ليس على الشخص "المَدين" أن يُضاعف عمله فقط للنجاح في تسديد قرضه، بل عليه أيضا أن "يعمل على ذاته" بالتعلُّم والتطوير المستمر، بل وكذلك بالمراقبة، مراقبة سلوكياته الاستهلاكية وأخلاقيات عمله، وجلد الذات باستمرار على تقصيرها وتفويتها للفرص عبر سلوكيات "شائنة اقتصاديا". إذن، يُعيد "الدَّيْن" تشكيل ذوات الأفراد لتصبح مؤهلة للوجود ضمن السوق الجديد الذي يعتمد اعتمادا أساسيا على القروض والديون، بحيث لا ينفصل "العمل" عن "الذات"، أما الذات "غير المؤهلة" للحصول على القرض فليس لها مكان داخل السوق والمجتمع.
كتابه "صناعة الإنسان المَدين" إلى أن سلطة الدَّيْن لا تتمثَّل بوصفها سلطة تُمارَس عبر القهر ولا عبر الأيديولوجيا، لكن عبر الانضباط الذاتي. بعبارة أخرى، فالمَدين هو شخص يجب أن تسير سلوكياته في إطار محدَّد وفق القرض المتعاقد عليه، فكما تفرض الدول الدائنة سلطتها على الدول التابعة والمدينة، كذلك تفرض الحكومة والبنوك سلطتها على الأفراد ونمط حياتهم ونفقاتهم الاستهلاكية والاجتماعية.
تكتسب "قوة الدَّيْن" هنا سلطة خاصة بها، وهي تفرض سيادة فعل على فعل داخل إطار من التوجيهات المحددة، تماما مثلما يفعل صندوق النقد الدولي عندما يعطي حرية الفعل للدول الطالبة للقروض ما دامت تتبع توصياته، غير عابئ بالركود الذي تتسبَّب فيه سياسات الحكومات بالتبعية.
وفي تلك الأثناء، تقوم القروض بـ"ترويض الإنسان واستخراج حيوان داجن متحضر منه.. حيوان أليف يسمع ويطيع" كما قال نيتشه، فلكي يكون قادرا على الوفاء بوعده بالسداد، يجب أن تُعاد صياغة ذاكرته ويُعاد تشكيلها، فيصبح وعيه مقاوما لنسيان التزامه الدائم، ومهموما فقط بنفسه، متمحورا حول أنانية رغباته الفردية، ومنفصلا عن محيطه.
المستقبل المحاصر بسلطة الديون
رغم الرغبة التي تراود قطاعا كبيرا من الطبقة الوسطى للاستفادة من التسهيلات التي تُتيحها الشركات العقارية، لا يلتفت كثيرون إلى احتمالات التخلُّف عن السداد، لا سيما أن السداد مُمتد لمدة زمنية طويلة تصل إلى ثلاثين عاما في ظل سوق مُتقلِّب وغير مستقر وأمان وظيفي غائب. لكن يبدو أن الترويج الواسع للسلطة ومشروعاتها الضخمة في مصر قد اخترق مخيلة الكثيرين وتفكيرهم في المستقبل، وهذه بالضبط هي الذاكرة التي تعتمد سلطة الديون على صناعتها، بحسب وصف نيتشه، فالذات المثقلة بالديون ليست ذاكرة تحتفظ بالماضي، بل ذاكرة مشدودة للمستقبل باستمرار، بحيث يصبح الزمن ساكنا والشعور به منعدما، مما يعني أن هؤلاء المُقبلين على الاقتراض لا يحسبون المخاطر الكامنة فيها.
الديون لا تستحوذ على أوقات عمل الموظفين فحسب، لكنها تستحوذ أيضا على مستقبل كل شخص وعلى مصير المجتمع كله، ومن ثمَّ يعيش الجميع في حاضر بلا زمن، ولا يمكنهم التفكير في صالحهم العام فضلا عن التفكير في أي مستقبل مغاير للدعايات المعروضة أمامهم.
تصبح الديون -كما يوضِّح لازاراتو- تقنية أمنية للحُكم، تهدف إلى الحد من تقلُّبات سلوكيات المحكومين، بل ويزداد طلب هؤلاء على سلعة "الأمن" التي تضمن السير على خطة السداد المرتبطة بوعد الصعود الاجتماعي والتخلُّص من أسمال الفقر. تنجح السلطة إذن عبر "فخ التقسيط" في الترويج لنفسها باستمرار بوصفها راعيا للمستقبل المنشود، الذي يتناقض تناقضا كبيرا مع ملامح الواقع الذي ترسمه بنفسها.
عالم الربا النيتشوي وتقويض المجتمع بالديون
"انظروا إلى هذا العقل الدنيء الذي يقوم على تقدير الإنسان بالمال، كما هو الحال مع القرض. فالقرض هو الحُكم الذي يصدره الاقتصاد السياسي على أخلاقية الإنسان، في القرض يصبح الإنسان نفسه وسيط التبادل بدلا من المعدن والورق". بهذه الكلمات يتحدَّث المفكر الشهير كارل ماركس عن علاقة "الدائن-المَدين"، التي يرى أنها تختلف عن علاقة "رأس المال-العمل" وتُكمِّلها في الوقت ذاته، فما يستغله القرض ويتطلَّبه ليس العمل فحسب، بل والفعل والسلوك الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، وإعادة تشكيل الذات على المستوى الفردي والجماعي.
حين تصبح ذات الإنسان هي السلعة، ويصبح الحصول على القرض وعلى ثقة الدائن هو الهدف الأسمى، يُمنح القرض سلطة التقييم الأخلاقي للمَدين، ويتحوَّل هذا التقييم إلى تقييم شامل للسلوكيات والولاء السياسي وحتى أحقية الوجود. وفي ظل ذلك الوضع، تتحوَّل الثقة إلى ريبة الكل نحو الكل، فالجميع يريدون قرضا، لكن الجميع ليسوا قادرين على سداده، ولذا يجب وضع معايير وقيود بموجب "سلطة أمنية" منوطة بحماية المصالح الأنانية الفردية والسماح لها
بالترعرع، بعيدا عن منافسة الآخر "المَدين" وعن حقد الفقراء.
لكي تنخرط شرائح واسعة في هذا النظام وتحت سلطة الديون، تحاول الحكومة إثراء الجميع نسبيا ثم نزع النفقات الاجتماعية عنهم، وقد عبَّر السيسي سابقا عن رغبته في إثراء الناس، وبالفعل تعمل الحكومة المصرية على رفع الحد الأدنى للأجور، وتوفير وظائف -ولو كانت غير دائمة- لكنها في الوقت نفسه ترفع الدعم عن الخبز والكهرباء والوقود، وتُقلِّل من الإنفاق الاجتماعي، وتُقلِّص من الجهاز البيروقراطي والمعاشات، بالتوازي مع منح تسهيلات كبيرة للقروض، وتوفير قروض عقارية عبر البنوك، وحث الناس على استثمار أموالهم في مشاريعها العقارية وفي البورصة.
أثناء تلك العملية، يتحوَّل الحق في السكن إلى قروض عقارية، والحق في التعليم إلى قروض لتكاليف الدراسة، والحق في العلاج إلى قروض العلاج بالمشافي الكبرى، أما الناس فعليهم أن يتحلوا بالكفاءة اللازمة لمواكبة الوضع الراهن، وأن يتحمَّلوا وحدهم مخاطر فشل المشروعات الاستثمارية تلك، وليس لهم حق الاعتراض، بل يمكنهم فقط الاستثمار في تأمين حيواتهم أفرادا ليس إلا. وقد وضَّح فوكو تلك الآلية الاقتصادية التي تجمع الضرائب من الأغنياء وتُثري الفقراء عبر القروض من أجل جعل نظام الديون مستقرا وغير نهائي، ففي الحالات الطبيعية، تُمارس السلطة السياسية للحاكم على المستوى الفعلي في إقليم يسكنه أشخاص لهم حقوق وآخرون لهم مصالح اقتصادية، حيث يندمج الشخص ذو الحقوق في الجماعة السياسية عبر تفويض أشخاص لتمثيله، في حين يندمج الشخص الاقتصادي في السوق لمضاعفة مصالحه الشخصية.
في مجتمع اقتصاد الديون، تُنحَّى الحقوق السياسية والتمثيل السياسي تماما لصالح صورة الإنسان الاقتصادي "المقاول لذاته" الذي يسعى لمضاعفة مصالحه، وكي يفعل ذلك، عليه أن يلتصق بالسلطة السياسية التي تُحقِّق له الأمن وتوفِّر له القروض، ومن ثم تتحوَّل الديون المالية إلى "ديون وجود"، أي إن وجود الناس ومصالحهم وحياتهم تصير دَيْنا في رقبتهم للسلطة.
ويُلقي ذلك بظلاله على العلاقات الاجتماعية بين الناس، وكما يُشير ماركس، فإن الإطار العاطفي الذي تتمدَّد فيه علاقة "الدائن-المَدين" يكسوه "النفاق والاستهانة والريبة، حيث تصبح المظاهر الزائفة والنفاق والخداع المتبادل سلوكيات مدفوعة إلى أقصى حدها، ويصبح الإنسان قادرا على ممارسة التزييف، ليس فقط على الآخرين، ولكن أيضا على ذاته، بعد أن أصبح عليه أن يحاكي وأن يكذب من أجل الحصول على القرض، ومن ثمَّ يصبح القرض من جانب هو ما يمنح الثقة، ومن جانب آخر هو مصدر غش وخداع وتجاوزات متبادلة".
في ظل اقتصاد الديون، لا تكتفي الدولة بالتدخُّل فيما هو بيولوجي (الولادة والوفاة والمرض والمخاطر وما إلى ذلك)، لكنها أيضا تتدخَّل في إعادة تنظيم وهندسة المجتمع وأخلاقياته وسلوكياته عبر تقنية "جلد الذات" ووصف المحكومين دوما بأنهم عديمو المسؤولية، وغير أكفاء في العمل، وتزيد أوزانهم عن المطلوب، ولا يراقبون أنفسهم بما يكفي في تحديد النسل. وبدلا من التمثيل السياسي الذي يسعى للحقوق الاجتماعية، تحل محله لجان التقييم عبر المؤسسات المالية، التي تراجع ملف كل فرد، وتدرس أحقيته في القرض، بل وقد ترسل إليه مَن يراقب سلوكياته ويتلصَّص على ممتلكاته لاكتمال عملية الكشف والتقييم، فينتهي مفهوم الرعاية الاجتماعية، ولا يتبقَّى من "المجتمع" إلا مجموعة أفراد تنعدم رابطة الجماعة السياسية التقليدية بينهم من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة، ومن ثمَّ ينحصر سعيهم في تحقيق رغباتهم عبر القروض والتقسيط بالفوائد الربوية، مع إحكام السلطة الأمنية-الاقتصادية قبضتها على الجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق