الثلاثاء، 4 فبراير 2020

الفهلوة المعلوماتية احمد عامر *********

أصبحنا نعيش في ظل فجوة معرفية وقيمية ولغوية عميقة تفصل بين جيل الأجداد والآباء وجيل الأبناء في مصر اليوم. وبحدوث تلك الفجوة وتعميقها يومًا بعد يوم، أصبحت الكثير من القيم والثوابت الدينية والوطنية والمجتمعية في مهب الريح، وغدًا ربما تتداعى تمامًا لتصبح حديث خرافة، كما كان العرب يقولون على الأشياء الخيالية التي لا وجود لها.

أغلب أبناء الجيل الجديد صاروا يؤمنون بالحقائق النسبية، ويبحثون عن كل ما يُحقق لهم منفعة شخصية عاجلة (هنا والآن)؛ ولهذا يرفضون الحقائق والمثل والقيم الكلية، والثوابت الدينية والمجتمعية والوطنية.

وهم يبحثون عن المعرفة من مصادر مختلفة تمامًا عن المصادر التي شكلت معرفة ووعي وشخصية الأجيال الماضية، ولهذا تراهم في عجلة من أمرهم، لا يستمعون لنصيحة، ولا يطيقون صبرًا على البحث وقراءة الكتب أو المجلات العلمية والصحف التي تعرض محتواها بلغة وأسلوب يصيبهما بالضيق والملل.

ولهذا يفضلون المعرفة السريعة الجاهزة، المكتوبة في لغة بسيطة، والمحتواة في كبسولة يسهل تناولها، سواء كانت هذه الكبسولة مُلخصات مقررات دراسية، أو بوستًا أو بثًا مباشرًا على الفيس بوك أو كلماتٍ قليلة على تويتر، أو من خلال فيديو يتم نشره على اليوتيوب.

وهؤلاء هم جيل "الفهلوة المعلوماتية" التي تتيح لأصحابها تجميع المعلومات، واستخدامها وتوظيفها بدون فهم وتَمثل لمضامينهم المختلفة، وبدون رؤية في إطار مشروع معرفي أو ثقافي أو إبداعي يخدم غايات علمية ومجتمعية ووطنية.

و"الفهلوة المعلوماتية" لا يمكن أن تصنع معرفة أو ثقافة أو تشكل وعيًا أو وجدانًا عامًا. ولا يمكن أن يكون أصحابها مهما علت درجاتهم العلمية، قيمة مضافة لمجتمعهم ووطنهم؛ لأنهم يفتقدون للموهبة في التفكير، وللمعرفة والثقافة التكوينية القادرة على صناعة العقل المستقل، وصناعة الفكر والإبداع الأصيل، القادر على الاشتباك مع الواقع وحل المشكلات.

وهذا في ظني الداء الذي أصاب حياتنا الأكاديمية والثقافية، والذي يُهدد دور ومكانة مصر العلمية والثقافية والسياسية، وقدرتها على حل مشكلاتها، وصنع تقدمها؛ لأنه أدى إلى وجود جيل من الطلاب والباحثين والأكاديميين والمثقفين والكُتاب "الفهلويين المعلوماتيين" الذين يُجيدون الحصول السريع على المعلومة، وقصها ولزقها وكتاباتها وتوظيفها في سياقات عديدة، والحصول بها على الدرجات العلمية المختلفة، وتصدر المشهد العام، وهم يفتقدون للموهبة في التفكير، وللفكر والرؤية والتكوين العلمي والمعرفي الرصين.

كما يفتقدون أيضًا للحس الوطني والمجتمعي، والرغبة في خدمة الصالح العام، وكل ما يشغلهم هو خدمة مصالحهم الشخصية فقط، وتحقيق المكسب السريع.

في النهاية، لنكن على يقين أنه لا وجود لمجتمع قوي ومتوحد، بدون وجود قيم ومعارف وقواسم مشتركة بين أفراده. وهذه المشتركات العامة لا يمكن أن يصنعها أصحاب "الفهلوة المعلوماتية"، بل أصحاب المعرفة الرصينة والوعي السياسي والاجتماعي والتاريخي العميق، ولهذا علينا أن نبحث عن هؤلاء لنجعلهم صُناع الوعي والثقافة والمتصدرين للمشهد العام في بلادنا.

عندما تفشل الدولة في بناء الإنسان

كل جماعة دينية أو سياسية أو اجتماعية تستدعي ميراث الأخويات المغلقة على ذاتها، وتحافظ على تراتبية معينة بين أفرادها، إلى حد إعطاء سلطة مطلقة لقمتها على كل قواعدها، تبلغ حد التقديس والطاعة العمياء، هي مظهر من مظاهر أزمة وهشاشة الإنسان في المجتمع الذي تنتشر فيه، وهي مؤشر على فشل الدولة في بناء الإنسان، وغياب النضج الوجداني والعقلي والوعي النقدي والتوازن النفسي لأبناء ذلك المجتمع.

كما أن تلك الجماعات تمثل تهديدًا خفيًا لأمن وسلام ذلك المجتمع؛ لأنها تخلق "قبليات حديثة" تُمزق نسيج المجتمع ووحدته، وتُعمق الهوة بين أفراده وطبقاته؛ وبالتالي هي تتناقض مع فكرة ومقتضيات ومتطلبات الدولة المدنية الحديثة التي تسمح بالعمل المدني والاجتماعي وحرية الفكر والاعتقاد، ولكن بشفافية كاملة تحت مظلة القانون ومراقبة الدولة.

وقد انتشر هذا المرض الفكري والاجتماعي إلى حد كبير في مجتمعنا في العقود الأخير، وإن لم تتحرك الدولة بما تملك من مؤسسات وأجهزة علمية وأمنية، لرصد واختراق تلك الجماعات، وتحليل أسباب ودلالات وجودها، وتفكيكها أو على الأقل تغيير أفكارها وأدبياتها وسلوكها وأهدافها، فسوف ندفع مستقبلًا ثمنًا باهظاً على مستوى الأفراد والمجتمع والدولة لتلك الغفلة.

ا لتكوين "الفرد المستقل" المنتمي لوطنه، الواعي بتاريخه ومكانته ودوره، القادر على التفكير بشكل علمي ومواجهة مشكلاته بدلًا من الهروب منها بالارتماء في حضن جماعة، أو أخوية تهبه إحساساً زائفًا بالقوة، بعد أن تستلب حرية تفكيره وعقله، وبعد أن تستلبة مشاعر الانتماء والولاء لوطنه.

ولهذا فإن "بناءالإنسان" لابد أن يكون أولوية قصوى للدولة؛ لأن "الفرد الواعي" في كل مجال، هو البنية التحتية الأكثر أهمية للدولة، وهو من يحميها ويحافظ على وجودها وأمنها واستقرارها، ويصنع تقدمها، بوعيه الوطني، وثقافته ومعارفه العصرية، وقدرته على التلقي الإيجابي النقدي للخطابات المختلفة، والتمييز بين المخلصين والصادقين في قولهم وفعلهم، وبين دعاة الدين والوطنية الزائفين. والتمييز كذلك بين الخطابات والمشاريع التي تحافظ على الوطن ومقوماته ووحدته واستقراره وأمنه، وبين الخطابات والمشاريع التي تبيع له الوهم، وتجعله في حالة غيبوبة عقلية، وأداة في يد قوى خفية تستغله، ولا تريد الخير لبلاده.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق