الجمعة، 19 فبراير 2021

عبدالرحمن بدوى و المسيرى و جلال أمين الدكتور محمد عفيفي استاذ التاريخ الحديث والمعاصر

وفاة 2002

  أصبحت أوروبا هى القارة العجوز، وغدت أمريكا هى فردوس الأحلام، لم يتخلّ هذا ‏الجيل عن قناعاته، رأينا ذلك مع «جلال أمين» أستاذ الاقتصاد، وكذلك مع «عبدالوهاب المسيرى» ‏أستاذ الأدب الإنجليزى، ولا يختلف الأمر كثيرًا مع أستاذ الفلسفة الشهير «عبدالرحمن بدوى».‏

يُعد «بدوى» واحدًا من أهم أساتذة الفلسفة، ليس فى مصر فقط، بل فى العالم العربى؛ ‏حيث لعب أدوارًا مهمة فى هذا الشأن فى العديد من الجامعات العربية، كما يُعد «بدوى» أحد أنبغ ‏تلامذة «طه حسين»، وتتفق أو تختلف مع «بدوى»- خاصةً مع شخصيته الحادة ومزاجه المتقلب- ‏لكن لا يمكنك إلا القبول بدوره ومكانته فى تطور الفكر العربى المعاصر.‏

ويشير «بدوى» إلى تأثير اللوبى الصهيونى فى أمريكا، حيث رأى مظاهرة ضخمة فى ‏شوارع نيويورك احتفالًا بذكرى تأسيس دولة إسرائيل، ويرصد لنا «بدوى» انطباعاته عن ذلك، قائلًا:‏

‏ «لم يعد عندى شك بعد أن شاهدت ما شاهدت فى أن اليهود يسيطرون على نيويورك ‏سيطرة كاسحة تامة، ومن وراء نيويورك يسيطرون على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية فى ‏الولايات المتحدة بأسرها».‏

ويصف «بدوى» نيويورك أثناء إقامته فيها بأنها: «مدينة المتناقضات الصارخة، الثراء ‏الفاحش والفقر المدقع»، وفى نهاية الرحلة يصل «بدوى» إلى قناعة فكرية، هى فى الحقيقة خير ‏تعبير عن قناعات جيله تجاه أمريكا: «وقد رددت فى نفسى هذا القسم نفسه وأنا فى نيويورك، وهو ‏ألا أعود إليها ولا إلى أى مدينة أخرى فى الولايات المتحدة الأمريكية إلا إذا اضطرتنى إلى ذلك ‏عوامل قاهرة».‏

 جيل لم ينبهر بأمريكا، ولا بالحلم الأمريكى.‏

أمريكا عند المفكرين المصريين.. المسيرى

وفاة 2008

 الكثير من ‏هؤلاء المفكرين، لا سيما ذوو الثقافة الأنجلو فرنسية، الذين رغم إجادتهم اللغة لم ينبهروا أو ‏ينصهروا مع الحلم الأمريكى.‏

نجد ذلك عند «جلال أمين» أستاذ الاقتصاد وخريج جامعات إنجلترا، والأستاذ بالجامعة ‏الأمريكية بالقاهرة، لكنه فى الوقت نفسه لم ينس أنه فى الأصل خريج جامعة القاهرة، وابن «أحمد ‏أمين» أستاذ الإسلاميات، وهو نفسه «جلال أمين» المفكر القومى العروبى. ‏

ونجد الموقف نفسه عند «عبدالوهاب المسيرى»، ابن دمنهور محافظة البحيرة، الذى ‏يتخصص فى الأدب الإنجليزى، لكن ميراثه الحضارى العربى سيقيه من السقوط تحت وطأة ‏الحلم الأمريكى.
كان المسيرى يتمنى أن تأتى بعثته الدراسية فى إنجلترا- القارة الأوروبية التى ‏يعرفها جيدًا المفكرون المصريون منذ رفاعة الطهطاوى- إلا أن بعثته أتت إلى أمريكا، ليرحل ‏المسيرى أولًا إلى نيويورك، وهناك يرصد لنا المسيرى حالة نيويورك فى الستينيات، واضطراب ‏حالة الأمن، وغلاء المعيشة، ورغم استمتاع المسيرى بالمتاحف ودور السينما والمسرح، فإنه ‏يفضل الخروج من هذه المدينة الغريبة المعولمة.‏
ويرصد لنا المسيرى، بعيون ناقدة، حالة الجامعات الأمريكية آنذاك، والصراع بين أنصار ‏القديم وأنصار الحديث «أولاد هارفارد»، ومعاناة المسيرى الباحث عن الجديد، وليس مجرد مُعدِّ ‏رسالة دكتوراه على نمط القوالب القديمة.‏
يشرح المسيرى، فى مذكراته الشخصية، كيف كانت بعثته فى أمريكا «مواجهة فكرية» كما ‏أطلق هو عليها، ويرصد المسيرى مظاهر الرأسمالية المتوحشة آنذاك، وسيطرة الآلة الحزبية على ‏الحياة الأمريكية من خلال الحزبين الكبيرين: الديمقراطى والجمهورى، وكيف أن الخروج عنهما ‏شبه محال.. من هنا يُحدثنا المسيرى عن اليسار الأمريكى واشتراكه فى تأسيس المنتدى الاشتراكى ‏فى أمريكا بلد الرأسمالية.‏
ومن الأمور المهمة التى استرعت انتباه المسيرى أثناء بعثته فى أمريكا الموقف من ‏حرب فيتنام، هذه الحرب الإمبريالية التى شنتها أمريكا على شعب فيتنام. يرصد المسيرى مظاهر ‏غضب الشباب الأمريكى ومعارضته هذه الحرب، وما تعرض له معارضو الحرب من معاناة ‏واضطهاد.. ولعلنا نتذكر الملاكم الشهير «محمد على كلاى»، الذى واجه الاضطهاد آنذاك مرتين: مرة ‏لاعتناقه الإسلام، والأخرى لرفضه التجنيد فى حرب فيتنام، هذا فضلًا عن لونه الأسود واضطهاد ‏الملونين فى أمريكا آنذاك.‏
لم ينبهر المسيرى بالحلم الأمريكى، وفضل عليه أوروبا، القارة العجوز، لذلك ما أن ينتهى ‏من مناقشة الدكتوراه حتى يعود إلى مصر، ولكن عن طريق أوروبا، حيث يقضى عدة أشهر فى أوروبا «القارة العجوز» سياسيًا، «المخضرمة» حضاريًا، ومن أوروبا يشترى سيارة ألمانية ليعود بها إلى ‏مصر غير منبهر بالحلم الأمريكى.

جلال أمين


 أحمد أمين صاحب سلسلة «فجر الإسلام وضحى الإسلام ويوم الإسلام»، وهو أيضًا عميد كلية الآداب جامعة القاهرة.

 ابنه جلال أمين فهو خريج ‏جامعات بريطانيا، فى مرحلة الدكتوراه، والأستاذ فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهو ‏المفكر القومى «العروبى.. اليسارى»، هكذا نستطيع تفهم رؤية جلال أمين لأمريكا.‏
وسنعتمد فى هذا الصدد على مذكرات جلال أمين خاصة الجزء المعنون «رحيق ‏العمر»، حيث يتعرض جلال أمين إلى لحظة تاريخية مهمة مرت بها أمريكا بل والعالم ‏كله، إنها لحظة فارقة، حادث ١١ سبتمبر ٢٠٠١.
يروى جلال أمين فى مذكراته ‏كيف تشكك فى الظروف المصاحبة لسقوط برجى مبنى التجارة العالمى، وينفى جلال ‏أمين- من وجهة نظره- مسئولية الإرهاب الإسلامى عن الحادث، ويُلمّح إن لم يكن ‏يُصَرح إلى مسئولية جهة أخرى، واستفادة أمريكا من وراء هذا الحادث فى توسيع ‏نفوذها خارجيًا بحجة مكافحة الإرهاب.‏
ويذكر جلال أمين دعوة السفير الأمريكى له فى القاهرة للغداء مع نخبة من الصفوة ‏السياسية للحديث عن «لماذا تكرهوننا؟»، وهى النغمة التى سادت فى أروقة السياسة ‏الأمريكية بعد حادث ١١ سبتمبر، لماذا يكرهنا المسلمون؟
ويقدم جلال أمين- وفقًا لثقافته الغربية- رواية لكيفية الحديث أو الجدل أو حتى ‏التفاوض مع الغرب، وأمريكا على وجه الخصوص، هو يرى أن أمريكا بلد نشأ ‏تاريخيًا على مبدأ القوة، وبالتالى الأفضل الحديث معه بمنطق القوة.
ويذكر أمين ‏كيف بدأ النقاش مع السفير الأمريكى على النحو التالى: «إننا- المصريين- شعب ‏كريم وطيب، ونحن آخر من يشمت بمصائب الآخرين. ولكن كيف يكون شعورنا إزاء ‏‏١١ سبتمبر؟ وفى نفس وقت وقوع هذه الأحداث ارتكب الإسرائيليون أعمالًا فظيعة ‏ضد الفلسطينيين.. لا يمكن الفصل بين الاثنين».‏
هكذا يرسم جلال أمين المفكر القومى العروبى سياسة المواجهة مع «الآخر» الأمريكى، ‏ويذكر أمين كيف امتعض السفير الأمريكى من التشكيك فى أحداث ١١ سبتمبر، ‏وكيف أرسلت السفارة الأمريكية ردًا على ذلك ليُنشَر فى الصحف المصرية آنذاك، ‏وكيف ردت المعارضة المصرية على ذلك بأنه تدخل فى الشأن المصرى واعتداء على ‏حرية الرأى، وطالبت أمريكا باحترام دماء الفلسطينيين وتفهم لماذا ينظر العرب بجفاء ‏تجاه أمريكا.‏
هنا يقدم لنا جلال أمين المفكر القومى «العروبى البعثى» وجهة نظر فى كيفية التعامل ‏مع أمريكا من منطق التعامل بمبدأ القوة والنّد، لذلك يذكر أمين أن السفير الأمريكى ‏قال إنه سيطلب من حكومته «أن تسعى إلى حل المشكلة الفلسطينية ثم تنسحب بعد ‏ذلك إلى حدودها، ولا يكون لها شأن بالمرة بعد ذلك بمنطقة الشرق الأوسط»!.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق