الاثنين، 15 فبراير 2021

ما وراء الخير والشر.. لماذا أحببنا والتر وايت **********

 عالم النفس الألماني "إريك فروم" أن المرء مفطور على طلب إطار للعبادة، يُحدد أفعاله وطاقاته ويعمل على ترسيم حدوده. لكن بخلاف الأُطر العقائدية، تُقدِّم الفلسفة الوجودية نفسها للإنسان بوصفها فلسفة عملية تبدأ مع المرء من نقطة حضوره للعالم، فالوجود -بالنسبة لها- هو الحقيقة الأولى، نحن نوجد لا خلاف، أما أسباب هذا الوجود ومُستقبله فهو معنى على الإنسان أن يُسطِّره وحده.

المعتقدات من أين جاء؟ وأين سيذهب؟

يؤمن الفلاسفة الوجوديون مثل نيتشه وكامو وكيركجارد وسارتر أن الوجود يسبق الماهية، يعني ذلك أننا موجودون أولا في العالم، أما لماذا وُجِدنا وماذا يفعل كل امرئ بقصته ومعضلة الوجود الخاصة به فهذا ليس سؤالا عاما، وإنما سؤال شخصي على كل فرد الإجابة عنه وحده دون أن يغش بنقل الإجابة من لسان كاهن أو توجيه مجتمع وسلطة، أيًّا كان نوعها، أو كما يُعبِّر سورين كيركجارد: "المسألة هي إيجاد حقيقة صحيحة في نظري، إيجاد الفكرة التي يُمكنني أن أعيش وأموت من أجلها". (1) تبعا لتلك الرؤية لا توجد إجابة صحيحة وأُخرى خاطئة يختارها الواحد منا ليحيا وفقها، إنما الفضيلة الأساسية للوجوديين هي صدق كل فرد في التزامه بالطريق الخاص الذي اختاره لنفسه، أيًّا كان ذلك الطريق

لا يضيق منظور الوجودية ليصير مُرادفا للإلحاد، فكثير من الوجوديين مؤمنون، إنما هي فلسفة تنحاز للإنسان وخصوصية المعنى الذي يُقرِّره كل فرد على حِدَة لحياته ورحلة وجوده، فمثلا اختار "كيركجارد" أن يكون خلاصه في قفزة إيمان يختار فيها الإله بعيدا عن ضيق مفاهيم الكنيسة، كذلك اختار "جابرييل مارسيل" -الذي يسميه الكثيرون الوجودي الأول قبل سارتر- تيارا وجوديا دينيا يؤمن أن الله مانح المرء حريته وأن دورنا هو الولاء الإبداعي لحريتنا تلك دون أن نختار مرجعية تختار لنا وتتحمل عبء حريتنا، لأن في ذلك إهدارا للميزة التي ميّزنا الله بها عن الحيوان وهي حريتنا.

يُقرِّر "ألبير كامو" أن الحقيقة في الوجودية هي مسألة "قرار" وليست اكتشافا، لا توجد حقيقة في العالم مُختبِئة تنتظر منا النبش بحثا عنها، لذا سعادة كل فرد رهينة اتساقه مع المعنى الذي قرّره لنفسه، وزيفه وشقاؤه ينبع من أن يحيا حياة لا تُعبِّر عن هذا المعنى الذي قرَّره لروحه، وهذا يجعل السعادة والشقاء والمعنى رهانات شخصية جدا لا تمنحها لنا أو تسلبها منا سلطة أو قبول مجتمعي أو مرجعية خارجنا.

يتخذ كامو من أسطورة "سيزيف" وجها بطوليا لفلسفته، سيزيف حسب الميثولوجيا الإغريقية استطاع خداع "ثاناتوس" إله الموت مرة تلو الأخرى، حتى ضاق "زيوس" كبير الآلِهة ذرعا وعاقب سيزيف برفع صخرة ثقيلة لقمة جبل، وكلما وصل القمة تدحرجت الصخرة لأسفل، فيعود سيزيف لجلبها في دورة لا نهائية من التكرار، يخبرنا كامو أن عبثية عقاب سيزيف الجهنمية يمكن أن تُحتمل فقط لو كان هذا هو المعنى الذي اختاره سيزيف لنفسه، سيزيف وفق تلك الفلسفة اختار التحدي مواجها مصيره ببطولة مُتعمدة وليس باستسلام بليد، ولهذا في لمحة ما، ومن زاوية بعيدة، ومن نافذة وجودية، يمكننا أن نرى سيزيف سعيدا لأنه عاش وفق المبدأ الذي قرّره لنفسه حتى لو كانت نهايته مأساوية لنا

في عام 2008، قدَّم "فينس غيليغان" واحدة من أجمل التحف التلفزيونية وهي مسلسل "بريكنغ باد" (breaking bad) الذي استمر مُتربعا على عرش التقييمات طوال خمسة مواسم، تاركا بعد انتهائه مكانة أسطورية تُنازع أحدث الإنتاجات التلفزيونية حتى الآن، يتحدث المسلسل عن "والتر وايت"، مدرس كيمياء على مشارف الخمسين يعمل في وظيفتين ليعول ابنه وطفلته، تنقلب حياته رأسا على عقب عندما يُشخَّص بالسرطان، ليتجه في انحراف حاد لاستغلال براعته في الكيمياء لصنع أجود أنواع الميث المُخدر بغرض ترك مال كافٍ لعائلته قبل رحيله.

 عكس ما يوحي به عنوان المسلسل بأنها قصة كلاسيكية عن التردي الأخلاقي وانحراف شخص عن المسار المستقيم، يُقدِّم الكاتب بطله "والتر وايت" بوصفه بطلا وجوديا بامتياز، اختار حقيقة لنفسه وعاش وفقها، وتحقّق، وبقدر ما رأينا مصير سيزيف عبثيا بقدر ما كان وفقا لزاوية بعينها سيزيف سعيدا، فيُمكننا أن نُقارب والتر برؤية وجودية، لنرى أنه تحقّق وكان سعيدا، كان بطلا مخلصا للمعنى الذي قرّره لنفسه وإن كان خيارا مذموما وفق كل السرديات المقبولة دينيا ومجتمعيا.

لماذا تعلق ملايين المشاهدين حول العالم بشخصية والتر وايت وأحبوها، على الرغم من كونها شخصية مأساوية انتقلت من السلبية الكاملة للشر الكامل، وخلال رحلتها تركت خلفها حُطام أشخاص على كل جوانب الطريق؟ يصوغ السؤال مرة أخرى "جيسي بينكمان"، شريك والتر الشاب الذي يسأله كيف لرجل يحتفل بعيد ميلاده الخمسين أن يتحول بقرار بسيط إلى طباخ ميث؟ وعضو ضالع بحماس في مافيا المخدرات، فيُخبره والتر بكلمة واحدة: زي مسلسل جرائم صغيرة التركي ***

يُداعب والتر وايت مخاوفنا أننا نعيش حياتنا بأكملها وفق إملاءات وتلقينات، لا يهم صحتها أو خطؤها، ما يهم أننا لم نخترها من الأساس، إنما نحيا وفقها لننال القبول المجتمعي، لنصير محبوبين في نظر أقراننا، لنصير مواطنين صالحين في نظر حكومتنا، لنصير أفرادا مُبتسمين في كادر صورة عائلية، لا يهم هل هذا ما اخترناه لأنفسنا أو لا؟ يُشبه الأمر حلما لطيفا يشاهده الفرد من الخارج، لا يملك إرادة للتدخل فيه، إنما يشاهده وحسب كأنه مُنفصل عنه، باقتراب أكثر من عالم والتر قبل السرطان نجد الآتي:

معضلة الإنسان هي كونه مخلوقا مُسلحا بكل المهارات اللازمة للتكيف والبقاء، ومع ذلك هو مخلوق مُطيع لبرمجته التي تُرهبه من التغيير، الالتزام بروتين عيش هي آلية نجاة في الغابة وفي حياة البرية، أما في الحياة الحديثة ربما تكون وصفة مثالية للهلاك، وعلى مستوى التحقق النفسي هي مقبرة للعيش، ما يُخيف المرء أكثر من غيره هو إدراكه التغيير بوصفه مبدأ كونيا، وإدراكه حريته في مقابل إدراكه اللا يقين على الضفة الأخرى بنتائج التغيير الذي سيختاره عندما يمارس تلك الحرية الخاصة به

أشد العقبات التي تجعل الكثير منا مثل والتر، عالقين في الحكاية الآمنة عن أنفسنا دون أن نختبر كل الممكنات في قصتنا، دون أن ندفع قصتنا أبعد من حدود السردية التي اختارها آخرون لنا هي:

  • اللا يقين المصاحب لكل خطوة نتمنى أن نخطوها، لا توجد ضمانة واحدة لأن ننجح لو خالفنا المربع الآمن.
  • التغيير، لا أحد يحب التغيير والتحول والذبول ثم الانبعاث في صورة جديدة.
  • الحرية، عكس كل الأناشيد الحماسية، لا أحد يحب الحرية، لا أحد يحب أن يُصدِّق أنه امتلك الحرية في أغلب المواقف لأنه بالتبعية سوف يواجه حقيقة أنه اختار الخيارات الخاطئة وأنه يتحمل مسؤوليتها، المجبرون يملكون مُعافاة من الندم، أما المخيرون بحريتهم فيتحملون تبعات مصيرهم.
منح السرطان والتر الانعتاق أخيرا ليتحرك بنزق في قصته محطما المخاوف الثلاثة، ليستكشف إمكاناته خارج المربع الآمن، خارج السردية المقبولة مجتمعيا ودينيا وأخلاقيا، صارت الحدود الثلاثة التي تحد لكلٍّ منا قصته فيبقى في مثلث المعتاد هي المبادئ الثلاثة التي تمرّد بها والتر على حكايته وصنع قدره الخاص، وبقدر ما تبدو دوافع الحبكة اضطرارية في البداية، مثل رجل يتحرك بقوة القصور الذاتي، بجاذبية الهاوية للساقطين، تجده في النهاية رجلا يتحرك عن عمد ونية واضحة نحو قدره، لينتزع تحققه واعتراف التفوق ويسترد سرديته من ألسنة الآخرين، مثل مشجب تمرد فأسقط كل مَن يعولوا عليه، مثل رجل فرَّ من هوامش كادر صورة جماعية ليصنع بورتريه متفردا يليق به وحده

هويته باسم "هايزنبرج"، وخلفية والتر بوصفه عبقريا وعالما ضلّ الطريق لحياة متواضعة يجعله شديد المعرفة بالعالم الألماني وأحد رموز ميكانيكا الكم "فيرنر هايزنبرج" الذي صاغ مبدأ "اللا يقين":

لو مات والتر قبل وقت قليل من مُغامرته لظلّت كل مُمكناته دفينة نفسه، لظل مدرس ثانوية ودودا قليلا وجبانا قليلا لا أكثر ولا أقل، لكان أطيب ذكرا وأجمل سردا في قلوب الجميع، لكنه سيموت ناقصا.

لأن الصدق هو فضيلة الوجوديين الأساسية، يخبر والتر زوجته أخيرا ويخبرنا بحقيقته العارية:

"لقد فعلتها لأجلي، وكنت.. كنت حيًّا".

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق