الجمعة، 26 فبراير 2021

الدين والفن والعلم *******

 لدين يعبر عن الغاية، والفن عن الجمال، والعلم عن الكيفية..

العلم يبحث عن السبب، والدين عن المسبب، والـفـن عن روعة النتيجة..

الفـن يعـبر عن حــالة الخلق، والدين عن الهدف من الخلق، والعـلم عن طريقة وآلـية الخلق..

قد لا يتفـق الثلاثة، ولكن لا يفترض بهم التصادم أبداً.. الخلاف بينهم ناجم عن قـصر النظـر والتعـصب للمفهوم وتجاهـل طبيعة البشر.

*

رسائل إلهية في الحلم , المحللون النفسيون والفلاسفة والفنانون

 نحن جميعا شعراء، سواء رغبنا بذلك أم لا

(سيجموند فرويد)

اللغة المنسية لـ "إريك فروم"

*

الفن والعلم

Apr 4, 2019

الذهن الإنسانى يحركه إحساس دائم بالاهتمام بكل الظواهر المحيطة به، ويحركه حب الاستطلاع لإدراك كنهها. هذا الإحساس المسيطر هو الذى أدى إلى الاكتشافات العلمية العظيمة والآثار الفنية الرائعة. ومن ثمّ فالفنان والعالِم يشتركان فى أشياء كثيرة. إنهما شديدا الاعتزاز باستقلالهما، ويشتركان فى العقل الخلاّق، والرغبة الملحة الخالدة فى الاستكشاف والمعرفة. ولأن الفن والعلم فرعان من فروع النشاط الذهنى للإنسان، فهما متناظران كما هما مختلفان.
إن أهم ما يتصف به الإنسان ويميزه عن سائر الأحياء هو أنه مخلوق مبدع. وسواء فُهِمَت كلمة «الإبداع» هنا بالمعنى الضيق الذى ينصب على الخلق الجديد فى ميادين الفن والعلم، أو بالمعنى الواسع، الذى يتعلق بأى تجديد يُدْخِلَه الإنسان على جوانب نشاطه مهما كان محدودًا، فإن الأمر المؤكد هو أن الإبداع هو الذى أتاح للنوع البشرى - على وجه التحديد - فرصة الارتقاء والتقدم المستمرين، والإبداع هو الذى أنقذ الإنسان من المصير الذى آلت إليه الأنواع الحيوانية كلها: وهو التجمد عند حدود وظائف معينة تُؤَدَى على نحو آلى بحت، دون أى تنوع أو تجديد، ودون أية قدرة على تطوير هذه الوظائف أو نقل الخبرات المكتسبة منها إلى الآخرين.
كان الفن منذ أقدم العصور تعبيرًا عميقًا عن الحياة الإنسانية، وقد عبرت كل الحضارات المعروفة عن أفكارها مستخدمة مصطلحها الفنى الخاص بها، وقامت بتقويم تلك التعابير الإبداعية تقويمًا واعيًا. أما العلم فإنه يحاول أن يشرح العمليات الطبيعية التى تخضع للقوانين الأساسية. إن كل عملية معينة توجهها قوانين محددة يحاول العلم تفحصها بوسائل تتماشى مع متطلبات ذلك الفرع المحدد من فروع العلم. لهذا فإن العلم يسعى إلى صياغة القوانين العامة التى يسير بمقتضاها هذا العالَم الذى نسكنه.
يحاول العلم أن يقدم لنا الحقيقة عن الموضوعات التى يدرسها سواء كانت حجرًا أو نباتًا أو حيوانًا، وبهذا المنهج تقدمت الحضارة. والتفسير العلمى يرد المركبات إلى عناصرها، والعالِم لا يكتفى بوصف الحقيقة دائمًا، بل يعنى بتفسيرها؛ أى بفهم العمليات المختلفة على أنها نتائج لأسباب. فالوصف والتفسير أساسيان فى البحث العلمي.
فى مجال العلم نستخدم ملكة الاستدلال العقلي، وإذا استخدمنا الحواس فى المشاهدة والملاحظة فنحن نحرص على أن تكون حواسنا أو امتداداتها فى آلات الرصد أو التكبير أو التصغير، مطابقة للواقع وملتزمة به التزامًا كاملًا. ولو فعل الفنان ذلك لضاع منه كل ما هو ممِّيِز له، إذ إن الالتزام بالواقع، الذى هو فضيلة فى مجال البحث العلمي، يغدو مظهر نقص وعلامة ضعف حين يكون هدفنا هو خلق عمل فنى يتسم بالجمال، فالفنان صاحب خيال واسع قبل كل شيء، أو لنقل على الأصح: إن الحد الفاصل عنده بين الخيال والواقع يختفى لكى يحل محله تداخل وتشابك بينهما. فهو ينظر إلى الواقع بعين الخيال، ويضفى على صوره ورؤاه الخيالية كيانًا واقعيًا، ويجسم أخيلته كما لو كانت حقائق فعلية تروح وتجيء على مسرح الحياة.
ويترتب على الفارق السابق أن سعى الإنسان إلى الحقيقة يجعله مقيدًا وملتزمًا بما هو موجود، على حين أن سعيه إلى الجمال من خلال الخيال هو سعى حر طليق. فالعالِم الذى يبحث عن حقائق الأشياء لابد له أن يخضع نفسه لنظام صارم دقيق، يتخلى فيه عن أهوائه وعن ميوله الذاتية لكى يدرس الظواهر كما هى، لا كما يريدها أن تكون. وبعبارة أخرى فإنه يُخْضِع عقله لطبيعة الظاهرة التى يدرسها، ويدربه على أن يراها على ما هى عليه، بحيث يكون قانون الظاهرة نفسها هو هدفه ومبتغاه، وعلى العقل أن ينحنى دائمًا أمام الضرورة الحتمية الكامنة فى الأشياء. أما الفنان فقانونه الوحيد هو الحرية. وهو يتعمد أن يخالف النظام الفعلى للأشياء ويصورها على نحو مغاير لما هى عليه بالفعل، وربما خلق لنفسه، فى مجال فنى معين، عالَمًا خاصًا به، يخالف كل ما هو موجود فى عالَم الطبيعة. فالفنان الموسيقى مثلًا يخلق لنفسه عالمًا خالصًا من الأصوات المتآلفة، عن طريق الآلات الموسيقية، التى تصدر عنها أصوات لا وجود لها فى الطبيعة، ويتحرر بذلك من قيود الصوت الطبيعي، الذى هو عادًة ما يكون خشنًا، محدودًا، يسير على وتيرة واحدة، لكى يخلق لنفسه عالمًا كاملًا من الأصوات المتسقة والمنسجمة، أصوات ذات إمكانات هائلة، ويتحرك فى هذا العالم بحرية تامة يتجاوز فيها كل ما تقدمه إليه الطبيعة.
وبالمثل فإن الشاعر أو الروائى حين يمسك بقلمه وأمامه صفحة بيضاء لم يبدأ بعد فى تدوين شيء فيها، ويكون فى موقفه هذا رمزًا لحرية الفنان الكاملة: فالورقة أمامه خالية من كل شيء، وهى لا ترغمه على أن يكتب فيها شيء بعينه، بل إن له الحرية التامة فى أن يكتب أى شيء أو فى ألا يكتب شيئًا. إنه يستطيع أن يخلق على الورق عالمًا كاملًا من صنعه هو، دون أن يقيده أو يحد من حريته شيء. 
ولنأخذ لتوضيح هذا المعنى موقف «العالِم» ونظرته إلى البحر، فهذه النظرة تتجه فى الغالب إلى البحث فى عناصر المادة التى يتركب منها، أو البحث فى استعماله أو ما يمكن أن يترتب عليه من فوائد تُسْتَغل منه، ومثال ذلك لو اكتفينا بتأمل البحر بحيث نحدد نظرتنا إليه فى تأمل لون مياهه، وصوت أمواجه ونسمات الهواء الصادر عنه؛ فعندئذ نكون فعلًا فى موقف التذوق الجمالى له، ولا شك فى أن الفنان هو القادر على خلق هذه الاستجابة عند الجمهور بما يتضمنه عمله الفنى من وسائل وقيم يستجيب لها جمهوره ومجتمعه، أما إذا كان هدف الفنان أو المصور أن يبين لنا ارتباط البحر بشاطئ معين، أو كان اهتمامه منصرفًا إلى أن يقدم لنا معلومات، فعندئذ يتحول الموضوع الجمالى إلى موضوع إعلام Information عندئذ لا نحصل على لوحة جميلة مثلًا بقدر ما نحصل على إعلان معين. فالعمل الفنى هو إذن العمل الذى ينجح فى أن يوجه انتباهنا إليه فى ذاته معزولًا عن ارتباطاته التى نستمد منها معرفة تفيد سلوكنا، وعندئذ 
يصبح هذا الموضوع جماليًا.

+++++++++++

ينظر البعض إلى الفن والعلم على أنهما حقلان منفصلان تمامًا، فيذهب هذا البعض إلى القول بأن العالِم يتخذ موقفًا موضوعيًا إزاء الظواهر التى يبحثها، وعلى العكس من ذلك يقف الفنان موقفًا منحازًا. فالعالِم ينظر إلى الظواهر كلها نظرة متساوية، بمعنى أنه لا يقحم تفضيلاته الشخصية وميوله الذاتية عند بحثه عن حقيقة الأشياء. فالبحث عن الحقيقة يستلزم وضع الظواهر على قدم المساواة، فى صف أفقى لا تعلو فيه واحدة على الأخرى إلا بقدر ما تفيد فى الكشف عن القانون العام الذى يحكمها. أما الفنان فهو فى معالجته لموضوعاته لا يضعها أبدًا على قدم المساواة، بل إنها تتخذ أمامه ترتيبًا رأسيًا، ويكون لبعضها عنده أفضلية مؤكدة على البعض الآخر. وهكذا يحل (التفضيل) فى كل سعى إلى الجمال الفني، محل (الموضوعية)، وتختفى المساواة بين الظواهر لأن الفنان بطبيعته منحاز، بل إن متذوق الجمال ذاته يتخذ من (التفضيل) معيارًا أساسيًا، فهو لا يقيس الأعمال الفنية بالمقاييس المتعارف عليها فى العلم، وإنما يضعها فى ترتيب هرمي، ولا يقبل أى اعتراض على هذا الترتيب، لأن الأذواق لا مقياس لها. وما يفضله الواحد قد لا يكون مفضلًا عند الآخر، دون أن يكون لأْى منهما الحق فى أن يفرض تفضيلاته الخاصة على الآخر.
غير أن هناك من لا يأخذ بهذه الوجهة من النظر، ويرى أن الفارق الأساسى بين الموضوع الجمالى والموضوع العلمى هو أن الأول منهما موضوع «مُبْدَع» أو «مخلوق» Created Object، فى حين أن الثانى منهما موضوع «مُعْطَى» Given فى عالم التجربة. ولكن الفنان قد لا يجد أدنى صعوبة فى القول بأن موضوعه هو الآخر لا يخلو من «موضوعية»: لأن الواقعة التى يخلقها أو يبدعها إنما هى «المقابل الموضوعي» للعاطفة أو الانفعال أو الفكرة أو الحدس أو الحالة النفسية، فهى بمثابة تحقق عينى لحالة من حالات الشعور. ومعنى هذا أن المهمة الكبرى التى تقع على عاتق الفنان إنما هى العمل على تطهير معانيه وتوضيح أفكاره وتنقية حدوسه بحيث يقدم لنا رموزًا دقيقة مضبوطة. أو ربما كان الأدنى إلى الصواب أن يقال إن الموضوع الذى يخلقه الفنان والوعى الموجود لديه عن هذا الموضوع إنما هما شىء واحد، بمعنى أن هذا الموضوع لم يظهر أولًا فى الشعور، ثم خرج بعد ذلك إلى عالَم الوجود، بل هو قد نما وتطور فأصبح حالة شعورية بمجرد ما تشكل على صورة فنية. ولا شك أن ما يعمل على نضج الموضوع الفنى إنما هو إحساس الفنان بالموقف أو السياق أو البناء، ولكن المهم أن الموضوع بمجرد ما يتحقق فإنه يستحيل إلى واقعة ملموسة قد عملت على خلقها إرادة الفنان. وليست «واقعية» الفن – بهذا المعنى – سوى مجرد إشارة إلى تلك الموضوعات التى نمت وتطورت على هذا النحو فى الوعى أو الشعور، فأصبحت بمثابة حقائق عينية ماثلة فى صميم التجربة.
إن قيام العالِم بفحص موضوعات بحثه وتحليلها إلى عناصرها الأولية يؤدى إلى فقدها لطابعها الأصلي، ويصبح الكل المتماسك مجموعة من العناصر المفككة. غير أن هذا التحليل والتفكيك شىء لابد منه لكى يتمكن العالِم من فهم الظواهر المعقدة المتشابكة، إذ إن تحويل الشيء المعقد إلى بسائطه هو الذى يتيح معرفة تركيبه بدقة، والوصول إلى القانون المتحكم فيه، وربما كانت هذه الصفة هى أكثر الصفات تمييزًا للحقيقة العلمية عن الجمال الفني، ذلك لأن الفنان لا يعمد أبدًا إلى التحليل، وإنما الفن – قبل كل شىء– خبرة و(تجربة)، وفى هذه التجربة الفنية لا نتذوق الجمال إلا إذا تركنا أنفسنا نستمتع بالعمل الفنى دون تحليل أو تشريح. معنى هذا أن التحليل العلمى يؤدى إلى تشويه التجربة وضياع مذاقها المميز. ولكى تستمتع بالجمال الفنى حقًا ينبغى أن تترك هذا الجمال يسرى خلالك ويؤثر فى أعماقك ويغمرك من جميع الجوانب، وينبغى أن تستغرق فى تأمله وفى تذوقه استغراقًا تامًا.
إن الفرق الحاسم بين الفن والعلم هو أن العلم يستخدم على الدوام تصورات لكى يصف الجوانب المطردة فى الطبيعة المادية، على حين أن الفن لا يعتمد أساسًا على التصورات (صحيح أن التصورات تُسْتَخدم فى الأدب، ولكنها حتى فى هذه الحالة ليست هى الوسيلة الرئيسية للتعبير عن الحقيقة). فالعمل الفنى لا يصدر تأكيدًا مثل: «العالَم خير فى أساسه»، ولكن من الممكن أن يعبر الفنان عن ذلك بمعالجته لموضوع فردى وعيني. وبالمثل فإن المصور يقدم الكائنات البشرية على نحو من شأنه تأكيد تلك السمات البشرية العامة التى تهمه. هذه «الكليات» النفسية تُعْرَض بطريقة تصويرية عينية لا بواسطة التصورات. والفن، على خلاف العلم يقدم على الدوام تفسيرًا للواقع يربط بينه وبين الإنسان بوصفه فاعلًا معياريًا هادفًا. وهذا يعنى أن الفن «تقويمي» مثلما هو «واقعي». فهو يهتم بدلالة موضوعه بالنسبة إلى أهداف البشر ومثلهم العليا. ومن هنا فإن الفن يصدر حكمًا معياريًا ما على ما يصوره. أما العلم فإنه، حتى لو تناول القيم البشرية بالبحث، يبحثها بوصفها وقائع موضوعية فحسب.
أما عن قيمة المعرفة العلمية التى تبين لنا الأسباب وارتباطها بالمسببات والعلاقات بين الموضوعات فقد وضح لنا أن العالِم يضع القوانين، أما الفنان فيكتفى بأن يقدم معانى الأشياء. وينتهى العالِم إلى «قوانين»، أما الفنان فينتهى إلى «قيم» Values. ومن الواضح أننا نستفيد بتفسير العالِم، لكن ما الذى نجنيه من المعرفة الفنية أو التأمل الفني؟ الواقع أننا ننظر دائمًا إلى العالَم والموجودات نظرة نفعية عملية، ولكن بالإضافة إلى ذلك ينبغى لنا أن ننظر إلى العالـَم والموجودات نظرة استمتاع بوجودها فى حد ذاتها. ولن تكون حياتنا كاملة إذا ظل كل شىء بالنسبة لنا مجرد أداة، بل لا تستحق الحياة أن نحياها إن لم تتخللها فترات يركن فيها العقل إلى السكون، ولهذا يأتى الدين والفلسفة للبحث عن هذا التأمل السكونى للوجود بأكمله، أما محب الجمال فيبحث عن السكون فى تأمل موضوع واحد يعزله عن باقى موضوعات العالَم ولا يجعله أداة لشيء آخر غير ذاته، وبذلك يتحول إلى غاية فى ذاته.
وبالفن لا تتحول الشجرة إلى كتلة خشب نستمد منها منفعة معينة، ولا تتحول مساقط المياه إلى مولدات للقوى الكهربائية، وكما ينبغى أن نربى فى الإنسان القدرة العلمية بالتربية والتعليم فكذلك أيضًا ينبغى أن نربى فى الفرد الإنسانى القدرة على التذوق الجمالى منذ الصغر والنظرة الجمالية للأشياء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق