Jan 25, 2021
بعد انتهاء المخاض الثوري (2011 ــ 2014)، وبداية عهد عبد الفتاح
سجن شبابها وشابّاتها، أو نفيهم... أو حتى تصفيتهم. أما البلد، فبات أكثر فقراً وأغلى معيشة وأكثر قرباً من إسرائيل... وعلى أبواب عطش يتهدّد النيل ومن حوله. ولأن الضربة التي لا تميت، تقوّي، عادت الدولة العميقة بغير مسميات أشدّ بأساً وأكثر حنكة في إدارة الأزمات وخنق الحراكات، بل وأدها في مهدها.
حكم العسكر، وأن رجلاً مثل السيسي لن يطيح به إلا الدولة العميقة نفسها... أو رجل آتٍ من صلب النظام، وهو ما يفطن له «الجنرال» ويجهد لمنعه ليلَ نهارَ. أياً يكن، ومع انتهاء الحياة الحزبية الحقيقية، وتركيب برلمان شكلي بطريقة هزلية، وتسليم المصير للأهواء الخليجية، يُختتم عقد من ثورة كانت حلماً... جميلاً
الجيش صاحب الكلمة العليا
يطمح إلى أن يكون باني «مصر الحديثة» على غرار محمد علي
عندما سعى الرئيس الراحل المخلوع محمد حسني مبارك إلى توريث نجله السلطة على مدار سنوات، كانت العقبة الرئيسية أمامه أن نجله مدني لا عسكري، والشرط ضمنياً لنادي الرؤساء أن يكونوا ذوي خلفية عسكرية، ما طرح أسماء أخرى أبرزها رئيس الأركان آنذاك، الفريق سامي عنان، المقرّب من الأميركيين والرافض لمشروع التوريث.
الجيش، الذي تولى قيادة المرحلة الانتقالية الأولى بعد الثورة عقب الإخفاق في خطوة تكليف عمر سليمان مهمات الحكم حتى ليوم واحد لتهدئة الشارع، بات الحاكم الفعلي خاصة بعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى الكرسي ليحول الجيش من مؤسسة عسكرية إلى دولة داخل الدولة.
جزء مما كان يفعله الجيش مرّ على استحياء في حكم مبارك، لكن النفوذ والتغلغل لم يحدثا إلا في عهد السيسي.
إن الشعب الذي يطالب بإبعاد الجيش هو نفسه من سيطلبه للحكم مرة أخرى، وقد كان.
رغم اكتمال صورة مؤسسات الدولة بعد الانتخابات الرئاسية في عام 2012 بتسليم السلطة لمرسي ظلّ الجيش حاضراً وشريكاً في الحياة السياسية بل رقيباً على الرئيس وحكومته بصورة جعلته دولة داخل الدولة، لتنتهي بتحريض العسكر على خروج الناس في 30 حزيران/يونيو 2013 ليستثمروها مع المعارضة من أجل إقصاء «الإخوان» عن السلطة، ثم إقصاء المعارضة نفسها تدريجياً لإفساح الطريق أمام السيسي كي يصل إلى الرئاسة ويبقى محمياً من أي محاكمات محتملة عبر تقليده رتبة المشير بعد ترقيته من فريق أول، وهو بذلك آخر عسكري يحصل على هذه الرتبة الرفيعة والاستثنائية. لكن لا يمكن إغفال أن الجيش استفاد من عداء «الإخوان» لمعارضيها فوحّدهم ضد الجماعة قبل أن يحوّل الدفة على المعارضة ويقسمها ويشتّتها ويبدأ القضاء عليها تياراً بعد آخر، تارة بالإقصاء والاستبعاد كما حدث مع محمد البرادعي، وتارة بالإغراء بالمناصب كما مع القضاة خاصة أعضاء «المحكمة الدستورية»، وليس أخيراً بالتهديد وفتح الملفات كما حزب «الوفد» وقياداته، وأخيراً بالسجن كما مع المرشح الرئاسي الأسبق عبد المنعم أبو الفتوح.
العسكر هم مديرو الدولة اليوم بصلاحيات كاملة ودون رقابة عسكرية أو مدنية
نجح العسكر في إدارة الأزمة السياسية باقتدار واستعادوا القوة والنفوذ اللذين كانا إبّان حكم جمال عبد الناصر بل مع مزيد من السلطة التي يمكنها عرقلة طموح أي شخص أو جهة تحاول أن تنافسه في المستقبل القريب أو حتى البعيد، مصحوبة بطموح السيسي الشخصي إلى أن يكون باني «مصر الحديثة» على غرار محمد علي، ومدمراً إرث من سبقوه ولا سيما مبارك الذي جاء به قبل «ثورة يناير» بشهور ليكون مديراً للمخابرات الحربية. في سبيل ذلك، عمل «الجنرال» على سنّ قوانين تقوّي الجيش بينها قوانين أُقرت فوراً ومنحت العسكريين صلاحيات واسعة، ثم قوانين مُررت لاحقاً وجعلت الحاكم العسكري في المحافظات يملك صلاحيات توازي المحافظ وربما تفوقه... إلى أن صارت «الهيئة الهندسية للقوات المسلحة» بصلاحيات تعادل صلاحيات وزارات عدة. أما الإدارة المالية للجيش، فباتت موازنتها مفتوحة ومشاريعها التي تشارك فيها ربما تعادل مشاريع «المالية» التي بات دورها هامشياً باستثناء القروض والسندات وغيرها من الاستدانات الخارجية التي تجري بضمان الدولة.
اليوم الجيش هو مدير الدولة، مدير يملك مختلف الصلاحيات ودون رقابة لا عسكرية ولا مدنية، ما جعل حتى المخالفات الفجّة يجري فيها التحقيق داخلياً دون أي معلومات عن طبيعة ما جرى من محاسبات، بل تحولت مختلف المواقع في البلد إلى مواقع عسكرية يمنع الاقتراب منها والتصوير، وإلا فالمحاكمات العسكرية جاهزة ودون تغطية إعلامية ولا ضمانات لمحاسبة المخطئ الحقيقي. اليوم أيضاً صارت غالبية المسؤولين في الوزارات والجهات الحكومية عسكريين سابقين مع إقصاء لذوي الخبرة والكفاءة مقابل تصعيد لمنفذي الأوامر التي قد تخالف المنطق أحياناً بسبب رغبات الرئيس الشخصية. حتى القادة العسكريون الذين باتوا حاكمين فعليين لا يقولون سوى: «تمام يا أفندم». ومن يخالف، فعليه الرحيل بصمت على غرار ما حدث مع شخصيات كثيرة أبرزها نائب رئيس المنطقة الاقتصادية لقناة السويس السابق، أحمد درويش
«الداخلية»... حكم النار والحديد
انطلقت «ثورة 25 يناير» من رحم صفحة على «فايسبوك» تحمل اسم «كلنا خالد سعيد» بعد مقتل الشاب السكندري على يد الشرطة في عنف موثق بالكاميرات. اختيار ذلك التاريخ جاء بمناسبة حلول «عيد الشرطة» الذي بقي لسنوات قليلة بعد الثورة لا يُحتفل به مقابل «عيد الثورة»،
يخجل الإعلام الذي نشأ بعد «25 يناير» حتى من ذكر اسمها رغم النص عليها في الدستور أنها «ثورة شعبية». في ذلك اليوم، خرج المصريون ضد وزارة الداخلية في تظاهرات سلمية منددة بالتعامل العنيف والإهانات التي يتعرض لها أي مواطن في أقسام الشرطة أو على يد «زوار الفجر» الذين يقبضون على الشباب ويزجون بهم في السجون التي جرى حصارها واقتحامها.
لم تستطع «الداخلية» مجاراة الأحداث، ومع أن الجيش حل محلها لعامين في الشارع تقريباً، لكن ضباط الوزارة وعساكرها استطاعوا أن يتلوّنوا بما يتوافق مع الأحداث، بداية من التظاهر بالاستسلام والتفاعل مع تحقيقات النيابة في وقائع عدة، وصولاً إلى تقديم ضباطها إلى المحاكمات ووقوفهم في أقفاص الاتهام، انتهاء ببراءة ضمنت لهم حياة كريمة وعفواً عن ما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب هم ومن سبقوهم في المناصب، وعلى رأسها أكثر من 1500 شهيد في الثورة غالبيتهم من الشباب، ومنهم متظاهرون أُطلقت عليهم النيران وآخرون دهستهم سيارات الشرطة وعشرات قُتلوا على الشرفات بسبب الرصاص الطائش، فيما تحوّلت إثباتات إطلاق النار على المتظاهرين من أدلة إدانة بالسجن المؤبد في محكمة أول درجة لتكون أدلة براءة على مبدأ أن ما فعله الضباط هو دفاع شرعي عن النفس!
«الداخلية» التي ظلّت ذليلة لثلاث سنوات تقريباً، وبات ضباطها يتحدثون بوصفهم شرطة مدنية وفق نص القانون، لدرجة مشاركتهم في التظاهرات خلال حكم «الإخوان المسلمين» ورفضهم تفرقة المتظاهرين إبان حكم محمد مرسي بل رفع ضباطها لافتات تطالب بإسقاطه... هي نفسها اليوم تمارس عمليات عنف وقتل وابتزاز لا تتوقف، ومن دون أدلة أو وجه حق. وبينما كانت «يناير» سبباً في دخول وزيرها الأسبق حبيب العادلي إلى السجن ورموز نظام محمد حسني مبارك بمن فيهم الرئيس المخلوع نفسه، مع إدانتهم جميعاً بارتكاب جرائم رغم محو الأدلة وتدميرها بمعاونة مساعديهم، فإنهم عاشوا في السجن حياة الأمراء. ورغم نقلهم إلى سجن طره وعلاجهم في مستشفيات محددة، جاء ما كُشف بعدها بسنوات وتحديداً عن الوضع المميز الذي تلقوه داخل السجن وتزويدهم بجميع الأدوات التي تمكّنهم من العيش برفاهية ليعكس بوضوح كيف تحوّلت الزنزانات إلى قصور فخمة بأموالهم التي نهبوها من الشعب، بل عادت إليهم بعد تجميدها لسنوات مع فوائدها، ليستفيدوا من تحرير سعر الصرف ولتقفز قيمتها إلى الضعف من دون أن يبذلوا أي مجهود!
خلال ثلاثة أيام قتلت الوزارة 1500 قبل أن تنهار قواتها وتفقد السيطرة على جميع مواقعها ويفرض الجيش سيطرته، ثم بعد 2013 مع وأد الثورة وإسقاط مرسي بتحرّك مشترك من الجيش والقضاة والمعارضة عادت الوزارة بفجاجة لتقتل الآلاف
استعادت الداخلية «عافيتها» وبلطجتها، بجانب عودة الرشى واستغلال النفوذ والسلطات التي كانت قد تقلصت بصورة غير مسبوقة بعد الثورة. كما أنها اليوم تنكّل بالمعارضين أو حتى من يبدو أن لهم أصواتاً تعترض على ما تصدره القيادات من قرارات، بعدما فُصل عشرات الطلاب الذين التحقوا بكلية الشرطة بعد «ثورة يناير» وبينهم طلبة ينتمون إلى عائلات إخوانية، كما أُقصي الضباط والأمناء الذين تعاطفوا مع الجماعة أو التيارات الإسلامية، ليغلق هذا الملف بقرارات يوقع عليها الوزير.
النظام يتغافل تدريجياً عن الثورة التي باتت توصف بالمؤامرة تارة وبالأزمة تارة أخرى، لكن «الداخلية» التي تَحوّل كل عيد للثورة ليكون احتفالاً بعيدها في ذكرى مقاومة قوات الشرطة في الإسماعيلية لإنكليز عام 1952 لن تنسى النكسة التي مُنيت بها في 2011، ولم تتعلم الدرس مواصلة سياسة النار والحديد.
شباب مصر ليسوا هؤلاء!
لم يكن يتخيّل كثيرون منهم أن تكون النهاية مجرد البحث عن لقمة العيش وسط غلاء المعيشة والتزايد في الأسعار على نحو فاق الدخول، مقابل صعود لطبقة شباب اختارها النظام لتكون معبّرة عنه، مع أن أصحابها لا يملكون أي مهارات سوى الولاء والطاعة والقدرة على تبرير الشيء ونقيضه في الوقت نفسه!
تمرّدُ الشباب وخروج عدد من الحراكات (بعضها له قاعدة جماهيرية) دفعا النظام الحالي إلى صناعة جبهة الشباب الخاصة به، التي تبرر كل ما تفعله الدولة مقابل بعض الامتيازات المادية والعينية كالترشيحات في البرلمان أو ترقيات لا يستحقونها. هذه «المغانم» كانت السبب الرئيسي في خلافاتهم بل الزجّ بأسماء «الكبار»، كما حدث مع الضابط أحمد شعبان، عندما خرجت فتاة من الشباب غاضبة لأنها لم تكن ضمن ترشيحات مجلس النواب، أو كما قصة أحمد رأفت، الشاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، الذي قرّر الرئيس عبد الفتاح السيسي إلحاقه بوظيفة مدنية بالجيش بعدما كشف جزءاً من المساومات في إعداد القوائم الانتخابية.
اختار هذا النظام شراء الذمم وإنشاء «تنسيقية» معارضة شكلياً
«شباب السيسي» هم هؤلاء الذين يقضون أياماً في الفنادق على نفقة الدولة، ولو بصورة غير مباشرة، ليشاركوا الرئيس في مؤتمراته، وهم الذين يدافعون عن سياسات «الجنرال» أياً تكن دون أي علاقة لهم بالشارع، بل يحمّلون المواطنين المسؤولية عن أخطاء الدولة على مدار سنوات. مقابلهم، هناك في السجون عشرات الشباب المسجونين بقضايا فضفاضة ولا أحد يتحدث عنهم، بعدما قرر النظام سجنهم بل مضايقة أسرهم عند زياراتهم، في وقت يجلس الذين اختاروا الانحياز إلى النظام في فنادق وقاعات فارهة!
احتواء الدولة للشباب بعد «25 يناير» لم يكن على طريقة «التنظيم الطليعي» كما في حكم جمال عبد الناصر ولا «لجنة السياسات» كما فعل نجل المخلوع الراحل، جمال مبارك، بل هذه المرة عبر «البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة»، بجانب «تنسيقية شباب الأحزاب» التي تحوّلت إلى ذراع متخفّية لإظهار معارضة شكلية في البلاد لكنها في الحقيقة من وسائل النظام ليس للنيل من منتقديه ومعارضيه فقط بل لإقصاء المعارضة الحقيقية من المشهد.
أما شباب «25 يناير» الذين طالبوا بالحياة الكريمة والعمل اللائق، فهم الآن في السجن أو المنفى، أو يركضون وراء لقمة العيش بالعمالة اليومية في المشروعات، خاصة أن الذين جدّوا واجتهدوا ليلتحقوا بـ«كليات القمة» لم يجدوا عملاً بعدما أغلقت الدولة الوظائف أمام الجيل الحالي ورفضت تعيين مئات الآلاف من الخرّيجين، مكتفية بوظائف «اليومية» في المشروعات، لتخرج وتقول إن الشباب ليست لديهم رغبة في العمل ويفضلون الجلوس في المنزل! انتهت الثورة فعلاً، وبات من أراد أن يحسّن دخله وحياته اليوم ضحية لارتفاع الأسعار الجنوني محمَّلاً بضرائب ورسوم تضاعفت عشرات المرات.
د أسلوب الترهيب والتخويف نفسه اتجاه المواطنين، لمنعهم
حتى من التفكير في هذه الثورة التي يخشى تجددها
الثورة كانت
من »بشاير يناير«... فلو أن
صنيعة غربية/شرقية، إخـوانـيـة/أنـاركـيـة،
ُقبلت
قطرية/تركية، إيرانية/أميركية، ملا استقبلت الاجيال والسمات والمشاكل
الذكرى االجتماعية واالقتصادية وتراجع السياسة
وانحسار املجال العام، باألدوات نفسها التي
تعكس الخشية من تكرار ما حدث.
الثورة كانت عابرة
لأليديولوجيات
والمعتقدات والخالفات
التشديد األمني يرتبط
بتخويف المواطنين من
التفكير بالذكرى
المحاكم المصرية
الجسد القضائي في مصر أقرب للعسكري والشرطي، وكذراع للسلطة
كان حضور القضاء المصري في مراحل الانقلاب على أهداف وثمار ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، قوياً ولافتاً، إذ اشتركت السلطة القضائية، بمؤسساتها المختلفة، وشخصياتها القيادية باختلاف مواقعها، في تقويض حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، والتشكيك في شرعية مجلسي الشعب والشورى المنتخبين. ووصل ذلك إلى حدّ ظهور رئيس مجلس القضاء الأعلى آنذاك، المستشار حامد عبد الله، خلف (وزير الدفاع في حينها، الرئيس الحالي) عبد الفتاح السيسي في مشهد الثالث من يوليو/ تموز 2013 (تاريخ تنفيذ الانقلاب على مرسي وإعلان عزله) وقبول رئيس المحكمة الدستورية العليا، عدلي منصور، تعيينه رئيساً مؤقتاً للبلاد، تمهيداً لنقل السلطة إلى السيسي. وتتابعت أحكام مجلس الدولة تأييداً للسلطة الجديدة، بعدما وقفت عائقاً أمام استكمال تكوين المؤسسات الدستورية في عهد مرسي، بحكم إلغاء انتخابات مجلس النواب التي كان مزمعاً إجراؤها في ربيع 2013.
من خلال هذه التبعية، ساهم القضاء المصري في خلق واقعٍ جديد يضع ثورة يناير خلف ظهره، وعكس ذلك قلق القضاء بصفةٍ عامة، من تأثير الثورة على مكتسباته وإخضاعه لسلطة ديمقراطية حقيقية. وعلى الرغم من ذلك، سارع السيسي، الذي عرف القضاء والقضاة جيداً عبر شقيقه أحمد، المستشار في محكمة النقض، خلال السنوات اللاحقة، إلى اتخاذ خطوات قضت على ما كان القضاة يخشون المساس به في عهد الثورة، وهو الاستقلال المالي والإداري الكامل. وبالإضافة إلى هذه الاستقلالية، أهدر السيسي، عبر قرارات متتابعة ومدروسة بعناية، مكتسبات مهمة خرج بها القضاة من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
ترحيب الغالبية العظمى من القضاة بالثورة، إلا أن المحاكم، وبصفة خاصة مجلس الدولة المصري (مختص في القضاء الإداري، وأحد أعمدة القضاء في مصر مع محكمة النقض والدستورية العليا)، كانت ساحة مثلى للتفاعل السياسي والقانوني الذي واكب أهداف الثورة وسارع إلى تحقيقها، استجابة للحراك الشعبي. وحصل ذلك، ابتداءً من حلّ "الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم والمحليات، مروراً بإبطال عقود الخصخصة وفرض رقابة على السلطة التنفيذية في حالة الطوارئ، ووصولاً إلى قضايا مسّت المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم آنذاك ذاته. ومن هذه القضايا، تجريم كشوف العذرية للمعتقلات، والتي كان السيسي أول عضو في المجلس يبررها، في تصريح نادر له للإعلام الأجنبي في 2011.
كذلك ساهم القضاء العادي، عبر دوائر مختلفة في الاستئناف والنقض، في إدانة رموز النظام السابق مالياً واقتصادياً، ووصمهم بالفساد، على عكس رغبة السلطة الحاكمة، وعلى رأسهم حسني مبارك ونجلاه، متخطياً في أحيان كثيرة محاولات الأجهزة التنفيذية للتعتيم والتلاعب بغرض الحماية والتضليل.
عكست تلك الأحكام القضائية صعوبة السيطرة على القضاة في دوائرهم وأحكامهم وقراراتهم التي لا سلطان لأحد عليهم بشأنها، على عكس النيابة العامة التي يمكن لشخص واحد، هو النائب العام، تغيير قرارات مرؤوسيه من محامين عموم ورؤساء ووكلاء نيابات. وأثار ذلك خوف النظام (في عهد السيسي) من استمرار وجود "جيوب ثورية" أو "مستقلة" داخل الجسد القضائي، تستغلها المعارضة السياسية والحقوقية لتحقيق أهدافها، أو أن تساهم الأحكام الصادرة عن تلك "الجيوب" في إشعال حراك ضد النظام.
تخوّف في محله: تيران وصنافير نموذجاًوكان تخوف النظام في محله، وانعكس مباشرة على أرض الواقع، بعد توقيعه اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع السعودية في الثامن من إبريل/ نيسان 2016، حيث تلقت محكمة القضاء الإداري بعد ساعات من التوقيع، دعاوى قضائية لبطلان التنازل المصري عن جزيرتي تيران وصنافير. وأسفر الحراك القانوني عن حكمين تاريخيين ببطلان التنازل صدرا من القضاء الإداري والإدارية العليا في يونيو/ حزيران 2016 ويناير/ كانون الثاني 2017، ودعما بشدة أصوات معارضي السيسي في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وميادين التظاهر. ومثّل ذلك في حينه أزمة كبرى هدّدت تماسك النظام وسيطرته، إلى أن استطاع بتدخل استثنائي من المحكمة الدستورية العليا وقف هذا المد، بقرار أصدره رئيسها عبد الوهاب عبد الرازق (رئيس مجلس الشيوخ الحالي). وأصدر عبد الرازق في يونيو/ حزيران 2017 قراراً بوقف تلك الأحكام، تبعه حكم صريح بإلغاء آثارها في مارس/ آذار 2018 أصدره رئيسها حنفي جبالي (رئيس مجلس النواب الحالي).
كانت أزمة جزيرتي تيران وصنافير معبرة بشدة عما يمكن أن يمثله القضاء من خطورة على النظام، ومن عون كبير له أيضاً، ليبدأ السيسي مساراً مختلفاً في التعامل مع القضاء لتقليم أظافره وتدجينه وجعله تحت سيطرته التامة.
تحرّك النظام ضد القضاء قام في الأساس على عددٍ من المعطيات والتصرفات، نجملها في سطور مرتبةٍ من أقلها إلى أكثرها أهمية وحساسية له وللسلطة.
إلغاء المزاياالملف الأول كان ما لاحظه السيسي من إصرار القضاء على التمتع بمزايا خاصة على الصعيد المالي، كالإعفاء من الضرائب العالية والتهرب من المحاسبة في وقائع الفساد، فقرّر تخفيض امتيازات القضاة المالية، بإخضاعهم للحد الأقصى للأجور بعدما كانوا قد استثنوا أنفسهم من ذلك. كذلك تمّت زيادة المستحقات المطلوب منهم أداؤها من الضرائب، بضرورة احتساب الضريبة بنسبة تصل إلى 25 في المائة على القضاة بأثر رجعي يمتد حتى يونيو/ حزيران 2018 موعد صدور القانون الخاص بالشرائح الجديدة رقم 97 لسنة 2018. وجاء ذلك بالتوازي مع تقليل فرص حصولهم على أموال من الجهات الحكومية والتعليمية التي ينتدبون إليها.
وشنّ السيسي هذه الحملة الجديدة على القضاة على خلفية اكتشاف وقائع عديدة من المخالفات المالية الخاصة بهم، منها وقائع رشوة واستيلاء على أراضي الدولة وتوسع في مخالفات البناء وغيرها من وقائع مرتبطة أساساً بالثروات العقارية. وتم اكتشاف قسم كبير من هذه الوقائع خلال الحملة الكبرى التي شنّتها الأجهزة السيادية، مسنودة بالجيش والشرطة، على المخالفين لشروط البناء والمعتدين على أراضي الدولة، الصيف الماضي.
القضاء... ذراع تنفيذية ومرفق خدمي
وكل ذلك يقود إلى الملف الثالث والأهم على الإطلاق على المدى البعيد، وهو رغبة السيسي في التحكم الكامل بالعناصر التي تختار للتعيين في القضاء، بعد إكمال دراستها الجامعية وتغيير خلفياتهم الثقافية والمعرفية بشكل كامل. وبذلك، يصبح الجسد القضائي أقرب للعسكري والشرطي، في إطار رؤية السيسي له كذراع للسلطة التنفيذية ومرفق خدمي، وليس كسلطة مستقلة تعمل لصالح الشعب وتراقب السلطتين الأخريين وترشد عملهما.
تمّ إخضاع جميع الهيئات بإلحاق المرشحين الناجحين في المقابلات الشخصية تمهيداً للالتحاق بالعمل فيها للدراسة في الأكاديمية الوطنية للتدريب التابعة للاستخبارات، بل واستخدام الأكاديمية كأداة ترشيح أخيرة ونهائية لاختيار القضاة، شأنهم في ذلك شأن المتقدمين للعمل الدبلوماسي والوظائف الحكومية الأخرى.
2021... استكمال التدجين
وبالتزامن مع الذكرى العاشرة للثورة، أعلن السيسي ووزير عدله عمر مروان تخصيص العام الحالي 2021 لـ"النهوض بشباب القضاة" من خلال الأكاديمية التابعة للاستخبارات. فاستكمالاً لخطة التدجين، سوف يتم استحداث دورات تدريبية في الأكاديمية للقضاة المعينين الموجودين سلفاً في جميع الهيئات، لتصبح تلك الدورات أداة لتقييمهم ومعرفة انتماءاتهم وتطوير التعاون مع بعضهم، تمهيداً لاختيارهم لوظائف قيادية قضائية وإدارية في المستقبل. ويبرهن ذلك على رؤية السيسي للقضاء كجزء من السلطة التنفيذية، يصلح لممارسة السياسات التفريخية ذاتها التي تتبع لإعداد القيادات الجديدة الموالية في الحكومة.
يحاول السيسي إلصاق طبيعة شاذة عن العدالة والقضاء في عقول شباب القضاة منذ مرحلة ترشيحهم واختيارهم
القضاة يدرسون في الأكاديمية العديد من المناهج البعيدة عن القانون وحقوق الإنسان، حيث تهتم الأكاديمية بمناهج بحثية خاصة بحروب الجيلين الرابع والخامس والأمن القومي والإرهاب.
في بوادر إعادة توليد لتجربة زرع التنظيم الطليعي في الجسد القضائي في نهاية ستينيات القرن الماضي، أصبح عدد كبير من القضاة الجدد والشبان يدينون بالولاء إلى الأكاديمية الوطنية، بانخراطهم في برامج مستدامة بها والتي هي في الحقيقة ليست معهداً للتدريب بالمعنى المعروف، بقدر ما هي وعاء سياسي لتأييد النظام وتفريخ أجيال تدين له وحده بالولاء.
كذلك استحدث السيسي سنّة جديدة، هي تكريمه، وهو رأس السلطة التنفيذية، لـ"ممثلين عن شباب القضاة المتميزين"، لتتلاشى الحدود بين السلطات ويكرس فيه شعور شباب القضاة بغياب الاستقلال وتغير أخلاقيات وأهداف العمل القضائي. ويأتي ذلك خصوصاً مع توسع النظام في اتباع أساليب غير معتادة لتقييم القضاة بصورة أقرب لتقييم أداء العاملين المدنيين في الدولة والموظفين الإداريين.
وكان هذا التكريم اختتاماً لفعاليات نظمتها وزارة العدل بتعليمات من دائرة السيسي الاستخبارية الرقابية، لتكريم القضاة الأكثر إنتاجاً وإنجازاً للقضايا خلال العام القضائي الماضي، مع بدء العام القضائي الجديد بداية شهر يناير/كانون الثاني الحالي. وكان الوزارة قد عمّمت تعليمات جديدة منذ بضعة أشهر على إدارات التفتيش في جميع الهيئات القضائية لتقييم جميع القضاة بناء على حجم الإنجاز وكمية القضايا والتقارير التي تكتب شهرياً.
وتجرى دوماً عملية متجددة شهرياً لحساب الإنجاز في جميع الهيئات والمحاكم، ولكنها تستخدم في الأساس لقياس مدى كفاءة الدوائر واتخاذ الإجراءات تجاه العناصر الأقل في الالتزام والإنتاجية. لكن ما حدث في الشهور الأخيرة بتعليمات وزارة العدل، هو تحول جميع الدوائر بقضاتها ومحققيها إلى سباق لإنهاء أكبر قدر ممكن من القضايا، وغلق أكبر عدد من الملفات، للحصول على مكافآت أدبية وتشجيعية وصرف حوافز الإثابة (المكافأة) المرتبطة بها.
*
تاريخ ثورة يناير سردية مشوهة باستخدام القضاء والإعلام والتعليم
النظام المصري درس سوابق تاريخية في طمس الحقائق
2011، شبّ خلالها أطفال لم يشاركوا فيها، ولم يروا سقوط 1750 قتيلاً في الأحداث الرئيسية للثورة، وإصابة الآلاف برصاص شرطة وقنّاصي وبلطجية نظام حسني مبارك، وهم يهتفون للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
وبعد إطاحة الملكية في ثورة 23 يوليو/تموز 1952، أدرك قائدها جمال عبد الناصر أهمية الإعلام والتعليم في حسم صراع السرديات التاريخية. وبتحكمه فيهما، تمكن بعد أزمة مارس/آذار 1954 السياسية، من حذف اسم أول رئيس للجمهورية محمد نجيب من كتب التاريخ المدرسي والمناهج الجامعية. وتجاهلت وسائل الإعلام وتلك الكتب أي ذكر للتيارات الوطنية المصرية في العهد الملكي، بعد حلّ جميع الأحزاب وجماعة الإخوان المسلمين. بالتالي نشأت أجيال لا تعلم شيئاً عما حدث من صراع على السلطة بعد إطاحة الملكية، إلا بعد نشر كتب حركة صحوة الإسلام السياسي في السبعينيات والثمانينيات، وصدور مذكرات عدد من القيادات القديمة للحركة، ومنهم محمد نجيب نفسه بعد تراجع المد الناصري.
يبدو أن النظام الحالي درس تلك السوابق التاريخية جيداً، مضيفاً إلى استخدام الإعلام والتعليم استغلال القضاء، الذي أدى دوراً كبيراً في اعتماد سرديات مغلوطة وكاذبة ومنافية لأبسط المعلومات المسجلة التي عاشها ملايين المصريين. وجارت المحاكم الأكاذيب بالاعتماد على تحريات الأجهزة العابرة لنظامي مبارك والسيسي وشهادات قيادات الثورة المضادة، في صورة "وثائق قضائية" تُنشر في وسائل الإعلام، ثم إدراجها لاحقاً في الكتب الدراسية.
سمحت المحكمة ولأمثالهم بكتابة السردية الرسمية للثورة، محمّلين العناصر الخارجية مسؤولية قتل المتظاهرين والشرطة على حد سواء، ومحمّلين الإخوان تهمة التخابر مع حركة "حماس" وتركيا وإيران والولايات المتحدة وحزب الله وقطر وغيرها من الجهات. وبناء على شهاداتهم التخيلية قامت قضيتان أخريان، هما "التخابر مع حماس" و"اقتحام السجون"، اللتان خُصصتا للتنكيل بجماعة الإخوان المسلمين بعد إطاحة حكمها.
لم يكن غريباً أن يستغل النظام الحاكم ذلك لإهانة الرئيس الراحل المعزول محمد مرسي، وربط اسمه بعد وفاته في المحكمة بكلمتي "الجاسوس" و"القاتل"، نظراً لاتهامه في القضيتين السابق ذكرهما. مع العلم أن مرسي كان وقت الثورة أحد ممثلي الإخوان في الاجتماعات مع عمر سليمان نفسه.
الأقوال المصرية التي مُنحت مساحات إعلامية واسعة في عهد السيسي، تغوّلت لتتهم كذباً دولاً وشخصيات بعينها بدعم الثورة. ومن بين تلك الأكاذيب ما أشيع عن سعي وزيرة الخارجية الأميركية السابقة والمرشحة الرئاسية السابقة هيلاري كلينتون لإطاحة مبارك، وأن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما كان مناصراً للإخوان. واتضح كل شيء في مذكرات أوباما الصادرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، التي كشف فيها عن موقف كلينتون المؤيد لبقاء مبارك إلى حد تعنيف أوباما لها. وتحفظ الرئيس الأسبق على التعاون مع الإخوان، متردداً في إعلان تأييده للثورة ومطالبته مبارك بالتنحي، إلى ما بعد تأكده من عدم الاستجابة لأي من نصائحه، حول تأمين الانتقال الهادئ وغير المتعجل للسلطة برعاية مبارك نفسه، مع اتخاذه إجراءات ديمقراطية حقيقية.
امتدت الأكاذيب إلى مرحلة ما بعد الثورة، خصوصاً انتخابات الرئاسة 2012، والتي نجت من تحويل الشائعات الكاذبة بشأن تزويرها إلى أحكام قضائية، بفضل رغبة السيسي في ضمان عدم المساس بما ترتب على شرعيتها، لقطع طريق الطعن على المرشح الخاسر بها أحمد شفيق. وقد أُغلق هذا الملف بحكم صادر من محكمة جنايات الجيزة في إبريل/نيسان 2018 برفض تحريك الاتهام ضد مرسي بالتزوير، وتأييد قرار قاضي التحقيق بحفظ التحقيقات في هذه القضية في أغسطس/آب 2017. وبالتالي مُنع محامي شفيق، من الطعن على حفظ التحقيقات، لأن مرسي يُعدّ موظفاً عاماً بصفته رئيساً للجمهورية، ومعه المستشارون أعضاء لجنة الانتخابات الرئاسية ومسؤولو المطابع الأميرية، وهم جميعاً موظفون عموميون. ماما ***
وفي الفترة ما بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، وُجّهت اتهامات لمرسي والإخوان بالتخابر مع أطراف مختلفة على رأسها دولة قطر، إلى حد صدور حكم ضد مرسي بالسجن المؤبد، بسبب تهمتين في قضية "التخابر مع قطر". والتهمتان هما: تشكيل جماعة إرهابية بالمخالفة للدستور والقانون، واختلاس أوراق حكومية على قدر عالٍ من السرية وتمس الأمن القومي. مع ذلك، فشلت المحكمة في إثبات علاقة واقعية بين مرسي وموظفي مكتبه من جهة، وبين متهمين آخرين بمحاولة بيع الوثائق لقناة "الجزيرة" من جهة أخرى.
وكان هذا الحكم الذي صدر في سبتمبر/أيلول 2017، بعد ثلاثة أشهر من الحصار الرباعي على قطر، داعماً لتحركات الأجهزة المصرية الراغبة في نسج سردية قانونية موثقة، يُمكن من خلالها اتهام حكومة قطر بالضلوع في تمويل العمليات الإرهابية على أراضيها. وهو ما ثبت ضعف الأدلة الواردة في تلك القضية، وغياب القرائن على وجود صلة بين الوقائع الفعلية التي حدثت وبين ادّعاء السلطات المصرية حول حصول عمليات تمويل واسعة النطاق بين قطر وتركيا ومصر، لخلايا غير مركزية تابعة لجماعة "الإخوان"، في 9 محافظات، أبرزها القاهرة والجيزة والإسكندرية.
المجتمع الحقوقي المصري
الموت السياسي التي تعيشها مصر، وتراجع جميع القوى السياسية التقليدية، تظلّ طائفة واحدة يسمح لها بالتحرك، تتمثّل في المجتمع المدني. وبرز على مدى السنوات الماضية بشكل خاص، المجتمع الحقوقي، الذي يحاول أن يستغلّ صلات وثيقة له مع حكومات ومنظمات غربية تضمن له الحماية من ضربات النظام الباطشة. حتى إنّ بعض المشتغلين بالشأن العام في مصر، يراهنون على الحقوقيين المصريين ممن يمتلكون علاقات خارجية قوية، والذين يطرحون أنفسهم أحياناً كسياسيين، ولكن من دون إيديولوجيا محددة أو تصوّر معيّن أو حتى تحالفات واضحة، تمكنهم من إحداث تغيير جذري في النظام السياسي. وعلى مدى السنوات العشر الماضية، وجد الحقوقيون المصريون أنفسهم أمام اختبارات عدة جعلت نشاطهم موضع انقسام حتى في ما بينهم، وفي ما يتعلق بنظرة السياسيين لدورهم، وسط تساؤلات حول حقيقة قدرتهم على التأثير في المشهد.
المدير التنفيذي لمنظمة "كوميتي فور جستس"، وهي جمعية مستقلة للدفاع عن حقوق الإنسان مقرها في جنيف، إنّ "هناك إيجابيتين حاسمتين في استمرار المنظمات الحقوقية المصرية أمام التقلبات السياسية في تلك العشرية، أولاهما الاستقلالية المالية والإدارية، وهو الأمر البارز الذي كان له دور كبير في الحفاظ على المكتسبات البسيطة، التي استطاع المجتمع الحقوقي العمل على جمعها في مواجهته للأنظمة المتعاقبة خلال عشرية الثورة. فلولا الاستقلال المالي والإداري لعانت تلك المنظمات معاناة الأحزاب والحركات والتجمعات السياسية المصرية التي كانت أسيرة انتماءات مذهبية وطائفية".
لا سبيل أمام الشعب المصري لإحداث التغيير سوى بالاعتماد على نفسه وعدم انتظار أي مساعدة من الخارج
الإيجابية الثانية، فيقول مفرح: "نستطيع القول إنّ انتماء المجتمع الحقوقي المصري إلى معايير عالمية لحقوق الإنسان جعل من تلك المعايير أداة المراقبة والمحاسبة التي نعمل من خلالها على تقييم أداء هذه المنظمات في المواقف السياسية المختلفة. بل نستطيع القول إنها هي الكاشفة لأدائها والمحافظة عليه، حين يعبث الانقسام السياسي بالمجتمع، والتي من خلالها استطاع المجتمع الحقوقي المصري أن يلفظ ما به من جونجوز (لفظ يطلق على المنظمات الحقوقية غير الحكومية التي تتبنى الخط السياسي للدولة أمام ارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان)".
تعلم بأنّ المجتمع الحقوقي المصري قادر على الإجابة عن أسئلة التمويل الأجنبي، والردّ عليها باعتبارها القضية الرئيسية الثانية بعد قضية الإسلاميين، إلا أنه لم يجد حتى الآن إجابة نهائية حول كيفية تعامله مع الإسلاميين
بظهور المنبر المصري لحقوق الإنسان (مارس/ آذار 2019)، وهو تجمّع مستقل للمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان المصريين (المقيمين حالياً في أوروبا وأميركا) الذين يجمعهم إيمانٌ لا يتجزأ بالقيم العالمية لحقوق الإنسان، ورؤية عامة مشتركة لضرورة تأسيس نظام سياسي في مصر، يقوم على احترام مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية والمواطنة".
الديكتاتور المفضّل عند (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب، هو ذاته المفضّل عند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع بعض التجميل بشأن حقوق الإنسان". ويضيف أنّ "الغرب الرأسمالي هو ذاته لم يتغيّر، فالمصالح هي التي تحكم السياسة الخارجية. ولذلك الرهان لتحسين أوضاع الديمقراطية في بلادنا على كلمة من ماكرون أو غيره هو رهان فاشل وبائس، ولا سبيل أمام الشعب المصري سوى الاعتماد على ذاته، ولا طريق سوى بناء القوة الشعبية المدافعة عن الديمقراطية والدستور ونهضة الوطن".
المشكلة الوحيدة مع الحركة الحقوقية المصرية ليست أنها عميلة للإمبريالية، فهذا كلام ساذج، بل إنها هي التجسيد الحقيقي للهيمنة الإمبريالية". ويضيف أنّ "الحركة الحقوقية ببساطة كانت وما زالت تمثّل انحراف اليسار وماكينته الكبرى، وهي صنعت بالتحديد من أجل تفريغ الكيانات اليسارية من كوادرها الفعالة. ولذلك، فإنه لغاية التسعينيات كانت المنظمات اليسارية تمنع أعضاءها من تولّي مناصب قيادية في المنظمات الحقوقية، وإن كانت تسمح لهم بالعمل فيها لضرورات معيشية". ويتابع: "الآن وبعد 30 سنة من العمل الحقوقي القائم على جثة اليسار، ليس هناك ميراث سياسي ولا نظري ولا تنظيمي، ولا تقاليد ثورية ولا رموز، ولا استمرارية، كل هذا الفشل السياسي الذي نعاني منه حالياً هو ثمرة انحراف اليسار ناحية العمل الحقوقي، مجرد كوادر تعيش حياة نيويوركية بالكامل، وتمثل جزءاً من النخبة المعولمة عالمياً، وعلاقتها بنا كشعب لا تختلف عن علاقة السفراء الأجانب بقضايانا"، على حد تعبيره.
تعليقاً على المواقف الدولية التي عادة ما تدعم النشطاء الحقوقيين بينما تغضّ الطرف عن معظم المعتقلين السياسيين في مصر، وعلى سبيل المثال مواقف دول أوروبية عدة وأميركا والأمم المتحدة، المنددة باعتقال ثلاثة مسؤولين في "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، يقول الباحث السياسي نفسه: "للمرة الأولى في تاريخنا السياسي نرى نضالاً يهتم به وزير الخارجية الأميركي شخصياً، فيما يعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه، ويتلقى هذا النضال دعماً ودعاية وتبشيراً وتبنياً من عصب المؤسسات الإمبريالية. أنا لست ضد ثقافة حقوق الإنسان، لكن هناك فرقاً بين الحقوق كمبدأ عام، وبين الأشكال المؤسساتية والإجرائية لتطبيق هذا المبدأ على الأرض".
المنظمات غير الحكومية، يقدّر عدد السجناء السياسيين في مصر بنحو 60 ألفاً، بينهم صحافيون ومحامون وأكاديميون ونشطاء وإسلاميون اعتقلوا في حملة مستمرة ضد المعارضة منذ إطاحة الرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013، الذي توفي في السجن العام الماضي.
لست من أنصار المساواة بين النظام والمعارضة؛ إذا ما سمينا الاستياء الغامض وغير المنظم ولا المعبر عنه معارضة. ولست من هواة معارضة المعارضة بالمزايدة عليها من على يسار النظام، لكن لا هذا نظام سيستمر ولا هذه معارضة مؤهلة لقيادة عملية سياسية ضده، وفي الحالتين لا توجد أي إمكانية في الظرف القاهر الذي يسحق الأغلبية، لاستباق الانفجار الاجتماعي، لا من جهة المعارضة، ولا من جهة النظام، بما في ذلك جلب قروض من الخارج، فهذا يؤجل الكارثة، لكنه يعمّقها ويضخمها".
الاعتماد على الدعم الخارجي في مواجهة نظام باطش أمر مقبول، وأحياناً يكون ضرورياً ولا بديل عنه، إذ إنه يخفف من دون شك عن العاملين في الملف الحقوقي والسياسي الذين يضطهدهم النظام بقسوة، ويمنحهم في الوقت ذاته هامشاً من الحرية يستطيعون فيه ممارسة دورهم". لكنّ المتولي يؤكد في الوقت نفسه أنّ "التدخل الخارجي لا يمكنه أن يصنع ثورة بمعناها الحقيقي، فالثورة الحقيقية يقوم بها الشعب وبقيادة النخبة المثقفة لتغيير الوضع الراهن إلى الأفضل، مثل ما حصل في ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011 وثورة تونس".
المنظمات الحقوقية
أهمية ملف المنظمات الحقوقية للنظام المصري في أنها تمثل قمة المجتمع المدني المصري، وأنها تتمايز عن باقي كياناته باستقلالها إداريًا وماليًا، كما استقلالها عن قانونٍ فعليٍّ يقيد نشأتها وعملها، بل تتخذ أشكالاً متعددة على أرضية قانونية متباينة، ويحكمها، من ثم، مع النظام المصري منطق الأمر الواقع وليس قيود التشريعات والقوانين، وربما لهاتين الخاصيتين (الاستقلال والتنوع) كان هدف النظام المصري من مواجهتها هو الهيمنة عليها ومحو استقلالها بعدما انمحت المساحة التي أوجدتها تلك المنظمات في الساحة السياسية المصرية منذ بداية العمل الحقوقي المصري في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
أعضاء "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"
تصنيف المدافعين عن حقوق الإنسان ضمن "الإرهابيين"!
سعي السلطة إلى الانتقام من جماعة الإخوان المسلمين، والمتعاطفين معها، تم الإعلان عن التحفظ على أموال 1055 جمعيةٍ خيريةٍ كانت تقدم رعاية اجتماعية للفقراء والمساكين.
النظام العسكري يستهدف الجميع بالاتهام نفسه بالإرهاب من دون تمييز، ولا يفرق حقيقةً بين أيٍ يتبع أي اتجاه
*
برلمان مصر بلا أنياب
عدد الأحزاب وصل إلى 104 بعد الثورة، ارتمى بعضها في أحضان السلطة
شهدت الانتخابات الأخيرة عمليات واسعة من التزوير لإقصاء المعارضين
*
مكافحة الفساد والفقر والبطالة والفوارق الاجتماعية ووقف بيع المال العام، والتوزيع العادل للثروة، ووقف احتكار قلة من رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة الحاكمة للأنشطة الاقتصادية المختلفة.
المطالبة بالقضاء على التداخل الكبير بين المال والسلطة، ووأد ظاهرة "توزير" كبار المستثمرين وتوليهم رئاسة الوزارات الاقتصادية، والحد من ظاهرة سيطرة أصحاب المال والنفوذ على مجلسي الشعب والشورى ورئاسة اللجان المهمة فيهما.
الثورة المضادة والانقلاب العسكري المحكم نجحا خلال فترة قصيرة في وأد مطالب وأهداف الثورة وتوزيع رموزها ما بين القبور والسجون والمنفى والاختفاء القسري والعيادات النفسية، كما نجحا في تخويف المصريين عبر القبضة الأمنية والقتل والاعتقال وإقامة السجون الجديدة.
الوعود التي قطعها نظام ما بعد يوليو 2013 على نفسه بتحقيق الرفاهية ورغد العيش للمصريين وتحسين الأحوال المعيشية والدخول وخفض أسعار السلع الرئيسية، وتطوير الخدمات وفي مقدمتها الصحة والتعليم، وإحداث طفرات في القطاعات الإنتاجية والتصدير وأنشطة السياحة والصناعة والزراعة والبنية التحتية والاستثمارات الأجنبية، وخفض الدين العام، إلا أن معظم هذه الوعود تبخرت وتحولت إلى سراب.
فأحوال المصريين المعيشية تراجعت بشدة بعد 10 سنوات من ثورة 25 يناير لأسباب كثيرة منها القفزات المتواصلة في أسعار السلع الرئيسة والخدمات مثل البنزين والسولار والغاز والكهرباء والمياه والمواصلات العامة، وخفض الدعم الحكومي خاصة المقدم للوقود، وزيادة الضرائب والرسوم، وتعويم الجنيه، وهو ما أدى إلى تدهور قيمته مقابل الدولار وحدوث قفزات في معدل التضخم وتآكل في المدخرات المحلية.
تم إهمال قطاعات مهمة منها الصناعة والإنتاج والزراعة، وإهدار المال العام، وتوجيه ما هو متاح من إيرادات الدولة لمشروعات لا تمثل أولوية لغالبية المواطنين وآخرها مشروع القطار الكهربائي السريع، وقبلها تفريعة قناة السويس البالغة تكلفتها 8 مليارات دولار وتسببت في تهاوي قيمة الجنيه.
زيادات في معدلات الديون والبطالة والفقر وكساد الأسواق والتعثر المالي وغلق آلاف المصانع وتشريد آلاف العمال، والقضاء على الطبقة الوسطى، وتدحرج ملايين المصريين نحو الفقر المدقع، وصعوبة الحصول على سرير في المستشفى أو كرسي في فصل مدرسي.
فالتغيير حتمي، والأسباب التي دفعت المصريين للخروج يوم 25 يناير 2011 لا تزال مستمرة، بل وتعمقت بالغلاء الفاحش والبطالة والنيوليبرالية الجديدة المتوحشة والفوارق الاجتماعية وعودة الاحتكارات للأنشطة الاقتصادية، واغراق البلاد في الديون الداخلية والخارجية، وصغار السن الذين شاركوا في ثورة يناير باتوا الآن شبابا لديهم إدراك شديد بواقعهم.
السلطة الحاكمة قد نجحت في تشويه ثورة يناير والنكاية برموزها وشبابها، لكنها لم تنجح مع كل المصريين الذين خرج الآلاف منهم للتظاهر في سبتمبر 2019 و2020.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق