لا تملأ فراغ الأفكار بالضرورة أفكار أخرى، قادرة على أن تؤدى الوظيفة الأساسية نفسها التى للفكرة الأصلية، فتُشبع الأذهان، وتُطمئن النفوس إلى وجود إطار أو مرجعية متماسكة،
مالك بن نبى كان محقا حين قال عبارته الشهيرة: «من سنن الله فى خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح أحيانا». ولا يعنى هذا، فى كل الأحوال، أن هذا الصنم يُعبد أو يُقدس، إنما قد تنجذب الأسماع والعقول إليه لأنها لا تجد أمامها غيره، أو يحدث هذا الانجذاب بفعل قوة قاهرة تريد أن تجعل منه مرجعا ومآلا. هذه القوة قد تنبع من داخل إنسان فارغ من الفكرة الكلية، أو بفعل الجهل والخوف وفقدان البوصلة، وانعدام الرسوخ العقلى.
فالصنم، وفق ما تراه الكاتبة عائشة سلطان، «ليس فقط ذلك الشكل المنحوت من الحجارة والخشب والحديد، والذى اتخذته الأمم القديمة رمزاً للإله أو الآلهة.. فغياب العقل والتفكير والفكرة، وضعف القيم، وسيادة الكسل وانعدام الهمة، واتباع رأى القطيع، يجعل للصنم قيمة حين لا يعود للفكرة وجود، ويصبح حينها بمقدرونا أن نقيس على الحجر أشياء مثل المال والشهرة».
ففى بعض المجتمعات يتحول الماسك بدفة القرار وقائد الجماعة أو التنظيم والواعظ أو الداعية، وحائز الثروة الطائلة إلى صنم كامل، حيث لا يفكر الناس، أو أغلبهم، فيما يتلقونه عنه، بل يتعاملون معه على أنه الصواب المطلق، الذى لا يقبل صدا ولا ردا.
وهنا يرى حمزة بلحاج صالح أن ما يصدر عن أصحاب هذه الوظائف والمواقع والمناصب والمكانات قد يكون بسيطا عابرا، لكن بعض الناس يضخمونه، ويفرطون فى الإعجاب به، ولا يقبلون فيه تحليلا وتفصيلا ونقدا ومراجعة تجعله يتهاوى، كأنه لم يكن، ربما لأنه يخاطب عواطفهم الملتهبة، أو يلعب على الغرائز فى مجتمع الفرجة والاستهلاك، وفى ظل استهواء الناس للأفكار التقليدية المحنطة، واستكانتهم للجدران العالية التى تمنع ولوجهم إلى لب الأفكار ليفهموها ويفندوها.
وتزداد هذه المزاعم فى عالم السياسة ومقتضياته، فالمنفردون بالقرار والأحزاب المهيمنة، والعائلات والعصبيات المستأثرة بالحكم، وأصحاب السطوة من جاه أو مال، يكرهون الأفكار، وهم إن اتبعوا فكرة تكون متقلقلة ضئيلة لا تستقر على حال، ولا تشغل حيزا راسخا من الوجود المادى، وحتى لو كانت هذه الفكرة بها قدر من التماسك فى مطلعها فإنهم سرعان ما يفرغونها من مضمونها، فتتسع الهوة بمرور الوقت بينها وبين الممارسات والتصرفات، وما هذه الهوة إلا فراغ، هو موجود ومؤثر حتى إن أغمضوا أبصارهم عنه، وعملوا على نفيه وتبديده.
(٢)
تابع الفتى صامتًا أخبار المظاهرات، ورأى عصيًّا تشرخ الهواء ووجوها تنزف ودموعا تذرف، وسمع هتافات الثائرين وشكوى العابرين.
فى صباح اليوم التالى قال لوالده:
ـ أريد أن أصبح رجل سياسة.
نظر إليه متعجبًا، فهو يعرف أنه يريد أن يكون عالمًا فى الكيمياء، ثم سأله:
ـ لمَ هذا التحول المفاجئ؟
هز رأسه وقال:
ـ أريد أن أقيم العدل.
قهقه الأب حتى كاد أن يسقط على الأرض، ونادى أمه التى كانت تسمع حديثهما من بعيد، وقال لها بحروف ضاحكة تناثرت تحت أقدامهم:
ـ هنيئًا للدنيا بحالم جديد
د. عمار على حسن ٦/ ٩/ ٢٠١٩
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق