الاثنين، 2 سبتمبر 2019

محمود العلايلي *******

الاشتراكية الساحلية

 يحاول البعض أن يحدد طبقة الساحل الشمالى بأنهم لا يمثلون أكثر من 1% من عدد سكان مصر، أى حوالى مليون مواطن، وذلك ليس 
بالقليل إذا قيس عددا، وهو ما يقودنا إلى تعريف هذه الطبقة التى تمثل أصحاب الأعمال وكبار المهنيين ورجال البنوك وموظفى الشركات متعددة الجنسيات، وهم من كبار ممولى الجمارك والضرائب، والشىء الآخر أن نمط إنفاق هذه الطبقة- حتى إن كان سفها- له مردود على مستوى الاقتصاد الكلى،

على الجانب الاجتماعى فالشىء الملاحظ أن البعض يحاول نشر الإحساس بأن البهجة والسعادة يجب أن تكون مصاحبة للخروج على القانون والأخلاق،
 تأصيل فكرة أن الأثرياء مجموعة من السفهاء الذين اكتسبوا أموالهم بالصدفة أو من حقوق المعدمين، ولذلك ينفقونها دون اعتبار أو حساب. لقد حاولت النظم الاشتراكية على مر الزمان أن تشيع جوا من المساواه بين الناس، مما يسبب فى البدايات شعورا بالعدالة بين عموم المواطنين، إلى أن تدرك الأغلبية أنها تؤدى مع الوقت للمساواة فى توزيع البؤس، بينما أدى نظام اقتصاد السوق الحر إلى التنافس بين المواطنين للوصول إلى أفضل مكان، والتفرد بين الأقران المتنافسين، ليستحق صاحب الموهبة والدأب فى العمل مكانة تختلف عن الآخرين. إن الإنسان يسعى دائما للنجاح والوصول إلى المراتب العليا، لا ليصل إلى مرحلة الإشباع المادى فقط، ولكن الأهم هو الإشباع المعنوى الذى يختلف من شخص لآخر، حيث إن من حق كل فرد أن ينفق أمواله بالطريقة التى تحقق له هذا الإشباع، مع الوضع فى الاعتبار دائما أننا نعنى من اكتسب ثروته بطرق معلومة ومنضبطة مع دفع حق الدولة، حيث يعود بنا هذا لنتساءل: هل من المجدى اختصار كل ثرى بالنظر باستهزاء إلى طرق إنفاقه ساعة راحته واستمتاعه بما جناه، أم الأجدى استرجاع قصة نجاحه وما بذل من الجهد والعرق، ولحظات السقوط والنهوض وعدم اليأس والمثابرة، بدلا من الإصرار على التبكيت على أسلوب الإنفاق والحياة؟ وبالنظر للمسألة من منطلقها الاقتصادى ومن مرجعيتها الاجتماعية، نجد أنه بينما يوجد قطاع صغير لديه القدرة على قضاء العطلات فى أماكن عديدة داخل مصر أو خارجها بحسب المقدرة المادية، فإنه يوجد قطاع عريض جدا من المواطنين-للأسف- ليست لديهم القدرة المادية لقضاء أى نوع من الإجازة، بل إن هناك قطاعا آخر- لشديد الأسف- ليس لديه أى فكرة عن معنى الإجازة أو كيفية قضائها، والقطاعان الأخيران هما الأولى بالاهتمام والنظر، بدلا من أسلوب الحط من القادرين الذى لن يغير من حياة الآخرين شيئا، حيث لا يعد وصف القادرين بالفساد والسفه إلا من قبيل العزاء السخيف المؤقت، لأن ما يغير من حياة الناس فعلا ويرفع مستوى معيشتهم هو دفعهم للعمل والتنافس، ليكون الإشباع النفسى سعادة واقعية، وليس عزاء وهميا بانتقاد الآخرين وبغضهم، وذلك بالعمل على بسط العدل بتوفير الفرص المتكافئة للجميع، ودفع الموهوب الدؤوب والمثابر لطريق النجاح والتحقق، بحسب ما يبذل من جهد وما يمتلك من مقدرة.

+++++++++++++++++++++++++

حقيقة التنوير

اعتبر العديد من التنويريين أن هزيمة تيار الإسلام السياسى فى معركة 30 يونيو تعد مدخلًا لبداية عصر تنويرى حديث، كما اعتبر العديد من المجددين أن الهجوم المباشر على بعض الوجوه الدينية المحرمة عرفًا يعد نموذجًا للتخلص من تجار الدين دون حسابات من الخوف أو الابتزاز، مثل كشف الوجه التجارى للداعية «عمرو خالد»، أو فضح التوجهات السياسية لـ«الشعراوى» وآرائه المستهجنة فى العلاج والتداوى، والتفكيك الممنهج لقدسية «صحيح البخارى»، أو التعامل باستخفاف مع الحوينى ويعقوب وبرهامى وحسان وأشباههم من مطلقى فتاوى إرضاع الكبير ونكاح الميتة، بالإضافة إلى فتح المسكوت عنه مثل قضايا الحجاب والعلاقة بين الجنسين. وإن كان الإصلاح الدينى من العوامل المهمة فى العملية التنويرية، إلا أن ما سبق رد الفعل يتسم بالمبالغة، وإن شئنا التحديد فالتوصيف غير دقيق، لأنه مع التقدير لأى خطوة تصحيحية، فالتنوير منظومة أكثر اتساعا فى مفهومه، وأدق إحكاما فى آلياته، كما أنه أشمل توجيها فى أهدافه، وبالمقارنة بين عصر النهضة الأوروبى وما أطلق عليه عصر التنوير فى مصر فى النصف الأول من القرن الماضى، فقد اتسم هذا التاريخ ببعض المعارك حول الحريات الدينية وحرية التعبير، وبسبب وجود جاليات أجنبية مؤثرة فى ذلك العصر فقد اقترن مصطلح التنوير بالتنوع الدينى والطائفى - وهو عرض جانبى للاستعمار- بينما نجد أن عصر التنوير فى أوروبا والذى سبق عصرنا بحوالى مائتى سنة قد تميز بالإصلاح الدينى الذى اقترن بالإصلاح السياسى، والذى تبتعه بعد ذلك ثورة صناعية أثرت بشكل مباشر على المجتمعات الأوروبية من حيث البنية الاقتصادية للدول والتركيبة الشخصية للأفراد.

إن تركيز سبب الإظلام فى الدين والمستفيدين منه، ومن ثم اختصار التنوير فى التخلص من تأثير الدين أو تجاره، يعد تبسيطا شديد السذاجة- إن شئنا الدقة- فالتنوير يجب أن يقترن بنمط حياة يعتمد على العقل الواعى والتركيز على عدم الاعتداد بالمرجعيات الماضوية فى تسيير شؤون المواطنين، وهو ما لا يتوافر إلا فى المجتمعات الصناعية التى تعتمد على العلم أول ما تعتمد، سواء فى التخطيط، أو توفير الموارد وضبط أدوات الإنتاج والتسويق.. وقبل هذا كله الابتكار والتجديد، كما لا يتكامل هذا المجتمع إلا بنظام قضائى دقيق وحازم ومستقل، مستندا إلى سلطة تنفيذية محايدة قادرة على توفير مناخ العمل للمواطنين وحماية أرواحهم
وممتلكاتهم. إن التفكير فقط بالاعتماد على المفكرين والكتاب، أو على رواد منصات التواصل الاجتماعى كأدوات لإحداث حركة تنويرية يعد ضربا من الأحلام، أو التنصل عمدا من المسؤولية، ليستمر الوضع القائم عبارة عن أصوات تعلو حينا وتخفت أحيانا، سواء من الإعياء أو اليأس، بينما عجلة الماضى تسير بنفس معدلها إلى الخلف، ولكن لكى تتكامل منظومة التنوير يجب أن تبدأ ضمن توجهات سياسية بإرادة ممنهجة تعتمد على الأساليب الإصلاحية فى العمل السياسى والاقتصادى، مستهدفة تكوين مجتمع صناعى بكل ما يشتمل عليه المعنى، ثم يأتى دور المفكرين ورواد منصات التواصل فى إزالة الغموض عن الأفكار الماضوية، وطرح رؤى مختلفة عن المستقبل. إن تركيز المجددين على أن الدين هو الانعكاس الوحيد للماضى وأن إصلاحه هو بوابة العبور للمستقبل، لهو من قبيل الوهم بقدر الوهم الذى يبيعه تجار الدين، لأنها معركة، إن قدر وكسبناها، فلن تغير على الأرض شيئا كثيرا، لأن الواقع يؤكد أن الماضى موجود فى النظم السياسية الشمولية، وموجود فى مجتمعات المألوف والمعروف والمأثور، وموجود فى الظلم والعدالة البطيئة، وموجود فى التعليم بنظام التحفيظ والتلقين، وموجود فى مجتمع البداوة والخشونة، وموجود فى النظرة الذكورية فى تفسير الوجود، وإذا أردنا أن نصل إلى التنوير، فعلينا أن نصلح ذلك كله وليس الدين فقط.


المرجعية الناقصة

تشغل المؤسسات الدينية الرسمية، كمؤسسة الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء، مساحة كبيرة على ساحة سوق الأفكار فى مصر، كما تشغل العديد من المؤسسات الدينية غير الحكومية مساحة ليست بالصغيرة على منصات العمل الأهلى والدعوى، بل وعلى التطبيق العملى للدين من وجهة نظرهم، ليس على سبيل الممارسة فحسب، ولكن على سبيل المرجعية وطرق تطبيقها، والمقصود هنا إن كانت دراسة علوم الدين لفهمها وتفهيمها، أم المقصود بهذه الدراسة تحويل علوم الدين لعلوم حياتية وإجبار الناس على إتباعها، سواء كان ذلك ملائما للعصر أم لا استنادا على تفسير مرجعيات شرعية أو فقهية، أو مواءمة موقف تاريخى لشخص أو حدث أحيانا أخرى للتدليل على رأى أو توجه، وواقع الأمر أن هذا هو الذى يستهلك التفكير فى هذا الشأن، ليس من قبل المؤسسات الدينية فقط ولكن من قبل أى شخص أو مؤسسة يريد أن يعكس الزمن الماضى على تصرفات البشر فى الحاضر بأى مرجعية، سواء اكتست برداء من القداسة كما يحدث من المتحدثين باسم الدين غالبا، أو اتخذت خلفيات من العادات والتقاليد التى وقع الناس أسرى لها واتبعوها خوفا من الخوض فيها تجنبا للابتزاز والمعايرة، مثل أفكار الثأر والمساواة بين الجنسين.

إن المسألة ليست طعنا فى مرجعيات اتخذت مصداقيتها بحكم ثباتها وشهرتها، بقدر ما هى البحث عن المرجعيات الحقيقية التى تقوم عليها أساليب التفكير، أو بتعبير أدق إن كان هذا العصر يحتاج إلى مرجعيات من الأصل، لأن طرق التفكير قد تبدلت جذريا، فبدلا مما كان يسمى المرجعية ثم نقله أو القياس عليه، صار التفكير يقوم على تجميع البيانات ثم تحويلها إلى معلومات ثم تحليل هذه المعلومات للوصول إلى مفاهيم، وهو ما يتنافى مع تطبيق صور الماضى غير المعيش على الواقع، ولا ينطبق أبدا على الإصرار على تطبيق الأفكار النظرية على الواقع الفعلى دون سند حقيقى لنجاح هذا التطبيق.

إن المرجعية التى تنقص حياتنا هى العقل الواعى، وهو ما توصل إليه العالم المتقدم منذ عصر النهضة، وبقدر ما كانت أوروبا تدفع باستخدام العقل، بقدر ما كنا نقاوم هذا التيار وندفعه عنا بحجة الدفاع عن العادات والتقاليد، أو بمحاولات الحفاظ على الهوية وحمايتها، وفى الأغلب لتحويط الدين والإبقاء عليه دون أى نوع من التدخلات الخارجية، مما أوجد لدينا نوعا متفردا من التفكير انعكس على كل حياتنا، بوصف إعمال العقل بأنه ليس إلا نمطا أوروبيا لن يؤدى إلا إلى تدمير عاداتنا وعقائدنا، وبالتالى كانت مقاومة إعمال العقل ومازالت على مدى القرون لصيانة التقاليد من التأثر، والحفاظ على الدين من التفكيك.
إن المسألة ليست فى الفكر بقدر ما هى فى طرق التفكير، لأن رفع الحجر عن البحث الحر غير المعروفة نتائجه المسبقة مسألة لا غنى عنها فى التقدم، بينما لا يقدم التفكير اليقينى القائم على التصديق الأعمى أى خطوة إيجابية، بحكم الاستناد على ما لن يتغير، لأن حياة السابقين مسألة تعنى السابقين، وإن مزايا وخطايا المتوفين لن يتحملها إلا الميتون، ليبقى الفرق أن الأموات بقيت سيرتهم ثابتة وذهب عقلهم، أما الأحياء فليست لديهم ثوابت، لأن حياتهم مازالت تجرى، أما عقلهم فيغير الحياة ويتغير بها، لأنه قائم على التشكك الدائم، مما يؤدى إلى طرح أسئلة جديدة تؤدى إلى نتائج مختلفة، بينما يؤدى الاستناد على المرجعيات الثابتة إلى وضع الإجابة قبل السؤال، لأن الإجابة محفوظة والسؤال معروف، بينما يكمن التحدى الحقيقى فى إعلاء قيم الشك والتجربة والتحقق، فى الوقت الذى يجب أن تنتفى فيه مبادئ التصديق الأعمى والتسليم بالثوابت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق