جريدة الحياة
«إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً» (الأحزاب/ 72).
جلال الدين الرومي: «الأمانة هي الإرادة»، فالفضيلة التي يتميز بها الإنسان عن سائر الموجودات هي إرادته، فهو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يعمل بخلاف رغباته وغرائزه.
الخوف من بطش الطبيعة أو القيود السلطوية، سواء كانت سياسية أو دينية. وبدت النزعات الإنسانية في محاولة التمرد على هذه السلطويات التي تكرس العجز والخوف لدى البشر
إلا أن بعض هذه المحاولات تحول إلى سلطويات جديدة نتيجة عدم الوعي الكلي بالطبيعة المركبة للإنسان والتي لا تسمح بالتعاطي معه من منظور أحادي.
وتعود النزعة الإنسانية الحديثة في أوروبا إلى محاولات انبعاث الروح السفسطائية التي تأسست على مقولة بروتاغوراس، «الإنسان مقياس كل شيء». وهو لا يقصد الإنسان الفرد المعين، بل الإنسان بعامة. فقد أراد أن يضع الإنسان في مقابل الوجود الطبيعي، فيما رأى السوفسطائيون أن العقل الإنساني ضاع في الطبيعة الخارجية وفي عالم الألوهية. لذلك رأوا أنه يجب إنقاذه برده إلى ينبوعه الأصلي من طريق أن يكون العقل هو مصدر التقويم، لا إلى الطبيعة الخارجية وإلى كائنات مفروضة عليه.
لذلك رأى أصحاب المذهب الوجودي أنها تتجسد في مذهب قائم على فهم الوجود على أساس أن مركز المنظور فيه هو الإنسان وأن الوجود الحق أو الوحيد هو الوجود الإنساني. هذا بجانب رؤية المذهب العقلي الكلاسيكي بأن العالم الإنساني الحقيقي يقوم على الاستقلال المطلق للعقل.
إلا أن محاولة الاستغناء عن الدين بالعقل ووضعته بديلاً للميتافيزيقا أثقلته، ما جعلته عاجزاً عن ملء هذا الفراغ الناشئ من عملية الاستبداد، وهو ما أدى إلى صعود المذهب الحسي الذي شكك في قدرات العقل وأنكر وجود مبادئ عقلية بديهية، وردوا المعرفة إلى الحس واعتبروا التجربة هي المقياس الوحيد للوعي الإنساني. ومن ثم بدأت النزعة المادية تتمدد على حساب النزعة العقلية المثالية في التصورات المتعلقة بالعالم والإنسان التي اعتبرت أن مركز الكون كامن فيه وليس متجاوزاً له. فالعالم المادي مكتف بذاته، مستغن بنفسه، والمرجعية النهائية للنموذج المعرفي للحداثة الغربية كامنة في المادة داخل العالم، لا من خارجها والإنسان لم يصبح عقلاً مستقلاً عن الطبيعة، بل هو ذات لديها دوافع بيولوجية وسيكولوجية تتجه نحو حفظ الذات. هو بحسب مذهب هوبز، متشبع بالأنانية بفطرته، هو ذئب لأخيه الإنسان. ومن ثم أنتجت الحداثة الغربية مفهوم «الإنسان الطبيعي» ذي البعد المادي، باعتبار أن الإنسان، شأنه شأن الكائنات الطبيعية، جزء من الطبيعة المادية. فجوهر الإنسان ليس جوهراً إنسانياً مستقلاً، وإنما هو جوهر طبيعي مادي. ما يعني أن الإنسان لا يختلف في شكل جوهري عن الكائنات الطبيعية الأخرى. وعلى رغم أن سلوك الإنسان أكثر تركيباً من سلوك الكائنات الطبيعية الأخرى، فإن هذا الاختلاف هو في الدرجة وليس في النوع.
هذا التوغل المادي في فهم الطبيعة الإنسانية أنتج نزعة عدمية كان من أبرز روادها نيتشه، الذي رأى أن انحلال الفلسفة يعود في النهاية إلى فكرة الفلاسفة الذين صنعوا من العقل صنماً بأن جعلوه هو الحاكم المطلق وآمنوا بقدرته على اكتشاف حقيقة الوجود، وهم بذلك واهمون. ومن ثم لا يعترف نيتشه بعقل إنساني كلي، بل إن المنطق الذي هو من أهم منتجات العقل البشري قال عنه: «هو نوع من عدم المعقولية والمصادفة»، فالعقل الوحيد هو العقل الضئيل الموجود في الإنسان.
واستبدل نيتشه العقل كمصدر لتقويم واسترشاد للفعل الإنساني بمفهوم إرادة القوة، فيتساءل: ما الخير؟ هو كل ما يعلو في الإنسان بشعور القوة وإرادة القوة. وما الشر؟ كل ما يصدر عن الضعف والإبداع في الخير. وبناءً على ذلك، أعلن نيتشه اكتفاء الإله بذاته من دون أن يعبأ بالعالم، وتكون السعادة بالشعور بأن القوة تنمو وتزيد، الأمر الذي يتطلب حرباً لا سلاماً، مهارة لا فضيلة، فالحياة هي النمو زيادة في الاقتناء. والحياة لا تستطيع أن تحيا إلا على حساب حياة أخرى. وفي هذا السياق يشير عبد الرحمن بدوي إلى أن ثمة حقيقة جوهرية لم ينته إليها الباحثون المعنيون بالفكر العربي، هي أن النزعة الإنسانية بأبعادها التاريخية والمذهبية لا يمكن أن تصدر إلا من روح الحضارة الأصلية التي ستنشأ فيها. ولهذا، فليس ما يطلب لإحياء تراث في حضارة ما، ما تطلبه من إحيائه في حضارة أخرى، فالنزعة الإنسانية تولدت في أوروبا بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، بفضل الجهود التي بذلت لإحياء التراث اليوناني.
+++++++++++++++++++++++++
إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين
المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي متشائما جدا من اتساع الموجة الدينية في هذه الأيام. وهو موقف غريب من جانب شخص يصنف باعتباره رجل دين وباحثا في العلوم الدينية.
كتابه المثير «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين» أسباب تشاؤمه بتعبيرات محددة. بعضها بسيط جدا وبعضها في غاية التعقيد، لكن القضية المحورية التي شكلت خلفية الكتاب هي ما يصفه بأدلجة الدين. أي انتزاع مضمونه الروحي، واستخدامه سلعة في سوق السياسة، أو مركبا للقوة والسلطة والنفوذ.
أدلجة الدين أسوأ أثرا من الإلحاد، حسب رأي الرفاعي. قد تكون لا دينيا، لكنك منسجم مع الكون الذي تعيش فيه، مشاركا في عمرانه. أما الدين المؤدلج فهو منقطع عن الوظيفة الأولى للإيمان، أي تعظيم قيمة الإنسان، وهو، من جهة أخرى، منفصل عن العالم الحقيقي، يدور حول ذاته، منشغل بالتغلب على بقية الخلق عن مشاركتهم في عمران الدنيا.
الدين المؤدلج لا يرى غير نفسه، لا يرى العالم المتغير ولا يرى البشر المختلفين، ولهذا فهو لا يشعر بتحولات الزمان. ونتيجة لهذا فهو لا يسهم في تلك التحولات، ولا يشجع أتباعه على المشاركة فيها. لعل هذا يفسر، جزئيا على الأقل، سبب انكفاء المسلمين على أنفسهم وضآلة إسهامهم في تيارات التطور التي تموج في عالم اليوم.
إسلامنا بحاجة إلى «مصالحة بين المتدين ومحيطه والعصر الذي يعيش فيه، والإصغاء لإيقاع الحياة المتسارعة التغيير، ووتيرة العلوم والتكنولوجيا التي تفاجئنا كل يوم بجديد تتبدل معه صورة العالم».
هذي هي خلاصة الرسالة التي أراد الرفاعي إبلاغها لمن يهمه أمر الدين وأمر المسلمين.
كان الرفاعي وما زال قريبا من الجماعات الإسلامية الناشطة في الساحة، لكنه يشعر بإحباط شديد إزاء ما حققته من نفوذ جماهيري وانتصارات سياسية. وسبب إحباطه يكمن فيما يظنه انقلابا في طبيعة الجماعة الدينية واستهدافاتها. في زمن سابق كان رجال الجماعة يتحدثون عن دين يدعو إلى المحبة والتعاطف مع القريب والغريب، دين يقدس العلم ويعلي شأن الإنسان، دين يمجد الإيثار وإنكار الذات، ويعتبر الجزاء الأخروي مكافأة تستحق التضحية بالمكاسب الدنيوية.
أما اليوم فإن رجال الجماعة ذاتهم مشغولون بالصراع مع القريب والغريب على النفوذ ومكاسب السياسة. الكلام عن المحبة والتعاطف حل محله خطاب مشحون بمفردات الفخر بالقوة والمفاصلة مع المختلف وتهديد المخالف. مفردات مثل الحلم واللين والحكمة والسلام حلت محلها لغة الحرب والقوة والغلبة والدم وتمجيد البندقية. وباتوا يتحدثون عن «هلاك» مناوئيهم و«الدعس» على معارضيهم كما لو أن الأمر لعبة كومبيوتر.
لم يعد السعي لرضا الله ورجاء عفوه محور حياتهم كما في الماضي، فيومياتهم مشغولة بحسابات الأرباح والخسائر في سوق السياسة والنفوذ الجماهيري وحساب عدد الأتباع والمحازبين.
حقق الإسلاميون كثيرا مما سعوا له من القوة والنفوذ. وكان حريا بهم أن يوجهوا جهدهم لحاجات شعوبهم، وأكثرها حرجا استئصال الفقر والارتقاء بالعلم وتنشيط الاقتصاد وإصلاح جهاز الدولة والمصالحة مع العالم. لكن الواضح أنهم في وادٍ آخر، فهم ما زالوا مشغولين بتكرار قصص الماضي وأوهامه.
هذه بعض النتائج المأساوية لتحويل الدين من «رحمة للعالمين» إلى آيديولوجيا. ولهذا يرى الدكتور الرفاعي أننا بوصفنا مسلمين بحاجة إلى إنقاذ أنفسنا، كما أننا بحاجة إلى إنقاذ ديننا. نحن بحاجة إلى استعادة المضمون الإنساني في الدين الحنيف، الدين الذي كان رحمة وطريقا للخلاص وتحرر الإنسان من عبودية القوة وعبودية الماضي.
++++++++++++++++++++
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق