الثلاثاء، 10 سبتمبر 2019

الوضعية المنطقية وقضايا المعرفة

تعود الوضعية المنطقية الى جملة من المفكرين المعاصرين أمثال شليك وفايسمان وريشنباخ وكارناب وغيرهم. وخاصيتها الاساسية هي أنها تعترف بوجود مشكلة منطقية للاستقراء كتلك التي كشف عنها هيوم، لكنها تعتقد بالقدرة على تخفيف عبئها دون القضاء عليها.

 ما يخص القضايا الميتافيزيقية التي تصفها بأنها لا معنى لها.
والقضايا التركيبية ما هي الا معارف كاشفة عما يوجد في الواقع الموضوعي، لذا كانت تخبر بشيء جديد؛ باعتبار ان نتائجها غير منزوعة عن مقدماتها، فيقتضي الاستدلال عليها بطريق الاستقراء.
اما القضايا التحليلية فهي معارف لا تخبر عن الواقع بشيء جديد؛ وذلك لأن نتائجها مستبطنة داخل مقدماتها، او ان المحمول فيها منتزع عن نفس الموضوع.

ويُعد جون لوك اول من فرق بين هذين النوعين من القضايا، فلقب الاولى بالحقيقية، والثانية بالتافهة. ثم اتبعه في ذلك هيوم ومن بعده كانت - مع شيء من الاختلاف - وأخيراً الوضعية المنطقية .

وبحسب الوضعية المنطقية أنه لا يمكن استخلاص الدليل الاستقرائي من القضايا التحليلية؛ باعتبارها لا تخبر بشيء جديد، طالما انها تستند الى مبدأ عدم التناقض الذي يصف الواقع دون أن يضيف لنا معرفة جديدة. فحينما نقول ان (أ) هي (أ) لا نضيف معرفة الى الموضوع، اذ المحمول هنا يمثل عين الموضوع تماماً، وهذا هو علة كونه يتصف بالضرورة واليقين.

 اعتبرت الوضعية أن القضايا التحليلية لا يمكنها أبداً أن تبرر لنا طبيعة الدليل الاستقرائي المتصف بان نتائجه اعظم من مقدماته، وهو علة كونه يقبل التكذيب والتخطئة. فقد يأتي يوم نرى فيه الحديد لا يتمدد بالحرارة فنكتشف خطأ التعميم الذي بنيناه من غير تناقض . لهذا فان الوضعية حذرة من استخدام التعميمات واليقينات، فهي لا تتحدث عن مطلق افراد القضية الاستقرائية، بل تكتفي ان ترى فيها فئة تقيم عليها حدود الترجيح والاحتمال دون ان تمنحها درجة التعميم واليقين.

رفضت الوضعية المنطقية كل ما له صلة بالتعميم واليقين ضمن العملية الاستقرائية. ومن مفكري هذه المدرسة من رفض الحديث حتى عن الصيغ الاحتمالية للتعميم الاستقرائي، معتبراً ذلك بلا معنى. فالتعميم إما ان يعبر عن حقيقة او كذب، لكنه لا يخضع لاعتبارات الدرجة الاحتمالية .

برتراند رسل (سنة 1944)، حيث رأى انه لا يمكن ان يجاب عما اذا كان المستقبل سيحدث كالماضي، ما لم نسلم سلفاً بمبدأ الاستقراء، فنحن إما ان نتقبل هذا المبدأ بصورة اولية قبلية، او نعمل على طرح كل التبريرات والقناعات الخاصة بالتوقعات المستقبلية، ومن ثم ليس هناك ما يبرر لنا ان نتوقع ان الشمس ستشرق غداً، او نتوقع اننا لو رمينا انفسنا من الطابق العلوي فسنسقط الى الاسفل . فحتى عندما نعلم ان المستقبل قد اصبح ماضياً وهو على نفس وتيرة الاطراد والتماثل مع الماضي، فنكون ذوي خبرة حول ما يطلق عليه المستقبليات الماضية، الا ان ذلك لا يحل لنا المشكل المتعلق بخصوص المستقبل الذي لم يتحقق بعد، او ما يطلق عليه مستقبليات المستقبل، اذ كيف يمكن ان نتحقق من انه على تماثل واطراد مع مستقبليات الماضي ما لم نفترض مبدأ الاستقراء سلفاً؟! فنحن لا نعرف ان المستقبل سيكون تابعاً لذات القوانين التي يخضع اليها الماضي من غير ان نكون حاملين ذلك المبدأ بشكل قبلي . هكذا اذا كانت الادلة على التنبؤ بالمستقبل صحيحة، فان الذي يجعلها كذلك هو مبدأ الاستقراء. واذا لم يكن هذا المبدأ صحيحاً فان كل محاولة للوصول الى القوانين العلمية العامة، عبر المشاهدات الخاصة، تكون وهماً وخداعاً، وبالتالي ليس بالامكان الاستدلال على هذا المبدأ عبر الاطرادات المشاهدة اذا ما اردنا لانفسنا ان لا نقع في الدور. كذلك فان التجربة عاجزة عن ان تثبت او تنفي هذا المبدأ، وهي عاجزة ايضاً عن ان تقول لنا شيئاً بخصوص الاشياء المستقبلية وغير المشاهدة، فلا يبقى - اذن - غير ذلك المبدأ مبرراً للتنبؤ بها .

 الحوادث تقترن باسبابها باستمرار، ولا يوجد مبرر لتعميم هذا الامر الا من حيث افتراض مبدأ الاستقراء سلفاً . مع انه في كتاب (المعرفة الانسانية) اعتبر ان معرفتنا للعالم الطبيعي الخارجي تعتمد كلية على افتراض وجود قوانين السببية، اذ نحن لا نتحسس بالاشياء الخارجية مباشرة، بل ان خبرتنا مقيدة باحساساتنا، وبالتالي فان الاعتقاد بان وراء هذه الاحساسات حقائق خارجية يتطلب الايمان بالسببية سلفاً . ولا شك ان هذا الاعتراف يجعل من الاعتقاد بقانون السببية لا يتوقف على مبدأ الاستقراء، وذلك باعتباره قبلياً هو الاخر، بل ومتقدماً عليه.

الا أن هذا الفيلسوف الذي رفض الاساس المنطقي للاستقراء لم يجد أمامه سوى تفسير الحالة على النحو النفسي كما صنع هيوم. فهو يقول: (وعلى أي حال فان هذه العملية - أي عملية الاستقراء - ليس لها اساس منطقي، بل اساس نفسي فقط، فمن الواضح انه لا وجود لاسس نعتقد بناء عليها في ان أبسط مجرى للاحداث هو الذي سيحدث حقيقة). وقد مثّل على ذلك بشروق الشمس، فاعتبر ان افتراض كونها ستشرق غداً يتفق مع الخبرة التي الفنا فيها الشروق كل يوم باطراد . ومع ذلك فان فتجنشتاين يختلف عن هيوم في كونه يثبت النتائج المحتملة للعملية الاستقرائية، وبالتالي ينزع عليها قالباً من الشكل المنطقي. وهي نتيجة يتفق عليها كافة أقطاب المنطق الوضعي. فمثلاً أن ريشنباخ يوافق هيوم على مقولته بأن الاستقراء عادة،

فاذا ألقيت قطعة نقود فهل ستظهر الصورة أم الكتابة؟ هذا أمر لا أعلم عنه أي شيء، وليس لدي من الاسباب ما يجعلني أومن بأحدى النتيجتين دون الاخرى، لذلك أنظر الى الامكانين على أنهما متساويان في درجة إحتمالهما، وأعزوا الى كل منهما احتمالاً مقداره (نصف). وهكذا ينظر الى انعدام الاسباب المقبولة للعقل على انه سبب لافتراض تساوي الاحتمالات. هذا هو المبدأ الذي يرتكز عليه تفسير المذهب العقلي للاحتمال.

 فالتجريبية قد انهارت أمام نقد هيوم للاستقراء، لأنها لم تكن قد تحررت من مصادرة أساسية من المذهب العقلي، وأعني بها ضرورة البرهنة على صحة كل معرفة. ففي نظر هذا الرأي لا يمكن تبرير المنهج الاستقرائي، اذ لا يوجد دليل على أنه سيؤدي الى نتائج صحيحة. ولكن الامر يختلف عندما تعد النتيجة التنبؤية ترجيحاً. ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة الى برهان على صحتها، وكل ما يمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد او حتى أفضل ترجيح متوافر لدينا. وهذا البرهان يمكن الاتيان به، وبذلك يمكن حل المشكلة الاستقرائية. ويقضي هذا البرهان مزيداً من البحث، فلا يمكن الاكتفاء في تقديمه بالقول ان النتيجة الاستقرائية لها درجة عالية من الاحتمال، بل انه يستلزم تحليلاً للمناهج الاحتمالية، وينبغي ان يكون مبنياً على اسس هي ذاتها مستقلة عن هذه المناهج. أي ان تبرير الاستقراء ينبغي ان يقدم خارج مجال نظرية الاحتمالات، لأن هذه النظرية الاخيرة تفترض استخدام الاستقراء


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق