محمد العلي على طريق الحداثة وداخل خنادقها
قطيعة وتجاوز
منذ أن غادر محمد العلي طريق متابعته لدراسة المنهج الديني، وسلك طريق التعليم المدني – رمزيًّا وثقافيًّا – فقد خلع عباءة «رجل الدين» وعمامته، واختار طريق «طالب المعرفة»، متخليًا عن مسار «العقل التقليدي» ومنحازًا إلى فضاء بناء «العقل النقدي»، وإلى فكر السؤال والنقد والعقلانية، وإلى حلم التقدم الإنساني الذي يتغيا حرية الإنسان وسعادته، وذلك من خلال الإسهام في إنتاج القيم الحديثة المرتبطة بضرورات العصر، والانخراط في الممارسة الفاعلة لصياغة رؤية مختلفة لحياةٍ جديدة. وهنا نراه وقد انتقل منذ مطلع ستينيات القرن المنصرم من ضفة سيادة سلطة النمط والتقليد والأنساق التراثية المهيمنة على الفكر والإبداع والحياة، إلى ضفاف تيارات التنوير والتقدم الحضاري في العالم العربي، وهي العلامات البارزة للسير على الطريق إلى الحداثة.
في حوار لمحطة (LBC) اللبنانية مع محمد العلي قال: «إن شهادة السطوع التي حصلت عليها حين تخرجت من المعاهد الدينية في النجف، قد خلقت مني متمردًا! مضيفًا، أن النجف مدينة إما أن تدفعك إلى الخمول والاستسلام الذي ليس بعده صحو، أو تدفعك إلى التمرد»(1).
أولًا: المنحى الإبستمولوجي
وهو منحى نقدي يروم الوقوف على الأسس المعرفية المكرسة بفعل السلطات المختلفة عبر الزمن، والحوار مع مرتكزاتها، إما لتأكيد مصداقيتها، أو لطرح الأسئلة حولها ونقضها، وهو ما يصب في موضوعة «نسبية الحقيقة». ولذا نقف في كتاباته على اهتمام عميق ومستمر بتحديد «المفاهيم» وتطورها عبر الزمن، سواء في مقالاته القصيرة أو الطويلة أو في محاضراته، وقد خصص الشاعر أحمد العلي القائم على نشر نتاجه كتابًا ضخمًا بعنوان «نمو المفاهيم»، وقف فيه على موضوعات ومفاهيم كثيرة منها: الشك واليقين، مفهوم التراث، نمو المفاهيم، ما هو التاريخ، الفرق بين الرؤية والموقف، عن الثقافة ومكوناتها، المثقف والأيديولوجيا، مفهوم الوطن».
كما نقرأ في كتابه الآخر «درس البحر» مقاربات معرفية معمقة أيضًا عن إشكالات وظواهر ثقافية واجتماعية قارب فيها كثيرًا من الاهتمامات مثل: «ما هو المجتمع، ما هو المفهوم، التفكير الحضاري، كيف نقرأ الماضي، كيف نقرأ الحاضر، التخلف، ثقوب الوعي، قتل العرب، العدالة، وسواها من عشرات العناوين المختلفة في النقد والشعر والفكر والاجتماع».
يقول: «إن أول اشتياقات الإنسان الروحية هو البحث عن المعنى… إن الوصول إلى معنى الوجود الإنساني وإلى معارفه وتصوراته وقيمه ومواقفه وحاجاته الروحية والبدنية، هو هدف الإنسان الأول.. لأنه بهذا الوصول إلى بلورة معنى الأشياء يصل إلى الاطمئنان الروحي، ويتخلص من كلام المجهول والتخبط في التفسير»(3).
ثانيًا: منحى النقد الثقافي
محاضرته الموسومة بـ «مفهوم التراث» لنرى تبديات تلك الحوارية المتعددة الأصوات، سواء في تعدد محاورها أو تعدد آراء الكتاب الذين استشهدت بهم، مثلما نجده في ابتعاد الكاتب عن اليقينية أو الإطلاقية أو الوعظية الدوغمائية.
رابعًا: مفهوم الحداثة عند محمد العلي
خامسًا: الموقف من التراث والحداثة
لا يتفق العلي – ضمن رؤيته التاريخانية للحداثة – مع من يرى في الحداثة قطيعة كلية مع التراث، حيث يرى في التراث ما يبقى وما لا بد أن يموت، فيقول في هذا السياق: «يحتاج الماضي إلى قراءة، لنعرف ما غرسه فينا من أشجار مثمرة، ومن أشواك أيضًا، ويحتاج الحاضر إلى قراءة لنعرف إلى أين نتجه»(15). أما في تعقيبه على ما قاله الدكتور برهان غليون حول التراث والحداثة، من أنه «ليس من الممكن التخلي عن هذه الثقافة لغيرها»، فإنه يؤيد الرؤية، ويعدد أسباب قناعته بها، بقوله: «لأن طرق السلوك والتفكير وتحرك الوجدان مصاغة حسب هذه الثقافة، فهي البنيان الداخلي بكامله، وحين نلغيها نكون قد ألغينا في الوقت نفسه الذاكرة والوجدان»(16). وفي حوار مجلة النص الجديد معه قال: «الحداثة، كما أفهمها، مصطلح عربي تليد قبل أن يكون غربيًّا. الغرب ابتكر أسلوب حداثته وفق مقاييسه ومسار تطوره وحدودها. ولكننا نحن ورثنا مقاييسها، وأدخلنا عليها مفهومًا غريبًا أحالها إلى شبح مخيف بالنسبة للغالبية من مثقفينا وقرائنا. هذا المفهوم هو أن كل حداثة تبدأ من القطيعة مع التراث! هذا المفهوم خاطئ ومضلّل. إن الحداثة ليست شيئًا سوى (التطور والارتقاء على الذات، وانتقاء الإيجابيات في التراث وتعميقها لإغناء الحاضر»(17).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق