الإسلام كبديليرد هوفمان في كتابه "الإسلام كبديل" على الادعاء بأن الديمقراطية العلمانية والرأسمالية هي قمة الحضارة، وقدّم هوفمان كتابه إلى "الغربيين الذين يسعون إلى فهم الإسلام على المستوى الشخصي".
واعتُبر الكتاب بمثابة إعلان من الدبلوماسي والمفكر الألماني عن إسلامه، مما عرضه لهجوم من وسائل الإعلام الألمانية والأوروبية كونه كان دبلوماسيا ألمانيا سابقا وعمل في منصب حساس في حلف الناتو.
واعتنق هوفمان الإسلام يوم 25 سبتمبر/أيلول 1980، وتحدث في كتابه عن الإسلام مقدما رؤيته المستقبلية للدين، وهو يرى في كتابه أن القرن الحادي والعشرين هو قرن انبعاث الإسلام في أوروبا.
ورغم أن المؤلف قدم الكتاب للقراء الغربيين، فإنه لم يتجنب قضايا حساسة مثل أحكام الحدود وتعدد زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام ومسائل القضاء والقدر والربا والمذاهب الأربعة، فضلا عن مواضيع مثيرة للجدل مثل الخلافة والتصوف والتطرف وقضايا المرأة والفن وغيرها.
وأثار الكتاب ضجة كبيرة قبل نشره بمجرد الإعلان عن أن دار نشر ألمانية معروفة ستتولى طباعته، وتعرض هوفمان للعديد من الشائعات وحملات التشويه، بما في ذلك من مزاعم بأن كل امرأة في وزارة الخارجية الألمانية تعمل تحت إدارة هوفمان ستجبر على ارتداء الحجاب.
ودون قراءة الكتاب، هاجم بعض الكتاب والسياسيين هوفمان بزعم أن أفكاره لا تتسق مع الدستور الألماني، وطلبت الخارجية الألمانية منه تقديم إفادة حول آرائه، وفي النهاية صدر الكتاب بتقديم أكاديمية ألمانية مرموقة أثنت على الكتاب الذي أثار جدلا طويلا على صفحات الصحف والكتب الألمانية.
تثيرني كلما قرأت لمفكرين أوروبيين أو أمريكيين اعتنقوا الإسلام، وهي أنهم جميعهم يرون في الإسلام بديلا عن الحضارة الغربية، وينتقدون الحداثة والعقلانية المادية والليبرالية، ويرون أن الغرب أساء إلى الحضارة أكثر مما خدمها، وأخيرا يرون أن الغرب يحارب الإسلام.
هؤلاء ليسوا عربا، ولم يولدوا مسلمين، ولا يخالطون العرب بل يخالطون مجتمعهم، وثقافتهم غير ثقافتنا، فمن أين تأتيهم هذه الأفكار الشيطانية؟.
هؤلاء ليسوا عربا، ولم يولدوا مسلمين، ولا يخالطون العرب بل يخالطون مجتمعهم، وثقافتهم غير ثقافتنا، فمن أين تأتيهم هذه الأفكار الشيطانية؟.
ويلاحظ في اليوميات أن هوفمان تناول الإسلام كدين واعتقاد أكثر من تناوله واقع المسلمين، ويرى المفكر الألماني أن الإسلام يمكن أن يملأ الفراغ الذي تولد عن انصرف الغرب عن الكنيسة إلى الإلحاد.
ويبدو هوفمان في المذكرات هاربا من مجتمع مادي غربي وباحثا في الإسلام عن الروحانية المفقودة، وهو ينتقد تجسد الإله في المسيحية مقابل مفهوم الألوهية المجرّد والتوحيدي في الإسلام.
وجاء إسلام هوفمان كتتويج لعملية طويلة من البحث والتأمل والمقارنة بين الأديان والفلسفات الحديثة التي درسها المفكر الحاصل على الماجستير بالقانون من جامعة هارفارد والدكتوراه من جامعة ميونيخ، وله كذلك كتاب "نهج فلسفي لتناول الإسلام" (1983)، و"دور الفلسفة الإسلامية" (1985).
وفي كتابه "رحلة إلى مكة"، يتناول هوفمان رحلته الأولى إلى مكة بعد إسلامه، متطرقا لأركان الإسلام وحقيقة الإيمان كما يشعر بها، متعرضا لتأملاته الصوفية والفلسفية التي لازمته طوال رحلة الحج.
وينتقد هوفمان المسلمين "المهزومين نفسيا" معتبرا أن الإسلام بديل صالح لحل مشكلات العالم الكبرى في عصر ما بعد الحداثة والألفية الثالثة، وقد قدم هوفمان نقده للحداثة الغربية والصور النمطية عن المسلمين والعداء بين الشرق والغرب من موقع المفكر الألماني المسلم.
++++++++++++++++
مراد هوفمان مفكر ألماني يرثيه المسلمون ولا يفتحون كتبه
هوفمان لا يستغرب من تراجع العلوم عند المسلمين بعد هيمنة فقهاء الشريعة وأبحاثه قائمة على الجدل والتفكير وحرية التحليل.
تعجب من إقبال هوفمان الكاثوليكي الألماني والدبلوماسي المخضرم على الإسلام في ظل تصاعد الحركات الإسلامية المتشددة، وهو الذي أعلن اعتناقه لدينه الجديد في خريف العام 1980. والبعض الآخر رأى في ظهور هوفمان تكراراً لمشهد ولادة مستشرق جديد
فهو يرفض الاعتراف بأن الديمقراطية الغربية هي أفضل ما أنتجته البشرية، مضيفاً إلى ما يرفضه “العلمانية والرأسمالية” في الوقت ذاته.
يتنبأ هوفمان بأن القرن الحالي، وقد كتب نبوءته تلك قبل سنوات من انقلاب الألفية، هو قرن إسلامي بجدارة وسوف ينبعث من أوروبا. لكن كيف؟
شكّل كتابه “الإسلام كبديل” نوعاً من الصدمة للجمهور الألماني،
الإسلام كطريق ثالثة بين الرأسمالية والشيوعية أيام الحرب الباردة، لكنه اليوم البديل للنظام الغربي برمته. وهو ليس واحداً من البدائل للعصر ما بعد الصناعي الغربي، بل هو البديل الأوحد على حد قول هوفمان.
رؤية هوفمان للإسلام، تصفها المستشرقة الألمانية القديرة آنا ماريا شيمل، بأنها أقرب إلى رؤية الشاعر والفيلسوف الباكستاني محمد إقبال، من حيث كونها دعوة لتجديد فهم الإسلام وأفكاره، بعيداً عن التشدد الذي حاربه آخرون يشبهون تجربة هوفمان مثل فضل الرحمن وسواه.
وكثيراً ما ينتقد هوفمان الغرب لأنه نظر إلى الإسلام على أنه دين انتشر بالسيف، بسبب رسائل النبي محمد إلى هرقل وبسبب الغزوات والحروب في بلاد الشام ثم بعد حين حصار القسطنطينية، ويتهم الغرب بأنه ثبّت فكرته عن الإسلام عند تلك اللحظة وعلى تلك الهيئة. غير أن هوفمان يتسامح مع كون تلك الفكرة ليست حكراً على الغربيين وحدهم، بل إن غالبية من المسلمين ترى هذا، وتعتقد أن السيف أسبق من الفكر في انتشار العقيدة.
في كثير من مفاصل شغل هوفمان على “الإسلام البديل” نراه يلاحق التاريخ، ليكون الدليل الذي يتخذه هوفمان على صحة نظريته. فقد كان ردّ الغرب على انتشار الإسلام، بالحروب “الصليبية” وبحصار القسطنطينية المسيحية على يد المسيحيين اللاتين أنفسهم لا المسلمين. وصولاً إلى منتصف القرن العشرين حين صعدت الحضارة الغربية لتشكل النموذج المتفوق تكنولوجيا وحضارياً، وبات على الناس، حسب هوفمان، أن يتخذوا من ذلك النموذج قدوة يحذون حذوها، فلا ثقافات ولا حضارات أخرى، وبات على سكان الأرض أن يرتدوا الجينز ويأكلوا الهمبرغز ويشاهدوا “سي أن أن” ويدخنوا المارلبورو. بينما انشغل العالم الإسلامي بالبحث عن أسباب تدهوره وانحطاطه.
ثلاثة أسباب جوهرية، يضعها هوفمان، تفسر الأوضاع الحالية للإسلام، أولها الضربتان اللتان تلقاهما في المغرب، وبالتحديد في الأندلس على يد الأوروبيين وفي بغداد على يد المغول، وثانيها ما طرأ على الفقه الإسلامي في القرن الرابع عشر، حين تم إغلاقه تماماً، فساد الجمود الفكري بين المسلمين. أما السبب الثالث فهو الطفرة العلمية التي شهدها العالم الغربي، والتي كان لا بد لها كي تنجح من أن تقلّص من الإيمان المسيحي ذاته ولم يكن الأمر موجهاً ضد دين معين.
أصبح العالم في القرن التاسع عشر عالماً بلا إله، كما يروي هوفمان، وظهر ماركس وفيورباخ وبعدهما نيتشه وداروين وفرويد وراسل، وساد المذهب الكمّي الذي لا يعترف إلا بما يمكن قياسه، وباتت فكرة أن يكون هناك إله في الكون “مجرد احتمال”. وهكذا دخلنا إلى القرن العشرين والناس تعبد آلهة أخرى غير ذلك الإله، إنها القوة والمال والجنس والجمال والشعبية. وهنا يتساءل هوفمان مع غيره ممّن وقفوا عند تلك التحولات؛ ماذا أصاب الإسلام؟ فيجيب بسرعة “إن الذي أصاب الإسلام هو ما أصاب الغرب”.
غير أن نجاح الرأسمالية العالمية الساحق، أخذ، بداية من ستينات القرن الماضي وسبعيناته، يقوّض الأساس الأخلاقي للرأسمالية ذاتها، ذلك الأساس الذي وضعه ماكس فيبر مستمداً إياه من البروتستانتية. ليبدأ عصر التدمير الذاتي من داخل المنظومة ذاتها.
يدلل هوفمان على ذلك الانهيار بالتحولات التي طرأت على الدلالات في لغة العالم الغربي، فأصبحت الفردية نرجسية، والأخوّة اجتماعاً على الحفلات، والتحرر فسقا، والحرية الشخصية فوضى أخلاقية، والتسامح إلى تساو ما بين الخير والشر، والتنافس إلى جنون الاستهلاك، والمرونة إلى كراهية التقاليد. فأخذت المجتمعات الصناعية تواجه نوعاً من الخلل تجسده الجماعات الرافضة للمجتمع التي تبحث عن نظام بديل لذلك الذي أعطاها الحرية والرفاه. فهي، كما يرى هوفمان، تفتقد الأمان وتؤرقها التكنولوجيا المفرطة وتأليه العقل والردع النووي.
استغلال الإسلام
رفضُ الإسلاميين لعلوم الغرب وثقافته ومحاولتهم أسلمة المعرفة ظاهرة يقول هوفمان إنها تذكّره بما فعله الألمان في الثلاثينات من القرن الماضي حين حاولوا تنقية العلوم من الآثار اليهودية
في المقابل يراقب صعود التيارات الإسلامية في سبعينات القرن العشرين والتي قال إنها وصفت بالمتشددة، وهو يرى أن هناك نوعاً من التزييف في التعريف به، فغالبية المؤرخين يرون أنها حركات احتجاجية، بينما هي عودة للمقدس في الحياة. وهنا يرفع هوفمان صوته بالقول إن هناك الكثير من تلك الحركات حاولت استغلال الإسلام لأسباب سياسية.
لا يستغرب هوفمان من تراجع العلوم عن المسلمين، بعد هيمنة فقهاء الشريعة، فلطالما كانت الفلسفة والعلوم مرفوضة عند فقهاء المسلمين، واتهموها بلعب دور هدّام، بينما أعطوا الاهتمام الكبير للعلوم الشرعية، وفي الوقت الذي كان عدد تلاميذ المدارس الثانوية في مصر لا يتجاوز خمسة ألاف، كان عدد طلاب الأزهر يصل إلى أحد عشر ألف طالب في العام 1875. هذا التيار كان قد تمكن من غلق أول مطبعة في العالم الإسلامي بعد أقل من 17 عاماً من افتتاحها وتمكن قبل ذلك أيضاً من إنهاء العمل بمرصد إسطنبول الفلكي الذي عاش سنة واحدة فقط.
وكان أقسى الهجمات هجمات الغزالي ضد الفلسفة في “تهافت الفلاسفة”، ورغم أن ابن رشد ردّ عليه بعدها بسنوات، بكتابه “تهافت التهافت” إلا أن المسلم السني اقتنع منذ ذلك الحين أن المعرفة الحقيقة والوحيدة والكافية هي الالتزام بما يقوله الفقهاء.
أصوليون خطرون
ما زاد الطين بلة، حسب هوفمان، التحاق المثقفين العرب بنظرائهم الغربيين، فتخلّوا عن أسس حضارتهم، إذ أن الغرب من جهته يعاني من ترفّع العلوم على الآخر. بينما رفض آخرون علوم الغرب وثقافته، واعتبروها علوماً شيطانية، فأخذوا يحاولون أسلمة المعرفة. ويقول هوفمان إن هذا يذكّره بما فعله الألمان في ثلاثينات القرن الماضي حين حاولوا تنقية العلوم من الآثار اليهودية وتحرير الرياضيات والفيزياء وجعلهما علمين آريين.
لا يسمح هوفمان لأحد بالتشكيك بأن الإسلام لم يطلب إقامة دولة كهنوتية مثل تلك التي نشأت في أوروبا في القرون الوسطى، بحيث يقبض رجال الدين على عالم السياسة. وهو يقول إن هذا كله لم يرد ولا حتى مرة واحدة في القرآن.
دون أن يفتحوا أياً من كتبه، ودون أن ينظروا ملياً في أن فكره كله قائمٌ على آلية نقدية للعقل الإسلامي المعاصر، بقدر إقباله الكبير على الإسلام كفكر وفضاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق