Sep 10, 2019
أزمة مصر الحقيقية، اليوم، هي أزمة ثقافية تنبع من عدم وجود حد أدنى من المعرفة والمفاهيم
والقيم المشتركة بين الحكام والمحكومين، وبين أفراد المجتمع المصري بطبقاته الثلاث: الارستقراطية، والوسطى، والدنيا.
وينعدم- بسبب هذه الأزمة الثقافية- وجود مفهوم واضح ومشترك بين المصريين حول "مصر" وهويتها وانتماءاتها وأبعادها المختلفة، وأحلامها وطموحاتها وأولوياتها، ونظرية وثوابت أمنها القومي.
وينعدم- أيضًا بسببها- وجود معرفة واضحة ومشتركة بالأسس والقيم التي تحكم العلاقة بين طبقات المجتمع المصري المختلفة، والتي تحكم العلاقة بين الحكام والمحكومين، والتي تحدد كذلك واجبات وحقوق كل منهما تجاه الآخر، وواجبنا جميعًا تجاه هذا الوطن، وحقوقنا عليه.
وبهذا أصبحت مصر مجتمعًا، لا تجمع بين أفراده قواسم وقيم وأحلام وروئ مشتركة، ومجتمعًا يسوده سوء الفهم المتبادل وانعدام الثقة بين الحكام والمحكومين، وبين أبناء طبقاته المختلفة.
الخطر الحقيقي الذي تواجهه مصر اليوم، وهو خطر الانقسام المعرفي والثقافي والقيمي بين المصريين، وخطر العزلة والصراع بين مكوناته المختلفة.
مواجهة هذا الخطر بإعادة توحيد مصر، وتثبيت دعائم السلام الاجتماعي فيها، من خلال وضع عقد اجتماعي وثقافي ووطني جديد، يَدعم الأواصر والقواسم المشتركة بين المصريين بمختلف مواقعهم وطبقاتهم، ويمد بينهم جسور الثقة والتفاهم وقبول الآخر، ويسمح بالاختلاف والتنوع الذي يُثري المجموع ويصب في صالح الكل.
عقد اجتماعي وثقافي ووطني جديد، يُعيد الروح للمصريين، ويُنمي وعيهم النقدي والتاريخي، ويؤهلهم لتقبل ومواجهة متغيرات وتحديات عصرهم الراهن، ويجعلهم قادرين على صنع مستقبل يليق بالميراث الحضاري العظيم لهذا الوطن.
قديمًا قال الفيلسوف والمؤرخ والكاتب الفرنسي إرنست رينان: "لا وجود للأمة بدون وجود رغبة بين أفرادها في العيش معًا، ورغبة في بناء شيء معًا".
وأظن أن هذه الرغبة التي تُعد جوهر وجود الأمة وسر استمرارها وتميزها تتأسس على معرفة ومفاهيم وقيم مشتركة بين أفرد هذه الأمة، وبدونها تصبح الأمة في خطر؛ ولهذا فنحن- المصريين- اليوم أمة في خطر.
وهذا ما يجب أن ننتبه جميعًا إليه، بدلًا من انشغالنا العبثي الحالي بتوافه الأمور والناس والأحداث.
أمة في خطر..!
د. أحمد عمر
موقع مصراوي
*
عقد اجتماعي عربي جديد
مشكلة كبيرة، إذا لم يستطع السياسيون والمثقفون العرب ملاحظة حالة الانهيار العام التي تمرّ بها المجتمعات العربية قاطبة، ولا أقصد فقط سياسياً، بل ثقافياً ومجتمعياً واقتصادياً، فهنالك أزمةٌ تاريخيةٌ عميقةٌ وجارفة، تستدعي تصوّراً يتجاوز جدليات السلطة والمعارضة والنقاشات اليومية إلى التفكير بـ"حلول تاريخية".
صحيحٌ أنّ الاستبداد والقمع هما بيت الداء، لكن المرض وصل إلى مرحلةٍ متطورةٍ وخطيرة، وإذا التفتنا يميناً ويساراً نجد أوبئة أشد فتكاً من فيروس كورونا تضرب مجتمعاتنا، وأخطرها ما نراه من حالة تفكّك داخلي مجتمعي وثقافي تجعل من الدولة الوطنية (كانت تعتبر مرفوضة من المثقفين وقوى سياسية عريضة) هي نفسها في مهبّ الريح، بما أصاب الهوية الوطنية الجامعة ذاتها في أغلب الدول العربية.
يتجاوز التفكّك الحالة الطائفية التي تجتاح المشرق العربي، وتفكّك الدول، ويفتح الباب على مصراعيه للقوى الإقليمية، إلى الصراعات الداخلية على أسسٍ جهوية وأيديولوجية، ليصبح موضوع الاتهام والتخوين والتكفير واستباحة الدماء والتعذيب أمراً عادياً مستساغاً، في مواجهة الآخر. وهو في هذه الحالة غالباً ما يكون مواطناً يخالف الآخرين الرأي أو المذهب أو الخلفية الاجتماعية.
يصيب التفكّك، أيضاً، المنظومة الأخلاقية والثقافية، فالتربية التقليدية التي كانت تقوم على أسسٍ تراتبيةٍ وهرمية تخلخلت وتراجعت مع ثورة الاتصال والإعلام التي وفّرت مساحة واسعة من الحرية والتحرّر في المواقف والآراء، وقلبت المجال العام رأساً على عقب، لكن ذلك لم يترافق مع ترسيم تصوراتٍ حضاريةٍ ومجتمعية، للتعامل مع الأبعاد الأخرى لها، ولم تنبن قدرات جديدة في مناهج التربية، ولا لدى الأسر لحماية الأبناء والأجيال الجديدة من الانفلات الكبير، حتى على الصعيد الأخلاقي.
كتاب "التأثير السيبراني: كيف يغير الإنترنت سلوك البشر" للمتخصصة في علم النفس، ماري آيكن، لما فيه من إشاراتٍ مرعبةٍ بشأن تأثير "النت" على مجال الجرائم والسلوك والأخلاق والتربية، بخاصة على الصغار والمراهقين.
في أغلب الدول العربية، هنالك تفشٍّ لشعور الحرمان الاجتماعي والفجوة الطبقية وغياب العدالة الاجتماعية، وأغلب الأنظمة العربية والنخب الحاكمة موسومةٌ بالفساد في المخيال الشعبي، فيما لا تبدو أي مؤشّرات مطمئنة على تجارب تنموية ناجحة (اترك بعض أرقام النمو الاقتصادي الخادعة هنا وهناك)، بالتوازي مع ارتفاع كبير في مديونية دول عديدة، ومعدلات الفقر والبطالة التي وصلت إلى خطوط خطيرة جداً، وستتجاوز ذلك مع تداعيات وباء كورونا الاقتصادية والمالية!
بالضرورة، الديمقراطية هي الحل، لكنّها ليست عصا سحرية، ولا يوجد مجتمعٌ انتقل فجأة إلى هذا المسار. وفي تشخيص الحالة العربية وما أصابها، المطلوب مشروع حضاري وأخلاقي وثقافي مستقبلي، يتوافق عليه المثقفون والسياسيون، حتى في الأوساط السياسية والقوى المختلفة، تمهيداً أو توازياً مع التحول نحو مسارات ديمقراطية.
العقد الاجتماعي الجديد يعني أنّ القواعد غير المكتوبة التي تمثّل الديناميات والسياسات والنظريات والثقافات الحاكمة انتهت، ونحن بحاجةٍ إلى منظورٍ جديد، يقوم على أسس واضحة تمنع التفكك والانهيار، وتزاوج بين السياسي والثقافي والاقتصادي والمجتمعي. وتوافق على مبدأ المواطنة بوصفه أسّ العلاقة بين الدولة والمواطن، وعلى أسس دولة القانون وقيمها، وعلى تجريم التعذيب والقمع وخطاب الكراهية، ونبذ الخطاب الطائفي والتخوين المتبادل، وعلى احترام الإنسان بوصفه إنساناً كقيمة تعطي حياته وكرامته قدسية، وعلى أنظمة اقتصادية متوازنة، تدعم الطبقة الوسطى، وتخفّف من حدّة الفجوة الطبقية، وحكومات مساءلة أمام الشعوب واحترام لاستقلالية السلطات، والعمل على تطوير أسس التربية والتعليم، والتأكيد على حرمة المال العام... إلخ.
هذه القيم والمفاهيم والأسس من المفترض أن تمثّل الأرض المشتركة لنا جميعاً، أو في الحدّ الأدنى للقوى المعتدلة والإصلاحية، لأنّها سياج الحماية في مجتمعاتٍ تمزّقها الحروب الداخلية والأزمات، وأصبحت أكبر المناطق المصدّرة للمهاجرين والمهجّرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق