Feb 10, 2021
الخطاب السلفي الاقصائي
عنوان “العمامة المستنيرة.. تجديد الفكر الديني عند عبدالمتعال الصعيدي” للدكتور أحمد سالم، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا في شمال القاهرة، جدلا ساخرا في أوساط المهتمين بالفكر الديني، نظرا إلى ما تضمنه من دعوة إلى إحياء واستعادة أفكار إصلاحية لعالم دين مصري رحل عام 1966، وهو عبدالمتعال الصعيدي.
أفكار الصعيدي غير المتداولة تفتت أسس الخطاب الديني السائد حاليا، والمائل إلى التشدد والتعصب وإقصاء الآخر، وتفند تصوراته.
ضربة قاصمة لاستلاب الإسلاميين حق الحديث باسم الدين وتأسيسهم لحواجز نفور وتضاد خادعة بين الإسلام والعلمانية.
مدى قدرة الماضوية الإصلاحية والمستنيرة على أن تقف في مواجهة الماضوية المتشددة والمنغلقة، وهل يُمكن صدّ تغوّل المتشددين بخطاب آخر رحب مستنير، متقبل للآخر، ومتصالح مع العلم والعقل؟
إذا كانت جماعات الإسلام السياسي تلجأ إلى نصوص وأفكار لشيوخ ورجال سابقين من أمثال الإمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية، والشيخ محمد ابن عبدالوهاب، وربما سيّد قطب، وأبوالأعلى المودودي في العصر الحديث لتبرير ظواهر العنف ومعاداة الحداثة ورفض الآخر، فهل يُمكن اللجوء إلى أطروحات ورؤى مشائخ ومفكرين سابقين من أمثال محمد عبده، ومالك بن نبي، ومحمد إقبال، وعبدالمتعال الصعيدي، وأمين الخولي، ومحمد عابد الجابري، وغيرهم لتفنيد الخطاب المعادي للمدنية؟
هناك صيحات رفض متعجلة للفكرة، استنادا إلى التصوّر الذي يرى بأن الماضوية رجعية محضة، وهي بمثابة ارتداد نحو الزمن الفائت، وتكاسل عن إنتاج جديد.
أصحاب هذا الرأي أن إعادة طرح فكرة أو مشروع ماضوي لن يفيد في شيء، عملا بالمقولة الشهيرة للفيلسوف الألماني فريدريش هيغل، “لو كان شيئا من الممكن أن يحدث لكان حدث”، ما يعني أنه إذا كانت أفكار السابقين لم تُغير شيئا في الناس وقتها، فإن إعادة طرحها الآن بالضرورة لن تُغيّر شيئا وأن الفكر المتشدد سوف يبقى هو الأعلى والأكثر جذبا وتأثيرا.
تصور آخر يرى أن تغير الزمن وملابساته وظروفه من العوامل التي تجعل ما يُمكن طرحه في الماضي لا يتلاءم مع العصر الآني.
أصحاب هذا التصور أن الطرح الماضوي له جاذبيته لدى الجمهور، وربما من باب الحنين إلى زمن آخر يتصوّر البعض أنه أفضل وأنقى، ودافعه التشبث بأناس رحلوا منذ فترة طويلة ولم يحوزوا ما يستحقونه من تقدير.رغم ذلك،
الخطاب السلفي لا يُجابه إلا بخطاب سلفي، وأقوال السابقين يمكن الرد عليها بأقوال سابقين آخرين.
هناك بالفعل طروحات إصلاحية تقدمية، مستنيرة، ومتفقة مع العلم الحديث والمدنية في مشروعات ومبادرات الكثير من المفكرين السابقين والرواد، حتى أن البعض يتشكك من نسبتها إليهم في بعض الأحيان، ويندهش كيف كانت رحابة الفكر تصل بهم إلى ذلك الحد.
طروحات عبدالمتعال الصعيدي، العالم الأزهري المصري، المولود بمدينة أجا في محافظة الدقهلية، شمال القاهرة، عام 1894، وقدم مشروعا متكاملا، لم يأخذ حظه من الشيوع، للإصلاح الديني بما يقطع الطريق تماما على اجتهادات الإسلاميين الآنية وتتسم غالبيتها بالرجعية والتخلف.
فالرجل هنا لا يرى أن ثمة تعارضا في الجوهر بين الإسلام والعلمانية، بل إنه يؤكد أن الفكر الديني يمكنه ببعض الاجتهاد أن ينفتح على كل ما هو علمي، وما هو دنيوي.
رأى أن تقيد الأزهر بالمذهب الأشعري أول أسباب الجمود الذي يعاني منه، كما أن تقيده بتدريس المذاهب الأربعة فقط، ثاني أسباب الجمود، وآفة الآفات عدم الانفتاح على باقي المذاهب، واجتهادات كافة الفرق الفقهية.
أخذ الصعيدي على رجال الدين، وعلى مؤسسة الأزهر تحديدا، تقديس السلف وتقديس أفكارهم، وعدم مجاراة ومتابعة حركة الزمن وتغيرات المجتمع ومستجداته، وقال في هذا الشأن “من أسباب جمود الفكر الديني، تلك المبالغة في تقديس الأسلاف وعلومهم، فالأسلاف عند أهل الأزهر أعلى من أن يتعرضوا لنقد، ولا يمكن أن يسمح الزمان بمثلهم وبمثل علومهم”.
المبالغة في تقديس الأسلاف
دعا إلى ضرورة تحريك الأزهر ليتخارج من المتون التقليدية، وتحرير عقول رجاله وطلابه من أسر التقليد ليبدعوا في تفكيرهم، مشددا على ضرورة “أن نطلق العنان لأفكار الطلاب ولا نقيدهم بحفظ ألفاظ كتاب فنرى فيهم قوة النبوغ في العلوم، والقدرة على ابتكار الجديد فيها، والحصول من درسها على عقل واسع، وفكر ثاقب لا يكون أسير التقليد، ولا يتعثر إذا سير به نحو شيء غريب أو جديد”.
النخبة العلمانية ورجال الدين، فالأولى تريد للمجتمع أن يعيش في حاضره، ويتمتع بمنجزات الحضارة الحديثة، ويتخلى عن موروثه القديم، الذي يعتبر سببا للجمود والتخلف.
صار الشغل الشاغل للعلمانيين هو إخراج الروايات الشاذة من كتب التراث وطرحها على العامة والجمهور وتشكيك الناس في ماضيهم وتراثهم، والتأكيد على أن هذا التراث سبب تخلفهم وجمود أوضاعهم الاجتماعية، فكان الخطاب العلماني يدين الماضي، ويحض على القطيعة معه، والسخرية منه.
لم يقف أصحاب التوجه الديني الإسلامي مكتوفي الأيدي، بل قاموا بكيل الاتهامات لرموز العلمانية واتهامهم وتجريحهم والقول بأنهم عملاء للغرب، ويريدون هدم قواعد الدين الثابتة ويتطاولون على رموزه، بل إنهم يرفضون الدين كلية.
رجال دين متصالحين مع العلمانية، ومؤمنين بالعقل والعلم الحديث، ويدعون إلى إصلاحات ضرورية مُلحة، من شأنه أن يزيل واحدة من العقبات التي تقف عائقا أمام الإصلاح.
الإمام محمد عبده (1849ـ 1905)، وقد وصفه الكاتب الراحل عباس محمود العقاد بـ”عبقري التنوير”.
مقاومة الجهل والتخلف والتأقلم مع المدنية الحديثة ونشر العلوم، وإبعاد رجال الدين تماما عن السياسة، وسعى الرجل من خلال مقالاته وكتبه ودروسه إلى نبذ التعصب وتقبل التعددية والاهتمام بالفنون والآداب والفلسفة والإصلاح، وإحالة كتب وتراث القرون الوسطى إلى الاستيداع.
دراسة فكر محمد عبده، على وصف خطابه بالإصلاحي والتجديدي الشامل، وعلى قدرته العالية على محاورة الآخر، ولو من باب السجال، مع طرح خطاب حضاري إنساني مستمد من الدين وتعاليمه ونصوصه الأصلية بما يؤكد قيم الحرية والمساواة والعدل، ويسهم في استنهاض الشعوب لاسترداد مجدها والسيطرة على مصيرها.
مشروع المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905ـ 1973) الذي عُني بشكل كبير بالنهضة الحضارية ودعا إلى تنقية الفكر الديني ممّا علق به من ترهات وشوائب تتنافى مع الحضارة، وكانت له مؤلفات عدة تطالب بالتركيز في العلوم الحديثة والنبوغ فيها.
علي شريعتي (1933 - 1977)، حيث رأى أن الإصلاح الديني يستوجب إعادة بناء العلوم الإنسانية والخروج من أسر وسيطرة رجال الدين وإعادة اكتشاف الإسلام مرة أخرى والتوسع في الفلسفة والاستنباط وترجيح العقل.
قدرة السلف المستنير على صدّ السلف المتعصب، الأمر الذي بشر به باحث مغربي مخضرم مثل محمد المصباحي، حيث أكد في دراسة حديثة له ضرورة العودة إلى ما يسمى بـ”السلفية المستنيرة” والمؤسسة على القرآن والسنة، بعيدا عن أقوال المفسرين، لتحرير الإسلام من معاداته للعقل ورفضه لحرية الإرادة، سعيا وراء استقلال البلاد وتحريرها من تبعيتها الخارجية.
العقل والحرية هما مدار “السلفية المستنيرة” التي جابهت الاستعمار الغربي للعالم العربي، إيمانا منها بأن الانتصار في معركة التحرر التام من الاستعمار لا يمكن أن يتحقق من دون عقل مستنير ومنفتح على مكتسبات الحداثة العلمية والحضارية، ومن دون إرادة مستقلة بذاتها عن قيود الماضي وإملاءات الحاضر الذي يهيمن عليه المستعمر.
*
جذب بين فرق ودول وجماعات ومجموعات، منها ما تعتبر الإسلام والمسلمين وحدهم الذين يستحقون الحياة والجديرين وحدهم دون غيرهم بالجنة، ومنها ما تعتبر الإسلام دين عنف وكراهية، وأن المسلمين حبسوا أنفسهم فى قمقم التراث، رافضين التجديد ومعارضين للتحديث. ومنهم أفراد وجدوا أنفسهم، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضى فى حيص بيص. فهم مسلمون يحبون دينهم ويتمسكون بهويتهم، لكنهم فى الوقت نفسه يحملون عقولا رافضة للعنعنة دون سند ولجهود تنصيب وكلاء لله على الأرض دون سبب وللردة الفكرية والثقافية التى ألحقها البعض بالدين حتى صار عاملا من عوامل الرجعية وسببا من أسباب الهوة العميقة بين ملايين المسلمين المحبوسين فى زنازين الماضى، وغيرهم ممن هم ماضون قدما فى مسيرة التحضر. هؤلاء الأفراد ليسوا كفارا أو زنادقة.
هم فقط غاضبون بعد ما صارت تفاصيل حياتهم الصغيرة قبل الكبيرة خاضعة للتكفير من قبل مواطنين مثلهم نصبوا أنفسهم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، وتوغلات وتغولات من جماعات الإسلام السياسى التى تُرِكت ترتع فى كل ركن من أركان مصر على مدار عقود حتى أصبح هناك شعب مؤمن يرتدى الجلابية والنقاب وآخر مشكوك فى إيمانه لا يرتديهما. ونعود إلى مصر كونها بلد الأزهر الذى تمنى كثيرون أن يكون حائط الصد أمام الهجمة الشرسة على الإسلام من قبل جماعات الإسلام المظهرى وأقرانها من معتنقى السياسة الدينية. تمنى كثيرون أن يلجأوا للأزهر باعتباره أقوى القادرين على التصدى لمشوهيه ممن جعلوه عنفا وعبوسا وتطرفا وتمسكا بتلابيب المظاهر ومحاولة التفرد عبر اعتناق الغرابة والاختلاف عن الآخرين. ويشار إلى أن جانبا غير قليل من التشويه حدث بفعل الاستناد إلى قصص وحكايات من التاريخ لم نسمع عنها قبل سبعينيات القرن الماضى. البعض من أمثالى واقعون فى حيرة من أمرهم. قبل أشهر، سمعنا فضيلة الإمام الأكبر الجليل، الدكتور أحمد الطيب، يتحدث عن «ضرورة بقاء السنة إلى جوار القرآن جنبا إلى جنب وإلا ضاع ثلاثة أرباع الدين، وأن سلخ القرآن عن السنة يضع القرآن فى مهب الريح» على اعتبار أن السنة هى المصدر الثانى للتشريع. والحقيقة أن أحدا لا يطالب بالاعتداء على السنة، لكن المطالبة هى بتحكيم العقل. وكم كانت سعادتى حين طالعت ما طالب به الإمام الأكبر قبل أيام بـ«عدم تقديس التراث الفقهى أو مساواته بالشريعة». لكن بقى لنا أن نفهم حتى تكتمل سعادتنا: هل يعد ذلك تعديلا طال انتظاره فى مسار الأزهر والتعديل سنة الحياة، أم أننا لم نفهم مسألة كون السنة ثلاثة أرباع الدين؟ وبقى توجيه تحية إجلال للإمام الأكبر على هذا التحديث والتطوير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق