Jan 4, 2021
توظيف الدين لصالح الدنيا، وقد بلغ هذا الأمر لدينا مستويات قياسية غلبت على مجتمعات العالم، ما ألحق أكبر الأذى بالدين الذي أصبح مرتعاً خصباً لكل طامح بالسلطة.
يوسف زيدان وابراهيم عيسي
بوسع الراغب في الوصول إلى مواقع النفوذ أن يشق طريقه إليها مدعوماً من حركات وجماعات إسلاموية منظمة، لا تعي مقاصد دين الله وروحانيته السمحة، بل إنها تنطلق في مسعاها نحو السلطة من أيديولوجية مبتسرة تهدف إلى التركيز على ممارسات التدين الشكلي الطقوسي المتشدّد، الذي يحتفي بالمظاهر الخارجية على حساب النقاء والبعد عن المغالاة والتعصب.
هذه الأيديولوجية ضيّعت الدين بسبب مطامع رعاتها، وضيعت الساسة بالمقابل بسبب جهلهم وقصور مداركهم في العمل السياسي. وهذا بالذات ما حكم على أغلب دول منطقتنا بأن تكون نموذجاً لـ”الدولة الفاشلة”.
لا جدال في أن للدين أهمية وحضورا كبيرين في المجتمع،
الاقتصادي أو القانوني أو الأخلاقي والتربوي
بنية الوظائف الاجتماعية حتى صار مكوناً جوهرياً لها لا يمكن أقصاؤه عن حياة الناس وعلاقاتهم
ما يحفظ للدين استمراريته وأهميته في وجدان المؤمنين به، هو قدرته على الثبات وترفّعه عن كل ما يلحق بالسياسة ومؤسساتها السلطوية
خلافاً للسياسة التي لا تعرف الثبات ولا نزاهة المصالح.
لا يمكن فصل الدين عن المجتمع ولكن من المقدور عليه فصله عن الدولة، خصوصاً في ضوء التمييز بين الدولة والمجتمع باعتبار أن الأخير فضاء نشاط الأفراد وتفاعلاتهم بعيداً عن مؤسسات الدولة وسلطويتها.
التاريخ الإسلامي
الخوارج التي رفعت شعار “لا حكم إلا لله”. وهذا قول حق أريد به باطل،
حوّلت الدين إلى أيديولوجية سياسية دنيوية في سياق الصراع السياسي الذي خاضته مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رابع الخلفاء الراشدين الذي كان يمثل “رأس السلطة السياسية” آنذاك. وكانت أفعال الخوارج وأقوالهم بمثابة الخطوة الأولى لجهة المضي بـ”المقدس” إلى ملعب “المدنس”.
جماعات إسلاموية ترفع شعار “الإسلام دين ودولة”
توظيف النص الديني في سبيل إقامة دولتها المنشودة.
سلاح امتلاك الحقيقة المطلقة المزعومة للدين من خلال وصف نفسها بـ”الفرقة الناجية” أو “جماعة المسلمين” الناطقة بلسان السماء، وكأنها ظل المقدس ووكيله على الأرض.
حروب أهلية اندلعت على أساس المذهب الديني أو الطائفة، فمزقت البلاد وشردت العباد.
تغييب الخطوط الفاصلة بين ما هو ديني ودنيوي
شوهت جماعات التسييس الديني رسالة الدين، وحرّفتها عن مقاصدها الروحية المتسامية، وشكّلتها على أهواء البشر؛ وساهمت بغير وجه حق في نشر ثقافة دينية قاصرة الرؤية تقوم على الكراهية والتعصب والاستعلاء تجاه الآخر المختلف عنها في الدين أو المذهب أو الطائفة أو الرأي.
تنزيه الدين وإخراجه من ملاعب الدنيا، ليعود إلى نقائه الأول كرسالة إلهية جاءت للعدل والإنصاف والمحبة والتسامح والسلام، ويؤدي وظائفه الروحية والاجتماعية والإنسانية، بعيداً عن عالم السياسة وشروطه،
كمثل بقية الناس، يصيب ويخطئ، ولا يدعي أنه مفوض باسم الدين وأن سلطته مستمدة من الحق الإلهي المقدس أو أن مشروعه السياسي مضمون بسنده للعقيدة أو الإيمان. أما غير ذلك، فلن يزيد هذا النفق المظلم إلا حلكة وضلالاً،
حسن عبد الله إسميك
*
Feb 22, 2021
أيديولوجيا الإسلام السياسي بين خلافة السلطان وولاية الفقيه
الزج بالدين في السياسة
كثيرا ما تؤدي التربية غير الصحيحة إلى تكوين شعور وهمي لدى فئة واسعة من المتدينين بأهميتهم المفرطة، فيرون أنفسهم أحيانا أفضل من الآخرين وأعلى منهم درجة والمفوضين بسلطة مطلقة وأصحاب الحقيقة التي يظنون أنها واحدة لا متعددة ويعتبرون أن الآخرين على باطل وبهتان. وبذلك يبدأ الاختلاف الذي ربما يكون في بدايته داخليا وشخصيا فقط، ولكنه في الغالب لا يستمر كذلك.
يصبح الأمر أشد خطورة عند الزج بالدين في اللعبة السياسية، ما يجعل التفرقة أوسع واحتمال اندلاع العنف أكبر، فيتحول الدين الذي جاء لرحمة الإنسان وسيلة لإيذائه.
تاريخ الصراع السياسي على أحد الأمثلة المهمة على ذلك، حين اشتد التنافس بين الصفويين والعثمانيين، فتحولوا إلى اعتناق المذهب الشيعي الإثنا عشري لتكون ذرائع القتال أقوى في مواجهة الدولة العثمانية السنية، والتي بدورها استفادت أيضا من هذا التحول العقائدي، لتنقل صراعها مع الصفويين من تنافس على السلطة إلى “جهاد في سبيل الله”.
تجلي الاستخدام السياسي للدين الإسلامي في الوقت الراهن والمعروف بـ”الإسلام السياسي”، وذلك في مشروعين خطيرين أصبحا يهددان استقرار منطقتنا بالدرجة الأولى، رغم أن ارتداداتهما لا تقف عند حدودنا العربية فحسب، بل تتجاوزها إسلاميا وعالميا أيضا.
وتتزعم إيران أحد هذين المشروعين، وهي التي لم تخف يوما طموحاتها الإمبراطورية، لا قبل الثورة الإسلامية سنة 1979 ولا بعدها، مدعية تأسيس أمة إسلامية عالمية تدافع عن المستضعفين في كل مكان في العالم، وتعتبر الشيعة في كل مكان، وبغض النظر عن اختلافاتهم داخل المذهب، من هذه الفئات المستضعفة. ولذلك فإن تحركات إيران خارج حدودها مدفوعة بواجب حماية المذهب الشيعي، فتتدخل في شؤون الدول الأخرى وتضر بوحدتها الوطنية وتكرس الانقسام المجتمعي بين أبنائها، والأمثلة على ذلك كثيرة، سواء في أفغانستان أو الكويت أو البحرين أو السعودية أو اليمن أو لبنان والعراق.. إلخ.
خلف هذه الأيديولوجيا الدينية – السياسية القائمة على مبدأ “تصدير الثورة” تتمكن إيران من زيادة نفوذها في الدول العربية والإسلامية وتمهد لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
إيران تتبع على مدار أربعين سنة أسلوبا واضحا جدا، إذ تختار إحدى الدول المأزومة المضطربة والتي تعاني حروبا أهلية أو أي صراعات أخرى، ثم تنتقي جماعة فيها مستعدة لإقامة روابط مع طهران، ولا بد أن تكون شيعية المذهب، فتسلحها وتقويها حتى تصبح فصيلا عسكريا قادرا على التأثير ولا يلبث هذا الفصيل أن يتحول إلى حزب سياسي بدعم مالي وعسكري كبيرين، ويبدأ بالفوز بمقاعد برلمانية ثم حكومية، فتصبح إيران من خلاله صاحبة قرار في الدولة المستهدفة. وهكذا يتمكن الإيرانيون من اختطاف قرار الدولة المستقلة عبر حزب الله في لبنان، وهو ما يحاولون استنساخه في العراق واليمن أيضا.
استطاعت إيران من خلال استغلال الدين والميليشيات التابعة لها أن تزعزع استقرار مناطق عدة، حتى أنها باتت تهدد السلم العالمي ككل وتوفر للغرب مسوغات إطلاق اتهاماته بما يسمى بالإرهاب الذي يزكي نزعة الإسلاموفوبيا في حلقات من العنف والعنف المضاد.
الإخوان المسلمون، كتنظيم سياسي إسلامي عالمي، النموذج السني الأكثر وضوحا للاستخدام السياسي للإسلام. استطاع التنظيم عبر تاريخه الأطول نسبيا بالمقارنة مع أيديولوجيا “الثورة الإسلامية الإيرانية” أن يؤسس شبكة سياسية عابرة للدول والقوميات وأن يحظى بدعم سلطات دول عربية وأجنبية، معتمدا النهج ذاته القائم على اتخاذ الدين وسيلة للوصول للسلطة.
الشرخ الأهم الذي أصاب أيديولوجيا الإخوان المسلمين منذ توسيع نشاطهم السياسي إقليميا، ثم دوليا، انتهاجهم الخط البراغماتي غير المنضبط في إقامة تحالفاتهم وعقد اتفاقياتهم عبر العالم، كما أدى سعيهم المحموم للانتشار الأفقي إلى افتقارهم لروح الوحدة والهوية الثابتة على العكس تماما من أيديولوجيا الثورة الإسلامية الإيرانية. وساهم ذلك كله في عقد تحالفات متناقضة مع بعضها البعض كانت قصيرة أحيانا ما أفقدها القدرة على تحقيق أهداف إستراتيجية بعيدة المدى، كما اتسمت بالكيل بمكيالين وبغموض موقفها حيال الكثير من القضايا التي شغلت المنطقة العربية في العقد الأخير، وأهمها الإرهاب والجماعات الإرهابية المسلحة، كالقاعدة وداعش والنصرة وغيرها. وترافق ذلك كله مع ما يمكن تسميته بالنوايا المضمرة التي جعلت من الإخوان خطرا محتملا على سياسات دول المنطقة وأمن شعوبها.
تقوم أيديولوجيا الإسلام السياسي الذي يمثله الإخوان المسلمون وجماعات أخرى أقل شأنا على نشر نهج تكفيري (سواء
ضد الأنظمة السياسية أو الأشخاص) ليس معلنا صراحة كما هو الحال لدى الفصائل الإسلامية الأخرى ذات التوجه المسلح، لكنه متداول ويجري العمل على أساسه على الأرض وعبر الفعاليات الاجتماعية وأنظمة المساعدات والقنوات الإعلامية المتوفرة في أكثر من مكان.
نظرا لادعاء هذه الجماعات أنها عكس ما هي عليه فعلا، لم يكن غريبا أن الإدارات الأميركية السابقة، ولاسيما الديمقراطية منها، اعتبرت أن الإخوان المسلمين يمكن أن يكونوا بديلا جيدا عن دول رأت فيها واشنطن تهديدا لمصالحها إبان ما سُمي بـ”الربيع العربي” لأسباب عدة.
خدمة المصالح الضيقة
زكي نجيب محمود
توظيف السياسة لدين
صدمة جيلنا فى مرحلة الدراسة الجامعية ونحن نتابع دعم الدولة للجماعات الدينية المتشددة بغرض مواجهة التيارات الناصرية واليسارية لأصل إلى اقتناع منذ نهاية السبعينيات بأننا سندور فى دوائر مغلقة وفاشلة ولن نعرف متى تخرج مصر ومعها العالم العربى منها.
الأزمة أقدم من الإخوان المسلمين فى مصر والحركة الوهابية فى السعودية، وأقدم من دور الكنيسة الكاثوليكية فى العصور الوسطى فى أوروبا، وحتى أقدم من الفتنة الكبرى ورفع المصاحف بين شيعة على وشيعة معاوية وهى التى لا يزال العالم الإسلامى يعيش فى ظلالها المحزنة وبلا أسباب واقعية أو منطقية، ولقد جعلنى هذا أعد سلسلة مقالات عن تاريخ هذه المشكلة فى تاريخ البشرية
أعتقد أننا يجب أن نتوقف جديًّا عند الداء الذى لا تزال البشرية تعانى منه، وهو أنه منذ فجر الحضارة وفى غياب تصورات الحكم لجأ الحكام وخاصة فى مصر القديمة إلى توظيف الدين لفرض سيطرتهم السياسية على المحكومين، وأن هذه النزعة القديمة تحولت إلى أدوات كاسحة عندما ظهرت الديانات السماوية وخاصة اليهودية التى حاولت التأسيس لنمط من الحكم يقوم على بعض المعطيات الدينية، واستمرت كظاهرة سياسية للحشد والتأثير فى مجتمعات اليهود حتى تحولت لظاهرة سياسية عنصرية فى الصهيونية، وأن المسيحية التى بدأت بشعار «أعط قيصر ما لقيصر وما لله لله» كانت تنتظر اكتمال سيطرتها لتتحول فى أوروبا لأقصى مظاهر التعصب والتشدد الدينى، وليصبح استخدام الخطاب والتأويل الدينى مصدر الشرعية والحكم الذى طبق أقصى مراحل التعسف والظلم فى التاريخ الغربى، وبعدها لتبرر حملات استعمارية باسم الحروب الصليبية، ولتؤدى حدة الظلم والقسوة إلى الثورات والإصلاح الدينى الذى استغرق قرونًا حتى يحقق فصل الدولة عن الدين، ومع ذلك لم تفصل تمامًا لاحقًا فى ظاهرة الاستعمار الحديث الذى تم تصفية أشكاله الظاهرة بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه لم يختف تمامًا فالشواهد معروفة من توظيف التبشير الدينى فى أعمال مخابراتية خاصة فى آسيا وإفريقيا، وما حدث فى جنوب السودان خير دليل بهذا الصدد.
فى عالمنا الإسلامى فقد خدع البعض نفسه كثيرا عن ما اعتبر أننا لم نعرف سلطة الكنيسة، وأنا هنا لا أقلل من الفوارق، فثمة خلافات وتباينات لا ينكرها المحلل الموضوعى، ولكن فى الحقيقة أن توظيف الحكام وخصومهم للمنطلقات الدينية محنة نعيشها منذ الفتنة الكبرى التى لم يشف منها مجتمعنا، وفى حد ذاته هذه مصيبة كبرى ابتلى بها عالمنا الإسلامى ولم يعالج هذا الصراع كصراع طرفين متنافسين على الحكم، فقد تم حشر خطاب التكفير منذ بدايته،
وكل طرف اتهم الآخر فى دينه، ربما لأن الدولة كانت فى أيامها الأولى ولم تكن هناك ضوابط ولا حلول أخرى لإدارة الصراع السياسى الذى يمكن من الناحية الفكرية مناقشته فى إطار مرجعيات المواءمة السياسية ومهارات الحكم وقيم العدل والإنصاف، وغذى هذه المشاعر إصرار الأمويين وأغلب فقهاء السنة على رفض الاعتذار عن الجرائم التى ارتكبت بحق الإمام على وذريته. عمومًا لم يكن الاعتذار متوقعًا من نظام حكم اعتمد فكرة المرجعية الدينية لفرض الولاء والسيطرة، وعاش العالم الإسلامى محنته من تعاقب ممالكه من أموية وعباسية وفاطمية ثم بعد ذلك عثمانية تمارس أغلب الوقت أبشع الظلم والسيطرة بحجة هذه الشرعية، ومعها مؤسسات ورجال دين مستفيدون لتوظيف فتاويهم فى خدمة هذه الخليفة أو الوزير أو حتى التاجر أو خصوم هؤلاء الحكام الطامعين، ثم جاءت أزمة حديثة كاشفة وأزمة محاولة الملك فؤاد الأول الترويج لنفسه كخليفة بعد انهيار الدولة العثمانية، وتبع هذا من صدور كتاب الإسلام وأصول الحكم والقضية المعروفة بهذا الصدد، وكان فشل مساعى الملك أدى به إلى التحول لأداة تنفيذ هى «الإخوان المسلمين»، ولا أريد الدخول فى كثير من التفاصيل بهذا الصدد، ولكن من المؤكد أن قيام عبدالناصر باختيار ساحة الأزهر لإعلان قرار المواجهة والتحدى للعدوان الثلاثى كان توظيفًا للدين فى حشد الشعب خلفه، صحيح أن هذا تراجع بعض الشىء بعد 1956، ولكن هزيمة 67 دفعت مصر لتوظيف هذه الأداة فى مواجهة التحديات، ثم كانت الطامة فيما فعله السادات بعد ذلك داخليًّا وفى أفغانستان، هنا أشير إلى أن مبارك كان يحاول أحيانًا التبرير الدينى لمواجهة خصومه من تيار توظيف الدين، وخلال ذلك كانت الكارثة الكبرى فى الثورة الإيرانية ليصبح لدينا نموذج سياسى شيعى قمعى وآخر سنى مارس فى مناطق سيطرته ومناوأته للحكومات ما يستحق عرضًا مستقلًّا وعطل مسيرة التطور السياسى والإصلاح الفكرى، حيث خلق مناخًا من المزايدات والتهديدات التى تعوق التفكير الحر، من هنا أختتم، وغالبًا للحديث بقية، أنه لا يمكن إدارة حوار جاد ورشيد حول إصلاح الخطاب الدينى دون تجاوز هذه المعضلة وهو تجاوز لا يعنى إعطاء الظهر للدين وإنما التوقف عن استخدام مفرداته لتحقيق أهداف سياسية ومزايدات من جانب الطامحين للحكم أو المتشبثين به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق