May 26, 2020 // 2014
مـقـدمـــة:
إن الحديث عن الدّين الإسلامي في عصرنا الراهن حديث ذو شجون، يتقاطعه ما هو سياسي بما هو ثقافي وفكري؛ ولا يمكن بأي حال من الأحوال الوقوف على "حقيقة" هذا الدّين دون الرّجوع إلى النّصوص المؤسِّسة له تاريخيا، بدءا من النّص المؤسِّس "القرآن".
بيد أن إشكالية ضبط دلالة النّص المؤسِّس قد لا تستقيم دون الوقوف على مجموع إفرازاته التّاريخية، والّتي كانت إرادة السّلطة محرّكها بامتياز. ويُعتبر الفقه إمكانا من إمكانات هذا النّص المؤسِّس، الذّي حاول تاريخيا الإنفراد بدلالته ومعزاه؛ إذ على الرغم من التعدّد والتنوّع الذي عرفه مجال الفقه الإسلامي، إلا أنه لا يزال مُنخرطا في المنظومة اللاّهوتية القائمة على ثنائية المقدّس والمدنّس.
ساهمت هذه الثنائية في بلورة خطاب إقصائي وأحادي داخل منظومة الفقه الإسلامي، من خلال خطاب السّلطة الذي كان مُهيمنا في فترة تشكّله التاريخي؛ ويُعتبر فقه المرأة كاشفا عن ميكانزمات هذا الخطاب السّلطوي في بُعده الذّكوري والبّطريركي الذي ما يزال حاضرا في أبجديات الخطاب الفقهي المعاصر رغم التّجديد الذي لحقه عبر التاريخ.
إنّ الحديث عن الأصل في المنظومة اللاهوتية حديث ميتافيزيقي؛ إذ إنّ الأصل بلغة اللاهوت لا يقبل التعدّد، فهو مرادف الوحدة والسكون والإطلاق، بينما الأصل كما علّمتناه الفلسفة المعاصرة، هو الوحدة في تشظّيها وتعدّدها وفي قابليتها للترجمة اللامحدودة، بل في إرجائها الدائم والمستمر، على غرار الجنيالوجيا النتشوية (نيتشه)[1]؛ الشيء الذي يُضفي على الفكر طابع النّسبية والتأويلية، ويساهم في تجاوز التّقابلات الميتافيزيقية التي تسكن الدّين والتّاريخ واللّغة.[2]
القرضاوي عندما يؤكد إن "التّجديد الحق هو تنمية الفقه الإسلامي من داخله، وبأساليبه هو، مع الإحتفاظ بخصائصه الأصيلة وبطابعه المميز"[3]، حيث إن " التّجديد (في نظره) لا يعني أبدا التّخلص من القديم أو محاولة هدمه، بل الإحتفاظ به، وترميم ما بلي منه، وإدخال التحسين عليه."[4]
من هنا ضرورة التّفكيك بدل التّجديد بخصوص الفقه الإسلامي، وذلك من أجل الوقوف على البداهات التي ما يزال الفقه الإسلامي مرتبطا بها تاريخيا، إذ لا يمكن إحداث "جدّة" و"طفرة" في مجال الفقه الإسلامي دون الوقوف على أشكال تشكّله تاريخيا وليس تاريخانيا، حيث إن الإفرازات التاريخية للإسلام بما فيها الفقه الإسلامي ما هي إلا إمكان من إمكانات الإسلام من خلال نصِّه المؤسِّس المتعدد الدلالات، والذي لم يستنفذ إمكاناته عكس ما ذهب إليه أصحاب التصور الوضعاني.
إن الإمكانات المتعدّدة للنّص، أي نص، هي ما جاءت لتقف عليه الفلسفة المعاصرة من خلال مقولات: لا مفكر النّص، المسكوت عنه، موت المؤلّف، الزّمن كمترجم؛ ولابد في نظرنا استثمار ما وصلت إليه العلوم الإنسانية عموما والفلسفة على وجه الخصوص، من أجل إعادة قراءة تراثنا الإسلامي بما فيها التّراث الفقهي، من أجل الوقوف على تجليات تشكّله التّاريخي المُرتبط بإرادة السّلطة وإكراهات السياسة وتأثيرات الثقافة والمجتمع، وكذا من أجل القبض على إمكاناته المسكوت عنها.
قد يُسعفنا المنهج التّفكيكي إزاء الخطاب الفقهي، بعيدا عن التّأويلات التّاريخانية والإيديولوجية، من تحرير الدّين من الحمولة الثّقافية واللّغوية والجغرافية التي تم تحديد جوهره فيها؛ وذلك من خلال تجاوز مرحلة "تفقيه الحياة" التي انحصرت فيها وظيفة الدّين في التّشريع الجزئي والتفصيلي للحياة الفردية والجماعية، وصولا إلى مرحلة "ترويح الحياة" من خلال فتح آفاق الدّين الروحية والكونية والإنسانية التي تتعالى على الشّروط السّياسية والإيديولوجية والثّقافية.
ليس هدف التّفكيك – على حد تعبير دريدا- هو الكيد للنصوص وتبيان تهافتها، بل إن الهدف هو الوقوف على ما تَحبل به من إمكانات من خلال مساءلتها على ضوء روح العصر؛ من هنا تكون عملية التفكيك حباّ للنّص ووفاء لروحه وتقديرا لمؤلّفه.
إن الدّعوة إلى تفكيك الخطاب الفقهي لا تعني الحكم عليه بالإيجاب أو السّلب، بل اعتباره خطابا بالمعنى الفوكوي (ميشيل فوكو)، أي ممارسة لها أشكالها الخصوصيّة من الترابط والتتابع، فهو ليس موقعا تقتحمه الذّاتية الخالصة أو لغة بريئة يُمكن ضبطها، بل إنه فضاء لمواقع وأنشطة متباينة للذّوات؛ إنه فضاء للفعل والرّغبة والسّلطة والإنتشار والتوزّع، مسرح للإستثمار واستراتيجية تُحدد المكتوب والمرئي والمنطوق.[5] والهدف ليس هو البحث في صدق أو كذب الخطاب، بل الوقوف على شروط تكوّنه وقوانين بناءه وعلاقات توزّعه وكيفية اشتغاله.
علاقة المعرفة بالسّلطة، ليس في تقابلهما بل في تماهيهما، أي من خلال التبادل الداخلي والتوتر المُتبادل، ليس بين المعرفة والسلطة، بل داخل الموقع الذي لا يجدان منه انفصالا حيث يتماهيان كأنهما نفس الشيء، بل هما نفس الشّيء.[6]
أنسنة الخطاب الفقهي، بلغة محمد أركون، من خلال استثمار نتائج العلوم الإنسانية (الأنثروبولوجيا، اللسانيات، التحليل النفسي، الفلسفة...) في إعادة قراءة التّاريخ الفقهي الإسلامي؟ وإلى أي حد تعتبر فلسفة التفكيك، كما قاربها جاك دريدا، ضرورة في مجال إعادة قراءة الخطاب الفقهي من خلال مجاوزة الميتافيزيقا في ثنائياتها اللاهوتية: المقدس/المدنس، الخير/الشر، الحلال/ الحرام...إلخ؟
إشكاليتنا التي لا تهدف إلى تأسيس حقيقة ما، بل بالعكس ترنو الخروج من تجليات الحقيقة التي هي في عمقها تنوّع وتعدّد.
في مرحلة أولى، سنحاول الوقوف على الأبعاد التّاريخية والسّياسية التي كانت وراء تأسيس الخطاب الفقهي، وتبيان أوجه العلاقة بين السّلطة والثّقافة والسّياسة، خاصة من خلال ما يسمى بـ"فقه المرأة".
في مرحلة ثانية، سنَعْمَد إلى تسليط الضوء على الثنائيات الميتافيزيقية التي تَسكن الخطاب الفقهي من خلال رؤيته للحياة وتصوره للدّين وقراءته للنص المؤسِّس وفهمه لعلاقة الفكر بالواقع.
في مرحلة ثالثة وأخيرة، سنقف على آفاق الكونية التي يمكن أن يسمح بها الفقه الإسلامي من خلال ''لا مُفكره''، ويفتحها من خلال تفكيك لغته وإعادة ترجمته، واستنادا إلى سؤال الحاضر وقيم الكونية؛ في أفق تشكيل هوية متعددة وقابلة لاستيعاب كل أشكال الوجود الإنساني الراقي.
الإعتبار غزارة الإنتاج الفقهي ضمن ما يسمى بالعلوم الإسلامية قديما وحديثا، بالإضافة إلى مختلف جوانب الحياة الفردية والجماعية التي تطالها سلطة الفقه.
هذا المعطى هو ما دفع بمحمد عابد الجابري إلى اعتبار الحضارة الإسلامية حضارة فقه، فـ "سواء نظرنا إلى المنتجات الفكرية للحضارة الإسلامية من ناحية الكمّ أو نظرنا إليها من ناحية الكيف فإننا سنجد الفقه يحتل الدّرجة الأولى بدون منازع
الوقوف على دلالة الدّين الذي على أساسه تَكوّن الفقه، حيث يمكن تحديده في كونه قوة اجتماعية وعامل أساسي في حركة المجتمع، كما أنه أيضاً موضوع وجودي وميتافيزيقي بامتياز؛ إلا أن جوهر الدّين ينفلت من قبضتنا، كونه يتوارى خلف الخطابات اللاهوتية والأرثوذكسية التي تحتكر قراءته وفهمه؛ فالبحث عن "الإنسان الدّيني" – حد تعبير مرسيا إلياد- من خلال تجاربه المتعدّدة والمتنوّعة، لا يفتأ يصطدم بجدار المؤسّسات إن لم نقل النّصوص الدّينية الرّسمية التي تحول دون تحقيق إمكاناته المُضمرة في الوجود الإنساني.
إن الدّلالة الأولى لكلمة "الفقه"، أي الفهم والرّبط بين قيم الدين وواقع الناس، جعلت دور الفقيه دور الوسيط، ولأن الوسيط عادة ما يُحاط بهالة من التّقديس (الأنبياء كوسطاء)، أورث ذلك الفقهاءَ سلطة "كهنوتيّة" جعلتهم يتصرّفون في المقدّس وينصِّبون أنفسهم الناطقين الرسميين باسم السّماء.
لقد أصبح الفقه مهيمنا على كل مناحي الحياة الفردية والجماعية؛ فهو حاضر في المأكل والمشرب والملبس والجنس والفن والموت والحياة، ولعل ما نشاهده اليوم في القنوات الفضائية من برامج تُفتي في كل صغيرة وكبيرة دليل على استمرار تلك الذّهنية الفقهيّة في ثقافتنا التي أصبحت قائمة على ثنائية الحلال والحرام.
ولأن أصول الفقه هي بمثابة المنهج والنظرية العلمية الوحيدة التي يُمكن للمسلم أن يفهم بها دينه وواقعه، بل تُمثّل - على حد تعبير الشيخ مصطفى عبد الرازق- النظام الذي انبثق من الرؤية الكونية الإلهية؛[10] يصعب مع ذلك إعادة النظر في أسسه لكونه أصبح جزءا من المُقدس، وأي قول جديد في أصول الفقه هو ضرب في قدسية الكلام الإلهي، الشيء الذي يمكن أن يُدخل قائله خانة الزّندقة والردّة والكفر.
أُولى مراحل تفكيك الخطاب الفقهي هي نزع هالة التقديس عن الفقه وأصوله، وذلك باعتبارها اجتهادات بشرية يجب فهمها في تشكلها التاريخي قصد تجاوزها وتوسيع آفاقها، فلكي تكون نظرية الفقه نظرية علمية - بلغة كبلر- يجب أن تكون قابلة للخطأ والتجاوز.
من أين استمد الفقه الإسلامي تلك السلطة التي طالت ولا تزال تطال جميع مناحي الحياة ؟ وكيف تم إدماج الفقه كمنهج لضبط عملية الإجتهاد في فهم نصوص القرآن واستنباط الأحكام منه، ضمن آليات السلطة السياسية الخبيثة بطبعها الأنطولوجي؟
نحو مأسسة الدّين الإسلامي
الثنائية الميتافيزيقية الأنا - الآخر التي ستُترجَم لاهوتيا في وقت لاحق من خلال ثنائية المسلم – الكافر/ بلاد الإسلام- بلاد الكفر.
على الرغم من كون علم أصول الفقه "لم يتبلور تاريخيا إلا في نهاية القرن الثّاني للهجرة، أي بعد ظهور الأثر التّأسيسي الذي مثّلته رسالة الإمام محمد بن إدريس الشّافعي"[14]، إلا أن بذور العصبيّة والقبليّة والسّلطة كانت لا تزال مبثوثة في ثنايا الجسد العربي الذي لم يقطع بعد حبل السّرة مع ماضي الجاهلية القريب بكل أشكاله وتلاوينه،
على هذا الأساس، صرّح المستشرق الألماني يوسف شاخت أن الفقه الإسلامي في مُعظمه لم ينطلق من النّص القرآني، بل إنّه عمل بشري ابتعد عن مقاصد القرآن ونصّه، ما أدى إلى بروز رجال كانوا مقرّبين للحكّام الأمويين، حاولوا التوفيق بين المبادئ القرآنية وما هو معمول به في الفترة الأموية؛[16] الشيء الذي أضفى هالة من القداسة على السلطة السياسية المُتنازع حولها، وذلك لسد الباب أمام المخالفين والمعارضين السّياسيّين.
الصّادق النيهوم كيف كان الفقهاء سببا في الفتن التي شهدها العالم الإسلامي لما دخلوا في أحلاف سياسية مع الأسر المتصارعة على السّلطة، فكان من نتائج ذلك: "الفتوى بشرعية الحكم الوراثي. واعتماد نظرية الخلافة في قريش. وإهدار دم المعارضين السياسيين. وإطلاق حرية التسري بالجواري. وفرض الحجاب على المرأة. وإباحة قتل المسلم لأسباب عقائدية على غرار ما حدث لأبي منصور الحلّاج"[17]؛ وهذه كلها في نظر النيهوم جرائم في حق التّشريع الإسلامي، ما كان لها أن تقع لو كان الناس بدل الفقهاء هم المسؤولون عن صياغة القوانين.
الهيمنة الذكورية
إرادة الهيمنة الذّكورية التي طَبعت المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام، ويكشف كيف شهدت الحضارة الإسلامية عودة هذا المكبوت الثّقافي من خلال إحياء التّقاليد البطريركية، إلا أنها أصبحت هذه المرة باسم الدّين والمقدّس والحقيقة.
يُشكّل فقه المرأة إذن، حقلا للإشتغال يسمح بكشف إرادات السّلطة التي تتوارى خلف القرآن والسنة لتبرر وجودها وتفرض هيمنتها؛
في نفس السّياق، كان الإستدلال بقصّة بلقيس يدخل دائما في نطاق الاستثناء لا القاعدة، إلا الفقهاء المعاصرين كالقرضاوي مثلا يستدلون بها لتبرير ولوج المرأة للمجال العام وشغلها لمناصب سياسية، الشيء الذي يدل على أن الصّراع ليس صراعا حول من يمتلك الحقيقة، بل إنه حول من يستطيع أن يفرض فهمه للحقيقة؛ فليست الحقيقة هي الصدق والحق في مقابل الخطأ والشر، بل هي تجسيد لقوة انتصرت على قوة أخرى
مسألة الحجاب هي الأخرى تدخل في هذا النطاق، إذ كيف كان الحجاب خاصّا بالنّساء الحرائر دون الإماء، حيث كان "إدناء الأمَة الجلابيب مصدر خلل في تنظيم الطبقات الإجتماعية، وهو خلل يرفضه عمر بن الخطاب ويتصدى له بقوة إذ يضرب كل أمة تتقنع بالدرة محافظة على زي الحرائر. ومن هذا المنظور يفقد إدناء الجلابيب البعد المُقدس الذي يُضفيه عليه بعض الأصوليين، فإن كان هذا الأمر مقدسا شاملا جميع النساء بلا استثناء بغرض اتقاء الفتنة، فكيف يُستثنى منه الإماء؟".[30]
أكّده خليل عبد الكريم بخصوص مسألة تعدد الزوجات، على باقي المسائل الآنفة الذكر. يقول: إن "التقاليد العربية التي كانت سائدة في الفترة السابقة على البعثة المحمدية تركت آثارا واضحة لا على النصوص المقدسة فحسب بل على سلوكيات المسلمين من ذوي السابقة"[31]؛ وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الجذور الثقافية والتّاريخية لأبعاد الإسلام اللّغوية والماديّة.
الحلول الفقهيّة: إفرازات تاريخية لأوضاع سياسية
إشكالية الديني والمدني في الخطاب الفقهي الإسلامي: في ثنائية المقدس والمدنس
تتوسّل المنظومة الدّينية بجملة من المقولات الميتافيزيقية التي تُؤسّس بناءها الدّاخلي وتضفي عليها هالة من القداسة والتّعالي؛ ومن بين تلك الثنائيات اللاّهوتية التي تشكّلت لتقويم وليس لفهم الظواهر الإنسانية والإجتماعية، نجد ثنائية "الحلال والحرام"، "المؤمن والكافر"، "أصحاب الجنّة وأصحاب النّار"، "الحسنات والسيّئات"، "الثواب والعقاب"، "بلاد الإسلام وبلاد الكفر".
هكذا تُعتبر ثنائية المقدّس والمدنّس الأصل الأول الذي يقوم عليه الخطاب الديني عموما قصد تبرير أحكامه وفرض قوانينه، الشيء الذي يجعل الظّواهر الإجتماعية مواضيعَ للتقويم الدّيني وليس مجالات للبحث والفهم والتحليل، ما يؤدّي بالخطاب الديني للسقوط في مطبّ الإيديولوجيا.
على هذا الأساس، تُعلّمنا الأنثروبولوجيا المعاصرة أن مقولة المقدّس مرتبطة برؤية ثقافية واجتماعية متغيّرة، فما هو مقدّس لدى مجتمع ما قد نجده مدنسا لدى مجتمع آخر؛ وخير مثال هو الخمر الذي يعتبره المسيحيّون مقدّسا بينها هو محرّم لدى المسلمين.
في هذا الباب، نؤكّد ما قاله عالم الأديان ميرسيا إلياد في كون المقدّس عنصر أساسي في بنية الوعي، وليس مرحلة من تاريخ هذا الوعي
إن المقدّس الإسلامي بهذا المعنى، ليس معطى بقدر ما هو بناء ثقافي لا يفتأ السياسي في استثماره لتبرير قراراته، إذ إن مفهوم المقدّس في الإسلام مرتبط بالحرام، ويتدخل فيها النص من أجل "إخضاع الدّنيا والتصرّفات المتعلقة بها لتوجيهات الدّين وأوامره، وإرساء علاقة هرمية يخضع فيها الدنيوي، ومن ضمنه السياسي، إلى متطلّبات الدين".[50]
لا يمكن أن نشهد عودة للمقدّس في تجرده وجوهره، فكل مقدّس هو كذلك في زمن ما ووفق ظروف معينة، بل إننا نشهد - خاصة في واقعنا المعاصر- عودة السياسي بلباس المقدس (الإسلام السياسي)، الشيء الذي يطرح عدة إشكالات بخصوص الحدود الفاصلة بين الدّيني والمدني، ولعل النقاش الحاد بخصوص مسألة تطبيق العلمانية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ما هو إلا إفراز من إفرازات التصور اللاهوتي لعلاقة المقدّس بالمدنّس.
إن الإسلام كدين لا يزال "خاضعا لأوامر السلطان القائم في جميع السياقات الإسلامية المعاصرة. وهنا نلمح ظاهرة التضامن الإيديولوجي بين الدولة، والدين "المستقيم" أو الأرثوذكسي، وطبقة علماء المحتكرين لإدارة ذهنية التحريم أو التقديس على حد تعبير ماكس فيبر. وبقدر ما يسود هذا التضامن الإيديولوجي ويقوى بقدر ما تضمحل النزعة الإنسانية، ويتهمش الموقف الفلسفي، وتغيب الثقافة النقدية أو تنعدم".[51]
هذا التصوّر الذي يُؤسّس لثقافة الطهرانية يَحول دون توسيع مساحة المشترك الإنساني، بل إنه يعتمد ثقافة الطّرد والإستئصال والمنع والنّبذ والتّجريم والتّحريم والتّكفير. لهذا السبب لم يستطع الفقه الإسلامي أن يخرج بعد من بوثقة اللاّهوت في مبحث المصادر مثلا، إذ بقي حبيسا في مصادر الشّريعة ولم يُوسّع رقعته لتشمل مصادر الواقع والطبيعة والمشترك الإنساني.
لا يمكن للنّظرة المعيارية بخصوص المعرفة الدينية التي تختزل الدين في ثنائية الحلال والحرام، أن تُسعفنا في اختراق جغرافية الفعل الديني وفهم الظاهرة الدينية في تشكّلها وتطوّرها التّاريخي؛ لهذا السبب بالذات لم تعُد دراسة الظّواهر الدينية مقتصرة على الفقهاء وعلماء الدين، بل وجد فيها الفلاسفة والأنثروبولوجيون وعلماء الإجتماع المادة الخام لتطوير مناهجهم وتحليلاتهم بخصوص الظاهرة الدينية، وذلك بعيدا عن التصور الوضعاني والتاريخاني للدين.
الثنائيات الميتافيزيقية ولعبة اللاّهوت
تُعلّمنا مقرّرات البحوث والدّراسات في تاريخ الأديان والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الديني ملازمة الظّاهرة الدّينية للإنسان، وكونها ذات بعد أنطولوجي فيه؛ إلا أن النّقطة التي لا يجب إغفالها هي صعوبة القبض على حقيقة الظاهرة الدينية وفهمها دون الرّجوع إلى اللّغة التي هي في عمقها نتاج الميتافيزيقا، مما يؤكد استحالة تجاوز الميتافيزيقا لكونها تَسكننا وتُحدّد أفق فهمنا عن طريق اللّغة.
من هنا ضرورة فهم مقولة "العودة إلى الدين" على أنها عودة إلى شكل من أشكال تجليه التّاريخي
أوضح محمد أركون في هذا الصّدد، أن من اهتمّ من المفكّرين المسلمين بمسألة الأديان والتّراث لم يستطيعوا التحرّر من النظرة اللاهوتية القائلة بالدين الحق، فكل طائفة تدعي أن دينها هو الحق وأنها هي الفرقة الناجية،[52] إذ ما تزال هذه النظرة الدوغمائية تتحكم في الذهنية الفقهية. في هذا السياق، نرى أن اللقاءات الدولية التي تُقام سنويا حول حوار الأديان لن تعطي أُكلها إذا لم تتخلّص من مثل هذا الفهم اللاهوتي للدين، وإلا ستدخل تحت طائلة القول القرآني: كلّ حزب بما لديهم فرحون.
ما تزال الميتافيزيقا تسكن اللّغة ومن تم الكتابات الفقهية، وخير دليل على ذلك تعدد الثنائيات التي أخذت فيما بعد صبغة تشريعية من قبيل: ثنائية القّطع والظّن، ثنائية النّص والمآل، ثنائية الكّلي والجزئي، ثنائية الثّابت والمتغيّر، ثنائية الفهم والتّنزيل وغيرها.
اعتبار حفظ الدين مقصدا من مقاصد الشّرع، ما يجعلنا نتساءل: أوليس حفظ باقي المقاصد (النفس، العقل، العرض، المال) حفظا للدين؟ فما ضرورة إدراج مقصد حفظ الدين من بين مقاصد الشريعة؟ إلا إذا أخذنا الدين بمعناه العام فكان ذلك حفظا لحرية المعتقد.
نظرية مقاصد الشريعة يتشبثون بثنائية الكلي والجزئي؛ إذ على الرغم من كونهم يؤمنون بأن التنوّع الحاصل داخل نظرية المقاصد راجع إلى صعوبة حصرها في بُعد واحد لاحتوائها على قابلية عجيبة للفهم والتعدد[53]، إلا أنهم مع ذلك يرفضون تقديم الكلي في مراتبه الثلاثة أي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، على الجزئي في أدلته الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، الشيء الذي يدل على أن عملية التّجديد في الفقه الإسلامي لا يمكن إلا تكون أن لاهوتية- ميتافيزيقية.
لم يستطع الشاطبي كذلك التخلص من التصور الأرسطي لثنائية الفكر والواقع، فاعتبر أن الكلي معنى نظري يقع مجردا في الذهن والجزئيات هي صورته في الواقع، ومن تمّ كان لزاما اعتبار خصوصيات الجزئيات مع اعتبار كلياتها
لا تزال ثنائيات الديني والمدني، المقدّس والمدنّس، الذات والآخر عالقة في خطابات الفكر الإسلامي، عن طريق إعادة إنتاج الصراع القديم بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة حول ثنائية العقل والنقل.
من هنا ضرورة تفكيك الخطابات الدينية، لكي لا يتم الوقوع في تناقض وعبثية الخطاب؛ إذ كيف يمكن مثلا فهم خطاب مُمثلي اتجاه الإسلام السياسي الذين "ينكرون نظريا وجود مفهوم "الكهنوت"، لكنهم في الوقت نفسه يمارسونه عمليا وواقعيا"[61]، من خلال تنصيب أنفسهم المؤهلين لتحديد ثوابت الدين بشكل قطعي ونهائي مع تكفير كل من يخرج عنها ويُسائلها.
الصادق النيهوم على أن "القول بوصاية رجال الدين على التشريع، مبدأ اختلقه أحبار اليهود، ونقله عنهم رجال الكنيسة الكاثوليكية. أما الإسلام فإنه لا يعترف برجال الدين أصلا، ولا يعفي الناس عن مسؤوليتهم الشخصية"[62]؛ وهذا يدل على إمكان من إمكانات الإسلام، ألا وهو الإمكان الديمقراطي الذي تم إجهاضه في بداياته.
بداهات حول النص المؤسِّس
لم يُميّزوا بين ثلاث مستويات: القرآن الذي يُمثل الرسالة الشّفهية، المصحف الذي يمثل النص المكتوب الذي جُمع بعد وفاة النبي، ثمّ الكتاب الذي تدل دلالته في النص القرآني على مجموع الأوامر والنّواهي.[65]
"العام والخاص، المجمل والمفصل، الناسخ والمنسوخ، المطلق والمقيد"[67]؛ هكذا تم حصر التأويلات وتسييج الأفهام للحد من الإختلافات وفرض فهم واحد ووحيد للنّص القرآني.
لعلّ هذا النوع من الضّبط والمراقبة راجع إلى الإختلاف والتنوع حول حقيقة النص القرآني الذي جُمع في مصحف واحد؛ فقد كثرت الكتابات حول هذا الموضوع منذ القرن الثالث الهجري، حيث نجد مثلا لدى الشيعة مسألة تحريف النص القرآني، ونجد نفس القول لدى بعض السّنة لكن بطريقة أكثر ضبطا عند حديثهم عن أحكام نسخ التلاوة ونسخ الحكم (علم الناسخ والمنسوخ). من هنا نُدرك ضرورة تأسيس هيرمينوطيقا النص القرآني، قصد البحث في الأسس التاريخية والرمزية التي شكّلت النص القرآني على ما هو عليه.[68]
هدف نصر حامد أبو زيد هو الخروج من السّلطة الفقهية التي احتكرت قراءة النص القرآني، وذلك واضح من خلال قوله: "حين ننادي بالتحرّر من سلطة النّصوص تكون دعوة التحرر موجهة "للهيمنة" وللشمولية التي أضيفت على تلك النصوص في سياق ثقافي حضاري بعينه."[72]
فكرة أن القرآن الكريم الذي نزل به الوحي الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله سبحانه وتعالى نص قديم أزلي، (...) وكل من يقول إنه "محدث" وليس "قديما" أو إنه "مخلوق" (...) فقد خالف العقيدة واستحق صفة "الكفر". « [73]
لا غرابة إذن أن تكون مسألة النقاش حول ثنائية المحدث والقديم مسألة خلافية قديمة بين المفكرين المسلمين، حيث رأى المعتزلة أن القرآن مخلوق لأنه كلام الله، والكلام فعل وليس صفة، بينما ذهب فريق آخر إلى أن الكلام الإلهي صفة من صفات الذات الإلهية؛ وبالتالي فتحديد طبيعة القرآن مسألة خلافية بين الأولين أنفسهم.
عل من بين إفرازات التصور اللاهوتي للنص المؤسِّس، هو ما نشهده اليوم من تطور القراءات الحرفية التي تقوم "بتجميد النص خارج سياقه التاريخي وتَدَرُّجه الداخلي ومقاصد رسالته الكبرى، وذلك من خلال إغفال حقيقة كون الوحي قد نزل في سياق محدد، وأن نزوله - في فترة تقدر بثلاث وعشرين سنة - يُقر بالتوجه العام للتربية الإلهية".[74]
إن النقاش مع أصحاب المذهب الحرفي- الظاهري دائر حول سلطة النصوص التي أضفاها عليها الفكر الديني وليس حول النصوص في حد ذاتها؛ ولعل الآلية الأكثر فعالية في مناقشة أصحاب هذا التوجه هي آلية التقليد ضد التقليد، حيث نقول مثلا مع نصر حامد أبو زيد: "هل كان عمر بن الخطاب غير مدرك لأهمية النصوص التي تضع "المؤلفة قلوبهم" ضمن من يستحقون الزكاة، أو لأهمية النصوص التي تحكم على السارق بقطع اليد؟ هل حين لم يحكم عمر بمنطوق تلك النصوص كان يخالف الإسلام ويطالب بالتحرر من النصوص؟! الإجابة قطعا بالنفي؛ لأن عمر بن الخطاب كان ببساطة يدرك سياق النصوص، وكان لا يتعامل مع أحكامها بوصفها تمثل سلطة مطلقة".[75]
إن الإشكال كامن في هالة التقديس التي طالت، ليس فقط طبيعة النص القرآني، بل كذلك كتب اللغة والفقه والتفسير، الشيء الذي يشي مرة أخرى بأن "تعامل الفقهاء والأصوليين مع النص القرآني (...) له غاية أساسية تتمثل في تبرير الأحكام الفقهية وإضفاء المشروعية عليها وإن بدا عملهم يتمثل في استنباط الأحكام من النص."[76]
يتعلق الأمر إذن بصراع للتأويلات ( عنوان كتاب لبول ريكور) حول معنى النص القرآني، مما يطرح إشكالا هيرمينوطيقيا كبيرا، وهو إمكانية تأويل نص هو في تاريخيته قد اُوِّل تقديسا، فكيف يمكن تقديسه تأويلا؟ بعبارة أخرى: فعل إزالة ما عَلق بالنص القرآني من دنس التأويلات المتطرفة، ألا يزيل هالة القداسة منه؛ علما بأن تأويل القرآن ارتبط بفعل التقديس، مما يقتضي القيام بخطوة جريئة، هي ما سماه أركونLa Démythification ، أي نزع الأسطرة التي علقت بالقرآن تأويلا رغم كونها أصل في القرآن تكوينا !
لا غرابة إذن أن يُدخِل محمد أركون النقاش حول ظاهرة الوحي في نطاق ما أسماه "المستحيل التفكير فيه" بالنسبة للتراث الإسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي؛[77] مما يقتضي القيام بدراسة فينومينولوجية لظاهرة الوحي، أي وصف الأشياء كما هي، وذلك من خلال استعراض ما يقوله التراث الإسلامي عن الوحي والقرآن ثم محاولة تفكيك القول وأشكلته من خلال الكشف عن إهماله للبعد التاريخي والأنثروبولوجي، ومن تَمّ توسيع دلالات المفهوم.[78]
استنادا لما سبق، يمكن تجاوز النظرة التاريخية للنص القرآني بل حتى النظرة التعارضية (بين آيات الجبر وآيات الإختيار مثلا)، وذلك من خلال اعتبار النص القرآني نصا تُحدَّد دلالاته تاريخيا، حسب إرادة القوة بتعبير نيتشه، أي فكرة التدافع والإستخلاف القرآني؛ أي إن القراءات التي تبدو متعارضة ما هي إلا إمكان من إمكانات التحقق الإنساني، ما يدل على أننا أمام ما سماه بول ريكور بـ"صراع التأويلات"، أي إن حقيقة النص القرآني مرتبطة بصراع ينتهي بفرض معنى من معانيه المتعددة، ولا يفتأ يتجدّد ليأخذ أشكالا أخرى.
سوء فهم إشكالية النص والواقع
أنسنة الخطاب الفقهي الإسلامي: انخراطا في مشروع الكونية
لعلّ الثنائية التّي ما تزال تسكن كتابات المفكّرين العرب هي ثنائية الحداثة والتّقليد، مما أفرز خطابات ومواقف عدة يُمكن تقسيمها إلى أربع: تراث بلا حداثة، حداثة بلا تراث، أسلمة الحداثة، تحديث التراث.
عودتنا إلى التّراث الإسلامي عودةً ناقدة وتفكيكية أكثر منها تبجيلية ودفاعية، إنها عودة إلى التراث لكن ضدّا على هذا الأخير وليس حُبا فيه، وذلك في محاولة لانتشال التراث من التراث، وإقامة التقليد ضد التقليد[92]؛ هذا الأمر قد يُسعفنا في الإنخراط في مشروع الحداثة المعاصر مُتجاوزين بذلك التصوّرات الوضعانية والتاريخانية للدّين والحداثة معاً.
تَميّز محمد أركون بهذه الروح النقدية بعيدا عن التوجهات ذات النظرة التّبجيلية للثّرات
التخلص من ماضوية التراث أو رواسبه التي تشد إلى الأسفل أو إلى الوراء إلا إذا (تمّ الدخول) في معركة داخلية معه (...) يُضاف إلى ذلك أن التراث هو الحضن الدافئ والذاكرة الجماعية العميقة
لماذا قلما نجد من ينخرط من الفقهاء في مشروع تفكيك التراث الفقهي، بينما نجد أن جُلّ من يخوض غمار هذا التحدي هُم من الفلاسفة والسوسيولوجيين والأنثروبولوجيين؟ لعل الجواب عن هذا السؤال قد يسمح لنا بالوقوف على التصورات الفلسفية والبداهات الإبستمولوجية التي يعتمدها كل فريق.
ن مهمة أنسنة[96] التراث الإسلامي عموما والتراث الفقهي على وجه الخصوص، عملية محفوفة بالمخاطر، إذ تحتاج إلى تضافر جهود الباحثين في مسائل لا تزال تحتاج إلى مزيد من الحفر الجنيالوجي، كي يتبين أصلها الأول لربما المتعدد والمتشتت، وليس المتطابق والوحيد !
في لا مفكّر النص: محاولة لتجاوز ميتافيزيقا اللاّهوت
المفاهيم الأصولية في علاقة النص بالواقع وتوسيع دلالتها، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان، قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قاعدة جلب المصلحة ودرء المفسدة...إلخ.
التّرجمة وسؤال اللغة: نقطة بدء في عملية تفكيك الخطاب الفقهي
ليس موضوع الترجمة طرفا فكرا أو سؤالا تقنيا، بل إنه أصبح يَفرض راهنيته من خلال ارتباطه بالظهور الملحوظ للجالية المسلمة بالديار الأوربية والنقاشات الحاصلة بخصوص هذا الحضور في الثقافة الغربية والفرنسية على وجه الخصوص؛ إذ إن دخول غير المسلمين إلى الإسلام يطرح إشكالات عدة ذات بعد ثقافي ولغوي بالأساس، حتى إن البعد السياسي والإيديولوجي حاضر بحدة في النقاشات الراهنة.
القيم الكونية وسؤال الحاضر: الهوية كمشروع مفتوح ومتعدد
ساد اعتقاد يرى في الهوية شيئا قابعا وراءنا يجب البحث عنه، إنها أسطورة البحث عن الهوية المفقودة، الشيء الذي يجعل الهوية بهذا المعنى نقيض الغيرية، مما يسقطنا مرة أخرى في مطب الميتافيزيقا من خلال ثنائياتها وتقابلاتها؛ في المقابل وتجاوزا لهذا التصور، تُشكل الهوية مشروعا لا يكتمل، إنها الشيء الذي لا نفتأ نُقيمه إلى مالا نهاية، من هنا تكون الهوية مشروعا للبناء، حيث إن الإلتقاء بين الهوية وبين إمكانها الآخر أي الغيرية دائما ممكن ومفتوح.
الكونية تختزل كل إمكانات التواصل والتلاقح والإعتراف المتبادل، حيث تجد الذّات مع الآخر مساحة المشترك الإنساني الذي يتجاوز خصوصية كل منهما ويُضفي المعنى على الوجود الإنساني.
لعل الدين من أهم روافد القيم الكونية، وذلك من جهة أبعاده الروحية ومقاصده المنفتحة وليس من جهة تأويلاته اللاهوتية واستثماراته السياسية والإيديولوجية. ولأن اللغة والشريعة والعقيدة والسياسية هي عناصر رئيسية تتكون منها المرجعية التراثية، كما أكد على ذلك محمد عابد الجابري، فالسبيل إلى تجديد "العقل العربي" ليس في التحرر من هذه المنظومة التراثية بل في تفكيكها والوقوف على إمكاناتها وحدودها.
لا غرابة إذن أن تكون مشكلتنا الأساسية هي مشكلة تاريخ، ومن تم "(فـ)مسألة التجديد تكمن في التصحيح التاريخي"[120]، من خلال حفر أركيولوجي غايته الكشف عن طبقات المعنى المتعددة للتاريخ، وفهم كيف استطاعت إرادات القوة فرض معنى واحد للدين والحقيقة والتاريخ.
ليس الإعتماد على التاريخ ودراسته طرفا فكريا، بل هو ضرورة سياسية، حيث إن "التفكيك الفكري والعلمي للخطاب الإسلامي بكل صيغه اللاهوتية والفقهية والتاريخية سوف يؤدي حتما إلى تفكيك الخطاب السياسي والممارسات السياسية التي تستمد منه أسس المشروعية الموصوفة تجاوزا أو تعسفا بالإلهية والمقدسة والروحية".[121]
استقراء أحكام النص وتطبيقها على واقع افتراضي، بينما يقتضي الأمر أولا استقراء الواقع الذي نزل فيه النص ثم استقراء الواقع المُراد تطبيق النص عليه، ليتم فهم المقاصد الكلية وأبعاد الوجود الإنساني. هذه المهمة هي التي انحرف عنها الفقيه الذي كانت مهمته الأولى ميدانية أكثر منها تنظيرية.
قد تُسعفنا نظرية التلقي Théorie de Réception، التي طُبّقت في مجال النقد الأدبي، في تحقيق هذا الغرض؛ فبدلا من أن ننطلق من النص، ننطلق من القرّاء الذين تلقوا النص واستقبلوه، فندرس الجمهور القارئ في علاقته بالنص تاريخيا، ومن تم نُحاول أن نُبيّن إلى أي حدّ ما تزال القراءات اللاهوتية للتراث الإسلامي تؤثر في الجمهور المسلم وتلبي حاجاتهم وانتظاراتهم.
أركون- "ليس مُغلقا في وجه العلمنة؛ ولكي يتوصل المسلمون إلى أبواب العلمنة، فإن عليهم أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والإيديولوجية التي تضغط عليهم وتثقل كاهلهم، ليس فقط بسبب رواسب تاريخهم الخاص بالذات، وإنما أيضا بسبب العوامل الخارجية والمحيط الدولي".[122]
مة أربع خطوات[125] لتحقيق عملية التفكيك هذه: أولا، الأشكلة Problématisation: أي الوقوف على ما يبدو لنا بديهيا بينها هو ليس كذلك؛ الزحزحة Déplacement : أي تحريك الساكن بخصوص المسألة قيد الدرس وتقليبها من جميع مناحيها؛ التفكيكDéconstruction: أي تبيان التشكل التاريخي للمسألة والعناصر الداخلة فيها؛ التوسيع Elargissement: أي فتح آفاق أخرى وإمكانيات جديدة للمسألة، من خلال الوقوف على المسكوت عنه واللامفكر فيه.
لا مندوحة للمسلمين اليوم في أن يتصالحوا مع ماضيهم وأن يعيدوا النظر في تراثهم بعيون جديدة، عيون قوامها الإبستيمي الجديد الذي يسبح فيه العالم أجمع، إبستيمي الإختلاف والكونية؛ وكذا أن يأخذوا بعين
الإعتبار كونهم ليسوا بدعا من الأمم، وأن ما يسري على غيرهم قد يسري عليهم هم كذل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق