الأحد، 9 مايو 2021

هاشم صالح

Oct 2, 2019

هاشم صالح لــ”المسبار”: ينبغي تطوير الفقه الإسلامي وإحداث القطيعة مع الجوانب الانغلاقية فيه

دعا صالح إلى “إسلام الأنوار” كما فعل المفكر الجزائري الفرنسي الراحل مالك شبل (1953-2016)، الذي كان أول من أطلق هذا المصطلح في اللغة الفرنسية. رأى أن دحر الإسلاموية الأصولية/ السلفية معركة لا بد منها من أجل إخراج المسلمين من الانغلاق الديني والتوثب نحو القيم الحداثوية؛ فهذه المغامرة اللاهوتية والفكرية لا مفر منها كما حدث مع “الأصولية الكاثوليكية” التي فككها كبار الفلاسفة الأوروبيين من أمثال: ديكارت، روسو، فولتير، كانط، هيجل، وسبينوزا.

ترافق صالح في مسيرته العلمية مع عالم الإسلاميات الجزائري محمد أركون (1928-2010) حيث عرَّب غالبية كتبه،

إصلاح التعليم الديني، وقراءة النص القرآني وفق المناهج الحديثة

مشروع التنوير الديني والفلسفي لإخراج الإسلام من الماضي التراثي وأخذه بمبادئ الحداثة، كما حدث في أوروبا. وكما تلاحظ، وهذه ظاهرة ليست بجديدة، يقاوم “الإسلام” الذي يبدو كأنه كتلة صلبة،

– أعجبني في السؤال تعبير الإسلام “ككتلة صلبة” في مواجهة الحداثة. كيف يمكن تفكيك هذه الكتلة؟ ينبغي العلم بأن الإسلام المرسخ على مدار القرون والمتغلغل كلياً في العقلية الجماعية يمثل منظومة فكرية عقائدية ضخمة وجبارة لا يستهان بها. وبالتالي فنحن لا نقلل من أهمية الإسلام التقليدي على الإطلاق. لماذا؟ لأنه يقدم الأجوبة الفيزيقية والميتافيزيقية على مختلف تساؤلات المسلمين حتى في أدق تفاصيل الحياة اليومية. وهو الذي يهدئ روعهم ويجعلهم يتحملون صعوبات الحياة اليومية. ومعلوم أن شعوبنا فقيرة بل وجائعة أحياناً وبحاجة إلى دعم وسند. إنها بحاجة إلى شيء راسخ تستعصم به وتستغيث. والإسلام هو الذي يقدم لهم الطمأنينة الراسخة التي لا تحول ولا تزول ويعطيهم قوة هائلة على مواجهة محن الحياة. والواقع أنه توجد في تراثنا الإسلامي قيم رائعة لا ينبغي التخلي عنها أبداً. لنفكر هنا بكل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبقية الكتب التراثية التي تدعو إلى مكارم الأخلاق. وبالتالي فالأمر لا يتعلق بتفكيك القيم الجميلة التي يحفل بها تراثنا العربي الإسلامي. فمثلاً الآيتان القرآنيتان اللتان تقولان: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، سوف تبقيان إلى أبد الآبدين. وقس على ذلك.

لماذا التفكيك إذن؟ لأن هناك مقولات أخرى في التراث معاكسة لذلك. وهي جبارة أيضاً وتسيطر على عقول الملايين. وأقصد بها المقولات الفقهية أو اللاهوتية التي تكفر الآخرين وتحتقر أديانهم وعقائدهم وتهينهم في كرامتهم الشخصية. وبالتالي فالشعار الذي يرفعه الإخوان المسلمون وسواهم من الأصوليين الماضويين عن “ازدراء الأديان” ينبغي أن يطبقوه على أنفسهم أيضاً. فهم أول من يزدري الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية والكنفوشيوسية… إلخ. إنهم يعتبرونها محرفة أو مزورة أو وثنية وينعتونها بأبشع النعوت. فهل هناك من احتقار أكبر لأتباعها الذين يحبونها ويتعلقون بها مثلما نحب نحن تراثنا ونتعلق به؟ التفكيك القادم –إذن- سوف يتركز على الفتاوى اللاهوتية التكفيرية التي تسبب لنا الآن مشكلة مع دول العالم أجمع. إنها لا تسبب لنا مشكلة مع الغرب الأوروبي- الأميركي فقط كما يتوهم البعض، وإنما مع الشرق الأقصى أيضاً، ومع أمم ضخمة كالهند والصين واليابان… إلخ. وبالمناسبة تلاحظين أنهم يقصدون بازدراء الأديان منع أي دراسة علمية للدين الإسلامي. هذا هو مقصودهم وليس الدفاع عن الأديان الأخرى. هذه حيلة لا تخفى على أحد. هذا الشعار/ الألعوبة هو مجرد سلاح يرفعونه لمهاجمة كل من تسول له نفسه تطبيق المناهج التاريخية والفلسفية الحديثة على التراث الإسلامي. إنه شعار ردعي وقمعي بامتياز.

تفكيك هذه السياجات العقائدية الدوغمائية المغلقة على ذاتها، والتي تقدم نفسها كحقائق مطلقة في حين أنها مجرد تركيبات بشرية. وهذه الانغلاقات الدوغمائية موجودة داخل الإسلام نفسه. فالأصوليون لا يكفرون فقط أتباع الأديان الأخرى، وإنما يكفرون المذاهب الإسلامية الأخرى. لنلاحظ كيف تكفر الحركات الإخوانجية والداعشية كل الطوائف الشيعية بحجة أنهم روافض. بل وسمعت أخيراً أن السلفيين الوهابيين في ليبيا أطلقوا فتاوى بتكفير الإباضيين، 
الإسلام كان تعددياً على مدار التاريخ، فهناك المذاهب السنية والشيعية والإباضية الموجودة في سلطنة عمان أساساً أو في جبل النافوسة في ليبيا أو في ولاية غرداية بالجزائر،

ضرورة قراءة النص القرآني قراءة علمية تأخذ في الاعتبار المناهج الحديثة،
لماذا يخشى حراس العقيدة على النص القرآني من المناهج الحديثة؟

هذا السؤال حاسم ولا مفر منه. كنا نريد أن نتحاشاه نظراً لخطورته ولقداسة القرآن، ولكن بعد كل ما حصل أخيراً ولا يزال يحصل حتى الساعة فلا مفر منه. كنا نتمنى لو أن التفكيك اقتصر على فتاوى ابن تيمية وسواه من كبار الأصوليين مع توفير القرآن من ذلك. في الواقع أن القرآن على عكس ابن تيمية يحتوي على آيات تسامح وانفتاح عديدة ومدهشة. ولكنه يحتوي أيضاً على آيات تكفيرية وخصوصاً بحق اليهود والمسيحيين؛ وبالتالي فالتفكيك لن يتركز إلاّ على آيات التكفير والعنف. أما آيات السلام والسماحة والاعتراف بالتعددية فسوف نحتفظ بها بل وسنعض عليها بالنواجذ، وسوف نستخدمها كسلاح فاعل ضد كل أنواع التكفيريين المعاصرين، بمعنى آخر سوف نستخدم بعض التراث لتفكيك بعضه الآخر وتحييده. الإخوان المسلمون وبقية الأصوليين لا يركزون إلا على آيات العنف والقتال، ونحن سنركز على آيات التسامح والغفران التي يعتبرونها منسوخة! إذا لم تكن الآية تؤدي إلى سفك الدماء مباشرة فإنها لا تعجبهم. ولذا سندخل قريباً في معركة التفاسير والتآويل كما يقول بول ريكور. هم لهم تفسيرهم للإسلام ونحن لنا تفسيرنا. ولن نتركهم يصادرونه ويستولون عليه إلى ما لا نهاية. حاجة. يكفي. نحن سوف نعتمد في معركتنا التنويرية على آيات من النوع التالي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أو {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} ولكنه لم يشأ. وبالتالي فالتعددية الدينية مشروعة بنص القرآن الكريم، وهناك طرق عدة تؤدي إلى الله لا طريق واحد، أو {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. هنا أيضاً نلاحظ أن التعددية مشروعة وبالتفصيل، فإيمان اليهود مقبول وإيمان المسيحيين مقبول، بل وحتى إيمان عبدة الكواكب أو الصابئين مقبول! إلى آخر الآيات البينات. وبالتالي فنحن عندنا سند في التراث لمقاومة التيار التكفيري الجارف.

نعلم أن الإخوان اليهود والمسيحيين قاوموا تطبيق النقد التاريخي على نصوصهم المقدسة على مدار ثلاثة قرون متواصلة حتى استسلموا للأمر الواقع أخيراً بعد أن أصبحت المقاومة مستحيلة، ولم يستسلموا إلا بعد مجمع الفاتيكان الثاني الذي صالح المسيحية في نسختها الكاثوليكية مع الحداثة، هذا الشيء سوف يحصل في الإسلام عاجلاً أو آجلاً، طال الزمن أم قصر. ينبغي علينا التمييز بين الآيات الكونية في القرآن والآيات المحلية أو الظرفية العرضية المرتبطة بحيثيات الصراع العنيف الذي دار آنذاك بين النبي وأعدائه، وهو صراع فرض عليه فرضاً ولم يختره أبداً، بل وكانت حياته الشخصية مهددة من قبله، والدليل على ذلك أنه طيلة المرحلة المكية لم يرد على العنف بالعنف، بل تحمل كل أنواع الأذى والمضايقات من قبل القرشيين. ولكن عندما أصبحت الدعوة مهددة جدياً إبان المرحلة المدنية، اضطر إلى حمل السلاح وامتشاق السيف دفاعاً عنها لأنها كانت أعز عليه من روحه.

هذه هي الظروف العرضية التي انتهت بانتهاء مسبباتها ولم تعد واردة أو مبررة بعد انتصار الإسلام. وهي ظروف حامية الوطيس وهي المسؤولة عن آيات القتال والعنف والتكفير، وبالتالي فهذه الآيات الحامية عندما نربطها بظروف وقتها في القرن السابع الميلادي وفي شبه الجزيرة العربية وإبان اضطرام الصراع، تفقد طابعها الكوني الإطلاقي ولا تعود صالحة لكل زمان ومكان. ولكن المشكلة هي أن الحركات المتطرفة بدءاً من الإخوان المسلمين وانتهاء بالدواعش لا يركزون إلا عليها ولا يأخذون إلا بها. وأكبر دليل على ذلك هو أن شعار الإخوان المسلمين مؤلف من سيفين متقاطعين وبينهما مصحف. بل ويقولون بأن كل آيات التسامح والسلم منسوخة من قبلها. لماذا؟ لأن آيات التكفير والقتال جاءت بعدها، هنا تكمن المشكلة الكأداء بيننا وبين المتطرفين. ولذلك قلت في كتابي الأخير “العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل إلى إسلام الأنوار؟”: لكم تراثكم ولي تراثي، لكم قرآنكم ولي قرآني.

ما الشروط الأساسية للقيام بورشة إصلاح دينية في الإسلام في العالم العربي لا سيما على مستوى مناهج التربية الإسلامية؟

– هذا هو سؤال الساعة. لقد أصبح إصلاح برامج التعليم العربية أولوية الأولويات. ينبغي الاعتراف بأن مادة التربية الدينية أصبحت الآن أخطر من مادة الفيزياء الذرية! فإذا ما بقيت على حالها فسوف تفجرنا وتفجر العالم كله كما هو حاصل حالياً، وإذا ما تم إصلاحها فسوف يؤدي ذلك إلى تصالحنا مع أنفسنا ومع العالم كله أيضاً. نحن على مفترق طرق: إما هذا وإما ذاك.

، لا أدعو إلى حذف ابن تيمية وسواه من برامج التعليم، ولكن أدعو إلى تعليم ابن عربي أو ابن سينا مقابله، لا أدعو إلى حذف الإمام الغزالي ولكن أدعو إلى تعليم الفارابي وابن سينا معه أو مقابله في كل الثانويات والجامعات العربية، لا أدعو إلى حذف محمد عمارة المرتد عن العقلانية التنويرية والحداثة وإنما أدعو إلى تدريس محمد أركون مقابله… إلخ، لماذا أدعو إلى كل ذلك؟ لكي يدرك الطالب العربي أن تراثه العظيم الكبير له سفحان أو وجهان: الوجه المنغلق المتعصب/ والوجه المنفتح المتسامح، الوجه المشرق/ والوجه المظلم. ولكن تغيير برامج التعليم لا يكفي، وإنما ينبغي نشر الثقافة التنويرية على أوسع نطاق في كل المحافل العربية، فإذا لم ينتصر إسلام الأنوار يوماً ما على إسلام الإخوان، فلن ينجح تغيير برامج التعليم؛ وبالثقافة التنويرية لا أقصد فقط تدريس مؤلفات أعلام الفكر والأدب العربي، كالجاحظ والتوحيدي وابن المقفع والمعري والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد وعشرات غيرهم في الماضي والحاضر على حد سواء. وإنما أقصد أيضاً تدريس أفكار ونظريات وأطروحات كبار فلاسفة التنوير الأوروبي، الذين بنوا على فلاسفتنا في البداية ولكنهم تجاوزونا بما لا يقاس لاحقاً، ففلاسفتنا ما عادوا كافين على الإطلاق لأنهم على عظمتهم ينتمون إلى مناخ العصور الوسطى. هذا في حين أن فولتير وديدرو وروسو وليسنغ وكانط وسواهم قطعوا كلياً مع عقلية العصور الوسطى اللاهوتية
وبالتالي فالحركة ينبغي أن تكون عامة شاملة أو لا تكون، وبخصوص إسلام الأنوار أحيل إلى مؤلفات المفكر الفرنسي عبدالنور بيدار، التي ينبغي أن تترجم فوراً إلى اللغة العربية لكي يعرف الجمهور العربي نوعية الفرق بين إسلام الأنوار/ وإسلام الظلام. والباحث المذكور من أب مغربي وأم فرنسية اعتنقت الإسلام في صورته الصوفية الروحانية السمحاء، بمعنى آخر ينبغي أن تحصل القطيعة الإبيستمولوجية، أي المعرفية العميقة، بين عقلية القرون الوسطى التكفيرية الإرهابية/ وعقلية العصور الحديثة التنويرية، بعقلية العصور الوسطى، أقصد عقلية جماعات الإخوان المسلمين والقاعدة والنصرة وداعش وما أشبه. تأويلهم للإسلام ينبغي تفكيكه وتجاوزه بأسرع وقت ممكن. فالدين حمال أوجه والإسلام أكبر منهم بألف مرة؛ التراث العربي الإسلامي العظيم بحر متلاطم الأمواج من التيارات والشخصيات والثقافات والعوالم الفكرية. ولا يمكن اختزاله إلى تيار واحد فقير أخلاقياً ومدقع فكرياً كتيار الإسلام السياسي السائد حالياً.

 كل برامج التعليم التي تدعو إلى تكفير غير المسلمين ينبغي تغييرها فوراً. وهناك دعاة ظلاميون كثيرون ينبغي على الدولة أن تضرب على أيديهم وتمنعهم من بث سمومهم في أوساط الطلاب أو الجمهور بشكل عام، فبعض رجال الدين يطالبون من على شاشات الفضائيات العملاقة بقتل المسيحيين واليهود، بل وحتى أبناء الطوائف الإسلامية الأخرى من شيعة وعلوية ودرزية وإسماعيلية وإباضية، ولا نجد أحداً يتحرك للرد عليهم وإسكاتهم. فأين هو ما يدعى بالإسلام المعتدل؟ في الواقع أنه لا يوجد أي فرق بين الإسلام المعتدل/ والإسلام المتطرف من حيث الاعتقاد الديني. هناك فرق فقط من حيث التصرف السلوكي. فالمعتدل لا يتهور ولا يغامر بنفسه عن طريق ارتكاب التفجيرات أو الاغتيالات، وذلك على عكس المتطرف. ولكنه من حيث الاعتقاد يشاطر المتطرفين إيمانهم واعتقادهم.

إن التعليم الديني القديم واحد سواء في الأزهر أو المؤسسات الدينية الأخرى وبعض المدارس في العالمين العربي والإسلامي. إنه تعليم ظلامي قروسطي لم يدخله شعاع واحد من النور بعد، نقول ذلك ونحن نعلم أن العالم اللاهوتي السويسري الشهير هانز كونغ يفرق بين ثلاثة أنواع من الأنماط الإيمانية أو من الباراديغمات اللاهوتية بحسب تعبيره، فهناك أولاً: الباراديغم اللاهوتي للقرون الوسطى، وهو تكفيري ظلامي في المسيحية كما في الإسلام، وهناك ثانياً: الباراديغم اللاهوتي للإصلاح الديني اللوثري الذي ظهر إبان القرن السادس عشر وعصر النهضة. وهناك ثالثاً: الباراديغم التنويري الفولتيري الكانطي الذي ظهر في القرن الثامن عشر. وهناك رابعاً: باراديغم المسيحية الليبرالية أو باراديغم الحداثة الذي ظهر في القرن التاسع عشر. والآن أصبحوا يتحدثون عن الباراديغم اللاهوتي لما بعد الحداثة. ولكن المشكلة هي أن الإسلام لا يزال غاطساً كلياً في الباراديغم اللاهوتي التكفيري للقرون الوسطى. وهذا يعني أن شيوخ الإسلام لم يسمعوا حتى الآن بالإصلاح الديني، ناهيك عن التنوير الديني ولاهوت الحداثة وما بعد الحداثة. هذا التأخر المريع في فهم الدين هو سبب كل المشاكل التي نعاني منها حالياً؛ هذا الانغلاق اللاهوتي داخل أقفاص عقائدية عفَّى عليها الزمن هو سبب صدامنا مع العالم كله حالياً. وبالتالي فإذا عرف السبب بطل العجب كما يقول المثل.

هناك شخص أردني يدعى أمجد قورشة نال شهرة واسعة في السنوات الأخيرة بسبب تطرفه وعدوانيته. ولو كان شخصاً عادياً لما ذكرناه. ولكن المشكلة هي أنه أستاذ في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية ويصول ويجول على الفضائيات. بل إنه دكتور متخرج في جامعة برمنغهام في بريطانيا ومتخصص بمقارنة الأديان! فافهم إذا كنت قادراً على الفهم أيها الغبي، فلا نعرف كيف يمكن لشخص متخصص بتاريخ الأديان المقارنة أن يتفوه بمثل هذه السخافات؟ لا نعرف كيف عاد من الجامعة الإنجليزية الشهيرة أكثر تعصباً وانغلاقاً. هذا الشخص متعاطف مع داعش والنصرة وبقية الحركات التكفيرية، بل ويهاجم الحكومة الأردنية لأنها تحارب الجهاديين، هذا الشخص يكفر النصارى والأقباط والصليبيين ويدعو إلى تحريم معايدتهم في أعيادهم، بل وربما حتى إلقاء التحية عليهم. كما أنه يكفر العلمانيين والليبراليين ويعتبرهم أعداء للإسلام، وهم بالفعل أعداء له ولكن بحسب مفهومه الظلامي له لا بحسب المعنى النبيل والعالي والسمح لكلمة إسلام. كما أنه يحرم الفن الفولكلوري الشركسي الجميل. بل ويعتبر مهرجان جرش للثقافة والفنون مهرجاناً للخزي والذل والعار، وعندما سجنته الحكومة الأردنية لبضعة أيام فقط هاجت هوائج الإخوان المسلمين وطالبوا بالإفراج عنه فوراً واعتبروه ضحية تكميم الأفواه وحرية الرأي! لاحظ: الإخوان المسلمون أصبحوا يدافعون عن حرية الرأي! بل وحتى عن الديمقراطية! حقاً إنها بدعة ما بعدها بدعة!. يحصل ذلك كما لو أن التعصب الديني أو احتقار الآخر وإهانته في كرامته ومعتقده هو مجرد حرية رأي! يحصل ذلك كما لو أن تكفير الآخر بل والدعوة إلى قتله علنا حرية رأي! في البلدان المتقدمة ممنوع منعاً باتاً أي ترويج للأفكار الطائفية والعنصرية، ومن يفعل ذلك يقع تحت طائلة القانون. ولكن ليس عند الإخوان المسلمين، فحرية الرأي بالنسبة لهم هي فقط للتعبير عن الأفكار الطائفية وبث سمومها في المجتمع.

في كتابك “العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل لإسلام الأنوار؟” طالبت بالقطيعة الإبيستمولوجية مع العديد من «الثوابت» الفقهية أو الدينية التي تكبل حركية الإسلام وتطوره. كيف يمكن إحداث هذه القطيعة وما مستوياتها؟

 كيف يمكن إحداث هذه القطيعة؟ البعض يعتقد أنه لا ينبغي المس بالثوابت لأنها مقدسة. هل تريدون أن تفككوا ثوابت الأمة؟ ويحكم أفلا تعقلون؟ ولكن بعد كل ما حصل باسم الإسلام من فظائع ودواعش تطير الثوابت. فاليقينيات التراثية المطلقة أصبحت على محك التساؤل والشك وسوف تدفع الثمن باهظاً بسبب ما ارتكب باسمها. كان نيتشه يقول ما معناه: ليس الشك وإنما اليقين هو الذي يقتل. وقد صدق. لولا رسوخ اليقينيات اللاهوتية القديمة في العقلية الجماعية منذ مئات السنين لما تجرؤوا على كل هذا القتل والذبح والتفجيرات العمياء التي تصيب المارة بشكل عشوائي كيفما اتفق. إن التنوير العربي يتحقق عبر الحفر الأركيولوجي في أعماق التراث الإسلامي. هنا تكمن المنهجية التحريرية والمحررة.

هذا وقد أصبح واضحاً لكل ذي عينين أنه لا يمكن أن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة إن لم نفكك هذه الثوابت الراسخة في العقلية الجماعية رسوخ الجبال. من هنا خطورة ما يحصل حالياً وضخامة المهمة المطروحة على المثقفين العرب في السنوات القادمة؛ إنها مهمة ثقيلة، ضخمة، تكسر الظهر، فنحن مدعوون لتدمير أنفسنا لا أكثر ولا أقل. استخدمت كلمة قاسية عن قصد (التدمير) بغية توضيح المهمة، ولكن ديكارت كان قد استخدمها قبلنا عندما دعا إلى تدمير كل الأفكار الخاطئة قبل البدء بالبنيان الجديد، فالبيت التراثي القديم لم يعد صالحاً على الإطلاق. وهو في كل الأحوال ابتدأ يتشقق ويتصدع وينهار من كل النواحي سقوفاً وجدراناً. ونحن لكي نبني بيتاً عربياً جديداً نظيفاً مفتوحاً على الهواء والشمس مضطرون لتفكيك البيت القديم وتهديمه، وإلا فسوف ينهار على رؤوسنا ويقبرنا معه. لا ريب في أنه غالٍ علينا وعزيز جداً لأننا تعودنا عليه منذ مئات السنين، ويصعب علينا الافتراق عنه وإحداث القطيعة المرة معه. ولكن لا بد مما ليس منه بد.

سوف أضرب هنا مثلاً محسوساً على مفهوم القطيعة الإبيستمولوجية مع العقلية التراثية، أي مع ثوابت الأمة ومقدساتها. كان المسيحيون يرددون على مدار القرون المقولة اللاهوتية التالية: “خارج الكنيسة المسيحية الكاثوليكية البابوية الرسولية لا مرضاة عند الله ولا نجاة في الدار الآخرة”، وهي مقولة تكفيرية بامتياز. لماذا؟ لأنها تعني أن أديان الآخرين كالإسلام واليهودية والبوذية… إلخ غير مقبولة عند الله وبالتالي فأصحابها لن يحظوا بجنة الفردوس. بل ليس فقط الأديان الأخرى مدانة ضمن هذا المنظور اللاهوتي الكاثوليكي الانغلاقي، وإنما المذاهب المسيحية الأخرى مدانة أيضاً، وخصوصاً المذهب البروتستانتي. فهو معتبر بمثابة مذهب الزنادقة والهراطقة، وعليه فأتباعه لا أمل لهم بالنجاة في الدار الآخرة، هذه الفتوى الكاثوليكية سيطرت على العالم المسيحي طيلة قرون وقرون، حتى جاء مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) وتخلى عنها. هل تعتقدون أنه تخلى عنها بسهولة؟ أبداً لا. فقد كانت تشكل جوهر العقيدة الكاثوليكية، ولكن الحداثة العلمية والفلسفية الصاعدة في أوروبا أجبرت الكاثوليكيين على إحداث هذه القطيعة المُرة مع أحد ثوابتهم العقائدية الأساسية. وهذا يعني أن الثوابت يمكن أن تتغير وتتعدل.

ونحن في الإسلام نقف الآن في مواجهة الإشكالية العويصة ذاتها. فهناك فتاوى فقهية أو لاهوتية تكفر جميع الأديان الأخرى، بل وحتى جميع المذاهب الإسلامية الأخرى، ما عدا مذهب أهل الفرقة الناجية. كلهم في النار ما عدا واحدة، كلهم عقائدهم مرفوضة وغير مقبولة عند الله. ولن يخرج الإسلام من ورطته الحالية إلا بعد أن يتخذ قراراً جريئاً وخطيراً لا يقل أهمية عن قرارات مجمع الفاتيكان الثاني الذي صالح المسيحية مع الحداثة. ينبغي أن يجتمع كبار رجال الدين الإسلامي في مكة المكرمة أو المدينة المنورة ويتخذوا القرار التالي ويعلنوه على رؤوس الأشهاد: نحن لا نكفر أحداً من خلق الله. نحن نحترم عقائد الآخرين وأديانهم سواء أكانت مسيحية أم يهودية أم بوذية أم هندوسية… إلخ. هذا ما ينبغي أن يحصل يوماً ما، إذا ما أردنا أن نخرج من الورطة الرهيبة التي وقعنا فيها حالياً، فنحن أصبحنا نعيش في عصر العولمة الكونية التي ربطت القارات الخمس ببعضها.
وكل أنظار العالم تتركز علينا. وفي كل يوم قد نحتك بيهودي أو بوذي أو مسيحي عربي الذي هو منا وفينا، فكيف يمكن أن نتعامل معهم إذا كنا نكفرهم في أعماق نفوسنا. نعم ينبغي تطوير الفقه الإسلامي بل وإحداث القطيعة مع الجوانب الانغلاقية المظلمة فيه. وينبغي على أنقاض الإيمان التكفيري الضيق القديم أن ينهض إيمان إسلامي جديد واسع مستنير. وهذا هو الرهان الأكبر لما يحصل حالياً، وهذا الإيمان الجديد هو الذي سينقذنا من الورطة التي وقعنا فيها. ذلك أن الإلحاد ليس حلاً وأنا لست من مؤيديه. بالطبع يحق للتيار الإلحادي أن ينوجد ولكنه سيظل نخبوياً على الأقل في المدى المنظور. أما التيار المرشح للنمو والاتساع فهو تيار الإيمان الجديد القادر على تحقيق المصالحة الكبرى بين الإسلام والحداثة. ولكن هذا الإيمان الجديد لن ينبثق إلا بعد تفكيك الإيمان القديم الراسخ الجذور. هكذا تلاحظون أن المسألة ليست سهلة على الإطلاق. ولن تحصل في يوم أو يومين. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. نحن الآن على أبواب مرحلة تاريخية جديدة. على مدار أكثر من قرن كان صراعنا موجهاً أساساً ضد الخارج: أي ضد الاستعمار والصهيونية والإمبريالية… إلخ. كان صراعاً أيديولوجياً بامتياز وكانت له مبرراته ومشروعيته. ولكننا الآن دخلنا مرحلة جديدة بمعنى أن الصراع أصبح بالدرجة الأولى ضد الداخل لا الخارج. كيف؟ سوف ندخل في صراع رهيب مع كل القوى الارتكاسية والظلامية فينا، وهذا ما أدعوه بمعركة المعارك أو أم المعارك، وهي أخطر من المعركة ضد الخارج لأن العدو يصبح منك وفيك. بمعنى آخر ولكي أوضح الأمور أكثر: ينبغي أن نغربل تراثنا الديني اللاهوتي فنطرح منه كل ما يتعارض مع روح الأزمنة الحديثة، ونبقي على ما تبقى. وما تبقى لا يستهان به. نذكر من بينه -على سبيل المثال لا الحصر- هذه الأبيات الخالدة لابن عربي، والتي ينبغي أن تكون هادياً ومرشداً لكل برامج التعليم العربية:


لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي/ إذا لم يكن ديني إلى دينه دان

وقد صار قلبي قابلاً كل صورة / فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت/ ركائبه فالحب ديني وإيماني

هذا هو الإيمان الجديد الذي نحلم به، وهو الذي سيحل محل الإيمان الإخوانجي التكفيري القديم عندما تنهض الشعوب العربية وتتعلم وتتثقف وتستنير. كل تاريخ الأديان المقارنة مُكثف ضمناً في هذه الأبيات الرائعة التي لا تكاد تُصدق، قلت لا تكاد تصدق لأنها قيلت قبل أكثر من سبعمئة سنة وليس اليوم أو البارحة. ولكنه موجود أيضاً في أبيات أخرى خالدة لزعيم آخر من زعماء التنوير العربي: عنيت أبا العلاء المعري:

في اللاذقية ضجة/ ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق/ وذا بمئذنة يصيح
كل يؤيد دينه/ يا ليت شعري ما الصحيح
هذا أيضاً تاريخ أديان مقارنة، من يتجرأ على الاستشهاد بهذه الأبيات الآن في مسقط رأسه: معرة النعمان؟ بل من يتجرأ على ذكر اسمه؟ لقد قطعوا رأسه أو رأس تمثاله. ويقولون لك بأن هذه ثورة! الثورة الوحيدة التي أؤمن بها هي الثورة التنويرية القادمة، نقطة على السطر. الثورة الوحيدة التي سيكون لها معنى: هي تلك التي ستطيح بلاهوت التكفير الظلامي من أوله إلى آخره، لا ثورة سياسية بدون ثورة فكرية تحتضنها وتضيء لها الطريق. الثورة الفرنسية جاءت بعد فولتير وديدرو وجان جاك روسو وبقية فلاسفة الأنوار لا قبلهم. وهذا هو سبب النجاح المذهل للربيع الأوروبي والفشل الذريع للربيع العربي.
أضيف بأن المعري فضح التدين السطحي الذي كان سائداً في عصره وفي عصرنا أيضاً عندما قال:
توهمت يا مغرور أنك دين/ علي يمين الله ما لك دين
تسير إلى البيت الحرام تنسكاً/ ويشكوك جار بائس وخدين
وهذا يعني أن التقى أو التدين الحقيقي ليس الشعائر والطقوس، وإنما التضامن مع الفقير والمحتاج بالدرجة الأولى. هذا هو جوهر الدين في نظر المعري، من هنا حملته العارمة على قشور الدين ومظاهره التي لا معنى لها. من هنا نقده العنيف للشيوخ والدعاة المتاجرين بالدين، وكلامه هذا ينطبق بالطبع على معظم شيوخ الفضائيات في عصرنا الراهن. وبعضهم كما نعلم من أصحاب الملايين وسكنة الفيلات التي تشبه القصور. هذا في حين أن النبي الأكرم مات ولم يخلف وراءه شيئاً يذكر من عرض الحياة الدنيا وثرواتها.
ينبغي ألا ننسى أن المعري كان يعيش في عصر الانحطاط، وأن التدين السائد في عصره كان منافقاً في معظمه ويشبه التدين السائد في عصرنا. ولذلك شن عليه هجومه الساحق، بل وغامر بنفسه عندما هاجم المذاهب والطوائف وسماها بالاسم، ودعا فقط إلى اتباع العقل وتمجيده. يقول مثلاً:
كذب الظن لا إمام سوى العقل/ مشيراً في صبحه والمساء
إنما هذه المذاهب أسباب/ لجذب الدنيا إلى الرؤساء
إن الشرائع ألقت بيننا إحَناً/ وعلمتنا أفانين العداوات
من ينظر إلى العالم العربي الراهن يدرك مدى إسهام شيوخ الفضائيات في تأجيج الأحقاد المذهبية والطائفية بين الناس، ويتذكر كلام المعري هذا الذي قيل قبل أكثر من ألف سنة! لم يتغير أي شيء. ما أشبه الليلة بالبارحة! الانحطاط متواصل ومستمر على مدار القرون، والحزازات المذهبية تشعل الحرائق في كل مكان في هذه اللحظة بالذات وتكاد تدمر العرب تدميراً. وكلنا حطب التاريخ الذي لا يرحم، كلنا وقوده. لم تبق عائلة واحدة إلا وفيها قتيل أو جريح. وهذا الانحطاط يشمل العرب والإيرانيين والأتراك والباكستانيين… إلخ، لماذا هرب فضل الرحمن من إسلام آباد وذهب إلى جامعة شيكاغو في أمريكا؟ لكي يتابع أبحاثه الرائدة عن الإسلام بكل حرية بعيداً عن ضغط الشارع وزمجرات الأصوليين. ولولا ذلك لما أتحفنا بكتب من نوع: “الإسلام والحداثة”، و”الموضوعات الكبرى في القرآن”، و”الإحياء والتجديد في الإسلام”… إلخ. وقل الأمر ذاته عن الجزائري محمد أركون، هل كان بإمكانه أن يدشن مشروعه الكبير “نقد العقل الإسلامي” في جامعة الجزائر؟ مستحيل. وحدها السوربون كانت قادرة على احتضانه، وقس على ذلك.. الجميع مضطرون للهجرة إذا ما أرادوا أن يفتحوا فمهم ويقولوا كلمة واحدة لها معنى عن الدين. لهذا السبب نقول بأن نقد الدين -كما قال ماركس- هو أساس كل نقد وبدايته، ولا معنى لأي ثقافة إن لم تتجرأ على نقد موروثها الديني الدوغمائي. وأصلاً لا يمكن أن تنهض الثقافة العربية إلا بعد تفكيك الانغلاقات الدينية من طائفية ومذهبية.
قد يقولون: ولكن المعري يتهور هنا، إنه يدين الجميع. ولكن هذا التهور كان ضرورياً لكي يستيقظ الناس من غفلتهم، من هذا التدين الطاغي الذي يعمي القلوب ويلغي العقول. ومع ذلك فلم يستيقظوا حتى الآن، حتى بعد ألف سنة لم يستيقظوا! بل إنهم الآن أكثر عمى وظلامية من أي وقت مضى، وهذا دليل على مدى ضخامة المهمة الملقاة على عاتق المثقفين العرب في السنوات القادمة. إنها حقا تكسر الظهر.
هل نسينا تلك المقولة الشهيرة لابن الجوزي؟ زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري. وأشرهم على الإسلام التوحيدي لأنهما صرحا وهو مجمجم لم يصرح. ولكن كان ينبغي أن يضيف إلى القائمة اسم الكندي، الفيلسوف العربي الأول الذي جلدوه خمسين جلدة على ظهره في زمن المتوكل، الذي قام بأكبر انقلاب في التاريخ العربي على المعتزلة والمأمون والفكر العقلاني، وانتصر للحنابلة والفكر الظلامي، ومنذ ذلك الوقت لم تقم لنا قائمة حتى الآن. وكان ينبغي أن يضيف أيضاً اسم أبي بكر الرازي، والفارابي، وابن سينا، الذي كفره الغزالي، وعشرات غيرهم. هكذا نلاحظ أن معركة التنوير العربي كانت موجودة سابقاً ولكنها انتهت بهزيمة التنويريين والانتصار المطلق للأصوليين من أمثال الغزالي وابن القيم وابن الجوزي، وبالطبع ابن تيمية الذي أصبح قائداً لكل الحركات الأصولية الحالية من القاعدة إلى داعش إلى النصرة. ولكني أعتقد أنه إذا كانت معركة التنوير العربي قد أحبطت وهزمت سابقاً نظراً للدخول في عصر الانحطاط والتكرار والاجترار، فإن معركة التنوير العربي الجديدة لن تنهزم، على العكس فإن الأصولية هي التي ستُهزم، وهذه المرة بالضربة القاضية!
تبدو في العديد من أفكارك متفائلاً إذ تراهن على أن الانفجارات التي يشهدها العالم العربي سيتبعها تحولات إيجابية. تفاؤلك هذا يستند إلى إيمانك بالخلاصة الهيغيلية حول مكر العقل في التاريخ.
 فلا ينبغي التوهم بأني متفائل بالمعنى الساذج أو السطحي للكلمة. على المدى القريب لست متفائلاً، ولكن على المدى البعيد لا أستطيع إلا أن أكون متفائلاً، وإلا فلا معنى للبحث والكتابة والتعب والعناء. إذا كنا نعتقد مثل شوبنهاور بأن البشر سيظلون كما هم أنانيين وأشراراً ومتعصبين، وأنه لا يوجد أي تقدم في التاريخ البشري، فينبغي أن نلقي سلاحنا فوراً ونغلق كل مراكز البحوث والدراسات، لا معنى لأي جهد بشري ضمن هذا المنظور الأسود الحالك التشاؤمي إزاء الطبيعة البشرية. ولكن بما أني من أتباع عدوه هيغل وأستاذ الجميع كانط، فإني أؤمن بإمكان التقدم والتطور. وبالتالي فكل شيء يعتمد على فلسفة التاريخ التي نتبناها: هل هي كانطية –هيغلية أم شوبنهاورية- نيتشوية عدمية؟ نقول ذلك باعتبار أن نيتشه من تلامذة شوبنهاور وإن كان قد تجاوزه، ولكنه ظل مثله معادياً لقيم الحداثة من مساواة وحرية وديمقراطية وحقوق إنسان… إلخ. وإذن بما أن فلسفة كانط وهيغل وتلميذهما هابرماس حالياً تؤمن بإمكان تحسن الجنس البشري نحو الأفضل فإني متفائل. فالبشر عندنا لن يبقوا أصوليين مكشرين عن أنيابهم، ولا إخوان مسلمين يكفرون أربعة أخماس البشرية. المعركة الجارية حالياً في العالم العربي والإسلامي كله هي بين الإيمان القديم/ والإيمان الجديد الذي سينهض على أنقاضه طال الزمن أم قصر. الإيمان القديم لم يعد قادراً على الاستمرار على الرغم من مشروعيته التاريخية الضخمة وانغراسه في العقلية الجماعية منذ مئات السنين. حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب وابن لادن والظواهري والقرضاوي وعشرات غيرهم، سوف يتم كنسهم مستقبلاً عندما تطل شمس التنوير على العرب والمسلمين، وعندما تحصل المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والحداثة. ولكن المعركة ستكون رهيبة وقاسية. سوف تكون ضارية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. وأنا لا أستهين بها على الإطلاق، إنها فعلاً معركة المعارك، أم المعارك. فليس من السهل تفكيك ما هو راسخ على مدار ألف سنة متواصلة! الماضي معهم بكل ثقله التاريخي، ولكن المستقبل معنا إضافة إلى أن حركة التاريخ ضدهم.
ما معنى مكر العقل في التاريخ؟ معناه أن السالب ضروري لحصول الموجب، والشر ضروري لتحقق الخير، ولا بد دون الشهد من إبر النحل كما يقول المتنبي. وبالتالي فقد سبق هيغل إلى هذه الفكرة، فلكي نتوصل إلى خير أكبر في التاريخ ينبغي أن نمر بالشر وأن ندفع الثمن الباهظ أولاً. معناه أيضاً هو أن داعش هي أكبر حظ لنا حالياً! فداعش هي التي سوف تسرع من حركة التاريخ العربي. لولا العيب لقلت: شكرا داعش! لكأن العقل الكوني بكل مكره ودهائه أوجد داعش لتسريع حركة الأنوار في العالم العربي. لولا داعش كلها لما تجرأنا على طرح أي سؤال ولو بسيط على التراث الموروث المجلل بالقداسة كله من أوله إلى آخره، لولا فظاعات داعش وأفعالها التي تجاوزت النازيين والفاشيين بما لا يُقاس لما تجرأنا على نقد الأيديولوجيا التوتاليتارية للإخوان المسلمين الذين خرجت من أحضانهم. وهي آخر أيديولوجيا توتاليتارية في العالم بعد سقوط النازية والفاشية والشيوعية الستالينية. نعم لولاها لما تجرأنا على طرح بعض الأسئلة البسيطة جداً على الأيديولوجيا الإخوانجية التي تحكم عقلية العالم العربي وكل برامج التعليم بشكل أو بآخر. هذا ناهيك عن الفضائيات والبيوت والجوامع وحتى الجامعات، لولا داعش والقاعدة من قبلها لما كان هناك أي مبرر لنقد العقل الإسلامي وتفكيك الانغلاقات اللاهوتية القديمة التي تخلع المشروعية الإلهية على المجازر الطائفية في عز القرن الحادي والعشرين. وبالتالي {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} كما يقول القرآن الكريم. لا يمكن للأنوار العربية أن تنتصر ولا للأنوار التركية أو الإيرانية أو الباكستانية والأفغانية قبل المرور بكل هذه الحركات الظلامية. هذا هو مكر العقل في التاريخ بالمعنى الإيجابي لكلمة مكر لا بالمعنى السلبي. إنه يستخدم الشر لتحقيق الخير بعد أن يقلبه على ذاته. إنه يستخدم الظلمات لتحقيق الأنوار بعد أن يعكسها ضد ذاتها. لنقل إنه دهاء العقل الهادف إلى تحقيق مصلحة البشر على هذه الأرض. فالناس بعد كل ما حصل من فظائع على يد حركات التطرف لن يعودوا يحترمونها كما في السابق. ونحن كباحثين أصبح بإمكاننا مهاجمتها أو تفكيك أيديولوجيتها. وما كنا بقادرين على ذلك قبل فظائع داعش والقاعدة وبوكو حرام والنصرة وسواها من تسميات. أتذكر أنه كان يصعب على أحدهم نقد فكر الإخوان المسلمين قبل ذلك. وكان المثقفون يتهيبون هذا ويعدون على الأصابع العشرة قبل أن يفعلوه. وبالتالي فرب ضارة نافعة. هذا هو مكر العقل في التاريخ.
ومعلوم أن هيغل كان يعتقد أن العقل يحكم التاريخ وأن مسيرة التاريخ عقلانية في المحصلة النهائية، على الرغم من كل الشرور والمجازر والحروب الأهلية التي قد تحصل في التاريخ. فالمهم هو المحصلة النهائية: أي تخلص البشر من الجهل والطغيان والظلامية الدينية، المهم في نهاية المطاف هو انتصار العقلانية والأخلاقية والحرية، المهم هو انتصار الفهم الأنواري للدين على الفهم الظلامي التكفيري. هذا هو المهم. هذا هو الأساس والباقي تفاصيل. المهم هو انتصار دولة الحق والقانون على دولة التعسف والاعتباط. المهم هو انتصار الديمقراطية على الديكتاتورية. المهم هو انتصار القيم الكونية للحداثة وفي طليعتها: الاعتراف بحرية الضمير والمعتقد وعدم ترهيب أي شخص بسبب معتقداته الدينية أو أفكاره الشخصية. وهذا ما تحقق في أوروبا الغربية بعد زمن هيغل وكانط بقرن واحد فقط؛ فقد تحولت أوروبا إلى جنة الله على الأرض وإلى أكبر فضاء ديمقراطي في العالم. ولكنها لم تتوصل إلى كل ذلك إلا بعد المرور بمرحلة الحروب الطائفية والمذهبية الرهيبة التي نذوق طعمها المُر نحن العرب والمسلمين حالياً. لماذا لا يمكن لأوروبا أن تعود إلى مرحلة الحروب المذهبية الكاثوليكية – البروتستانتية التي فتكت بهم فتكاً ذريعاً طيلة قرون؟ لأنها اكتوت بحر نارها ودفعت الثمن باهظاً؛ التنوير أيضاً في أوروبا لم يحصل إلا بعد تلك المجازر المرعبة التي أدمتهم على مدار القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل وحتى القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين فيما يخص بعض المناطق، وإن يكن بشكل أخف بكثير. وهي حصدت نصف سكان ألمانيا وحدها طيلة حرب الثلاثين عاماً الشهيرة (1618-1648). والآن يعيش العالم العربي اللحظة التاريخية نفسها التي عاشتها أوروبا من قبل. ولذلك أقول بأن التنوير العربي آت لا ريب فيه، وسوف يكنس كنساً كل العقليات الطائفية والمذهبية أكثرية كانت أم أقلية، سنية أم شيعية. ولكن لا يزال آخر النفق بعيداً للأسف الشديد. لماذا أقول ذلك؟ هل تريدون مثلاً محسوساً؟ قبل فترة قصيرة توفي فنان محترم في الكويت يدعى عبدالله الباروني عن عمر صغير لا يتجاوز (44) عاماً. فماذا قالت عنه الأوساط الإخوانجية والسلفية؟ قالت: لا يجوز الترحم عليه لأنه شيعي! هذه ليست صهيونية ولا إمبريالية ولا استعماراً، هذا شيء أشد وأدهى، هذا شيء منا وفينا. هذه علة داخلية بحتة لا علاقة لها بالخارج أبداً. وبالتالي فكفانا أدلجة وديماغوجية. ينبغي أن يعترف المثقفون العرب بالعلل الداخلية التي تنخر في جسد المجتمعات العربية، وإلا فلن نخرج من المغطس الذي وقعنا فيه حتى بعد ألف سنة. وهذا ما فعله فولتير في وقته، فلم يتردد عن إدانة تعصب الأغلبية الكاثوليكية على الرغم من أنه كان هو ذاته كاثوليكياً أباً عن جد. ومعلوم أنها كانت تكفر أبناء الأقلية البروتستانتية، وتدعو إلى ذبحهم واستئصالهم بصفتهم زنادقة، تماماً كما تفعل الأصولية السنية المتشددة حالياً تجاه ما يدعونه بالأقليات. لا يمكن فهم ما يجري حالياً إلاّ إذا موضعناه داخل ما يدعوه المؤرخ الكبير فرنان بروديل بالمدة الطويلة للتاريخ. فتاوى التكفير قديمة جداً في الإسلام وليس ابن تيمية أول من قال بها وإن كان الأشهر، ولهذا السبب فهي راسخة في العقلية الجماعية رسوخ الجبال. ولولا ذلك لما تجرأ أحد على الدعوة إلى منع الترحم على فنان موهوب وطيب السمعة كالراحل عبدالله الباروني. نعم إن الحركات التكفيرية هي المسؤول الأول عن ضرب الوحدة الوطنية في العالم العربي، وإذا ما حصل تقسيم لا سمح الله فسيكون بسببها لأنها هي التي تمنع التعايش بين فئات المجتمع كافة أو مكوناته. ولولاها لكان هناك وئام وسلام في سوريا ولبنان والعراق والخليج العربي… إلخ. فهي التي تشعل الحروب الأهلية في كل مكان بسبب تعصبها البغيض وانغلاقاتها اللاهوتية القروسطية التي عفَّى عليها الزمن. وسوف يستمر الحال على ما هو عليه حتى ينتصر التنوير العربي على الظلامية العربية. بانتظار أن يحصل ذلك يوماً ما فإن المجازر سوف تستمر، ولا تزال شعوبنا تدفع الثمن باهظاً. إنها حطب التاريخ أو وقوده، فقطار التاريخ لكي يتقدم إلى الأمام بحاجة إلى حطب أو وقود. قد تكون هذه الفكرة جهنمية أو مرعبة وربما اعتذرت عنها. ولكن لا أجد تعبيراً آخر عن الواقع الراهن. على أي حال فإن جيلنا سوف يدفع الثمن الباهظ لكي تنعم الأجيال العربية القادمة بحياة أخرى أكثر سعادة وحرية وطمأنينة. نحن جميعاً حطب التاريخ حالياً ووقوده، ولكن الأجيال القادمة سوف تنعم بتضحياتنا وتعيش حياة رغيدة على أنقاضنا. هذا ما حصل في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وكل الأمم المتحضرة. فولتير نفسه كان يقول: “أنا أزرع لكي تقطف الأجيال القادمة الثمار اليانعة. أنا شخصياً لن أرى ثمار جهدي وعملي ولن أتنعم به. ولكن هذا لن يمنعني من تسخير كل ما أوتيت به من قوة لدحر الظلامية المسيحية”.
ثمة تراجع تشهده مسيرة الحداثة في أوروبا نلاحظه اليوم مع عودة الخطاب الديني المتشدد وظهور اليمين المتطرف وانغلاق الدول الأوروبية في وجه “الآخر الغريب”. ألا تعتقدون أن التاريخ لا يتخذ دائماً خطاً تقدمياً وأنه قد يدخل في انتكاسات فجائية؟
 أولاً لا توجد عودة للخطاب الديني المتشدد في أوروبا، فالأصولية المسيحية انتهت نهائياً وكذلك محاكم التفتيش. ويا ليت أن الدين يعود بالمعنى الروحاني الصافي الإنجيلي المثالي للكلمة. أوروبا مشكلتها أصولية أخرى من نوع خاص: هي الأصولية المادية التي حولت كل شيء إلى سلعة تباع وتشترى بالفلوس. هذه الأصولية الرأسمالية، المادية، الإباحية، المفرغة من كل نزعة إنسانية أو من كل روحانية، هي التي تهدد أوروبا والغرب بأسره وليس الديانة المسيحية. أكاد أقول يا ليت! هل نعلم بأن الأطفال أصبحوا يُشترون بالفلوس في بلاد الحضارات الراقية؟ فالشواذ الذين يدعونهم تشريفاً بالمثليين لا يستطيعون إنجاب الأطفال بطبيعة الحال فماذا يفعلون؟ إنهم يستأجرون بطون الأمهات الفقيرات لمدة تسعة أشهر بمبلغ يتراوح بين الخمسين والستين ألف دولار. من يصدق ذلك؟ ويشترطون على الأمهات المحتاجات تسليم “الطفل – السلعة” فور ولادته لكيلا يتعلقن به! هنا تكمن أصولية لا دينية بالمرة. ولكنها لا تقل خطورة ورعباً. وهذا لا يمثل فقط تراجعاً في مسار الحداثة أو عن مسار الحداثة الحقة، وإنما يمثل أيضاً انحرافاً خطراً وتطرفاً في الاتجاه المعاكس. فنحن نتطرف في اتجاه وهم يتطرفون في الاتجاه المضاد، نحن نعاني من الغلو في الدين أي من الأمراض والتشوهات التي تصيب الدين، وهم يعانون من الأمراض والتشوهات التي تصيب العقل وتحوله إلى مجرد أداة نفعية استئصالية. فكما أن الأصوليين عندنا يتطرفون في اتجاه التزمت والتقوقع والحجر على المرأة والتمسك بالممنوعات والمحظورات، فإن أصوليي الرأسمالية الفاجرة يتطرفون في اتجاه الإباحية المطلقة والتحلل من كل القيم الأخلاقية والإنسانية لكيلا نقول الروحانية. هنا تكمن مشكلة الغرب أو أزمة الحضارة الغربية. وهي تشغل حكماءهم وفلاسفتهم وتقض مضجعهم.
ولكن إذا لم تكن هناك عودة للأصولية المسيحية، فهناك انتعاش للأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة في كل أنحاء أوروبا الغربية، بل وأمريكا الشمالية أيضاً. وهنا معكم الحق. هنا يمكن القول بأن التاريخ لا يتخذ خطاً مستقيما من حيث التطور، وإنما قد يدخل في انتكاسات فجائية مدهشة ومزعجة. ولكن ينبغي الاعتراف بأنه بعد 11 سبتمبر (أيلول) وما تلاه من تفجيرات في عواصم الغرب، فإن قوة اليمين المتطرف ازدادت أضعافاً مضاعفة. وهذا يعني أنه يوجد تحالف موضوعي بين الأصولية الإسلاموية من جهة، وحركات اليمين المتطرف الأوروبي والأمريكي من جهة أخرى. كلاهما تتغذى من الأخرى. ولكن تبقى القوى التنويرية راسخة في أوروبا، ولا يمكن التراجع عن المكتسبات التي تحققت بعد الثورة الفرنسية قبل أكثر من مئتي سنة. لا يمكن التراجع عن دولة الحق والقانون، ولا عن العلمانية والديمقراطية، ولا عن حرية الاعتقاد/ أو عدم الاعتقاد، ولا عن الثقافة التنويرية بمجملها. وهي ثقافة مضادة للطائفية والعنصرية بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض. ولهذا السبب فلم تحصل مجازر ضد الجاليات العربية والإسلامية في الغرب، على الرغم من كل التفجيرات القاعدية والداعشية التي حصلت. وكنا ننتظرها ونخشاها ونضع أيدينا على قلوبنا. ولكن أثبت الشعب الفرنسي أنه شعب ناضج وحضاري ولا يستسلم لردود الفعل الغرائزية بسهولة. وقل الأمر ذاته عن الشعب الإنجليزي والألماني والإسباني وبالطبع الشعب الأمريكي الكبير. وكل هذا يدل على أن التنوير مر من هنا. التنوير ليس مزحة تتبخر من أول صدمة؛ إنه راسخ رسوخ الجبال في العقلية الجماعية للشعوب المتحضرة. وبقدر ما أن الأصولية راسخة عندنا فإن التنوير راسخ عندهم. وهذا ما يميز حالتنا عن حالتهم للأسف الشديد.
+++++++++++++++++++++++++++++++

عبد النور بيدار والإصلاح الديني


بشكل شخصي لا أكاديمي بارد. أكاد أقول: كنت أعرف بأنه «مصاب» بالمشكل الإسلامي بل و«مفجوع» على طريقة الكبار من أمثال كيركيغارد أو نيتشه أو محمد إقبال. أحترم هذا النوع من الكتاب المجروحين من الداخل، إنهم ينزفون. تشعر عندما تقرأه كأنه يكتب بعروقه ودمه، بأنه يبحث عن حل أو علاج. وهنا، تكمن سمة المفكرين الحقيقيين. والمدهش أنه ليس كبيرا في السن، فلم يتجاوز الأربعين إلا قليلا. ومع ذلك، فإن كتبه الأربعة أو الخمسة التي نشرها على مدار السنوات العشر الماضية أمنت له مكانة مرموقة في الوسط الثقافي الباريسي وقذفت به إلى القمة: أقصد قمة المفكرين المهمومين بالفكر الإسلامي ومستقبل الإسلام ككل. لا أعرف فيما إذا كانت كتبه قد ترجمت إلى العربية بعد. هناك إضاءات لا يستهان بها في هذه الكتب، وأولها: «نحو إسلام يليق بعصرنا» (2004). وأما ثانيها، فيتخذ طابع المذكرات الشخصية الحميمية والفكرية في الوقت ذاته، ولذلك اتخذ العنوان التالي: «إسلام ذاتي: حكاية إسلام شخصي» (2006): أي إسلام فكري وإنساني حر خارج على الامتثاليات الاجتماعية والإكراهات والقيود. وأما الثالث، فعنوانه: «إسلام بلا خضوع: نحو فلسفة وجودية إسلامية» (2008)، وفيه يواصل مشروعه السابق ويدعو إلى تشكيل فلسفة وجودية لا إلحادية، وإنما إسلامية بالكامل. وهكذا، ينفتح الإسلام على آفاق جديدة لم تكن في الحسبان. هذا في حين أن الكتاب الرابع يتحدث عن مفهوم «انحسار الدين في الغرب: راهنية محمد إقبال» (2010). والمقصود، كيف فهم المفكر الباكستاني الشهير مصطلح نيتشه عن غياب الله في أوروبا الوضعية الصناعية: أي انحسار الدين أو انهيار المقدس المسيحي الأعظم. وهو المصطلح الذي هز الغرب هزا في أواخر القرن التاسع عشر ودشن مناقشات هائجة لا حصر لها ولا عد. وأما الكتاب الخامس والأخير، فعنوانه: «كيف الخروج من التدين التقليدي؟» (2012).

من تصفُّح هذه الكتب المتلاحقة، نلاحظ أن مشكلة المؤلف تكمن في تشخيص - ليس فقط أزمة العالم الإسلامي، وإنما أيضا أزمة العالم الفرنسي والحضارة الغربية ككل. فالمؤلف يعتقد أن الغرب مأزوم مثلما أن العالم الإسلامي مأزوم، وإن اختلفت نوعية الأزمة في هذه الجهة أو تلك. فالغرب يعاني تخمة الإلحاد المادي المسعور، في حين أننا نحن نعاني تخمة التدين التقليدي الذي يصل إلى حد الاختناق أحيانا. أكاد أقول بأن الغرب فكك كل شيء، ونحن لم نفكك شيئا بعد: تعددت الأسباب والموت واحد! 
 من جهة، هناك تطرف في التفكيك وتحلل من كل القيود، ومن جهة أخرى هناك تطرف في الجمود الأصولي والتقيد الحرفي بالشعائر والطقوس والمحظورات والممنوعات. إذن، المشكلة معكوسة. بالطبع، هذا تحليل سريع جدا ومقتضب لفكر المؤلف. ولكن، ينبغي أن نعترف بأن الغرب تجرأ على تفكيك أصوليته حتى العظم. ونتج عن ذلك تحرير هائل لا يكاد يصدق. أما نحن، فلا يزال البعض منا ينوء بثقل الأصولية وإكراهاتها وقيودها التي تكاد تسحقه سحقا وتشل طاقاته الإبداعية وتمنعه من صنع التاريخ، بل وحتى من دخول التاريخ. والسؤال المطروح هو التالي: كيف يمكن تفكيك الأصولية دون التضحية بجوهر الدين؛ أي بروحانيته العليا وقيمه الأخلاقية. بمعنى آخر: هناك طريق آخر للخروج من الأصولية غير الطريق الغربي الذي أدى إلى الإلحاد الكامل والإباحية المطلقة. من هنا، عدمية الغرب وضياع البوصلة فيه.

كيف يمكن تحقيق الإصلاح في الفكر الإسلامي؟ يرى المؤلف أن المسلمين المحافظين يرفضون الفكرة من أساسها. كل شيء لديهم على ما يرام. حتى طالبان تمام التمام. إنهم مجرد طلبة في العلوم الدينية! وأما نحن، فنتساءل: ما الأشياء التي سنبقي عليها بعد عملية الإصلاح، وما الأشياء التي سنضحي بها بالضرورة؟ في كل الأحوال، فإن التدين المتزمت، المهيمن علينا منذ قرون، لا يمكن أن يظل كما هو إلى الأبد. سوف تحصل قصقصة للفروع الميتة والأوراق الذابلة والأغصان المتخشبة. وإلا فسوف تقضي علينا، ولن تموت وحدها. سوف تقبرنا معها. على أي حال، بعد كل ما حصل من تفجيرات وصدامات ومجازر طائفية وتعصب أعمى، لا يمكن أن تبقى الأشياء كما كانت عليه. الفهم القديم للإسلام سوف يتغير ويتجدد. برامج التعليم لن تبقى على حالها. ولكن، كيف؟ لا تتوقعوا مني جوابا تفصيليا عن هذا السؤال. اقرأوا كتب المؤلف أو ترجموها تجدوا الجواب.

في إعلان حقوق الإنسان الشهير الذي وقعت عليه كل دول العالم، كل إنسان له الحق في أن تحترم كرامته أيا كان أصله وفصله أو عرقه ودينه ومذهبه. مجرد كونه إنسانا مستقيم السلوك، طيب النوايا، فاعلا للخير، مفيدا للمجتمع، يعني أنه يستحق الاحترام والتقدير، سواء أكان متدينا أم لا. الدين المعاملة، كما يقال. نقطة على السطر. والسؤال المطروح هو التالي: لماذا استطاع الإسلام إبان العصر الذهبي هضم الثقافة العربية والفارسية والهندية والإغريقية ولا يستطيع الآن هضم الثقافة الحداثية التنويرية؟ ينبغي العلم بأن العالم الإسلامي، أو قل الجزء المتطرف منه، ينغلق على نفسه بشكل خطير من خلال منطق المقاومة الانتحاري للحداثة الكونية. ومن ثم، فالأصولية التي ترعب العالم بتفجيراتها الدموية هي أيضا مرعوبة. لكأنها تدرك بشكل واع أو لا واع أن تفسيرها الحرفي المتزمت للدين على وشك الانهيار أو لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. ولذا، تقوم بردود فعل عنيفة أو اختلاجات هائجة تشبه شهقة المحتضر قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. إنها لا تستطيع الانفصال عن الآيديولوجيا التراثية التكفيرية، التي هي ذاتها أصبحت مكفرة ومنبوذة ومحاصرة من قبل الحضارة العالمية. إنها متشبثة بها حتى العظم. ألم أقل لكم: ومن الحب ما قتل!



معركة التنوير الفرنسي


تعجبني المعارك الفكرية أكثر من المعارك السياسية، وإن كانت هذه من تلك. وتعجبني عبارة هيغل: «لا شيء عظيما يتحقق في التاريخ من دون أهواء هائجة ومعارك صاخبة». والدليل على ذلك أكبر مشروع تنويري فرنسي في القرن الثامن عشر: أي مشروع الموسوعة الخاصة بالعلوم، والفنون، والصناعات، والفلسفة. وهو الذي أنجزه ديدرو وفريق عمله على مدار ربع قرن تقريبا. وهو ما يدعى اختصارا بالإنسكلوبيديا.

 ففولتير كتب فيها، وكذلك جان جاك روسو، ومعظم علماء ذلك الزمان. فالموسوعة لا يكتبها شخص واحد.


وقد أدى هذا المشروع الفلسفي الضخم؛ ليس فقط إلى تنوير فرنسا، وإنما أوروبا كلها. فالثورة الفرنسية التي أصبحت منارة لكل الشعوب، ما هي إلا ترجمته السياسية على أرض الواقع. وإذن، فالثورة الفكرية أولا وبعدئذ تجيء الثورة السياسية، وليس العكس كما يتوهم مؤدلجو الربيع العربي. والأنكى من ذلك أنهم يعتبرون تصحيح مسار الانتفاضات في اتجاه ليبرالي حداثي، كما حصل في مصر وتونس، ثورة مضادة! ويعتبرون الحركات الإخوانية التي أزيحت عن السلطة بمثابة الثورة الحقيقية! فافهم إذا كنت قادرا على الفهم، أيها التعيس! التاريخ يمشي بالمقلوب في عالمك العربي وينبغي أن تصفق له! ومع ذلك، فأدعو إلى التعاون بين كلا شقي الأمة: العلماني والإسلامي المستنير. ولست من دعاة الفتنة والحروب الأهلية والاستئصالات. ولكن، كيف يمكن أن تتعاون مع تيار يعتقد جازما أنه يمتلك الحقيقة الإلهية المطلقة من دون بقية المسلمين أو بقية البشر؟ كيف يمكن أن تتعاون مع تيار يكفّر في أعماقه ثلاثة أرباع البشرية؟ هذا هو السؤال الذي يتحاشونه بأي شكل. ولو أن التنوير الإسلامي انتصر لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من صدامات وجهالات. ولكننا سائرون على الطريق بإذن الله. هذه هي قناعتي. التنوير العربي الإسلامي قادم لا ريب فيه. ومن ثم، فالصراع الأساسي المندلع حاليا ليس بين الإسلام والإلحاد، ولا حتى بين الإسلام والعلمانية، وإنما بين الإسلام والإسلام؛ إسلام الأنوار وإسلام الإخوان. نقطة على السطر.


ومعلوم أن إنجلترا كانت سبقت فرنسا إلى النهوض العلمي والصناعي والاستيقاظ السياسي والتسامح الديني، وكانت تمتلك موسوعة كبيرة تشتمل مختلف المعارف والعلوم. والمتأخر يقلد المتقدم، ولا عيب في ذلك. هذا قانون تاريخي. ومن ثم، فكفوا عن صمّ آذاننا بمعزوفة «الغزو الفكري»! فرقوا بين حثالات الغرب وانحرافات الحداثة الحالية، وجوهر المشروع التنويري الحضاري. خذوا الجوهر واطرحوا القشور.


+++++++++++++++++


 الدين والحرية!


 حركة «ضمير» التي يرأسها الأستاذ صلاح الوديع. وهي جمعية مدنية تهدف إلى تحقيق «حرية الفكر وانتصار المعرفة وكرامة الإنسان»

 بعنوان «سؤال الحرية في البناء النظري الإسلامي». وقد تحدث فيها أحمد عصيد ومحمد جبرون ورشيد بن زين وكاتب هذه السطور. وكان رأي الأستاذ عصيد الذي أتحفنا بمداخلة عصماء أن الإسلام بحاجة إلى «أنسنة» برامج التعليم الديني وتجديدها بشكل جذري لكي تتماشى مع العصر. فلا يمكن أن نظل نعلم تلامذتنا في المدرسة الابتدائية والإعدادية والثانوية أفكارا قديمة. وأما الأستاذ محمد جبرون فقد ألقى مداخلة قيمة أيضا عن «الإسلام والحرية في الفكر الإصلاحي العربي». واستعرض هنا أفكار الشيخ محمد عبده ورفاعة رافع الطهطاوي وعلال الفاسي وسواهم من كبار المصلحين. وقال لنا بأن الإسلام إذا ما فهمناه جيدا لا يتعارض إطلاقا مع أفكار التقدم والحرية والعقلانية. وأكبر دليل على ذلك هؤلاء المصلحون الكبار وأمثالهم. وذكرني كلامه بكلام الدكتور فهمي جدعان في كتابه الكبير «أسس التقدم عند مفكري الإسلام». ولكن المشكلة كما قال الأستاذ أحمد عصيد هي أن جمهور الفقهاء المتشددين يعتبرون آراء هؤلاء الإصلاحيين الكبار «شاذة لا يعتد بها»! فإذا كانت آراء الشيخ محمد عبده شاذة فما بالك بنا نحن الليبراليين؟

وركز رشيد بن زين على ضرورة التفريق بين المعرفة التاريخية بالتراث الإسلامي والمعرفة التبجيلية أو الآيديولوجية. ودعا إلى أرخنة تراثنا الكبير

الباحث سعيد لكحل الشعار التالي: «ضرورة الانتقال من فقه المواجهة إلى فقه المواطنة». وقال موضحا: إننا نعيش في عقلية فقه التكفير والقتال والمواجهات الساخنة. فرغم أن الفقهاء بلوروه في فترة قديمة من الزمن فإنه لا يزال ساري المفعول على يد «داعش» وبقية المتطرفين. وقال بأنه لا يوجد فرق بين المعتدل والمتطرف من حيث الاعتقاد. الفرق الوحيد هو أن المعتدل يؤجل التنفيذ إلى مرحلة لاحقة عندما تحين الفرصة ولا يتهور ولا يغامر بنفسه مثلما يفعل المتطرف. وشاركه نفس التوجه الباحث سامر أبو القاسم الذي قال إن البعض منا يربي الأطفال الصغار منذ رياض الأطفال على أفكار تكفر الآخر وتحتقره في عقيدته والنتيجة تكون كارثية عندما يكبر. فلا يستطيع التخلص من هذه الأفكار الإقصائية التكفيرية بسهولة لأن العلم في الصغر كالنقش في الحجر. واتفق الباحثان على ضرورة مراجعة برامج التعليم بشكل جذري إذا ما أردنا أن نربي أجيالا صالحة مستنيرة. ولكن الباحث حسن الخطابي قال لنا بأن الآيات التي تتحدث عن السلم أكثر بكثير من الآيات التي تتحدث عن الحرب والقتال. وبالتالي فالخطأ خطأ الفقهاء المتأخرين بل وفقهاء عصر الانحطاط. فمقولات مثل دار الإسلام، ودار الحرب، أو فسطاط الإيمان، وفسطاط الكفر وغيرها لا وجود لها في القرآن. يضاف إلى ذلك أن الله عز وجل خاطب نبيه قائلا: وإنك لعلى خلق عظيم، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. وبالتالي فالتربية الإسلامية الصحيحة مليئة بالهدى والرشاد ومكارم الأخلاق. ولا يمكن اختزالها إلى مجرد ثقافة الكره والإقصاء والتكفير كما يتوهم الكثيرون بسبب ما يحصل من أعمال متطرفة وفظاعات داعشية مرعبة. كل المشكلة تكمن في أن الفهم الصحيح للإسلام غائب أو مغيب في ثقافتنا العامة، والفهم الخاطئ المتشدد هو المهيمن. والحق على من؟ على بعض الفضائيات وبرامج التعليم والمعاهد التقليدية. وأخيرا خلص الجميع إلى القول بضرورة تربية المجتمع وفق منظومة قيمية حديثة لا منظومة قيمية قديمة لم تعد مناسبة لهذا العصر.

*

 لماذا يشتعل العالم العربي؟

بالتخلف سببها الأساس هو غياب المشاريع لفك الدوغمائيات المتراكمة على مدار القرون لذلك فنحن نعيشُ في حالة الإنسداد التاريخي ومايزيد من صعوبة التحوّل على الصعيد الفكري والعقلاني هو تعويل الأنظمة السياسية على توظيف الخطابات المتكلّسة لسد الثغرة في شرعيتها فبالتالي لاتوفر هذه البيئة المثقلة بالكراهية مناخاً مواتياً لإزدهار التيار العقلاني الذي يؤسسُ لرؤية إنسانية منفتحة بعيداً عن التموضعات المذهبية والطائفية والعنصرية ،

*

رحيل المفكر السويسري كونغ... عدو نظرية صدام الحضارات والثقافات

رفع طوال حياته شعار «لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان»

 رحل عن هذا العالم واحد من أهم المفكرين العالميين وأكثرهم تأثيراً وحضوراً؛ إنه الفيلسوف اللاهوتي الكبير هانز كونغ. وقد وُلد في سويسرا عام 1928، وتُوفى في ألمانيا قبل شهر واحد (بتاريخ 6 أبريل/ نيسان 2021). وكان كونغ أستاذاً لعلم الدين في كلية اللاهوت بجامعة توبنجين لمدة 36 عاماً، حيث تقاعد عام 1996. وهذه الكلية هي التي خرجت العباقرة الثلاثة في القرن التاسع عشر: هيغل، وهولدرلين، وشيلنغ. كان هانز كونغ رجل دين بالدرجة الأولى، ولكنه كان مطلعاً على تاريخ الفلسفة من أولها إلى آخرها بشكل منقطع النظير. وعندما تقرأه لا تكاد تظن أنه رجل دين، وإنما فيلسوف. فقد كان واسع الاطلاع على العلوم الفيزيائية والبيولوجية والإبيستمولوجية بشكل مدهش فعلاً. ولا أعتقد أنه يوجد رجل دين واحد بهذا الحجم في العالم كله. وكان يتميز بالانفتاح على الآخرين. فقد كان، وهو الكاثوليكي، محباً للمذهب الآخر المضاد له: أي البروتستانتي. وكان يكتب عن مارتن لوثر، زعيم الإصلاح الديني مؤسس البروتستانتية، بكل مودة وإعجاب، وهذا شيء نادراً أن يصدر عن شخصية كاثوليكية. وقد أمضى قسماً كبيراً من وقته في السعي إلى إقامة التقارب بين المذاهب المسيحية، وبالأخص بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين، بل أكثر من ذلك: لقد كان منفتحاً جداً على الإسلام، ويريد التقارب معه بأي شكل، وكان يكتب عن الإسلام والمسلمين بكل مودة وإعجاب أيضاً.

كان هانز كونغ العدو اللدود لنظرية صدام الحضارات والثقافات والأديان. كان يعتقد أن الناس الطيبين موجودون في كل الجهات، وكذلك الناس الأشرار. وما يهمه كان إزالة سوء التفاهم بين الناس الطيبين من مسيحيين ومسلمين ويهود، وجعلهم يتحاورون ويتقاربون ويهدمون جدران العزلة السيكولوجية الرهيبة التي تفصل بعضهم عن بعض. وكان يدعو أيضاً إلى التقارب مع البوذية والهندوسية وبقية أديان الشرق الأقصى. وقد فتح معها حواراً دينياً فلسفياً معمقاً إلى أقصى الحدود. انظر كتابه: المسيحية وأديان العالم. وانظر مذكراته أيضاً بعنوان: معركتي من أجل الحرية. كان يدعو إلى الإخاء الكوني بين الأديان والثقافات المختلفة. كان العدو اللدود لنظرية صدام الحضارات والأديان والثقافات. ولهذا السبب فقد شارك في إعادة تأسيس البرلمان العالمي للأديان في مدينة شيكاغو عام 1993، وهو البرلمان الذي دعا إليه ممثلي جميع الأديان الكبرى للبشرية، وفي طليعتها الإسلام. ثم دشن بعدئذ مؤسسة كبيرة تحت اسم: مؤسسة الأخلاق الكونية. وهي تهدف إلى تقوية التعاون بين الأديان الكبرى التي تؤمن بالمبادئ الأخلاقية ذاتها، على اختلاف عقائدها وطقوسها وشعائرها. فهناك نواة أخلاقية مصغرة مشتركة بين جميع الأديان الكبرى للبشرية، وهي ما ندعوه في الإسلام بمكارم الأخلاق. وفي عام 1996، جرت مناظرة عميقة بين هانز كونغ الكاثوليكي والفيلسوف البروتستانتي الكبير بول ريكور حول «بيان من أجل الأخلاق الكونية للعالم»، وهو البيان الذي كان هانز كونغ قد دبجه ونشره عالمياً.

ولا ننسى أنه هو مؤلف الثلاثية الشهيرة عن الأديان التوحيدية الكبرى: أي اليهودية (1980)، والمسيحية (1994)، والإسلام (2010). وكل واحد من هذه الكتب يحاذي الألف صفحة أو يتجاوز ذلك. يقول عن الإسلام مثلاً ما معناه: أصبح واضحاً أننا نعيش منعطفاً خطيراً حساساً فيما يخص العلاقات الدولية، وبالأخص العلاقات بين الغرب والإسلام، وهذا يشمل أيضاً العلاقة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. ونحن نجد أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التنافس الصراعي بين الأديان وصدام الثقافات والحضارات، وإما الحوار بين الثقافات وتحقيق السلام والتآخي بين الأديان. وهذا شرط أساسي لتحقيق السلام بين الأمم والشعوب. ولذلك طرحت الشعار التالي: لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان. ثم يردف البروفسور هانز كونغ قائلاً: لكي نتحاشى هذا الخطر القاتل الذي يتهدد البشرية، فإنه من الملح العاجل أن نهدم الجدران العدائية العازلة بين الشعوب. ينبغي تفكيك الأحكام المسبقة السائدة عند كل دين ضد الأديان الأخرى. ماذا يقول المسيحي في جلساته الخاصة عن المسلم مثلاً؟ أو العكس؟ وماذا يقول اليهودي عنهما كليهما؟ شيء مرعب في كل الحالات! إنها تصورات عدائية سوداء متبادلة بين جميع الأطراف متوارثة على مدار القرون؛ إنها كليشيهات طائفية مسمومة موروثة عن العصور الوسطى. باختصار شديد، ينبغي أن نتجاوز كل ذلك، ونطوي صفحة الماضي الأليم. ينبغي أن نقيم جسور الحوار والتفاهم بين الأديان لكي نعرف ماذا يجمع بيننا وماذا يفرق. ينبغي أن نخرج من عقلية النبذ والتكفير التي سادت القرون الوسطى كلها (بين قوسين: لقد طبقت الإمارات العربية المتحدة هذا البرنامج الحضاري المستقبلي حرفياً عندما أصدرت وثيقة الأخوة الإنسانية، وعندما أنشأت بيت العائلة الإبراهيمية في أبوظبي).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق