2018 فما بين الحداثة والتصوف، تتنوع مشاريع "ابن زايد" الثقافية، إلا أن النظر إلى ما وراء تلك المشاريع يُظهر المسار الذي يتقاطع فيه ذلك التنوع ليتحد باتجاه تفكيك سرديات الحركات الإسلامية ومجابهة الإسلام السياسي حول العالم في مقابل توليد فهم إسلامي باتجاه مخالف للصيغة التقليدية التي شغلت أبناء الحركات الإسلامية منذ الاستقلال، بداية من قضية فلسطين والموقف من العدو الصهيوني، مرورا بالموقف من الحريات وشكل الهويات العربية، ودعاوى استقلال العرب بعيدا عن التبعية الغربية، وانتهاء برفض الاستبداد والقمع وتكميم الأفواه. وقد كانت الصوفية على الرأس من حركات الدعم الإماراتي حول العالم كبديل عن الحركات الإسلامية التي تجذّرت في العالم الإسلامي على مدار العقود الماضية.
"ولذا فنحن مواجهون بالأسئلة التالية: هل نحن كأميركيين سندعم الصوفيين أم سنعمل مع الوهابيين؟ وإذا عملنا مع الوهابيين فإننا سنخاطر بالعمل مع الإرهابيين، بينما ليس هناك خطر مع الصوفيين"
(برنارد لويس)
نظرت الولايات المتحدة -منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول- إلى النفوذ السلفي المتمثل في صورته الوهابية باعتباره ممثلا للإرهاب العالمي، وبدأت الأصوات بالارتفاع في الغرب نحو الاتجاه لتيارات دينية أكثر "اعتدالا" من وجهة النظر الأميركية لتعزيز وجودها ونشر مفاهيمها.
على الرأس من هذه الحملة لدعم الصوفية، وقف كبار الخبراء الأميركيين في سياسات الشرق الأوسط وعلى رأسهم برنارد لويس ودانييل بايبس، حيث دعوا إلى عقد تحالف مع الطرق الصوفية لملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة. وفي صيف 2002 أصدرت مؤسسة "راند" دراسة دعت فيها إلى تأسيس تحالف إستراتيجي مع الصوفية لمواجهة التطرف الديني في العالم الإسلامي.
في هذا السياق، كان محمد هشام قباني[أ]، الصوفي النقشبندي، أحد تلك الأسماء البارزة المتحالفة مع التوجه الأميركي، وهو ما سيترتّب عليه لاحقا حضور مكثف له في مجالس الأكاديميين لدعم التصوف في الشرق الأوسط، وليبني عليه علاقات قوية مع متصوفة أبوظبي، على الرأس منهم علي الجفري. كان قباني حاضرا دوما في مؤتمرات دعم الصوفية، وعُرف كأحد أنشط الدعاة المبشرين "بالصوفية الأميركانية" حول العالم. زار قباني تايلاند وإندونيسيا وماليزيا وأوزبكستان وباكستان والهند وسيريلانكا واليابان وتركيا وإنجلترا وإسبانيا والمغرب وبلاد الشام وغيرها من الدول للتبشير بهذا النمط من الصوفية حول العالم، وأطلق في هذه الزيارات المختلفة تصريحاته العدائية ضد الوهابية والتي ربطها بالإرهاب العالمي، حيث رأى قباني أن الصوفية ستكون قادرة على إنجاز الكثير للبشرية على طريق السلام. [1]
"تصوف أميركاني"، على رأس تلك القائمة وقفت مؤسسة راند لتطوير السياسات العامة، ومركز نكسون للدراسات، ومعهد الولايات المتحدة للسلام، ومؤسسة كارنيجي للأبحاث.
تقرير "إسلام ديمقراطي مدني – الشركاء والموارد" والذي أصدرته مؤسسة راند، التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، والتي حثت من خلاله على تكوين شبكات من الشركاء في الشرق الأوسط تجمع بين الحداثيين والمتصوفة، حيث يملك هذان التوجهان -بحسب التقرير- قابلية التماهي مع القيم الغربية والتبشير بها في المجتمعات العربية، ومن ثم الإمكانية التي يمكن أن يُتيحاها بسحب البساط من تحت أرجل الأصوليين السلفيين والإخوان والذين دُعموا، بحسب التقرير، في الحقبة السابقة بموارد مالية وإعلام مكّنتهم من النفاذ إلى المجال العام ومؤسسات التعليم في الشرق الأوسط.
تقول بينارد: "يُعد الحداثيون -من الناحية الأيديولوجية- أجدر وأوثق الفئات بحمل رسالة تطوير الإسلام الديمقراطي ونشرها، ولكنهم، على أرض الواقع، يعملون تحت ضغط عدد من المعوقات تُضعف من فعاليتهم"، ولتلافي هذا الضعف لا بد من خلق ظهير صوفي مُتسامح مع الإسلام تُريده أميركا.
تواصل بينارد: "سوف نُسلك الصوفية هنا مع الحداثيين، إذ يمثل التصوف التفسير الفكري المنفتح للإسلام. وينبغي دعم التأثير الصوفي في المدارس والمقررات التعليمية والمعايير الاجتماعية والأخلاقية والحياة الثقافية، فعن طريق الشعر والموسيقى والفلسفة، الذين ينفرد بهم التصوف، تستطيع الممارسة الصوفية القيام بدور الجسر الذي ينقل هذه المجتمعات خارج نطاق التأثيرات الدينية"
بذلك، اتُّخذت الصوفية بديلا عن السلفية التي كان لها الانتشار في العالم الإسلامي منذ سبعينيات القرن الماضي، وقد ارتأت فيها الولايات المتحدة "البديل الثقافي والاجتماعي والتصور الديني الأساسي لمواجهة الأيديولوجية الإسلامية الصلبة التي هيمنت على العالم الإسلامي، وذلك عبر مفاهيم الاستقلال والتعددية واحترام الأديان والعقائد الأخرى". وقد حرصت أميركا وفق ذلك التوجه على الظهور مع الحليف الصوفي الجديد في البلدان العربية، حيث حضر عدد من السفراء الأميركان الاحتفالات الصوفية بالمولد النبوي وقدموا معونات لترميم الأضرحة حوال العالم.
وفق هذا التحول في الميل الأميركي، تجدر الإشارة إلى تقاطع هذا التوجه مع مسار عدد من المؤسسات الدينية البارزة في الدول العربية، فمنذ الاستقلال، اتجه عدد من قادة الدول العربية نحو التوجه الصوفي، لينطبع ذلك على عدد من المؤسسات الدينية الحكومية، والتي برز على سلوكها الطابع الصوفي في الشعائر العامة، مثل الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والقيروان في المغرب، وهو ما ساعد في توطيد حبال الصلة بين التصوف والدين الرسمي للدولة، وشكّل صورة أكثر قابلية للتسييس الصوفي.
من هنا، قدمت أبوظبي معادلتها الجديدة المتماهية مع الإسلام الأميركاني، إذ قامت بدعم مؤسسات الإسلام الحداثي وعلى الرأس منها منظمة "مؤمنون بلا حدود" بالتوازي مع دعم التصوف العالمي، في سعي منها لتأسيس مرجعية دينية سُنية موحدة في العالم الإسلامي.
"لا تجعلوا تشنيع إخوتنا الذين يُشنعون عليكم يهزكم قيد أنملة عن مبادئكم، ستسمعون كلاما بأن هذا تحالف الصوفية مع الأميركان، وأن الولايات المتحدة ستدعم التوجهات الصوفية حتى تُوجِد نوعا من الشراكة مع ما تسميه الإسلام المعتدل، نحن نُجالس الصاحب والعدو"
(الحبيب بن علي الجفري)
في عام 2005 ظهرت مؤسسة "طابة"، والتي تُعد أقدم مؤسسات التصوف العالمية التي دشنتها أبوظبي، جامعةً فيها رموز الصوفية من الشام والمغرب ومصر واليمن بهدف إنشاء محور سُني معتدل يجابه أتباع محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية والبلدان الإسلامية. [4] ويقبع "الحبيب بن علي الجفري" على الرأس من مؤسسة طابة، وهو ما يُعد أمرا مركزيا، إذ لا يمكن فهم ما تقوم به المؤسسة من أدوار سوى بالتعرف على قائد دفتها، أي علي الجفري ذاته.
زيارة القدس المحتلة مع علي جمعة، مفتي مصر وأحد رموز الصوفية، بدعوى أن مجرد الزيارة لا تعني التطبيع وإنما هي انفتاح على الآخر، مخالفين بذلك الإجماع الديني الذي أيّدته عموم الفتاوى الفقهية عن آثار التطبيع مع الاحتلال الصهيوني.
وجدت "الإمارات" في الشاب الصوفي الطموح فرصة يمكن استثمارها لبسط نفوذها في تكوين مرجعية سُنية تحت رعايتها، وهو ما كان، حيث أسندت إليه عددا من المهرجانات الصوفية التي قامت برعايتها، مثل "جائزة البردة" لتنظيم حفلات المولد السنوية، و"مهرجان المحبة" [7] الذي يستقطب الفنانين في مهرجان بطابع ديني، وشُرعت له أبواب قنوات الإمارات الرسمية في نادرة من نوعها في تعامل أبوظبي الإعلامي مع رجال الدين، لتتم استضافته في قنوات أبوظبي والإمارات ودبي وأوربيت.
عقد الفعاليات الدينية الموجهة للغرب، مثل محاضرات حمزة يوسف، عميد معهد الزيتونة، بعنوان "الإسلام في الغرب". وشاركت في مؤتمرات جمعية "الطريق الوسط"، وهي جمعية صوفية في لندن.
لمفارقة تكمن في أن بن بيه، والذي انفصل عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بقيادة القرضاوي للنأي بنفسه عن السياسة[3] [4] ، ما لبث أن ضلع سريعا في حلف سياسي جديد تحت رعاية الإمارات، الذي تمثل في تأسيس منتدى "تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية" والذي رأسه بن بيه. وقد قدم المنتدى نفسه باعتباره "ملتقى عالميا للسِّلم ونبذ العنف في المجتمعات الإسلامية، لنشر الفهم الصحيح للدين والمنهجية السليمة للتدين".
"هذا المجلس وعند اكتمال وظيفته سوف يسحب البساط من تحت أقدام الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين والحركات التكفيرية، وسيُعريها أمام عامة المسلمين ويفضح أهدافها وضحالتها العلمية"
(عبد الفتاح المنيعي – باحث إماراتي [17])
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق