الجمعة، 29 مايو 2020

دفء البيوت

 فقد البيت خاصيته الأساسية وهى الألفة والأمان، فهو حيز الأمان الذى نحتمى فيه ويمنحنا نعمة الاحساس بالخصوصية والعودة إلى الذات، وهو موطن الألفة التى نعيشها ونحلم بها، ففى حضورها تكون عتبة البيت دخولا إلى عالم الدفء والحماية، وفى غيابها تكون نوافذه عتبات النظرات الحالمة بالتحرر والانعتاق، فما أجمل أن نختلى بأنفسنا فى بيت يأوى أجسادنا ومشاعرنا، وما أقسى أن يعيش الفرد بلا بيت يأويه، أو فى بيت لا يأوى مشاعره وأحساسيه.

ومن أفضل ما قيل عن البيت هو ذلك الكتاب القيم والشاعرى للمفكر الفرنسى غاستون باشلار "جماليات المكان"، إنه قطعة فنية تضعنا أمام رؤية للبيت تتجاوز هندسة العمارة إلى هندسة الذاكرة، فهو كتاب فى الخيال الذى يصنع المأوى، والمأوى الذى يصنع الخيال، خيال ساكن البيت الذى يبنى "جدرانا من ظلال رقيقة، مريحا نفسه بوهم الحماية، أو على العكس، نراه يرتعش خلف جدران سميكة متشككا بفائدة أقوى التحصينات، باختصار، وطبقا لجدل لا نهائى فإن ساكن البيت يضفى عليه حدودا، إنه يعيش تجربة البيت بكل واقعيتها وحقيقتها من خلال الأفكار والأحلام.."،

وتتسم علاقتنا بالبيت بالعمق ولكن أيضا التلقائية، تلقائية الحالة الشاعرية التى قد تدهشنا بصدقها، فالبيت كما يقول باشلار "يعشق التلقائية"، كحال البراءة الطفولية، فعندما "تطلب من الطفل أن يرسم بيته فإنك تطلب منه أن يكشف عن أعمق حلم للملجأ الذى يرى فيه سعادته، إن كان الطفل سعيدا فسوف يرسم بيتا مريحا، تتوفر فيه الحماية والأمن، بيتا مبنيا على أساسيات عميقة الجذور، ولكن حين يكون الطفل تعيسا فإن البيت يحمل آثار هذه التعاسة.

 فإن البيت بجدرانه وغرفه الرحبة أو الضيقة، بنوافذه التى تطل على عالم نراقبه ويراقبنا، هو حيز ثقافى شاعرى، فهو ليس فراغا نسكنه، وإنما أيضا ثقافة وقيما تسكننا، إن عمارة البيوت مصممة هندسيا وثقافيا، كل هذا يجعل من البيت حيزا غير محايد وربما غير مأمون العواق،ب فبقدر ألفته كحيز خاص، هو أيضا مجازفة، تلك المجازفة التى تعيشها فتاة تنتقل من بيت الأب إلى بيت الزوج، فمما لا شك فيه أن علاقة المرأة بالبيت فى ثقافتنا علاقة خاصة جدا، فهى الأكثر التصاقا بالبيت بحكم الشروط الثقافية السائدة والتى تفرض عليها أن تكون كائنا بيتيا، إنسان الحيز الخاص، وهى الشروط ذاتها التى لم تفرض دائما أن تكون ملكية البيت نسائية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق