مني ابوسنة
Jun 13, 2019
العقلانية
وحدة الحضارة الإنسانية وتعدد ثقافاتها، وذلك من خلال تدعيم ثقافة التنوير
ثقافة التنوير العقلانية التى دعا إليها كانط فى تعريفه الشهير للتنوير فى مقاله المعنون جواب عن سؤال: ما التنوير؟
التنوير يعنى خروج الإنسان من حالة اللا نضج التى فرضها على نفسه، ليس لعلة فى عقله ولكن بسبب الكسل العقلى والجبن. وشعار التنوير هو كن جريئا فى إعمال عقلك دون معونة من الآخرين. والعقلانية، فى رأى كانط، تدور حول فكرة سلطان العقل. وسلطان العقل يشترط استبعاد الوصاية على العقل لأن الوصاية تعنى أن الإنسان عاجز عن إعمال عقله من غير توجيه الآخرين.
الممارسة الحرة للعقل بدون توجيه من أية قوة خارجية، تخلق ثقافة التنوير فى مواجهة الدوجماطيقية والسلفية والتفكير الأسطورى
يحذف الثقافات غير الغربية من الحضارة الإنسانية بدعوى أنها أسطورية ولا عقلانية وغير منطقية،
*
إصلاح عقل أستاذ الجامعة يفكرني بطبيب الحوار المتمدن
إذا كانت الجامعة هى عقل المجتمع فالأستاذ هو عقل الجامعة. وإذا كانت المنظومة الجامعية
فى مصر قد أصابها الفساد فمن المنطقى أن يكون المسؤول عن ذلك هو أستاذ الجامعة. قبل عصر الإعارات كان الأستاذ قانعا بمستواه الاقتصادى والاجتماعى ولكنه لم يكن قانعا بما يرتقى إليه علميا، إذ كان طموحه العلمى هو الذى يتصدر أى طموح آخر، بل كان هو المعيار الحاكم للمعايير الأخرى. وبذلك تركت الجامعة بصماتها على خريجيها فلم يكن ثمة بطالة أو تخلف، كما تركت بصماتها على النخبة التى تدير حركة المجتمع بأسلوب علمى وحضارى
أما الجامعة الآن ومعها الأستاذ فإنها تواجه إشكاليات جديدة لم تكن واردة فيما مضى، وتأتى فى مقدمة هذه الإشكاليات، إشكالية الجامعة ذات الأعداد الكبيرة التى لا تسمح للأستاذ بإجراء حوار يفضى إلى إنشاء علاقة علمية حميمة بينه وبين طلابه، بل لا تسمح له بمطالبة طلابه بإجراء بحوث يستعينون فيها بما تحويه المكتبات الجامعية من مراجع ودوريات، فأُهمل تزويد هذه المكتبات بأحدث ما أنتجته عقول العلماء، وبالتالى انعزل الأستاذ عن المسار الحضارى عاجزا عن معالجة هذه الإشكالية، مستعيضا عن كل ذلك بما يسمى الكتاب المقرر أو كتاب الأستاذ، وهو مكتوب بطريقة تسمح للطلاب باستيعابه حتى لو لم ينتظم فى الدراسة، الأمر الذى أحدث انعكاسه على عدم اهتمام الأستاذ بتطوير عقله علميا، فجاءت أبحاثه العلمية على غير المألوف. مما هو مألوف الإبداع فى البحث العلمى، والإبداع العلمى ليس ممكنا فى ضوء الكسل العلمى، أضف إلى ذلك ظاهرة جديدة ومزدوجة اتسمت بها الأبحاث العلمية هى الصبغة الدينية والسرقات العلمية، وبحكم هيمنة الأصولية الدينية التى تتخذ من فهمها للدين وسيلة إلى تأسيس «عقل مغلق» يرفض الانفتاح على ما يحدث فى العلم من تطوير، بحجة أن هذا التطور مضاد للقيم الدينية، ومن ثم توقف الأستاذ عن المشاركة فى تخصيب العلم، بل تحول من أستاذ إلى داعية، ولما أصبح الأستاذ عاجزا عن أن يكون مبدعا فى أبحاثه العلمية اضطر إلى سرقة مجهودات الآخرين العلمية، ومع انتشار السرقات وقفت الإدارة الجامعية مكتوفة الأيدى بدعوى الحرص على سمعة الجامعات المصرية، ورغم هذا الحرص بل بفضله خرجت هذة الجامعات من المنافسة، إذ حصلت على تقدير صفر أمام خمسمائة جامعة، والسؤال الآن: كيف يعود أستاذ الجامعة إلى وظيفته المزدوجة «التعليم والبحث العلمى»؟
الجواب عند أستاذ الجامعة وليس عند الدولة، فمهما قيل عن ضرورة تدخل الدولة لرفع المستوى الاقتصادى للأستاذ أو دفعه إلى حضور مؤتمرات علمية أو إرساله فى مهمات بحثية، فإن لم يكن الأستاذ مريدا بعقله لممارسة وظيفته المزدوجة، فأى إصلاح سيكون غير ممكن. وبوجه خاص فى حالة ترديد شعار «استقلال الجامعة»، إن هذا الشعار غير صالح مع عقل مغلق، لأن مفهوم الاستقلال هو من مفاهيم التنوير وشعار التنوير«لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه» إذن الاستقلال هنا يعنى استقلال العقل، فكيف يكون عقل الأستاذ مستقلا وعقله مغلقا، أو بالأدق وعقله أصولى؟!.. والسؤال إذن: كيف نعالج هذا العقل الأصولى؟ أو بالأدق: كيف يعى الأستاذ أنه حاصل على عقل أصولى حتى يمكن علاجه؟ الجواب عن هذا السؤال يستلزم البحث عن عامل مساعد وهو عامل مكثف لكل العوامل الفعالة بحيث يدفعها كلها لعلاج هذا العقل الأصولى. السؤال إذن: ما هو هذا العامل المساعد؟
الإجابة عن هذا السؤال طرحها وزير التعليم العالى والبحث العلمى، الدكتور خالد عبدالغفار، فى المنتدى العالمى للتعليم العالى الذى انعقد فى الرابع من إبريل ٢٠١٩.
ومضمون الجواب هو ما أعلنه الوزير عن سياسة الشراكة بين الجامعات المصرية والجامعات الأجنبية، وجواب الوزير يثير سؤالا جوهريا يلزم طرحه، كى نتحقق من مدى جدوى سياسة الشراكة المقترحة ومدى نجاحها فى إحراز التقدم العلمى والأكاديمى فى مصر، وهذا السؤال يدور حول ضرورة تحرير عقل أستاذ الجامعة من الفكر الأصولى أو بالأدق علمنة فكر أستاذ الجامعة. وبغير ذلك لن يكون لدينا العقل الأكاديمى القادر على ممارسة التفكير العلمى من خلال المنهج العلمى وسيترتب على ذلك المزيد من تراجع الجامعات المصرية حتى فى وجود الشراكة.
العلمانية والجماهير والتحول الديمقراطى
لفظ العلمانية قد تم الترويج له من قبل تيار الأصولية الإسلامية، المنتشر في جميع المجتمعات الإسلامية، وفى المجتمع العربى على وجه الخصوص، باعتباره مضادا للدين ومرادفا للإلحاد، وأن الغاية منه هو القضاء على الأديان عامة والإسلام بالأخص، أما العامل الثانى الذي أدى إلى الالتباس فيكمن في أن مفهوم العلمانية قد تحدد مباشرة تحديدا سياسيا في مقولة فصل الدين عن الدولة. وحقيقة الأمر أن العلمانية- بفتح العين لا بكسرها كما هو شائع- مشتقة من علم «بفتح العين وتسكين اللام» أي العالم. وبناء عليه فالعلمانية في جوهرها لا علاقة لها بالسياسة ولا بالمجتمع ولكن بالعالم وما يشتمل عليه من كائنات وظواهر هي بطبيعتها نسبية متغيرة، لأنها تستمد طبيعتها من طبيعة العالم الذي نحيا فيه، ومن الأرض التي نسكنها وندور معها. واستنادا إلى الأصل اللغوى للفظ العلمانية وما ينطوى عليه من معانى النسبية والتغير صك الفيلسوف مراد وهبة تعريفا غير مسبوق للعلمانية هو على النحو التالى: «العلمانية» هي التفكير في النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق، وفى تقديرى أن هذا التعريف من شأنه أن يزيل الالتباس العالق بمفهوم العلمانية، حيث إنه ينقل العلمانية من المجالين السياسى والدينى إلى المجال المعرفى، أي مجال العقل الإنسانى في تناوله لكل ما يواجهه من قضايا ومشكلات.
كيف تساعد العلمانية الجماهير على مواجهة مشكلاتها الحياتية، وكيف تمكنها من إيجاد الحلول المناسبة لتلك المشكلات دون الاعتماد على الآخر، أيا كان هذا الآخر؟.
إشكالية العلاقة بين الفكر المطلق والفكر النسبى عندما ترتبط بالعقل العام، أي عقل الجماهير فيما يرتبط بأسلوب إدراك الواقع وفهمه والتفكير فيه كما تمارسه الجماهير.
فإنسان الجماهير- أو رجل الشارع على حد التعبير الشائع في أي نظام اجتماعى- لديه طموح أن يوحد بين كل ما لديه من معارف في فكرة واحدة، وهذه الفكرة الواحدة هي فكرة مطلقة، أي غير قابلة للتغيير، ومن شأن هذه الفكرة المطلقة أن توقع الإنسان في وهم امتلاك الحقيقة المطلقة- على حد تعبير مراد وهبة في كتابه «ملاك الحقيقة المطلقة». وهذا الوهم يوقع إنسان الجماهير في الجمود ويعوق تطوره الفكرى والاجتماعى، ويتميز تفكير إنسان الجماهير المصرى بأنه نقيض التفكير العلمانى، بمعنى تحويل كل نسبى بطبيعته إلى فكرة مطلقة، وذلك بحكم نزوع إنسان الجماهير نحو توحيد معارفه في كل مطلق مما يعفيه من مشقة تغيير الواقع ويجعله مكتفيا بوهم التغيير الذي هو في حقيقة الأمر الثبات والجمهور.
وهذا النوع من التفكير في حالة إنسان الجماهير في مصر مردود إلى التفكير الأسطورى الخرافى المرتبط بعصر الزراعة، الذي مازال مهيمنا على الثقافة الشعبية المصرية ولم يتجاوزها إلى التفكير العقلانى الذي يميز عصر ما بعد الزراعة، أي عصر الصناعة.
وتستند الثقافة الشعبية، أو بالأدق ثقافة الجماهير، إلى نسق قيمى يجسد التوحيد المطلق لمعارف وخبرات الجماهير، وأهم ما يميز هذا النسق القيمى هو حكم الأسطورة الذي من شأنه الحفاظ على الثبات ومنع التغيير والتطور.
وقد تلاحم هذا النسق القيمى الشعبى الأسطورى مع الفكر الدينى اللاعقلانى والمضاد للفكر الدينى العقلانى، حيث تسعى الجماهير طواعية إلى من يروجون لهذا الفكر ويتخذونهم أوصياء على فكرهم وعلى حياتهم. ومن شأن هذا الاستسلام الجماهيرى القضاء على العقل العام، مما يفضى إلى استحالة وصول المجتمع إلى التنوير الذي تشترط وجود عقل عام متنور.
وهذا يقودنا إلى الإجابة عن السؤال بشأن حاجة الجماهير للعلمانية، فالعلمانية باعتبارها منهجا للتفكير فيما هو نسبى، أي في قضايا ومشكلات الحياة اليومية للجماهير، ضرورة ولازمة لتمكين الجماهير من الاستخدام المستقل للعقل بجرأة ودون الاعتماد على وصاية أحد من أجل إيجاد الحلول للمشكلات المزمنة، وفى مقدمتها مشكلات الفقر والبطالة وتزايد السكان. وإذا كانت الجماهير في حاجة إلى العلمانية فالسؤال هو: من الذي يقوم بتوعية الجماهير بالعلمانية وبحاجتهم إليها؟!. وقد تكون الإجابة المباشرة هي النخبة، بيد أن علاقة النخبة بالعلمانية تنطوى على تناقض في حاجة على دراسة وتحليل، فالنخبة مازالت قريبة من فكر الجماهير، والدليل على ذلك ما مارسته الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى في الماضى- ومازالت تمارسه- في علاقتها بالجماهير، فهذه العلاقة محكومة بالجماهير، أو بالأدق بفكر الجماهير الأسطورى بدعوى تلبية احتياجات الجماهير. ومن شأن هذه العلاقة تجاهل الحاجة الأساسية، وهى توليد العقل العام المتنور من خلال حث الجماهير على ممارسة التفكير العقلانى، أو بالأدق التفكير العلمانى، وتجاوز الفكر الأسطورى.
*
ابن رشد والتنوير.. الطريق إلى السلام فى الشرق الأوسط
فلسفة ابن رشد تدور حول فكرة محورية مفادها التأويل.
وفكرة التأويل نشأت من القسمة الثنائية بين العامة بلغة العصر «الجماهير» وبين علماء الكلام، أو بلغة ابن رشد «الراسخون فى العلم» أو بلغة العصر «النخبة». والرأى عند ابن رشد أن العامة تقف عن المعنى الظاهر للنص الدينى أما الراسخون فى العلم فهم الذين يتجاوزون المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن الذى لا يُفهم إلا بالتأويل. والتأويل عنده يعنى إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقيةـ أى الحسية ـ إلى الدلالة المجازية.
وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا. فإن كان موافقًا فلا قول هناك وإن كان مخالفًا طُلب هناك تأويله
فى مسائل الشريعة ثمة معنى ظاهر ومعنى باطن.
والعامة تعرف طريقها إلى الله عن طريق السمع وليس عن طريق البرهان، ويترتب على ذلك أن يلتزم المؤمن بالمعنى الظاهر ليس إلا، ومن ثم يتجنب تأويل القرآن.
ومع ذلك فإن ابن رشد لم يتهم العامة بالهرطقة بسبب عدم فهمها للمعنى الباطن فى القرآن لأن ـ فى رأية ـ العامة لا ترتقى إلى فهم البرهان. ومع ذلك ليس من حق العامة اتهام الآخرين بالهرطقة أو الذين يطلق عليهم ابن رشد «الراسخون في العلم» بسبب انشغالهم بالمعنى الباطن للنص القرآنى.
فيقول: «فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم أهل الإيمان به لا من قبل البرهان، فإن كان هذا الإيمان الذى وصف به العلماء خاصًا بهم فيجب أن يكون بالبرهان، وإن كان بالبرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل لأن الله قد أخبر أن له تأويلًا». وفى هذا المعنى يتقدم أهل العلم على العامة فى فهم مسائل الشريعة، وبذلك يميز ابن رشد تمييزا حادًا بين حالتين:
فى الحالة الأولى تتقدم الشريعة على الفلسفة حيث العامة تكون فى الصدارة، وفى الحالة الثانية تتقدم الفلسفة على الشريعة لأنها تستعين بالتأويل فى فهم المعنى الباطن لأنه من اختصاص الراسخين فى العلم.
والنتيجة التى انتهى إليها ابن رشد فى شأن تقدم الفلسفة على الشريعة هى جوهر التنوير عند كانط فى مقالة المنشور فى عام ١٧٨٤ تحت عنوان «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» قال فى مقدمة المقال «كن جريئًا فى إعمال عقلك» على أنه شعار التنوير.
السلام لا يمكن أن يتحقق إلا بفضل العامة وليس بفضل النخبة، لأن السلام يعنى نفى الحرب، ونفى الحرب لا يعنى إلا نفى الدوجماطيقية، لأن الحرب تعنى نفى الآخر بالقوة وذلك بقتله بعد فشل القضاء علية بالعقل، وسواء كان النفى بالقتل أو بالعقل فإنه يشير إلى حقيقة مطلقة مغايرة يمتلكها الآخر ومن ثم يلزم القضاء عليه.
أما العامة فبفضل أنها محكومة بالدوجماطيقية بسبب رفضها للتأويل فإنها بالتالى مدفوعة إلى إشعال الحرب أو على الأقل الدعوة إليها.
والسؤال إذن: هل فى إمكان العامة أن ترتقى إلى مستوى النخبة إذا استنارت؟.
*
اللادوجماطيقية شرط للسلام فى الشرق الأوسط
اللادوجماطيقية هى حجر الأساس لحركة تنوير جديدة تدعو إلى بث فلسفة التأويل فى الأديان الثلاثة فى الشرق الأوسط وهى اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد أنجزت المسيحية حركتين تاريخيتين، هما حركة الإصلاح الدينى فى القرن السادس عشر، وحركة التنوير فى القرن الثامن عشر، وينبغى تبنى هاتين الحركتين بما يتلاءم مع البيئة الثقافية للشرق الأوسط المحكومة بالمحرمات الثقافية. وفى الإسلام كان الفيلسوف ابن رشد هو رائد التأويل فى القرن الثانى عشر فقد أدخل فلسفة التأويل للنص الدينى كبديل لعلم الكلام بيد أن هذه الفلسفة اُجهضت عندما أحرقت مؤلفات ابن رشد وتم نفيه فى بلدته ليقضى فيها بقية عمره، وكان ذلك بسبب مؤامرات علماء الكلام التى أفضت إلى قرار الخليفة بحرق كتبه ونفيه، أما فى اليهودية فقد حاول موسى بن ميمون تلميذ ابن رشد أن يسير فى طريق أستاذه وقد خالفه النجاح إلى حد بعيد عندما كتب ما يعرف بـ «المشناة» وهى محاولة لفلسفة التوراة بمنهج عقلى. وقد أصبحت جزءاً من التراث الدينى اليهودى إلى جانب التوراة والتلمود.
أصل الحضارة التى أبدعها الإنسان من خلال إعمال عقله فى الطبيعة وكل هذا فى إطار تأسيس حركة تنوير جديدة تستند إلى الفكر الناقد والمبدع من منظور فلسفى يحرر العقل من المحرمات الثقافية التى تعوق نمو المجتمعات فى الشرق الأوسط وتمنعها من أن تكون مكافئة للمجتمعات الغربية وتحولها إلى مجرد مستهلكة للمعرفة التى ينتجها الغرب، وتنشد حركة التنوير الجديدة تحويل هؤلاء المستهلكين للمعرفة إلى منتجين لها من خلال إثراء الحضارة الإنسانية. والغاية الحضارية من حركة التنوير هى علمنة التراث الثقافى وذلك بإخضاعة للتأويل من أجل اجتثاث كل ما هو لا عقلانى فى تلك الثقافات وعقلنتها من خلال الكشف عن جذور المعتقدات فى الواقع الثقافى الاجتماعى الذى أفرزها. ومن ثم تحول هذه المعتقدات المطلقة الكامنة فيما يعرف بالتراث القومى أو الشعبى إلى معرفة نسبية. والتفكير الناقد هو وسيلة التأويل لأنه مضاد للدوجماطيقية التى تلح على التمسك بالمعتقدات القائمة، وبالتالى ترفض أى معرفة جديدة بدعوة أنها تناقض القديم، ثم إن التفكير الناقد يكشف عن جذور الأشياء والظواهر، وحيث إن الفكر الأسطورى هو الملمح الرئيسى للمعرفة القديمة فإن التحليل العقلانى لجذور الفكر الأسطورى هو بمثابة التدريب على التفكير الناقد. ومعنى ذلك أنه لا ينبغى تناول الفكر الأسطورى من حيث هو كذلك، وإنما ينبغى التركيز على الملامح الرمزية الكامنة فى الفكر الأسطورى، والتى تشير إلى ما يختفى وراء الأسطورة، وهنا يكون لمنهج ديكارت دلالة متميزة فى مجاوزة الدوجماطيقية التى تستند إلى تصورات أسطورية لا عقلانية ومن هذه الزواية يلزم مراجعة التيارات التقليدية فى نظرية المعرفة، والتى تركز على العلاقة بين المعرفة والحقيقة ذلك أن العلاقة ينبغى أن تكون بين العقل والواقع، وليس بين العقل والحقيقة. وفى إطار هذه العلاقة فإنه يمتنع الوقوع فى براثن الدوجماطيقية لأن الدوجماطيقية تعنى توهم امتلاك الحقيقة المطلقة،
وعندما نحذف الحقيقة فإنه فى الوقت نفسه نحذف الدوجماطيقية، وفى هذا الإطار ينبغى مراجعة المفهوم التقليدى لحقوق الإنسان الذى ينص على أن كل إنسان له نفس الحقوق بغض النظر عن الدين والجنس والعنصر. بيد أن ثمة سؤالا لابد أن يثار:ـ كيف يمكن أن نسمح للدوجماطيقى أن يكون له نفس الحقوق الإنسانية فى حين أنه ينفى هذه الحقوق عن أولئك الذين لا يدينون بدينه أو يدينون بدينه ويخالفونه فى الرأى إلى الحد الذى يصل فيه إلى إرهابهم بدعوى أنهم مهددون لدينه أو بالأدق لمطلقة، وإذا كانت الدوجماطيقية مهيمنة فى القرن الواحد العشرين فمعنى ذلك أن الإرهاب مهدد لحقوق الإنسان، ولذلك ينبغى أن تكون هذه الحقوق مقصورة على أولئك الذين ليسوا دوجماطيقين، ومن ثم يلزم أن ندعو إلى اللادوجماطيقية حتى يبرأ الدوجماطيقيون من دوجماطيقيتهم.
*
ليس «صراع حضارات» بل «صراع من أجل الحضارة»
بقلم د. منى أبوسنة ٢/ ١/ ٢٠٢٠
فالحضارة، فى مسارها، تجسدت فى عدة أنساق اجتماعية، كل منها محكوم بأسلوب حياة وأسلوب فكر ورؤية كونية ونسق قيم، وكلها تعبرعن حياة هؤلاء البشر وتنظم حياتهم، وقد عرفت هذه الأنساق بالثقافات، وهى بطبيعتها متعددة ومتنوعة ومتمايزة، وقد تبلورت هذه الثقافات فى نسقين متناقضين يصور كل منهما مساراً معيناً للحضارة الإنسانية الواحدة.
وهذان النسقان هما: النسق الزراعى القائم على الأسطورة، والنسق الصناعى القائم على العقل ومنتجاته، ابتداء من الثورة الصناعية فى القرن التاسع عشر حتى الثورة العلمية والتكنولوجية فى القرنين العشرين والواحد والعشرين.
وقد ارتبط النسق الصناعى بمرحلتين تاريخيتين هامتين هما: الإصلاح الدينى فى أوروبا فى القرن السادس عشر، وعصر التنوير فى القرن الثامن عشر، وهاتان المرحلتان قد انتهيتا إلى مشروعية تأويل النص الدينى الذى أفرز بدوره العلمانية، كما أفرز العلم التجريبى الذى أدى إلى الحداثة، بينما اتسم النسق الزراعى، الذى تمثل فى معظم ثقافات العالم «هذا بالإضافة إلى المجتمعات الرعوية»، برفض إعمال العقل فى النص الدينى وتأويله «على الرغم من بعض الاستثناءات الهامشية»، وكذلك رفض مبدأ البحث العقلى الحر اللازم لإنتاج الفكر العلمى.
وقد نشأت العلمانية فى الثقافات التى سمحت بالإصلاح الدينى الذى أفضى إلى تطوير وتحديث الفكر الدينى، مما أدى إلى التنوير، والتنوير فى جوهره، فى عبارة الفيلسوف الألمانى كانط، هو «كن جريئاً فى إعمال عقلك» وهى تعنى الاعتماد الكامل على العقل فى تسيير أمور الحياة وجعل العقل هو المعيار الأعلى فى تطوير المجتمع وثقافته.
وقد استطاعت الثقافات العلمانية التى أخذت بالتنوير دفع مسار الحضارة فى اتجاه ما بعد عصر الصناعة، أى فى اتجاه الثورة السيبرنطيقية والتى جسدت قمة الإبداع الإنسانى بمعنى التحكم والتغيير.
ومضمون هذه الثورة أن الحياة تقوم على مبدأين هما: مبدأ التحكم feed back «ويترجم خطأ بالتغذية المرتدة» ويتمثل فى قوى الضبط والربط فى الطبيعة، ومبدأ النتوء entropy ويتمثل فى قوى التفسخ والتدمير، ويدور علم السيبرنطيقا على تقوية عناصر التحكم من أجل إضافة عناصر النتوء فى شتى مجالات الحياة.
ومع بزوغ ظاهرة الكوكبية فى نهاية القرن العشرين تبلورت القسمة الثنائية الحضارية بين النسقين الثقافيين المتمايزين وهما النسق الزراعى والنسق الصناعى، واتخذت هذه القسمة الحادة شكل الصراع بين العلمانية والأصوليات الدينية.
وقد كانت أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ هى التجسيد المادى للصراع الفكرى بين الثقافتين، وتدمير برجى مركز التجارة العالمى بنيويورك له دلالة رمزية حضارية، بالإضافة إلى أنه يقدم الدليل الرمزى على صراع الثقافتين.
والدلالة الرمزية تكمن فى أن مركز التجارة العالمى هو التجسيد المادى لظاهرة الكوكبية التى أفرزها المسار الحضارى فى قمة تطوره، والتى أفرزت «مجتمع المعرفة» القائم على إبداع معارف جديدة باستخدام وسائل تكنولوجيا المعلومات.
والسؤال المحورى هو: ما هى الدلالة الرمزية لتدمير مركز التجارة العالمى؟ فى تقديرى، إنها ضربة موجهة إلى الحضارة الإنسانية بهدف تحويل مسارها إلى الماضى بدلاً من المستقبل
، ذلك أن الصراع الحاد بين الثقافة الصناعية العلمانية والتى تجاوزت حكم الأسطورة إلى حكم العقل، والثقافة الزراعية والرعوية التى مازالت محكومة بالفكر الأسطورى اللاعقلانى، قد وصل إلى مرحلة الصدام من أجل انتزاع مسار الحضارة وإعادته إلى المسار الذى تحكمه الأسطورة وليس العقل، وذلك بتوجيه المسار الحضارى نحو الماضى بدلاً من المستقبل.
والسؤال الأخير هو.. أى من التيارين سينجح فى تملك الحضارة؟.
*\
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق