May 22, 2020
نقض أوهام الشيوعية الماركسية
إن الشيوعية تصور شامل للكون والحياة والإنسان، ولقضية الألوهية كذلك، وعن هذا التصور ينبثق المذهب الاقتصادي. ثم إن الأوضاع السياسية والفكرية والاجتماعية المصاحبة له هي مجرد انعكاس له.
الشيوعية مذهب فلسفي مادي إلحادي غير أخلاقي، استبدادي، يرى أن المادة هي أصل وأساس كل شيء، يفسر التاريخ تفسيراً مادياً، يرجعه إلى العوامل الاقتصادية وصراع الطبقات
تقوم الفلسفة الشيوعية التي أرساها ماركس وإنجلز على أصلين اثنين هما: 1- المادية الجدلية 2- المادية التاريخية.
وبناءً عليهما وضع الماركسيون آراءهم وأفكارهم في مجال الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعقائد والأخلاق.
أولاً: أصول المادية الجدلية:
1- المادية:
المادية نسبة إلى المادة في مفهومها المجرد البحت، والتي تنافي الروحي
والمثالي، والمادية الماركسية تقوم على المبدأ القائل بأن العالم بطبيعته مادي، وأن مختلف ظواهر الكون إنما هي جوانب مختلفة للمادة في حركتها، فالمادة هي الشيء الوحيد الأصيل في الكون، هي أساس الروح وينبوع الحياة، إن كل ما في الكون ومن فيه ينبثق عن المادة ومحكوم بقوانين المادة.
والمادة لا تتوقف عن الحركة، والحركة تعني السير نحو التغيير والتطور، وعلى هذا فإن:
-لا إله للكون، والحياة والكون مادة، فالمادة أصل الحياة وأساس كل شيء.
- لمادة أبدية أزلية، فالكون المادي أزلي سرمدي، لا بداية له ولا نهاية.
-الإنسان نتاج المادة، والفكر أو الوعي نتاج مادة عالية التنظيم هي الدماغ.
وهذا يعني أن الشيوعية ترفض جميع الفلسفات الميتا فيزيقية التي تفسر العالم وظواهره بعلل ومبادئ وأسباب خارجة عنه، وترفض جميع الأديان التي تقر بوجود الإله الخالق المبدع للكون وما فيه، وترفض الغيبيات التي هي من جملة العقائد الإيمانية التي جاء بها الإسلام كالروح والملائكة والجن والبعث والجنة والنار والحشر والنشر ونحو ذلك.
وإذا كانت الشيوعية لا تعترف ولا تقر إلا بالوجود المادي -المادة وظواهرها- وأنه أزلي أبدي، فالسؤال: كيف نشأت الحياة وتنوعت الكائنات، وكيف تحدث سائر التغيرات والتحولات الكونية؟ هذا ما تجيب عليه الشيوعية من خلال الجدلية وقوانينها
2- الجدلية (الديالكتيك):
الجدل أو الديالكتيك معناه فن المجادلة أو مجاذبة أطراف الكلام. والكلمة يونانية في نشأتها أخذت من "دياليغو" بمعنى المجادلة والمحادثة، فالديالكتيك معناه عند اليونان: فن الوصول إلى الحقيقة باكتشاف المتناقضات التي يتضمنها استدلال الخصم، وبالتغلب عليها، ثم استخدمت للتعبير عن أحد التصورات للكون والطبيعة فيما يصل بالإنسان إلى الحقيقة عن طريق اكتشاف التناقضات.
واستخدم "هيرقليط" كلمة الديالكتيك لدى تعبيره عن تصوره للطبيعة، وهو أن كل شيء يتغير ويتطور من حال إلى حال ضمن صيرورة ذاتية لا تنقطع. ثم استخدم الفيلسوف الألماني هيجل "الديالكتيك" كطريقة منطقية لفلسفته ليصل بها إلى أن الكل أو المطلق أو الروح الشامل -الله- هو المبدأ والمنتهى، وأن العالم الطبيعي والوعي الإنساني ليس إلا تجسيداً لذلك الكل المطلق أو الروح الشامل.
وأما الديالكتيك عند الشيوعية فمعناه: علم القوانين العامة لحركة وتطور الطبيعة والمجتمع والفكر الإنساني، وهو يقوم على أساس: أنه لا ينبغي النظر إلى العالم باعتباره مجموعة من الأشياء الجاهزة، وإنما باعتباره مجموعة من العمليات يطرأ فيها -على الأشياء التي تبدو ثابتة في الظاهر وعلى صورها العقلية في أدمغتنا- تغير مستمر من الصيرورة والفناء. إنها تكشف عن الطابع الانتقالي لكل الأشياء وفي كل الأشياء، من الأدنى إلى الأعلى.
إنّ الديالكتيك عند هيجل يتم بين الفكر والروح من جهة وبين المادة من جهة أخرى، لكن الديالكتيك في تصور الشيوعية يتم بين المادة والفكر ضمن المادة ذاتها، دون أي عامل آخر من الفكر أو الروح خارج المادة، وذلك هو سر التطور في الكون والحياة والكائنات، وهو تطور يسير في اتجاه دائري نحو الكمال.
فالديالكتيك الشيوعي يؤله المادة ويعطيها خصائص الألوهية، وينكر نكراناً كاملاً فكرة الإله الخالق المبدع للكون وما فيه، ويعتبر المادة هي المألوه، والأصل الذي انبثقت عنه المشاعر والتصورات والأفكار والحقائق بما في ذلك الوعي أو الفكر أو الروح.
وتقوم الجدلية الشيوعية على قوانين ثلاثة هي:-
1-وحدة الأضداد والصراع بينها.
2-تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات الكيفية.
3-نفي النفي.
ومجمل هذه القوانين: أن كل شيء في الطبيعة أو المجتمع يتحرك ويتطور وينتقل في الطبيعة من حالة قديمة سابقة إلى حالة جديدة لاحقة، بفعل الصراع والتفاعل بين ما تشتمل عليه الأشياء من الأضداد والتناقضات، وبذلك فإن الجديد ينفيه جديد ثالث خلال التطور-وهذا هو نفي النفي- وهكذا دواليك: تغير وتطور مستمر في الطبيعة والمجتمع مصدره وعلته الصراع بين الأضداد المتزاحمة الموجودة ضمن وحدات المادة، وهو تغير في الكم أولاً ينتهي إلى تغير كيفي نوعي، إنه تغير وتطور صاعد من الأدنى إلى الأعلى والأرقى.([6])
ثانياً: المادية التاريخية:
المادية التاريخية هي محاولة لتفسير التاريخ البشري على الأسس المادية، أي تفسير التغيرات والظواهر السياسية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع البشري عبر العصور والأجيال بأسباب مادية خارجة عن إرادة الإنسان، كما جاء في شرح المادية الجدلية. أي على أساس أن المادة أزلية أبدية، وأنها هي الخالقة لكل الكون وما فيه من المخلوقات، وأن الإنسان نتاج المادة، والفكر نتاج المادة، ووفق قوانين المادية الجدلية باعتبار أنها وحدها التي تحكم حياة البشر الاجتماعية، فالوضع الاقتصادي -المادي- هو الذي يكيف شكل الحياة البشرية في كل طور من أطوارها، وهو العامل الوحيد الذي يشكل تطورها من طور إلى طور آخر، وإذا كان الوضع المادي والاقتصادي في تطور دائم فإن ما ينبثق عنه في تطور دائم كذلك، فالأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم والأخلاق والعقائد بحكم ارتباطها بالأوضاع الاقتصادية وانبثاقها عنها هي كذلك في تطور دائم([7]).
ومما يتقدم يتبين أنه ليس ثمة انفصال بين المادية الجدلية والتاريخية، وإنما هما تكونان وحدة متماسكة لا انفكاك فيها بين حركة الطبيعة وحركة المجتمع، وبتعبير آخر: إن المادية التاريخية هي تطبيق للمادية الجدلية في مجال المجتمع.
1- نقض قانون وحدة الأضداد والصراع بينها:
تزعم الشيوعية: "أن مصدر التطور في كل شيء إنما هو أضداد موجودة متزاحمة ضمن الشيء الواحد، بل ضمن الوحدة الصغيرة المجتزئة من الشيء -الذرة-، والعامل المباشر للتطور هو الصراع الذي يتم بين هذه الأضداد ضمن وحدات المادة مهما تكن ضئيلة أم صغيرة، إن أشياء الطبيعة وظواهرها -تحتوي على تناقضات داخلية، فالمادة نفسها تحتوي على جانب سلبي وجانب إيجابي وفيها جميعاً عناصر تزول أو تنمو، والصراع بين هذه الأضداد: بين القديم والحديث، بين ما يزول وما ينمو ويتطور هو المحتوى الداخلي لعملية التطور وتحول الكمية إلى تغيرات كيفية
*
التاريخ أثبت أن كل الأيديولوجيات تبدأ جميلة على الورق، تَعِد الناس بالرفاه، ثم تكشف عن وجهها البشع.
الأيديولوجيا تشبه الفكر الأسطوري
منذ انتشار الجائحة وتعطّل معظم أنشطة الإنسان في العالم، والكتّاب والمفكّرون والمحللون السياسيون يتنافسون في تصوّر ما بعد كورونا، ولئن اختلفوا في ذكر الأسباب التي جعلت الإنسان عاجزا عن مقاومة فايروس تافه، برغم الإنجازات العلمية والتكنولوجية الباهرة التي حققها، فإنهم يلتقون في معظمهم في تحميل الرأسمالية تردّي الأوضاع الاقتصادية والبيئية والصحية في العالم.
ففي رأيهم أنّ الرأسمالية، في وجهها النيوليبرالي، دمّرت خلال أربعين سنة حياة البشر مرتين: مرّة بالضيق والخوف من الحاضر والآتي، بوضعهم في موضع هشاشة، فرائس سائغة بين أيدي سيّدين مجنونين هما السّوق والشغل؛ ومرّة بجعل الحياة على كوكب الأرض عسيرة، بل وممتنعة، بسبب الاحتباس الحراري والمناخ الخانق وأخيرا الجائحة.
فما يمكن ملاحظته اليوم أن الرأسمالية تهدّد الجنس البشري بالانقراض، وأن الفضاء الديمقراطي الذي كان يتم التفاوض داخله حول تعديلات في سير الرأسمالية لم يعد قائما، ولا بديل غير تفاقم الأوضاع أو قلب المنظومة بتمامها وكمالها. وبما أن الأقلية الماسكة بكل الخيوط والمستفيدة من كل الأوضاع، سواء في السّراء أم في الضرّاء، ليست مستعدة للتنازل عن امتيازاتها، وأن تضافر هذه الأزمة العضوية، بالمعنى الغرامشي للكلمة، مع الانتقال الإيكولوجي يجعل كل محاولة لتعديل مسار التراكم الرأسمالي مستحيلا، فإنه لا يبقى سوى البحث عن مخرج من الرأسمالية.
هذا المخرج يحمل اسمًا هو الشيوعية، التي تُطرح بديلا عن اقتصاد يقوم على نظرية “التنمية أو الموت”. ولكن كيف للشيوعية أن تعود في مرحلة اتسمت بهيمنة رأسمالية مطلقة، في مقابل انهزام قوى النضال الاجتماعي وغياب أي مشروع بديل مشترك يحظى بالأغلبية؟
قد يبدو الأمر غريبا أن تُطرح الشيوعية كأفق يمكن أن يحل مشاكل الإنسان في هذا العصر، نظرا لاقترانها بمشروع سياسي راديكالي مظلم، واقتران الستالينية منذ سبعينات القرن الماضي بشيوعية توتاليتارية قاتلة؛ فبعد “ماضي وهم” لفرنسوا فوري، و”كتاب الشيوعية الأسود” لستيفان كورتوا، بدا أن مرحلة استعمال الكلمة إيجابيا أغلِقت نهائيا، ليحل محلها جانبها الإجرامي في حق الإنسان والإنسانية، ولم يعد الجدل يحوم سوى حول عدد ملايين الموتى الذين راحوا ضحيتها.
المسألة الشيوعية لم تختف تماما، إذ ظلّت تستعمل في بعض المنظمات والأحزاب برغم ضعفها وهامشيتها، وظلت كذلك موضوع أعمال نظرية نقدية وخاصة فلسفية، تحاول إعادة استكشاف المصطلح وتحديد “خصوبته” وفق مقاربات مستحدثة، تحلّل أسس هذا المصطلح الذي جمع بين تاريخ طويل وظرف حديث: إذ ساهم سقوط جدار برلين وزوال الكتلة السوفييتية منذ نهاية الثمانينات في تحريره، وإن قليلا، من تهمة التوتاليتارية، مثلما ساهم في دفن فكرة بديلٍ قابل للاستمرار في الوقت نفسه.
الفضاء الديمقراطي الذي كان يتم التفاوض داخله حول تعديلات في سير الرأسمالية لم يعد قائما، ولا بديل غير تفاقم الأوضاع أو قلب المنظومة بتمامها وكمالها
تهيئة سياسية للمرور إلى الشيوعية كتجاوز للرأسمالية أو إلغائها، بل تقديم الشيوعية على نحو يجمع بين إرادة التغيير وممارسة الاحتجاج والنقد الراديكالي والتنظير الأكاديمي.
نفهم عودة المسألة الشيوعية في فرنسا، والأصداء التي تلقاها كتب مفكرين أمثال ألان باديو وأنطونيو نيغري وجان لوك نانسي وجاك رانسيير إلى جانب كتاب ماركسيين لم ينكروا انتماءهم إلى الشيوعية أمثال لوسيان سِيف وأندري توزيل وجاك بيدي ودانيال بنسعيد.
إن ما يلفت الانتباه أن أغلب المقاربات الشيوعية ما بعد الماركسية تجري في الحقل الفلسفي، في محاولة لتحديد المفهوم دون أن تكون متصلة بالمسألة الاجتماعية التي هي المجال التقليدي للتأمل النظري حول التغيير السياسي والاجتماعي. ولكن أصحابها يختلفون في تناول المسائل الأساسية للاشتراكية والشيوعية، إذ أن كل واحد يركز على هذا البعد أو ذاك من البديل المقترح، فباديو يركز على الدولة والحزب، وإرنستو لاكلو يقدم إستراتيجيات الاستيلاء على السلطة، وأنطونيو نيغري يسبّق العمل والملكية شأن منظّري الشائع المشترك.
البحث عن بديل، على المستوى الاجتماعي والسياسي، لا يمكن أن يتحقق في ظل الهزائم المتتالية للحركات العمالية أمام الرأسمالية في وجهها النيوليبرالي الذي لم يعد يراكم مساوئه بل بات يسبب كوارث لا حصر لها، تثير الغضب والتمرّد والاحتجاج الاجتماعي دون أن يلوح في الأفق تحول راديكالي في نمط الإنتاج برمته، رغم أنها مسألة ملحّة، وهو ما يفسّر انتقال ذلك الاحتجاج إلى الحقل الفلسفي والنظري كوسيلة لمناهضة الأيديولوجيا النيوليبرالية، على رأي الداعين إلى ضرورة العودة إلى الشيوعية ولو من زاوية أخرى.
من بين أولئك المقتنعين بأن الشيوعية هي البديل برنارد فريو، عالم الاجتماع والاقتصاد المتخصص في الضمان الاجتماعي. ففي كتابه “رغبة في الشيوعية” أبرز خصوصية محددة في هذا النوع من الحماية الاجتماعية التي كانت تدار حتى عام 1967 من قبل العمال، وتقدم خدمات وتعويضات خارجة عن المنطق الرأسمالي، حيث صار الضمان الاجتماعي والوظيفة العامة أشبه بجزيرتين مستقلتين داخل المنظومة الرأسمالية.
اقترح فريو توسيع ما هو كائن إلى نوع من الأجر الدائم مدى الحياة، أجر يعترف بأن كلّ إنسانٍ راشدٍ عاملٌ، ويُسند إليه حسب شبكة تتراوح بين ألف وسبعمئة وخمسين وخمسة آلاف يورو حسب المؤهلات والخبرات المكتسبة. هذا الأجر في رأيه يكسر أحد أعمدة الرأسمالية، أي سوق الشغل التي تُعدّ رافعة لاستغلال اليد العاملة بالمعنى الذي ذهب إليه كارل ماركس. فإذا ما تمّ ذلك، أصبح تغيير شكل الملكية لا مفرّ منه. وفريو يقترح ملكية استعمال، متحررة من ضرورة الربح ومن إمبريالية السوق، وبذلك ترتسم ملامح مجتمع جديد ينبني حول قرارات مشتركة ذاتية التنظيم.
والكاتب لا يتهرب من مصطلح الشيوعية بالمعنى الذي عرفه الناس من خلال التجربة السوفييتية، بل يسعى إلى إعادة معناه الأول الذي حدّده ماركس وإنجلز في “الأيديولوجيا الألمانية” حيث كتبا “ليست الشيوعية بالنسبة إلينا وضعًا ينبغي بناؤه، ومثلا أعلى ينبغي أن ينحو الواقعُ تُجاهَه. نعني بالشيوعية الحركة الواقعية التي تتجاوز الظروف الموجودة”. وهذا هو المسعى الذي يقول فريو إنه يسعى له، فغايته ليست بناء مثل أعلى مسبق، بل بناءٌ انطلاقا مما هو موجود في الشيوعية، ما سوف يجعل الرأسمالية لاغية في طورها النيوليبرالي المنتهي، أي أنه يدعو إلى بناء شيء جديد انطلاقا ممّا هو موجود، دون أن يغفل عن الظرف الحالي ووضع الإنسان فيه، بوصف الشيوعية تنبني في إطار هذه الجدلية.
كذلك المفكر وعالم الاقتصاد الفرنسي فريديريك لوردون، فهو أيضا يعتقد أن الشيوعية هي وحدها التي يمكن أن تنقذ العالم وتقضي على كل أشكال التفاوت، أو تحدّ منه على الأقلّ. وفي رأيه أننا لن نستطيع إنقاذ الأرض ومن عليها إذا تواصل هذا النظام الرأسمالي، ومن ثَمّ لا بدّ من العمل على ترغيب الناس في الشيوعية، هذه المنظومة التي ما عاد أحد يؤمن بها منذ الفشل الذريع الذي مني به النظام السوفييتي، بالعودة إلى كارل ماركس.
ولوردون ينهل كثيرا من أفكار فريو، لاسيما مقترحه حول “الأجر الدائم مدى الحياة” وإن أطلق عليه اسم “ضمان اقتصادي عامّ” لا يُمنح حسب الوظيفة بل حسب الكفاءة، لتحرير العمال من سوق الشغل وتغيير نمط إنتاجهم بشكل جذري. وفي رأيه أن الشيوعية ينبغي أن تترك مجالا للسوق بخصوص بعض البضائع وما يسمّيه “المقترحات الخاصة” ولكن مع جعلها محلّ تخطيط متجدد، فالخروج من منطق السوق في رأيه يفترض بالضرورة أن تنهض الدولة بتوجيه الإنتاج، وتنشئ تخطيطا اقتصاديا يتركّز على أشياء ضرورية وذات قيمة، بدل الإفراط في استهلاك بضائع تافهة.
أي أنه يدعو إلى تحديد مشترك للإنتاج والحرص على الالتزام بحدود كمية ونوعية للمواد المنتجة بما يتيح المحافظة على البيئة وضمان مستوى عيش يقبله الجميع. ولتحقيق هذا النظام السياسي الاقتصادي ينبغي أن ينظر إلى التنظيم الجديد بعين رضا مشتركة. فالغاية المنشودة لديه هي أن يفعل الناس ما يرغبون فيه، ولكن بإتقان، وللصّالح العام، دون الارتهان للعمل المفروض.
“أعتقد أن النيوليبرالية، المعولمة، تجرنا إلى قاع بئر التاريخ، أو إلى زقاق لا منفذ منه ولا نجاة، على كل المستويات الإيكولوجية والاجتماعية والديمقراطية. من المفيد، والعاجل ربما، أن نطرح فكرة الشيوعية في معناها الأوسع، الذي يعني التشارك والشياع، وليس بمعنى ‘نسخ لصق’ لما سبق، كما كان الشأن في الاتحاد السوفييتي والبلدان التابعة له”. ويضيف “في رأيي، ينبغي العودة إلى المصطلح الذي سبق ماركس وخاصة لينين، بالتذكير بإسهامات البناة الأوائل أمثال شارل فوريي وبيير جوزيف برودون وغراكوس بابوف وأوغست بلانكي، وكذلك العناصر الإيجابية في التيارات التاريخية الأخرى من اليسار والأناركية والاشتراكية التي وصفت بالحركات الإصلاحية”.
بقي أن نقول إن معظم المنظرين في هذا الباب شيوعيون، وقد دأبوا دائما على تبني الفكرة القائلة بأن ثمة فرقا بين الشيوعية كما تصورها ماركس والشيوعية كما طبقها لينين وستالين، وأن العودة إلى الأصل، النظري، ستكون في شكل طريقة جديدة لمقاربة الأزمنة الكارثية التي تلوح في الأفق، وننسى كلّ ما سُجّل من مآخذ على البيان الشيوعي نفسه.
لو فرضنا أن الفكرة صائبة وجديرة بأن تكون سلاحا في وجه الرأسمالية فمن سيحوّلها من الطور النظري إلى الطور التطبيقي والحال أن أحزاب اليسار كلها في تراجع مطّرد أمام المدّ الشعبويّ؟ ثمّ أي رأسمالية تواجه هذه الشيوعية والرأسماليات أنواع، تختلف من بلد إلى آخر، فسنغافورة لا تشبه الرأسماليات الغربية أو اليابانية، ورأسمالية الصين التي تخضع للتخطيط والتوجيه لا تشبه أيّا منها؟
لقد أثبت التاريخ أن كل الأيديولوجيات تبدأ جميلة على الورق، تَعِد الناس بالرفاه والحياة الكريمة والخير العميم، ثم تتكشف عن وجهها البشع، فتسحق الفرد سحق التراب تحت الأقدام، وتصادر حتى تفكيره لأنها تفكّر بدلا عنه، فيغدو كل راغب في الخروج منها منفلتا من العقال، يهدد السلطة القائمة، يحق نفيه أو سجنه وتعذيبه وقتله، لأن الأيديولوجيا منسجمة مع نفسها، ولكنها تختلف عن الواقع.
يقول ليفي ستروس “لا شيء يشبه الفكر الأسطوري سوى الأيديولوجيا السياسية”.
*
فقد أصر ماركس -يضيف الكاتب- على أن عقائده كانت "حقائق علمية" وليست آراء سياسية، ومع ذلك تجلى بوضوح أن كل تنبؤ قام به كان خاطئا.
فمثلا لم يقم نظام السوق بتدمير البرجوازية كما قال بل وسّعها، ولم يركز الثروة في أيدي أقلية "أوليغارشية" حاكمة بل زادها على مختلف أصعد المجتمع، ولم يستنفد الموارد بل استمر في اكتشاف المزيد منها، كما أنه -وهو الأمر الأكثر وضوحا- لم ينهر تحت وطأة تناقضاته الداخلية.
جيل مجموعة جديدة من "المؤمنين" بالشيوعية للتأكيد على أن الأمر سيكون مختلفا هذه المرة وأن نبوءة ماركس ستتحقق أخيرا.
الماركسيين يغيرون باستمرار تاريخ "يوم القيامة" الخاص بهم مع استمرار الفشل في تحققه، ثم تتغير الأديان والمعتقدات مرة أخرى وتتلون، وتولد أحيانا بدع جديدة تحل محلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق