كيف يحتلنا النص؟ ليون برخو
قد يتصور بعضنا أننا سادة ما نقرأ من نصوص، وقد ينطلق بعضنا في موقف مثل هذا من تصور مفاده أننا نختار النص، وبإرادتنا نفتح أعيننا عليه أو نسدها، أو نفتح آذاننا لسماعه أو نصمها لإسكاته.
والنص (Text) ليس سهل التعريف. ونفشل في سبر أغواره لو استندنا إلى تعريفات معجمية.
ضمن علوم تحليل الخطاب، النص يشمل كل ما نستطيع قراءته، ليس بمفهوم الأبجدية فحسب، بل بمفهوم أي شيء في استطاعته التواصل معنا وباستطاعتنا إضفاء معنى عليه.
والنص (Text) ليس سهل التعريف. ونفشل في سبر أغواره لو استندنا إلى تعريفات معجمية.
ضمن علوم تحليل الخطاب، النص يشمل كل ما نستطيع قراءته، ليس بمفهوم الأبجدية فحسب، بل بمفهوم أي شيء في استطاعته التواصل معنا وباستطاعتنا إضفاء معنى عليه.
ومن هذا المنطلق، يتضمن النص المادة المقروءة والمسموعة والمرئية. وما نقرؤه ونسمعه ونراه لا ينحصر في المادة المكتوبة. من خلال حواسنا، نقرأ كل ما تقع عليه أعيننا، وكل ما تسمعه آذاننا، وكل ما نحس به في محيطنا.
وإذ تبقى النصوص على حالها –منها لفترات طويلة من الزمن مثل اللقى الأثرية، ومنها لفترات محدودة كالمعارض الفنية والكوارث البشرية وما نشيده وما نلبسه، ومنها ما نراه مقدسا أزليا لا زمن له– تتبدل قراءتنا تبديلا باختلاف الزمان والمكان والثقافة.
والقول إن النصوص لها تأثير ضمن فترات محددة لا يعني موتها أبدا. فالنصوص لا تموت. قد تبقى في حالة سبات، إلا أنها حية تنتظر فرصتها لتفرض نفسها علينا.ويخطئ من يتصور أنه أقوى من النص، أو في إمكانه احتلال النص. ويخطئ من يقول إنه لا يعترف بأي نص، أو إنه حر ويعمل خارج إطار النص.
وإذ تبقى النصوص على حالها –منها لفترات طويلة من الزمن مثل اللقى الأثرية، ومنها لفترات محدودة كالمعارض الفنية والكوارث البشرية وما نشيده وما نلبسه، ومنها ما نراه مقدسا أزليا لا زمن له– تتبدل قراءتنا تبديلا باختلاف الزمان والمكان والثقافة.
والقول إن النصوص لها تأثير ضمن فترات محددة لا يعني موتها أبدا. فالنصوص لا تموت. قد تبقى في حالة سبات، إلا أنها حية تنتظر فرصتها لتفرض نفسها علينا.ويخطئ من يتصور أنه أقوى من النص، أو في إمكانه احتلال النص. ويخطئ من يقول إنه لا يعترف بأي نص، أو إنه حر ويعمل خارج إطار النص.
حتى الذي يقول إنه لا يتبع أي دين (لا ديني) ولا يعترف بأي نصوص يراها أصحابها سماوية المنشأ، يخطئ عندما يقول إنه لا يقع تحت تأثير أي نص.
عندما نحلل تأثير النصوص في الناس والمجتمعات، نأخذ في الحسبان غيابها. عدم توافر النصوص، أي القول إننا لا نصوص لنا، قد يكون وقعها علينا أكثر من وجودها.
عندما نحلل تأثير النصوص في الناس والمجتمعات، نأخذ في الحسبان غيابها. عدم توافر النصوص، أي القول إننا لا نصوص لنا، قد يكون وقعها علينا أكثر من وجودها.
يقول الفيلسوف الروسي ميخائيل باختين، الذي أمضى حياته وهو ينظر ويفسر لنا ديناميكية النصوص: إن النص حتى ولو على مستوى كلمة واحدة له من الحيوية ما لنص بألف كلمة.
نحن المتلقون والنص هو المرسل. ونحن نذهب إليه، وهو ينتظرنا دائما، ومنه نستقي ما يوائم ميولنا. وميولنا "زمكانية"، بمعنى أن الناس تتغير من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان. ومن خلال رحلتها "الزمكانية" تلتجئ إلى النص، الذي هو حاضر دائما لملاءمة الوضع أو الواقع الاجتماعي أو الثقافي الجديد.
حضرتني هذه الأفكار وأنا أضع لمسات على بحث جديد حول الصراع والتطاحن والتلاسن الطائفي السائد في الشرق الأوسط، وكيف أن كل طائفة فيه تستحضر نصوصها لتبرئة نفسها.
وما صعقني كان أن الطوائف قد تستند إلى ذات النص لمواجهة الآخر المختلف، عندها تذكرت أن النص هو الذي يحتلنا؛ ونحن الذين نقع تحت رحمته وسطوته. وهو ثابت لا يتبدل ونحن المتقلبون
نحن المتلقون والنص هو المرسل. ونحن نذهب إليه، وهو ينتظرنا دائما، ومنه نستقي ما يوائم ميولنا. وميولنا "زمكانية"، بمعنى أن الناس تتغير من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان. ومن خلال رحلتها "الزمكانية" تلتجئ إلى النص، الذي هو حاضر دائما لملاءمة الوضع أو الواقع الاجتماعي أو الثقافي الجديد.
حضرتني هذه الأفكار وأنا أضع لمسات على بحث جديد حول الصراع والتطاحن والتلاسن الطائفي السائد في الشرق الأوسط، وكيف أن كل طائفة فيه تستحضر نصوصها لتبرئة نفسها.
وما صعقني كان أن الطوائف قد تستند إلى ذات النص لمواجهة الآخر المختلف، عندها تذكرت أن النص هو الذي يحتلنا؛ ونحن الذين نقع تحت رحمته وسطوته. وهو ثابت لا يتبدل ونحن المتقلبون
|
الشركات الخوارزمية واحتكار الإعلان
سبتمبر 2019
قد لا يخطر ببالنا لماذا تتعارك الشركات الخوارزمية العملاقة على كسب العملاء والمستخدمين، ولماذا تجبرنا على التسجيل فيها رسميا قبل الاستفادة من خدماتها المجانية؟
وقد لا نعلم كيف تعيش هذه الشركات وتراكم الثروة وتصل قيمتها السوقية مبالغ خيالية وهي تقدم أغلبية خدماتها مجانا؟
والحديث عن أي عملاق خوارزمي لن يكون نافعا وسيجانب الواقع الافتراضي الذي نعيشه إن تجاوز "جوجل" و"فيسبوك".
والعملاقان أشهر من نار على علم. وإن أخذنا سطوتهما وتأثيرهما على مستوى العالم في عين الاعتبار، فإننا نكون أمام إمبراطوريتين لم يشهد العالم مثيلا لوجودهما الواقعي الافتراضي من حيث مساحة الأرض التي يعملان فيها وبحرية تكاد تكون شبه مطلقة.
وباستثناء الصين وفي حدود ضيقة، ربما ليس بمقدور أي بلد في الدنيا العيش ولو لساعات محدودة دونهما.
ومن حيث عدد الأتباع أو "الرعايا" فإننا نكون أمام ظاهرة لا سابق لها في التاريخ حيث إن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية سجلوا أسماءهم طوعيا في سجلات "النفوس" التابعة لهما.
وقد لا نعلم كيف تعيش هذه الشركات وتراكم الثروة وتصل قيمتها السوقية مبالغ خيالية وهي تقدم أغلبية خدماتها مجانا؟
والحديث عن أي عملاق خوارزمي لن يكون نافعا وسيجانب الواقع الافتراضي الذي نعيشه إن تجاوز "جوجل" و"فيسبوك".
والعملاقان أشهر من نار على علم. وإن أخذنا سطوتهما وتأثيرهما على مستوى العالم في عين الاعتبار، فإننا نكون أمام إمبراطوريتين لم يشهد العالم مثيلا لوجودهما الواقعي الافتراضي من حيث مساحة الأرض التي يعملان فيها وبحرية تكاد تكون شبه مطلقة.
وباستثناء الصين وفي حدود ضيقة، ربما ليس بمقدور أي بلد في الدنيا العيش ولو لساعات محدودة دونهما.
ومن حيث عدد الأتباع أو "الرعايا" فإننا نكون أمام ظاهرة لا سابق لها في التاريخ حيث إن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية سجلوا أسماءهم طوعيا في سجلات "النفوس" التابعة لهما.
والعملاقان في طريقهما إلى الاستحواذ على درة كانت إلى ما قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن مثل الدجاجة التي تبيض ذهبا بالنسبة للصحافة.
والدرة هذه هي الإعلانات التي وصلت قيمتها في العام الماضي على مستوى العالم إلى أكثر من 1.2 تريليون دولار، نحو 250 مليار دولار منها أمريكية المنشأ.
وقبل بزوغ الثورة الخوارزمية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كانت الصحافة الورقية والقنوات التلفزيونية والإذاعات تستحوذ على حصة الأسد من ريع الإعلان. وفي الحقيقة، كانت الصحافة تعيش في بحبوحة المال الذي يردها من الإعلان.
اليوم يستحوذ هذان العملاقان وحدهما على 60 في المائة من ريع الإعلان في الولايات المتحدة. وسيشهد هذا العام تفوق النفقات التي يصرفها المعلنون خوارزميا على مثيلاتها في الوسائل التقليدية الأخرى لأول مرة في الولايات المتحدة، حيث ستصل إلى نحو 54 في المائة (نحو 129 مليار دولار) من مجموع النفقات.
والدرة هذه هي الإعلانات التي وصلت قيمتها في العام الماضي على مستوى العالم إلى أكثر من 1.2 تريليون دولار، نحو 250 مليار دولار منها أمريكية المنشأ.
وقبل بزوغ الثورة الخوارزمية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كانت الصحافة الورقية والقنوات التلفزيونية والإذاعات تستحوذ على حصة الأسد من ريع الإعلان. وفي الحقيقة، كانت الصحافة تعيش في بحبوحة المال الذي يردها من الإعلان.
اليوم يستحوذ هذان العملاقان وحدهما على 60 في المائة من ريع الإعلان في الولايات المتحدة. وسيشهد هذا العام تفوق النفقات التي يصرفها المعلنون خوارزميا على مثيلاتها في الوسائل التقليدية الأخرى لأول مرة في الولايات المتحدة، حيث ستصل إلى نحو 54 في المائة (نحو 129 مليار دولار) من مجموع النفقات.
الأموال الطائلة هذه يتم تفريغها من جيوب وسائل الإعلام التقليدية من صحافة وتلفزيون وإذاعة كي تنساب إلى خزائن الشركات الخوارزمية العملاقة ولا سيما "جوجل" و"فيسبوك".
مقابل الزيادة المطردة في نسبة التحصيل من الإعلانات للوسائل الخوارزمية، سيكون هناك انخفاض وانكماش ملحوظ في واردات الإعلان بالنسبة للوسائل التقليدية.
وتعد الصحافة الورقية "الصحف والمجلات" من أكثر الضحايا تأثرا، حيث يتوقع انخفاض وارداتها، التي هي في الأساس شحيحة، بنسبة تصل إلى 18 في المائة هذا العام عن العام الفائت.
ويتساءل المراقبون اليوم كيف لشركتين فحسب أن تمتلكا كل هذا التأثير والسطوة والمال، ومن ثم كيف لهما السيطرة على أسواق الإعلان والبيانات والمعلومات؟
في السابق، وفي الولايات المتحدة، كانت الجهات التشريعية الفيدرالية تفتت هكذا شركات تطبيقا لتشريعات مكافحة الاحتكار.
ولم تحرك السلطات الفيدرالية ساكنا للحد من سطوة العملاقين، ولكن تم أخيرا تحريك دعوى ضدهما من قبل مدعين عامين وليس السلطات الفيدرالية، رغم أنه صار من الصعوبة بمكان احتواؤهما.
مقابل الزيادة المطردة في نسبة التحصيل من الإعلانات للوسائل الخوارزمية، سيكون هناك انخفاض وانكماش ملحوظ في واردات الإعلان بالنسبة للوسائل التقليدية.
وتعد الصحافة الورقية "الصحف والمجلات" من أكثر الضحايا تأثرا، حيث يتوقع انخفاض وارداتها، التي هي في الأساس شحيحة، بنسبة تصل إلى 18 في المائة هذا العام عن العام الفائت.
ويتساءل المراقبون اليوم كيف لشركتين فحسب أن تمتلكا كل هذا التأثير والسطوة والمال، ومن ثم كيف لهما السيطرة على أسواق الإعلان والبيانات والمعلومات؟
في السابق، وفي الولايات المتحدة، كانت الجهات التشريعية الفيدرالية تفتت هكذا شركات تطبيقا لتشريعات مكافحة الاحتكار.
ولم تحرك السلطات الفيدرالية ساكنا للحد من سطوة العملاقين، ولكن تم أخيرا تحريك دعوى ضدهما من قبل مدعين عامين وليس السلطات الفيدرالية، رغم أنه صار من الصعوبة بمكان احتواؤهما.
ففي غضون عقدين ونيف من الزمن، تمكن هذان العملاقان ليس فقط من تكديس الثروة على حساب الإعلام التقليدي بل تقديم نفسيهما كمزودين رئيسين للأخبار.
وإن كانت عامة الناس لا تكترث كثيرا لمصداقية المعلومات التي تصل إليهم وطريقة جمعها وتبويبها وتقديمها حتى كتابتها، فإن الأخبار التي تقدمها هاتان الشركتان صارت تقلق دولا كبرى ومنها أمريكا ذاتها.
وإن كانت عامة الناس لا تكترث كثيرا لمصداقية المعلومات التي تصل إليهم وطريقة جمعها وتبويبها وتقديمها حتى كتابتها، فإن الأخبار التي تقدمها هاتان الشركتان صارت تقلق دولا كبرى ومنها أمريكا ذاتها.
ويعد احتكار انسياب المعلومات القلب النابض لهاتين الشركتين لأنه الوسيلة المتاحة لهما لاحتكار ريع الإعلان ليس في الولايات المتحدة فحسب بل في كثير من بقاع الدنيا.
من النادر أن يدخل إعلان إلى الفضاء الخوارزمي اليوم دون علم "جوجل" أو "فيسبوك". لقد وضع هذان العملاقان عقليهما الخوارزميين لتقديم وتصميم الإعلانات حسب الطلب والجغرافيا والثقافة والتقاليد والسلوك الاستهلاكي الخاص بالمتلقي.
والشركات التي تبيع الإعلانات لم يعد في إمكانها تجاوز العملاقين، اللذين وحدهما يسيطران على أكثر من نصف ريع الإعلانات في العالم.
وصرنا نشاهد احتضار الصحف والمجلات وبأعداد كبيرة بعد أن تمكن "جوجل" و"فيسبوك" تقريبا من تجفيف وارداتهما من الإعلان.
وتشير الإحصاءات إلى ضمور نحو ألفي صحيفة يومية في الولايات المتحدة منذ عام 2007. قبل نحو عقدين، كانت الولايات المتحدة تملك أكثر من ثلاثة آلاف صحيفة يومية.
ولم يرافق غياب هذا العدد الكبير من الصحف اليومية انخفاض في شهية الناس للأخبار. الناس تحب الأخبار وتبحث عنها.
ولكن مع الأسف، جرى احتكار انسياب الأخبار. فبدلا من أن تنساب الأخبار من آلاف المنصات المهنية التي يعمل فيها صحافيون متمرسون، صارت الأخبار بيد الثنائي الرقمي – "جوجل" و"فيسبوك". في نحو الـ15 عاما الماضية من عمر الثورة الرقمية الذي لا يتجاوز ثلاثة عقود، خسر أكثر من نصف الصحافيين الأمريكيين وظائفهم.
من النادر أن يدخل إعلان إلى الفضاء الخوارزمي اليوم دون علم "جوجل" أو "فيسبوك". لقد وضع هذان العملاقان عقليهما الخوارزميين لتقديم وتصميم الإعلانات حسب الطلب والجغرافيا والثقافة والتقاليد والسلوك الاستهلاكي الخاص بالمتلقي.
والشركات التي تبيع الإعلانات لم يعد في إمكانها تجاوز العملاقين، اللذين وحدهما يسيطران على أكثر من نصف ريع الإعلانات في العالم.
وصرنا نشاهد احتضار الصحف والمجلات وبأعداد كبيرة بعد أن تمكن "جوجل" و"فيسبوك" تقريبا من تجفيف وارداتهما من الإعلان.
وتشير الإحصاءات إلى ضمور نحو ألفي صحيفة يومية في الولايات المتحدة منذ عام 2007. قبل نحو عقدين، كانت الولايات المتحدة تملك أكثر من ثلاثة آلاف صحيفة يومية.
ولم يرافق غياب هذا العدد الكبير من الصحف اليومية انخفاض في شهية الناس للأخبار. الناس تحب الأخبار وتبحث عنها.
ولكن مع الأسف، جرى احتكار انسياب الأخبار. فبدلا من أن تنساب الأخبار من آلاف المنصات المهنية التي يعمل فيها صحافيون متمرسون، صارت الأخبار بيد الثنائي الرقمي – "جوجل" و"فيسبوك". في نحو الـ15 عاما الماضية من عمر الثورة الرقمية الذي لا يتجاوز ثلاثة عقود، خسر أكثر من نصف الصحافيين الأمريكيين وظائفهم.
*
هل فقدت البنوك المركزية دورها المركزي؟
|
يشهد عالم المال والاقتصاد تغيرات جوهرية، وما يطرأ من تطور على استخدام النقود وحفظها وإيداعها والتجارة بها من السرعة بمكان، حيث يصعب على أمهر الاختصاصيين التنبؤ بمساراتها.
النقود بدأت تختفي من التداول بشكلها الورقي أو المعدني في بعض الدول، ودخلنا عالم العملات الرقمية في غضون فترة قصيرة من الزمن.
حتى إن بعض الشركات العملاقة صارت تسك عملات رقمية خاصة بها، وأضحى العالم كأنه شبكة أخطبوطية متراصة تنتقل بواسطتها الأموال بالمليارات من مكان إلى آخر ومن يد إلى يد أخرى.
إزاء هذه التطورات المذهلة، هناك اليوم من يلوم البنوك المركزية في الغرب - وهي التي تمسك بزمام المال في يومنا هذا - أنها لم تتمكن من الخروج من إطار الإجراءات التقليدية التي يبدو أنها لم تعد نافعة في عالم اليوم.
لا يخفى أن هناك كثيرا من الباحثين والأكاديميين الذين يركزون على شؤون المال ودور البنوك المركزية في مواجهة التحديات التي تواجه السياسات النقدية في عصرنا هذا.
وزاد الاهتمام الأكاديمي بالبنوك المركزية بعد الأزمة المالية التي كادت أن تؤدي إلى انهيار النظام المصرفي الغربي برمته في عام 2008.
تلك الأزمة كانت أزمة تداول وأزمة مال لأنه فجأة وجدت المصارف أنها على حافة الإفلاس، ووجدت البنوك المركزية أن الأطر التقليدية التي تتبعها في مسارات مثل مراقبة المصارف ونسب الفائدة والمديونية لم يعد في إمكانها مواجهة التحديات الجديدة.
والخشية من تكرار أزمة عام 2008 تحوم حول أي اجتماع للبنوك المركزية في الغرب.
ونلاحظ اليوم بوادر حرب تجارية طاحنة ليست بين أمريكا والصين فحسب، بل بين أمريكا وكثير من الدول. وصارت كل دولة أو مجموعة اقتصادية تفكر ضمن نطاق حدودها للحفاظ على نظامها المالي من أي هزة اقتصادية.
وبدلا من مواجهة التحديات المالية والنقدية بصورة جماعية، نلاحظ أن البنوك المركزية، شأنها شأن الدول الصناعية الكبيرة، تعتمد سياسات العزلة، والأنكى أنها تبدو مقتنعة وراضية بمواقفها رغم خطورتها.
لا يجوز الركون إلى إجراءات البنوك المركزية رغم أنها حتى الآن استطاعت تطويع التضخم وتحقيق توازن في الميزانيات العمومية.
إحكام السيطرة على التضخم قد لا يكون نافعا دائما ومن ثم علينا الاعتراف بأن البنوك المركزية بدأت تفقد سيطرتها في هذا المضمار.
ها هي اليابان التي تقول إنها أخفقت في رفع نسبة التضخم رغم المحاولات الحثيثة لبنكها المركزي. في السابق كان في إمكان البنوك المركزية من خلال سياسات نقدية ومالية واضحة رفع أو خفض نسبة التضخم.
علينا الاعتراف بأنه لم يعد في إمكان البنوك المركزية السيطرة على نسب التضخم من خلال السياسات النقدية والمالية التقليدية.
ويبدو أن الخشية من أزمة مالية جديدة لها مبرراتها. لا شك أن أوروبا واليابان صارا على حافة ما يمكن أن نطلق عليه المرحلة النقدية الحرجة حيث يعانيان أزمة السيولة ولم تعد أمامهما إلا فسحة صغيرة جدا لتوسيع سياساتهما النقدية.
وحسب التقارير في الصحافة العالمية فإن الولايات المتحدة تبدو قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في الفخ ذاته، لأنه تقريبا لم يعد في إمكان البنك الفيدرالي الأمريكي خفض نسب الفائدة بمعدلات ذات فعالية عند مواجهة مرحلة كساد أخرى، يبدو أنها على الأبواب، رغم الضغط الهائل الذي تمارسه عليه السلطة السياسية.
نسبة الفائدة في الولايات المتحدة في الأعوام العشرة الماضية كانت وما زالت ضمن نطاق 1.5 في المائة، وهذا معناه أن نطاق المناورة لتخفيف القيود على الائتمان لتحقيق تحفيز اقتصادي إضافي محدود. ومن ثم، فإن تجربة الأعوام الماضية أثبتت أن استخدام نسبة الفائدة سلاحا لإعادة التوازن للاقتصاد قد لا يثمر.
لا يبدو أن تخفيض سعر الفائدة سيقود دائما إلى التحفيز وزيادة الإنفاق والاستثمار والتشغيل. ويظهر أن خفض سعر الفائدة إلى ما دون نسبة محددة قد يقود إلى تحديد الإنفاق بدلا من إطلاق العنان له.
في السابق كانت الدورة الاقتصادية تنتظر بفارغ الصبر أي قرار من البنوك المركزية يؤدي إلى خفض نسبة الفائدة لتحفيز الاقتصاد وزيادة السيولة.
وهكذا بدأنا نقرأ اليوم أن خفض سعر الفائدة قد يؤدي إلى نتائج عكسية. ولأن الدورة الاقتصادية صارت، حتى إن دور سعر الصرف في السياسات المالية لم تعد له الأهمية ذاتها كما في السابق.
ولهذا لم تكترث الأسواق كثيرا بمحاولات الصين خفض قيمة عملتها كإجراء احترازي ضد الحرب الاقتصادية التي تشنها عليها الولايات المتحدة. وكذلك، يشعر البنك الفيدرالي الأمريكي أن خفض سعر الفائدة إلى معدلات تحت ما هي عليه الآن قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
المسألة المهمة هي هل سيقاوم مسؤولو البنوك المركزية في الصين أو الولايات المتحدة أو غيرهما من الدول الصناعية الضغط السياسي والقواعد التقليدية، والعمل بما يمليه عليهم الواقع الاقتصادي الجديد؟
*
هل سنشهد نهاية الإنترنت كما نعرفها؟
|
كانت وربما لا تزال الشبكة الأخطبوطية، الترجمة العربية الدارجة للإنترنت، واحدا من أهم رموز وتطبيقات العولمة.
لا حاجة إلى الدخول في تفاصيل ما تقدمه هذه الشبكة من خدمات، وكيف أن غيابها ولو لفترة محددة، قد يتسبب في كوارث وتبعات لا يعرف مداها إلا الله.
وربما لا سطوة مثل سطوة الإنترنت في عالم اليوم. وكما أوردنا في هذا العمود، فإن الدولة أو المجتمع الذي يهيمن على الثورة الخوارزمية، يهيمن على العالم.
ولأن الإنترنت تشكل أساس الثورة الخوارزمية، فإن كثيرا من الدول صارت تفكر مليا في تأسيس بنى تحتية تقنية ورقمية تمنحها قدرا من الاستقلالية في إدارة شؤونها الخوارزمية.
وتمسك الشركات الخوارزمية العملاقة بزمام الأمور، ليس فقط الزبائن الذين قد يعدون بمئات الملايين أو أكثر من مليار كما هو حال "فيسبوك"، بل حتى الدول والشركات الكبيرة تقع تحت سيطرتها؛ وما يحدث لشركة هواوي الصينية خير مثال.
وتنتفض الدول والحكومات التي تترعرع هذه الشركات في كنفها، مثل الولايات المتحدة، حالما ترى أن هناك شركات أو خططا لدى الآخرين للنيل من سطوتها الخوارزمية.
وإن سارت خطة الذكاء الاصطناعي 2030 الصينية حسب معديها، فإن العالم سينقسم إلى قسمين من حيث الإنترنت؛ القسم الأول يكون تحت الهيمنة الغربية "الأمريكية"، والقسم الآخر تحت الهيمنة الصينية.
ولا أظن أنه كانت هناك في التاريخ هيمنة شاملة على الآخر "دولة أو مجتمع" كالتي تفرضها حاليا الهيمنة الخوارزمية التي تفوق في تأثيرها أي احتلال عسكري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق