الثلاثاء، 22 يونيو 2021

الفكر العربي هل يراوح مكانه أم يتقدم؟**

Feb 11, 2020

الكاتبة الجزائرية غزلان هاشمي “قراءة في تحيّزات الخطاب في الفكر العربي المعاصر”
: كيف يتم تصوير الحقائق وإدراكها؟ ما هي نتائج النظرة الأحادية للأمور؟ كيف نقضي على الجاهزية والصفة التبجيلية والتقديسية لمتصورات الذات؟ وتسعى لمقاربة تلك التساؤلات عبر أربعة مباحث ضمّت: الإطار المفاهيمي لإشكالية التحيز، والسياقات العامة للبحث في إشكالية التحيز، وعرض بعض المقاربات العربية التي بحثت في إشكالية التحيّز، ثم التأكيد على أهمية الحوار كصيغة تعايش في المبحث الأخير.

كيف قاربت الكتابات الفكرية العربية إشكالية التحيّز ووضعية الذات في ظل مركزية غربية قارة ومُهيمنة، وهي في تلك الحالة المذكورة لا تسعى إلى النقد والتفكيك لتلك الأطروحات بقدر ما تتوافق معها وتتبنّى معظم مقولاتها.

مفهوم التحيز

غزلان هاشمي: أهمية الحوار في التخفف  من الرؤية الأحادية وتقبل الآخر
غزلان هاشمي: أهمية الحوار في التخفف  من الرؤية الأحادية وتقبل الآخر
توضح الكاتبة أن التحيّز يتأسس على مفهوم الانغلاق ومركزية الأنا وحضورها الدائم في كل الخطابات، فيتم تفسير كل الظواهر على اختلافها بالنظر إلى هذه الأنا، ويغيب خطاب الحقيقة ليُعوّض بخطابات تتوخى إقصاء غيرها ووسم أصحابها بكل سمات الانتقاص، وذلك في ضوء التنميطات الجاهزة والتهميش لكل مغاير، وهو ما يتم تحقيقه عبر عدد من الآليات مثل الإدراك الجزئي للظاهرة بواسطة تغييب الحقائق والتلاعب بها بما يناسب ميول الذات وأهوائها، والتعتيم أي إلغاء كل الصور الإيجابية عن الآخر من أجل بناء نسق معرفي منغلق عنه، وكذلك هدم مرتكزات القيميات المغايرة بخلق صور نمطية عن الذات والآخر.
من هذا المنظور، يتأسس التحيّز على مفهوم المركزية التي تعني احتفاء الذات باعتباراتها إلى حد التضخيم في مقابل تهميش المغاير، بالاعتماد على آليات خطابية محددة. ففي الغرب أتت كراهية العالم الغربي للآخر نتاج سنوات طويلة من سعي المؤسسات الرسمية السُلطوية إلى توجيه الرأي العام نحو ما يخدم مصالحها الخاصة، وبالتالي فهناك عدد من السياقات التي وجّهت وعي الباحثين نحو البحث عن الحقيقة في جوهرها لا في صياغات غربية متحيزة.

الوعي بالمشكلة

التحيّز يتأسس على مفهوم الانغلاق ومركزية الأنا
التحيّز يتأسس على مفهوم الانغلاق ومركزية الأنا
ترى الباحثة أن من أبرز السياقات التي شكّلت الوعي بأهمية نقض الصياغات الغربية المُتحيزة، مفهوم الحداثة الذي تأسس في العالم العربي على انسياق واضح وراء استعارات مفاهيمية غربية، فالحداثة كملمح عام في المجتمع العربي ككل لم يتحقق آنيا بينما ظهرت كتفكير وسلوك فردي عند أشخاص معينين وفي فترات مختلفة. وكذلك مفهوم ما بعد الحداثة الذي كان تفكيك المركزيات سمة أساسية به
وفي سياق ما بعد الحداثة، تأتي تفكيكية جاك دريدا الساعية إلى القضاء على التحيّزات الكامنة في الخطابات المُنطلِقة من مركزيات محددة، والتي ظهرت في شكل مُضمرات خطابية لغوية تهدف إلى إلغاء الاعتبارات المغايرة، فقد مهدت التفكيكية الطريق لتفكيك اللغة وفضح ممارساتها السلطوية، فبدأ اهتمام المفكرين العرب يتجه ناحية الخطابات الفلسفية الغربية والعربية لفضح الأنساق المضمرة وأيديولوجيا التحيز. ومن ثم قارب المفكرون العرب الخطابات الفكرية لكشف المسكوت عنه ومراجعة المفاهيم المتوارثة والخطابات الفلسفية والدينية والأدبية التراثية
استعرضت الباحثة الجهود الفكرية لستة مفكرين هم أنور عبدالملك، إدوارد سعيد، حسن حنفي، عبدالله إبراهيم، عبدالوهاب المسيري، طه عبدالرحمن، في بحث التحيزات الأيديولوجية في الخطاب. لكنها لم تُبيّن أسباب اختيارها لهذه الأسماء دون سواها. فكانت البداية مع المفكر المصري أنور عبدالملك الذي أشارت إلى أنه كشف عن خطاب الاستشراق الهادف إلى تشويه صورة العرب والمسلمين وخلق مركزية حضورية متعالية، فنشر مقالا بالفرنسية عام 1963 بعنوان “الاستشراق في أزمة”، وكان ذلك من بدايات نقد الاستشراق حتى قبل كتاب إدوارد سعيد عام 1978، ثم مثّلت كتاباته تأكيدا على رفض المركزية الأحادية والبحث عن التعدد والحوار لا الصدام.
أما بالنسبة إلى إدوارد سعيد فقد تحدث عن تدخل المرجعية الاستعمارية في تحويل الشرق إلى صنعة لغوية غربية في خطاب الاستشراق، فغيبت المعرفة الحقيقية في محاولة لتوجيه الوعي نحو تقبل الصورة النمطية التي أنتجها الغرب، فيحذر سعيد من أن يتمثّل الشرق بالاعتبارات المُستبطنة في الخطابات الاستشراقية، وفي السياق الناقد لمكامن الصورة المُتحيزة صنيعة الغرب تأتي جهود المُفكر المصري حسن حنفي الذي أسس علم الاستغراب بغية الانتقال من العلاقة التراتبية بين الأنا والآخر بما تحمله من التباسات أيديولوجية وتمايز بين صورة الأنا الغربية الموهومة بتضخماتها وصورة الآخر في هذه الأنا المتجهة نحو الانتقاص والتقزيم، سعيا للتعرف إلى كيفية تموضع الوعي الغربي في مركزية غير واضحة عبر التاريخ الحديث. وفي حديثها عن الناقد والمفكر العراقي عبدالله إبراهيم، أوضحت الباحثة أنه سعى إلى استجلاء التناقضات الكامنة في الثقافات المتمركزة والتعرف إلى مضمرات الخطاب وتهيئة هوية الاختلاف المركبة من عدة احتمالات والتي تحمل داخل اعتباراتها نقد الذات ونقد الآخر وبناء نفسها من جديد انطلاقا من النقد المزدوج.
مشروع عبدالله إبراهيم بنقد عدم قدرته تقديم حل لإشكالية التحيّز والمركزيات المنغلقة، بسبب قراءته للخطاب الفلسفي الغربي والمنجز العربي القديم بآليات مستعارة من الغرب تجسيدا لعقلية التطابق التي طالما نادى بضرورة التحرر منها، وكذلك ركزت فقط في مشروع حسن حنفي على إشكالية التطابق ذاتها لاسيّما في اختيار مصطلح الاستغراب الذي يشابه ويُطابق مفهوم الاستشراق.
كتابات المسيري جاءت في سياق البحث عن اعتبار قيمي مؤسس على القاعدة القرآنية، إذ حاول تحري ارتكازات المجتمع الغربي ومسببات تحييده للحس الخلقي، مجاوزا في ذلك النبرة الخطابية التي لا تركز على الأبعاد المعرفية أو التغيّرات الحاصلة في المجتمعات، فارتكز النقد الإسلامي للحداثة الذي قدّمه المسيري على فضح خطاباتها ومرجعياتها المبنية على أسس امبريالية كما طرح حلولا حول إمكانية إقامة مشروع حداثي إنساني عربي، وإقامة نسق فكري عربي إسلامي مؤسس على التجاوز والتعدد ومعول على الجانب الروحاني والديني والرباني في الإنسان وذلك نفيا للنموذج الغربي المادي الطبيعي الجسدي.
اختتمت الكاتبة الجزائرية مؤلفها بالتأكيد على أهمية الحوار في التخفف من الرؤية الأحادية وتقبل الآخر والنظر إليه كمكمّل للهوية والنظر إلى الاختلاف باعتباره مقوما من مقومات الهوية، وهو تأكيد بديهي رُبما لا يحتاج إلى تكرار، ولكن سُبل تحقيق ذلك هي المسألة الإشكالية التي تحتاج إلى توضيح للمسارات والإشكاليات المُعيقة لذلك وسُبل تجاوزها.
مقولة جورج طرابيشي في كتابه المُهم “من النهضة إلى الردة.. تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة”، “لا غنى اليوم عن الاستدارة نحو مراكز الحضارة الحديثة مثلما اتجه الإسلام الأول بصورة تلقائية نحو مراكزها القديمة في دمشق وأنطاكية والإسكندرية… هذا يحتاج إلى نظرية في الاتصال عجزت الثقافة العربية المعاصرة حتى اليوم عن صوغها… والخطير أن الأصولية والشريحة الامتثالية السائدة من الأنتلجنسيا العربية لا تقترحان سوى نظرية في الفصل. وهذا ما ينذر بعصر انحطاط عربي جديد ولكن مع فارق: فـ”المغول” آتون هذه المرة من داخل الحدود لا من خارجها”.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق