May 29, 2020
وزيادة التفاوت وتراكم الديون في الاقتصادات الكبرى. يعتبر وولف أنّ الرأسمالية تعرّضت لـ«التلاعب» على أيدي قوى الاحتكار الاقتصادية. يتساءل: «لماذا لا يحقّق الاقتصاد أيّ نتائج؟»، ويقدّم جواباً يكمن في جزء كبير منه في صعود الرأسمالية الريعية
يعني «الريع»، في هذه الحالة، المكاسب التي تزيد على المكاسب المطلوبة لتحفيز العرض المطلوب من السلع أو الخدمات أو الأرض أو العمالة. وتعني «الرأسمالية الريعية» اقتصاداً حيث سلطة السوق والسلطة السياسية تسمحان لأشخاص وشركات محظيّين بسحب جزء كبير من هذا الريع من الآخرين. ويُعتبر القطاع المالي جزءاً مهمّاً من هذا التطوّر الاحتكاري، حيث مكّنت «الأموَلة» القطاعات الاحتكارية من خلق أرباحها الخاصّة (ولو كانت غالباً وهمية) والتسبّب بأزمات مالية، ولكن هذه النظرية ترى أنّ العدو الحقيقي للرأسمالية الناجحة هو تراجع المنافسة
تحقيق الشركات العملاقة «أرباحاً احتكارية»، كشركات التكنولوجيا المعروفة اختصاراً بـ
FAANGS والمتمثّلة بفايسبوك وأمازون وآبل ونتفلكس وغوغل.
ولكن هل تصحّ هذه النظرية كسبب رئيسي لضعف النموّ الاقتصادي وازدياد التفاوت والأزمات المالية؟ هل الرأسمالية القائمة على الاحتكار هي السبب أم التناقض في الرأسمالية ككلّ؟
التناقضات في تراكم رأس المال
يبدو ضعف نموّ الإنتاجية مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بضعف الاستثمار، وهو ما ينعكس ضعفاً في الربحية وليس في الاحتكار. والتراجع الأكبر في نموّ الإنتاجيّة بدأ في الولايات المتّحدة بعد العام 2000، مع انخفاض الاستثمار في القطاعات والأنشطة الإنتاجية. في الواقع، إنّ الانخفاض في الربحية العامّة للرأسمال الأميركي هو الذي يحرّك الأمور وليس أي تغيير على مستوى احتكار القوّة السوقيّة
فالقوّة الاحتكارية هي التي تبقي نموّ الاستثمار منخفضاً
نظر ماركس حول الريع الآتي من الملكية الاحتكارية للأصول غير المُنتَجة الأراضي والمعادن وما إلى ذلك
فلا تثير أي اعتراض، بل تحظى بالمباركة والشرعنة، وذلك في ظل بنية مأزومة لا تعوزها الأعطاب والإخفاقات النفسية والاجتماعية، فالريع مسؤول وإلى حد كبير عن إفلاسنا السياسي وبؤسنا الاجتماعي وتخلفنا الاقتصادي.
بالعودة إلى مرادفات الريع، نجد الدخل والزيادة والنمو والخصب، وبالرجوع إلى السجل الاقتصادي الذي نشأ فيه المفهوم وتبلور مع آدم سميث وكارل ماركس، نلفي أنفسنا قبالة معانٍ مركبة تشير إلى حالة اقتصادية تتعطل فيه دورة الإنتاج، وتُفرغ فيها الممارسة الاقتصادية من بعدها الإنتاجي التراكمي، لتدل على "دخل من غير عمل أو مجهود"، أو على "اعتماد حصري على مورد واحد لتحصيل المنافع".
تتراكم الثروة خارج الدورة الطبيعية لوسائل الإنتاج
إن منح امتياز استيراد بعض السلع من الخارج، والدفع نحو احتكار تسويقها، كان ولا يزال، بيد السلطة، ذلك أن الاقتصاد الريعي لا ينمو في غفلة من أعين مالكي وسائل الإنتاج والإكراه، وإنما يكون من "إكرامياتهم" الممنوحة لمن ثبت أنه مُفيدٌ للنسق.
الدول التي تتأسس اقتصادياتها على الريع، باعتمادها على موارد مخصوصة، كالنفط والغاز الطبيعي، وعائدات العمال المهاجرين، وسياسات التضريب والمعونات الخارجية.
وهي موارد تتحصل منها الدولة على إيرادات وامتيازات، دون أن تسهم في تدويرها أو إثرائها اقتصادياً وإنتاجياً، مثلما هو قائم في بلدان الوفرة النفطية. ليتسرب الريع مرة أخرى من البنية الفوقية إلى الأخرى التحتية وبشكل عرضاني، منتجاً لثقافة غنائمية ريعية تتسم بالانتهازية المعيبة.
لا يقتصر الأمر عند دوائر النخب العالية، وإنما يشتغل في مستويات القاع الاجتماعي، ريعاً واستغلالاً من غير وجه حق، فالأب أو الأخ الذي يتكسب "أجرةً" يومية من عرق ابنته أو أخته، التي قد تبيع جسدها في سوق "النخاسة الجنسية"، هو من آل ثقافة الريع.
وهو ما ينطبق على "فتوة" الحارة الذي يستجمع الإتاوات من البسطاء والأغنياء، بدعوى القيام على حمايتهم، ودون أن يؤدي عملاً يستحق الأجر، هو أيضاً من الكائنات الريعية التي تستحلي "أكلَها باردةً" بلا موجب حق.
بل إن الدولة ذاتها التي تثقل كاهل مواطنيها بالضرائب، من غير أن تنعكس هذه المكوس والجبايات رخاءً اقتصادياً ورفاهاً مجتمعياً، هي ذاتها في صميم الريع.
إننا في النهاية أمام نظام لتوزيع الامتيازات والحرمانات، تبعاً لمسافتي القرب والولاء، وهو نظام مسنود بشواهد تاريخية تمتد إلى زمن الغنائم والخراج والجزية، لما كان السلطان وخلفاؤه وولاته يوزعون حاصلَ السبي والفتح والغزو على المقربين، تأكيداً لسلطة العطاء وتوكيداً لواجب الموالاة وتحذيراً، ضمناً، من مغبة المعارضة.
للريع بنية ثقافية حاضنة ومؤسسة تعود إلى الفتوحات والغزوات الإسلامية، وتحديداً إلى مسلك التمييز بين بلاد الإسلام في مقابل بلاد الكفر، وما ينتج عنه من تمايز بين المسلم والذمي (من أهل الذمة)، ينشرط أساساً بالأداء الذي يتخذ تسميات الخراج والجزية والعشر والمكس والواجب والهدية والفريضة.
إن شيوع الممارسات الريعية في السياق العربي، لا بد أن يجعل الاقتصاد دائراً في منظومة مغلقة، لا تتجاوز الاستثمار في الأرض واستخراج النفط وتدوير العقار والمضاربة المالية، دون "المغامرة" في أنشطة اقتصادية منتجة، تستثمر في البشر قبل الحجر، وتُنتج الثروة خارج الأطر التقليدية.
فنحن في النهاية أمام اقتصاد لا يُدمن المخاطرة والإبداع، ولا يتجاوز الحدود المرسومة، ولا يفكر فاعلُوه خارج نسق الغنائم والأعطيات، ما يقود إلى إنتاج عقليات ريعية تحتقر العمل وتمجد الكسل، وتبخس الكفاءة وتُعْلِي من شأن القنوات الاستزلامية، حيث العلاقات والأشخاص أهم من البنيات والمؤسسات، وحيث الوقائع والأشياء تبرر بالامتياز لا بالحق والاستحقاق
ففي البرلمان مثلاً يتضح مفهوم الريع بجلاء، وتحديداً في مستوى المعاشات غير المستحقة، والتي لا يخجل برلمانيو الدول العربية من المطالبة بتكريسها والزيادة فيها، فمعلوم أن المعاش يكون بعد سنوات من الخدمة الفعلية، والحال أن التمثيل النيابي في البرلمان ليس مهنة تستدعي معاشاً، وإنما هو تمثيل سياسي أو نقابي محدود في الزمان، لا تتوفر فيه شروط العمل المرتبطة بعقود والتزامات مهنية بين العامل ورب العمل، إلا أنه في الحالة العربية، وخلافاً لما هو معمول به في أعرق الديمقراطيات، يغدو "عملاً" يقتضي معاشاً سميناً، لا يمكن تفسيره إلا في مستوى "ريع سياسي" خالص.
فكيف نتصور برلماناً قوياً يعارض وينتصر لقضايا الشعوب، وهو غارق في الريع الذي تغدقه عليه السلطة الحاكمة وتكبله به؟
فالريع من أهم أدوات الهيمنة والإخضاع، التي تتوفر للحاكم، إذ يطوع بها المعارض ويستجلب بها الراغب في القرب، ويحافظ بها على الموالي والخاضع.
فالحاكم يصير بمثابة الواهب/المانح الذي يقطع الأراضي ويجود بالإكراميات ويتصدق بالدُّخُول والمعاشات من غير عمل، وبالطبع فمن يفيد من هذه الأعطيات لا يمكنه بالمرة أن يجهر باللاءات في مواجهة ما قد يصدر عن الواهب، ولو كان متعارضاً ضدياً مع المنطق والمصلحة العامة، فالريع يُخرس الألسنة ويُلهب الاحتفاء والمباركة والموالاة.
البنية الريعية لا تعتمد إلا على العلاقات الزبونية والقرابية لتحصيل منافع وبناء مكانات ووضعيات، بعيداً عن أي استحقاق مشروع. وهو ما ينعكس سلباً على المناخ الاقتصادي العام، ويمتد بتأثيراته إلى مختلف الأبنية المجتمعية، التي تغيب منها المبادرة والنزاهة والمسؤولية.
إن الرسالة التي يلتقطها الفاعل الاقتصادي من الثقافة الريعية تتلخص في أن النجاح متصل بالإمكان العلائقي لا غير، وأن القرب من دوائر السلطة، هو الكفيل بتحقيق الثروة، ولا سبيل لبلوغ ذلك سوى تقديم فروض الطاعة والولاء، بالانتماء إلى الحزب الحاكم، والدوران في فلك من تدور حوله الأفلاك.
ولهذا يُفهم كيف يزداد الإقبال على الأحزاب الخارجة من رحم السلطة، تماماً كما حدث مع حزبي مبارك وبنعلي ما قبل الربيع الأول.
فالقرب من موزعي الريع يُثمر مكاسب اقتصادية في صيغة إعفاء ضريبي أو إقراض مُجْزٍ أو حتى صفقات مربحة وامتيازات مهمة، وكل ذلك خارج القانون قريباً من الريع.
العقلية الغنائمية في المجال التداولي العربي الإسلامي، وننقلب على ثقافة الريع التي تورمت سرطاناً خبيثاً، في الاقتصاد والسياسة والثقافة وكل احتمالات الوجود والمشترك، فإننا باقون في الدرك الأخير من "اللا دولة" و"اللا مواطنة"، فلا انتقال نحو الديمقراطية مع استمرارية مشتملات الريع والغنيمة.
+++++++++++++++++++++
اقتصاد الريع
فرق بين اقتصاد الانتاج واقتصاد الريع؟ هل يمكن القضاء على اقتصاد الريع؟ من أين يستمد اقتصاد الريع قوته؟ هل اقتصاد الريع فردي أم جماعي؟
لا يمكن القيام بعملية الإنتاج إلا باستعمال وسائل الإنتاج المرتبطة أساسا بثلاث موارد (البشر، الأرض، الرأسمال) بمختلف خصائصها.
الدولة الريعية.. كل شيء مجاناً
ليس غريباً على الدول الريعية مثل الكويت، السعي في إيجاد جميع سبل الراحة كالخدمات المجانية الصحية، والتعليم، فالدول المعنية توزع إيراداتها على المواطنين، إما بالخدمات المباشرة وإما من خلال القطاعات العامة. هذه هي الإستراتيجية التي تطبقها الدول الريعية على شعوبها، وهي إستراتيجية ناجحة إلى حدٍ ما إلى يومنا هذا.
الدول لا تريد من مواطنيها الاعتماد على أنفسهم لأن الاعتماد على أنفسهم سيخلق الحاجة لبناء الوطن، وبناء الوطن لا يكمن إلا بالإصلاح، والإصلاح الحقيقي يضايق تلك الدول.. لذا تتعمد خلق بيئة كسولة تعتمد على الغير في تيسير أعمال المواطنين، مثل كثرة الوافدين الأجانب الذين يقومون بأعمالهم اليومية.
ترسيخ هذه المفاهيم، إن الدولة لها حق على المواطن أكثر من أن المواطن له حق على الدولة،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق