الاثنين، 27 يونيو 2022

الرأسمالية الريعية المالية

 فالقدرة على إنتاج ثروة افتراضية عبر إصدار الأوراق المالية التي لا تستند بالضرورة إلى اقتصاد عيني، لم يعد قادراً على الاستمرار إلاّ عبر فرض الإملاءات على الدول والمجتمعات. وبما أن الهيبة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية تراجعت في مراكز مختلفة عن مراكز القرار الغربي بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص، فقد اعتمدت الولايات المتحدة القوّة، أي التدخل العسكري والأمني والحصار الاقتصادي والمالي والغذائي، كأداة لإخضاع الشعوب. لكن هنا نشأت معضلة لم تكن في الحسبان وهي رفض المزاج الشعبي الأميركي خوض حروب ضد دول وقوى لا تشكّل خطراً عليها وعلى وحدة أراضي الدولة. فالحرب على الإرهاب التي شُنّت منذ ولاية بوش الابن، لم تنل قبولاً أميركياً، سواء في أفغانستان أو العراق وسوريا، ولا سيما أنها تكبّدت خسائر بشرية لم تستطع تسويقها. ضريبة الدم لتنفيذ أهداف الهيمنة على العالم بعيدة المنال في المزاج الأميركي. لذا لجأت الولايات المتحدة إلى الحروب بالوكالة. وهذه الاستراتيجية بلغت طريقاً مسدوداً لأن الشعوب والقوى التي يمكن تجنيدها لم تعد جاهزة وقابلة لخوض هذه الحروب. آخر الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة هي في أوكرانيا.

فقد أجبرت أوكرانيا والاتحاد الأوروبي على مواجهة روسيا. الإخفاق الكبير لدى الاستخبارات الأميركية في سوء تقديرها لموازين القوّة وتماسك الوضع الداخلي في روسيا سواء سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً يقف وراء الهزيمة العسكرية لأوكرانيا والأطلسي وفشل العقوبات الاقتصادية والمالية على روسيا. بل تحوّلت هذه العقوبات إلى مصدر قوّة لروسيا ونكبة اقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي.

فالنخب الحاكمة في أوروبا تحوّلت منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي إلى نخب منخرطة في الفلك الأميركي سياسياً واقتصادياً وثقافياً. موجة العولمة التي تروّج لاستبدال ثقافة الاستهلاك بثقافة الإنتاج التي تميّزت بها أوروبا عبر القرون الأربعة الماضية، خلقت نخباً لم تعد معنية بالتراث الثقافي ولا بالخصوصية الوطنية ولا حتى في الاستقلال السياسي والاقتصادي. حتى إن أميركا، ومع التحوّل إلى مجتمع ما بعد الصناعة، وتوطين الصناعات في دول الجنوب، أصبحت عرضة للتفكّك الداخلي تحت ضغط التراجع الاقتصادي ووصول نخب إلى الحكم، ديمقراطية وجمهورية، ليست معنية بالاستثمار الداخلي في البنى التحتية ودفع الاقتصاد الإنتاجي، تبحث عن تشريعات تسهم في التحوّل إلى اقتصاد ريعي على حساب صناعاتها.

نخب أوروبا الذين «تأمركوا». فهم متنكّرون للتاريخ والجغرافيا.

 فرغم تحذيرات الاحتياط المركزي الأميركي والخزينة الأميركية للإدارة الأميركية بعدم ارتكاب حماقة تجميد الأرصدة الروسية وعزل المصارف الروسية عن منظومة «سويفت»، إلا أن البيت الأبيض أمعن في قراره.

الإخفاقات الغربية لم تأت من فراغ أو صدفة. فالغرب يشهد منذ أكثر من أربعة عقود هجوماً ممنهجاً على مكوّنات التماسك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أي العائلة، والدين، والوطن، والبيئة، والثقافة، باسم الحداثة وما بعد الحداثة. أظهر التعداد السكاني في أميركا أنه منذ 2000 وحتى 2020 بات أكثر من 50% من الأسر التي يوجد فيها أطفال تفتقد إلى أحد الأبوين. وارتفع عدد الأطفال الذين لا يكملون دراساتهم الثانوية، ما يؤدي إلى دخول سوق العمل بلا مهارة، فضلاً عن تفشّي المخدّرات وألعاب الفيديو وسائر «ملذّات» الصناعات والخدمات الاستهلاكية.

يقول يوفال هراري مستشار كلوس شواب، الرئيس المؤسّس لمنتدى دافوس، إن معظم الناس في العالم لا جدوى ولا منفعة منهم، وبالتالي يجب التفكير الجدّي في تخفيف عدد السكّان في العالم. الهجوم على الأسرة تم من خلال تحويل دور المرأة التقليدي إلى كائن يعتبر الأسرة عبئاً عليها وعلى طموحاتها. ثم أتى غزو ثقافة «الووك» لرفض التمييز بين الذكر والأنثى بهدف تذويب الوعي الجنسي لدى الأطفال في المدارس... نذكّر هنا بمقولة رئيسة وزراء المملكة المتحدة مارغاريت تاتشر، التي نفت وجود شيء اسمه مجتمع. كذلك الاقتصاديّ ميلتون فريدمان صاحب الفكر النيوليبرالي الذي اعتبر أن المرجعية القيمية ليست في المجتمع بل في جمعية المساهمين للشركة! فالإنسان لم يعد كائناً قائماً بمقدار ما هو جزء من «الشركة» إذا استطاع أن يكون كذلك، وإلا فهو لا شيء.

وتحت راية الضغط الاقتصادي، تمّ تقليص نسبة الخصوبة عند المرأة ونسب الولادة. فقد انخفضت خصوبة المرأة في الولايات المتحدة إلى 1.64، بينما الحد الأدنى للحفاظ على مستوى السكّاني هو 2.1. إذا لم يرتفع المعدّل، فالولايات المتحدة مهدّدة بالانقراض السكّاني. ويعود هذا الانخفاض إلى تغيير ثقافي إذ أصبح الإنجاب اعتداء على الجسد. والشركات الكبرى في الولايات المتحدة تدعم حق الإجهاض، لأن كلفة عملية الإجهاض أقل بكثير من كلفة الأمومة والحضانة.
الحلّ المؤقّت هو الهجرة الوافدة إلى الولايات المتحدة، سواء أكانت شرعية أم غير شرعية. لكن في زمن الضيق الاقتصادي تصبح هذه الهجرة عبئاً رغم أن الفعّاليات الاقتصادية تحبّذها لأنها تخفّض مستويات الأجور. والأمر نفسه في أوروبا التي شجّعت الهجرة من أفريقيا للاستفادة من اليد العاملة الرخيصة.

الدين نال حصّته من هذا التغير الثقافي. الهجوم على المؤسسات الدينية تركّز على الأخطاء التي قد تكون ارتكبتها عن قصد أو عن غير قصد، لتشكّل مدخلاً للتشكيك في الدين. الهجوم على الكنيسة الكاثوليكية بحجة الانحراف في سلوك بعض رجال الدين أصبح مدخلاً للهجوم على الكاثوليكية. كذلك الأمر بالنسبة إلى الإسلام الذي تمّ تشويهه عبر تشجيع حركات تدّعي الجهاد. والهجوم على الدين يأتي من باب «حرّية التعبير» الفضفاضة. الهجوم على الرموز الإسلامية هو «حرّية تعبير» بينما انتقاد الممارسات الصهيونية في فلسطين هو «معاداة للسامية»، أما النيل من الرموز المسيحية فيصبح «إبداعاً» فنّياً. وشكّلت الأزمة الأوكرانية غطاءً لعملية «فرز» بموجبها انفصلت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن الكنيسة الروسية متذرّعة بقضايا دينية.

وفي عصر العولمة لا مكان للمواطنة بل لمجتمع المستهلكين. الإنسان يتحوّل من مواطن ليصبح رقماً مستهلكاً فقط لا غير. الشعور بالانتماء الوطني هو نوع من الرجعية والتخلّف الثقافي. وصلت الأمور إلى اعتبار تجاوز السيادة لكل دولة مسألة أساسية لتطوّر البشرية. فمؤسّسات الاتحاد الأوروبي تتنكّر للعامل الوطني وتعتبره عنصر إزعاج وتخلّف. ونظريات «المجتمع المفتوح» التي يروّج لها معهد جورج سوروس، تستهوي شباباً لا ثقافة لهم ولا معرفة بتاريخ مجتمعاتهم. الدولة صاحبة السيادة تحافظ مبدئياً على ثروات البلاد، وبالتالي يجب تحجيمها لحماية الشركات الوافدة المستغلّة للثروات بلا أي اكتراث لحقوق الشعوب. حقد أمثال سوروس على روسيا والصين ينبع من حقده على الدولة وحكّامها الذين يحافظون على مصالح أوطانهم. دعم وأمثاله، العديد من الثورات الملوّنة في دول الجنوب وفي دول كانت تابعة للنفوذ السوفياتي بهدف إرساء تبعية النخب للخارج.

الولايات المتحدة قررت إعادة توطين قاعدتها الإنتاجية الصناعية في دول الجنوب والخروج من الحقبة الصناعية إلى حقبة ما بعد الصناعة، معتبرة أنه بإمكانها السيطرة على العالم طالما كانت مسيطرة على المال والشرايين التي يتدفّق فيها. لكنّ الأزمة في أوكرانيا، وقبلها جائحة الكورونا كشفتا عن عورات الاقتصاد الأميركي؛ إذ أصبح منكشفاً تجاه العالم في تأمين حاجاته في السلع المصنّعة والمواد النفطية والأسمدة والمعادن النادرة وغيرها. وفي إدارة بايدن كانت القرارات الأولية بإلغاء تراخيص التنقيب عن النفط، وإلغاء استكمال أنبوب «كيستون» الذي يجرّ النفط من ألاسكا إلى الولايات المتحدة عبر كندا. البيئة كانت متن الخطاب الانتخابي لبايدن المشجّع لاستبدال مصادر الطاقة. ثم وقعت الولايات المتحدة في حالة ضيق اقتصادي وارتفاع جنوني لأسعار الطاقة ولسائر السلع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق