إنجلترا أو المملكة المتحدة أو الإمبراطورية البريطانية كانت تاريخياً من أعظم الإمبراطوريات التي ضمت ملايين الأنفس في العالم.. فلم يسجل التاريخ أن ضمت إمبراطورية أقواماً وأجناساً وأدياناً وألسنة وثقافات متباينة ومختلفة مثل ما ضمت الإمبراطورية البريطانية ومع ذلك كانت هذه الإمبراطورية وحدة متماسكة دون أن يكون تماسكها مستنداً إلى القوة..
كنت متصورًا أن قواعد العلاقة مع الإنجليزي تشابه قواعد العلاقة مع الأميركي إلا أنني وجدت أن الإنجليزي لا يشعر براحة مطلقة في الاختلاط بالأجنبي، وأعتقد أن السبب أن الإنجليزي بحكم ميله الفطري إلى العزلة لا يحب أن يكشف لأحد عن نفسيته وعقليته بسهولة كما هي الحال في الأميركي والفرنسي مثلًا.
ولذلك فإن الإنجليزي حتى مع الفرد الإنجليزي الآخر بطيء في تأسيس العلاقة أو الصداقة ولكن إذا ما تأسست العلاقة أو الصداقة فإنها تكون طويلة الأمد وعلى أتم وأكمل مظاهرها.. ولكن كيف يستطيع شخص قادم من خلفية معينة أن يكيف نفسه على الحياة في بيئة حضارية أخرى تختلف تمامًا عن البيئة التي قدم منها؟ وما العوامل التي تسهم في تسهيل هذا التكيف وتجعله ممكنًا؟
هذه الأسئلة ذات علاقة بمفهوم الثقافة.
فعندما ننظر إلى المجتمع البريطاني نجد أن الذي يقيم مدة طويلة في بريطانيا ويتمثل خصائص الثقافة البريطانية والتفكير البريطاني فإنه يرى الأشياء بمنظور مختلف.. وإن كانت درجة التمثل الثقافي في المجتمع البريطاني تختلف عن المجتمع الأميركي.. فالمجتمع الأميركي فيه ثقافة سائدة وقوية وفيه ثقافات جانبية أخرى.
فلن يستطيع شخص غريب عن المجتمع البريطاني أن ينجح في محاولته لو أنه قرر تبني خصائص الثقافة البريطانية لأن أمامه طريقاً طويلة لو أنه اختار أن يحصل على القبول النهائي من المجتمع البريطاني.
مجتمع منعزل في جزيرة يخيم عليها الضباب أكثر أيام السنة ولا تتمتع بنور الشمس إلا ثلث السنة وله من برودة الطبع ما أصبح مضرب الأمثال إلا أنه مع ذلك يمتاز بخواص ذهنية فوقته على سائر العالم، ما دفع الآخرين إلى تقليده في فلسفته وفكره وعلومه ومناهجه.
كثيرًا من المفكرين الإنجليز يرون أنها كانت وليدة مصادفة.. وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول إن الإمبراطورية البريطانية ليست وليدة المصادفة فحسب ولكنها وجدت في نوبة ذهول فكري، ومع ذلك فإن إنجلترا ومعها أوروبا قدمت للعالم ثقافة حديثة تقوم على أسس عصر العلم وتحولاته ومناهجه الفلسفية والعقلانية وكشوفاته الحديثة التي شكلت ما يعرف بالعالم الحديث أو عصر النهضة الأوروبية.
القيم الديمقراطية البريطانية.. وراء الإصرار على الخروج من الاتحاد الأوروبي
ثقل التاريخ الإمبراطوري البريطاني عبر أربعة قرون، في ما بين السابع عشر والعشرين، أنه كرّس في العقل السياسي البريطاني فكرة الاعتزاز القومي ومكانة القوة رغم اعتراف بريطانيا بنهاية إمبراطوريتها الكبيرة، التي هيمنت على مناطق شاسعة من العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، أهمها أميركا الجديدة وبلدان كثيرة من منطقتنا العربية، من بينها أهم بلد بالنسبة إليها وهو العراق، اقتصرت اليوم على رمزية ما يسمى بدول الكومنولث عبر البحار.
ظل الإحساس بالتفوق مهيمنا على السياسيين البريطانيين، خصوصا حزب المحافظين العريق، رغم التحولات الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية وسيطرة القطبين الأميركي والسوفييتي ثم انفراد القطب الأميركي في القرن العشرين، وصعود نظرية العولمة وانعكاسها على أوروبا الجديدة بعد تلك الحرب. صحيح هناك استسلام بريطاني للواقع الكوني الجديد، إلا أن حكام بريطانيا ظلوا يعبّرون عن خصوصية اعتزازهم الوطني وعدم قبول انصهار بلدهم في التحولات الجديدة، والأهم اعتزازهم بديمقراطيتهم العريقة.
الدولة الوطنية البريطانية ظلت متماسكة ومؤثرة باقتصادها القوي الفعال، كإحدى الدول الصناعية السبع الكبرى باعتقاد راسخ داخل منظومات الأحزاب البريطانية بأن انحسار النفوذ البريطاني الخارجي لا يعني تفكيك الوحدة القومية والخضوع لمجموعات دولية مثل الاتحاد الأوروبي، فالإنجليزي يعتز بتراثه ولغته السكسونية التي أصبح العالم كله يتحدث بها، حتى اتحاد إنجلترا مع كل من أسكتلندا وأيرلندا وويلز يبدو هشا، لهذا كانت بريطانيا مترددة في الدخول إلى نادي الاتحاد الأوروبي الذي قادته كل من ألمانيا وفرنسا، بل إن الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول سبق أن منعها من دخول خيمة الاتحاد الفتي في ما بين عامي 1961-1967 واتهمها بالعداء للمشروع الأوروبي، ثم دخلت في ما بعد عام 1973.
لم تندمج لندن بعملة اليورو رغم تغيير لون جواز السفر البريطاني من الأزرق إلى الأحمر، وفي السنوات الأخيرة ساد شعور سياسي داخلي بأن أوروبا تريد ابتلاع بريطانيا ونهب أموالها وثرواتها، فتمّ عرض الخروج من الاتحاد على الشعب البريطاني الذي وافق بنسبة 51 في المئة عام 2016. هذا القرار الذي أطاح برئيسي وزراء هما ديفيد كاميرون، الذي استقال بعد 24 ساعة من إعلانه الاستفتاء، ومن بعده تيريزا ماي. لكن بوريس جونسون جاء من بعدهما مستخدما قوته الانتخابية للخروج الاقتصادي الآمن من الاتحاد الأوروبي، وتحقق له ذلك في الرابع والعشرين من ديسمبر بأقل التكاليف.
معاني القيم الديمقراطية البريطانية والاعتزاز بالوطن كانت وراء خلفية الإصرار على الخروج من الاتحاد الأوروبي وليس الجانب الاقتصادي الصرف الذي تضررت فيه كل من بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، هناك تفصيلات كثيرة يمكن للاقتصاديين المختصين الحديث حول تداعياتها.
الدرس الآخر هو الشعور العميق بالولاء للوطن وعدم التفريط بأيّ فرعية من فرعيات السيادة، لأن قيمتها تظل واحدة حيّة في نفوس السياسيين حتى وإن كانوا ينتمون إلى دول وصفت بالمستعمرة لشعوب العالم. فالوطنية لا تنفصل عن الأداء الديمقراطي كأداة رائعة لحكم الشعب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق