المفارقة هنا أن حالة الانهيار الأخلاقي والقيمي والإفلاس التي يعيشها النظام العربي الرسمي ترافقها حالة نهوض ووعي لافت تعيشها الجماهير العربية.
محاولات الانتفاض والثورة التي سرعان ما يتم إجهاضها وسحقها بمنتهى القسوة (فلسطين وانتفاضة القدس والسكاكين، ثورة لبنان الشعبية، مصر وثورة يناير، سورية وجرحها النازف .. وغيرها)، أو في مستوى التعبير عن هذا الوعي على منصّات التواصل الاجتماعي والإعلام الشعبي عموما.
التناقض التام بين الشعب العربي وقيادته، ووجود هوّة عميقة بينهما، تزداد على نحو ملحوظ
يزداد "الطلاق" هنا بين الطرفين مع تعمّق الأزمة الاقتصادية وحالة الضنك المعيشي للشعوب العربية التي فاقمتها أزمة كورونا،
وما تراكم من استفحالٍ للفساد ونهب المال العام، وتغييبٍ لأي أملٍ في أسطوانة "الإصلاح" المشروخة
ربما كانت ثورات الربيع العربي مجرّد "بروفة" باردة لما هو قادم!
ننتظر نبعاً متفجّراً، فحركة الشعوب بقدر ما هي غامضة، هي مجلجلة حينما تثور
من الصعب هنا تحديد متى وأين وكيف يمكن أن يتفاعل هذا الشرخ العميق، وكيفية التعبير عنه شعبيا، ولكن تجارب الشعوب المماثلة والقاعدة المعروفة تقول إن كثرة الضغط تولد الانفجار، وإنْ كان حجم هذا الانفجار وتوقيته محكوميْن بمستوى الضغط ومدى الإيلام الذي يسببه، ووجود موجّه أو ملهم له، والأهم هو وجود "المحرّك الداخلي" أو "الميكانيزم" الذي يمكن أن يكون "صاعق التفجير" الذي يُشعل برميل البارود. وهذا الصاعق يسمّيه غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير" العاطفة الدّينية، وهي ما أشعلت الانتفاضات الكبرى، كما أدّت إلى تغييراتٍ كبيرة في غير بلد.
وهذه العقائد الدّينية ليست فقط دينية تخصّ دينا معيّنا، بل قد تكون بطلا أو فكرة سياسية تسيطر على الجماهير. وهذه العاطفة تملك قوّة مخيفة، تجعل الجماهير تخضع لها خضوعا أعمى، فتمضي بعزمٍ إلى حماية تلك العاطفة، كما تعتبر كلّ من يرفضها عدوّا. وفي الحالة العربية عموما، يشكل الدين الإسلامي منطقة محرّمة على العبث والاستفزاز. وفي الوقت الذي يتجرأ أحدهم على التحرّش بها، تشتعل الجماهير. ولعل المثال الأوضح على هذا الأمر ثورة الشعوب الإسلامية على كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية" في القديم القريب، وحملات مقاطعة البضائع الفرنسية في الحاضر، ردّا على تحرّشات رئيس فرنسا ماكرون بالإسلام والمسلمين. من هنا، يمكن أن نفهم سر الحملة الشرسة التي يشنها النظام العربي الرسمي على الحركات الإسلامية، ومحاولات سحقها واجتثاثها من الجذور، باعتبارها الحاضنة المحتملة للثورة، والملهمة لها. والمفارقة التي تثير السخرية هنا أن بعض الأنظمة تتّخذ من هذا الصاعق نفسه حزام أمان، حيث تستخدم الفتاوى التي تحرّم الخروج على من يسمّي نفسه "ولي الأمر"، باعتباره خروجا على قواعد الدين، وربما خروجا منه!
في الحالة العربية عموما، يشكل الدين الإسلامي منطقة محرّمة على العبث والاستفزاز
ولعلنا نستطيع هنا أن نفسّر حرص الأنظمة إياها على التمسّح بالإسلام ومحاولة إظهار الاحترام له، ولكن مع تجريدِه من أهم أصوله وفاعليته، حيث يريدون إسلاما بلا شوكة، إسلاما مدجّنا ينام في فراش السلطة، ويأتمر بأمرها، وإن غدت هذه الحيلة غير قابلةٍ للتسويق، بعد الفجور المفتضح الذي مارسته بعض السلطات بحق أصحاب الرأي الحر الصادق من الدعاة والمصلحين الذين نأوا بأنفسهم عن تعليمات "ولي الأمر" وزبانيته!
فحركة الشعوب بقدر ما هي غامضة هي مجلجلة حينما تثور، خصوصا مع إصرار النظام العربي الرسمي على رشّ الملح على جروح الناس والضغط عليها واستفزازها في غير ساحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق