Apr 15, 2022 Mar 10, 2019
ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
دائماً ماتجدُ أكثر الناس ثقةً في آرائهم وتعصباً لها هم أكثرهم جهلاً. إنّهم واثقون دائماً أنهم على الحق المطلق وأنّ من خالفهم هو مجنونٌ أو كافر أو خائن أو التهمِ المعدّة مسبقاً لمن يخرج عن جهل القطيع ويقرر البحث
والتساؤل.
لاشكّ أن الجهل هو الخيارُ الأسهل، إنّهُ يضمن لك النعيم كما قال المتنبي. كلّ ماعليك هو تلقّي الإجابات الجاهزة والأكثر سطحيةً وسذاجة من أقرب المصادر إليك، قد يكون صديقاً على المقهى أو صفحةً على مواقع التواصل الاجتماعي، ثمّ تصديقها مباشرةً وترديدها دون تكليف نفسك عناء البحث عن مصادر موثوقة تؤيدها ودون إخضاعها حتى لبعض التفكير النقدي لتقرير ماإذا كانت تلك المعلومة أو الفكرة منطقية أم هي أقربُ إلى الخرافة.
إن الجهل لايضمنُ لك النعيم في تلك الحياة فقط، لكنّه يضمن لك النعيم الأبديّ في حياة ما بعد الموت أيضاً. عليكَ فقط أن تصدق تصديقا تامّاً كلّ ماقيل لك في طفولتك، لا تخضعه أبداً للنقد أو البحث والتساؤل، ولا تقلق سيكافئك الله بالنعيم لأنّك ورثت معتقداً ما، وسيلقي الله بقية المليارات من البشر في الجحيم لأنّهم ورثوا معتقداً ما مختلفاً عنك.
إنّنا نحتاجُ اليوم بشدة لمحاربة الجهل، ونحتاج لامتلاك الجرأة والشجاعة للتصدّي لهؤلاء المتفاخرين بجهلهم. إنّ التفكير العلمي ليس مطلوباً من العلماء وحدهم، وإنما هو مطلوب
من كل فردٍ فينا لو أردنا بناء مجتمع
كتابه "التفكير العلمي" يحصر الدكتور فؤاد زكريا العقبات التي تساعد على انتشار الجهل وتقف في طريق التفكير العلمي
أولاً: الأسطورة والخرافة: حيث ظلت الأسطورة تحتل المكان الذي يشغله العلم الآن طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية، وترجع أسباب انتشار الفكر الأسطوري إلى أنه كان يقدم -في إطار بدائي- تفسيراً متكاملاً للعالم. فالأساطير القديمة تعبر عن نظرة الشعوب التي اعتنقتها للطبيعة والحياة والعالم، وتقدم تفسيراً يرضيها إرضاءاً تاماً. كما أنها تجمع بين الطبيعة والإنسان، بحيث يبدو العالم متلائماً مع غايات الإنسان ومحققاً لأمانيه. وهي سمة رئيسية من سمات الفكر غير الناضج في عصور الطفولة البشرية. والفرق بين الأسطورة والخرافة أن التفكير الأسطوري هو تفكير العصور التي لم يكن العلم قد ظهر فيها بعد حيث كانت الأسطورة وسيلة لتفسير الظواهر قبل ظهور العلم، أما التفكير الخرافي فهو يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه أو يلجأ في عصر العلم إلى أساليب سابقة لهذا العصر.
وقد أثبتت الطريقة العلمية تفوقها الساحق على الطريقة الخرافية لسببين: أولهما أن فهم الطبيعة من خلال العلم يتيح للإنسان سيطرة حقيقية على ظواهرها، وتغييرها لصالحه، أما النظرة الخرافية فتجعله يقف من الطبيعة موقفاً سلبياً عاجزاً. وحين بدأت ثمار التطبيقات العلمية تصبح متاحة للجميع وأثبت العلم قدرته على الطبيعة بطريقة لايحلم بها الساحر ذاته، لم يعد هناك مبرر لبقاء الطريقة السحرية الخرافية. والسبب الثاني هو أن العلم قد أثبت أن نتائجه مضمونة يمكن التنبؤ بها على حين أن نتيجة السحر والخرافة غير مضمونة على الدوام.
وهكذا اكتسب معظم الناس ثقة أكبر في العلم لأنهم اكتسبوا ثقة أكبر في نتائجه، فلم يعد الناس يلجأون للخرافة إلا في الحالات التي لايكون فيها العلم قد أحكم قبضته على
الظواهر، كما في حالة الإصابة بمرض لم يكتشف له العلم علاجاً بعد.
ثانياً: الخضوع للسلطة: السُلطة هي المصدر الذي لايُناقش، والذي نخضع له بناءاً على إيماننا بأن رأيه هو الكلمة النهائية وأن معرفته تسمو على معرفتنا. والخضوع للسلطة مريح في حل المشكلات لكنه يدل على العجز والافتقار للروح الخلاقة.
وأهم عناصر السلطة من حيث كونها عقبة في طريق العلم، وأهم الدعامات التي ترتكز عليها هي: القِدم، والانتشار، والشهرة، والرغبة أوالتمني حيث يميل الناس لتصديق مايرغبون فيه أو مايتمنونه، وعلى العكس من ذلك يحاربون مايصدم رغباتهم وأمانيهم. وهكذا كانت النظرية الفلكية التي تجعل من كوكب الأرض مجرد كوكب في المجموعة الشمسية يدور حول مركز هذه المجموعة تلقى معارضة شديدة في عصر النهضة الأوروبية لأنها تقضي على المكانة المميزة للإنسان باعتباره أهم كائن يعيش في أهم كوكب في الكون، بل في المركز الذي تدور حوله كل الأجرام السماوية. وكان من أهم أسباب سلطة النظرية القديمة أنها ترضي غرور الإنسان، وتستجيب لأمنية عزيزة من
أمانيه.
ثالثاً: إنكار قدرة العقل: في مجال الشعر والفن والأدب يهيب الإنسان بقوى غير العقل يسميها الخيال أو الحدس، ويؤمن أن هذه القوى هي التي توجهه في هذا المجال. والمشكلة أن البعض يعتقدون أن هذه القوى تصلح لإرشادنا في ميدان المعرفة ذاته، وينكرون قدرة العقل في هذا الميدان، ومثل هذا التفكير كان ولايزال عقبة في طريق التفكير العلمي. صحيح أن العقل مازال يجهل الكثير ويعجز عن الكثير، ولكنه أفضل طريقة نعرفها لنعرف العالم ونسيطر على مشاكلنا، وبفضل هذه الأداة حققنا أشياء رائعة، وتغلبنا
على مشكلات كنا نتصور في الماضي أنها لاتحل إلا بالسحر والخيال.
رابعاً: التعصب: التعصب هو اعتقاد باطل للمرء بأنه يحتكر الحقيقة أو الفضيلة، وأن غيره يفتقرون لها فهم دائماً مخطئون. وبالتالي فإن التعصب للرأي أو العقيدة يتضمن بعداً آخر وهو إنكار مزايا الآخرين واستبعاد آرائهم ومهاجمتهم، وهذا هو الفرق بين التعصب وبين الاعتداد بالنفس الذي هو شعور مشروع حيث أن المعتد بنفسه لايحاول بناء مجده على أنقاض الآخرين.
ولكن جوهر التعصب لايكمن في تعصب الفرد لمواقفه الشخصية، ولكنه يكمن في توحيد نفسه مع الجماعة التي ينتمي لها، وإعلانه أن رأيها فوق رأي أي جماعة أخرى، فالمتعصب في واقع الأمر يمحو شخصيته ويذيب عقله في الجماعة التي ينتمي لها، ولو كان يؤكد نفسه كفرد متميز لما أصبح متعصباً.
والمتعصب لايفكر فيما يتعصب له، بل يقبله كما هو فحسب، وهنا تتمثل خطورة التعصب من حيث كونه عقبة في طريق التفكير العلمي. فالتعصب يلغي القدرة على التفكير الحر والنقد، ويشجع قيم الخضوع والطاعة، وهذا يؤدي بنا لصفة أخرى من صفات التعصب، أنه موقف "تجد نفسك فيه" ولا تختاره بنفسك.
لماذا ينتشر التعصب حتى الآن؟ ذلك لأن التعصب يمثل حاجة لدى الإنسان إلى رأي يحتمي فيه، ويعفي نفسه من التفكير في ظله، والحماية هنا متبادلة، فالرأي الذي نتعصب له يمنحنا نوعاً من الهدوء والاستقرار النفسي، كما نضمن نحن الحماية لهذا الرأي من كل رأي مخالف ونهاجمه بعنف ونسعى إلى "تصفيته". ولكن الواقع أن هذه الحماية المتبادلة هي حماية خادعة مضللة، فهي من نفس نوع الحماية التي يكفلها لنا الخمر أو المخدر، لأنها ترتكز أساساً على تخدير الفكر وإبطاله ولأنها تضع أمامنا صورة باطلة للواقع لاترتكز على دليل أو منطق، بل تستمد قوتها كلها من تحيزنا لها بلا تفكير.
إن التعصب هو "عقبة مركبة" تعترض طريق التفكير العلمي، ومن هنا يجب أن يشن هذا التفكير معه معركة حاسمة، فالعقل البشري لايستطيع أن يجد حلاً وسطاً بين الاثنين، فإما
العلم وإما التعصب، ولابد من القضاء على أحدهما كي يبقى الآخر.
خامساً: الإعلام المضلِل: حتى القرن الماضي كانت الصحافة هي الشكل الوحيد للإعلام، فكان الجمهور المنتفع به محدوداً، أما اليوم فالإعلام عبر الوسائل المرئية والمسموعة يتأثر به أكبر عدد من الناس. وللأسف فإن الإتجاه الغالب للوسائل الإعلامية واسعة الانتشار لايخدم قضية العلم، ولايساعد على نشر قيمه بين الجماهير العريضة التي تتأثر بهذه الوسائل. وقد استخدم الإعلام لتشكيل العقول وصبها في قوالب تخدم الأنظمة السياسية، فنجح في شل القدرة على التفكير عند شعب عريق كالشعب الألماني في العهد النازي مثلاً، وازدادت منذ ذلك الحين الدراسات التي تبحث عن أقوى وسائل التأثير الإعلامي في الجماهير، والانحراف بإرادة الإنسان في اتجاهات مرسومة مقدماً.
وتسير عملية التزييف هذه في الوقت الراهن في طريقين: الأول منهما تجاري هدفه الأول والأخير ترويج السلع بين الناس حتى لو لم يكونوا بحاجة إليها. والثاني هو طريق سياسي حيث تستعين أنظمة الحكم بوسائل الإعلام لدعم مركزها بين شعبها أو بين الشعوب الأخرى، وتلجأ لأساليب تتنافى مع مقومات التفكير السليم.
ختاماً، أودّ القول أنّهُ ليس مطلوباً أن نكون جميعاً علماء أو مثقفين، وليس مطلوباً منا أن نعرف كل شيء فمعرفة كل شيء هو أمر مستحيل وادّعاء ذلك هو جهل في حد ذاته. لكن علينا أن نتوقف عن تصديق أي شيء دون إخضاعه للبحث والنقد، وعلينا أن نقرأ أكثر ونسمع أكثر قبل أن نتكلّم، وأن نأخذ العلم من مصادر العلم الحقيقي "كلٌّ في مجاله" وليس من الدجالين الذين يدّعون معرفة كل شيء.
إنّ نعيم الجهل هو نعيمٌ وهميّ، إنه كالمخدر يدمّر صاحبه ويمتد تأثيره المدمّر على المجتمع كله. إنّ اللجوء للعلم والعقل لم يعد خياراً، وإنما هو ضرورةٌ مصاحبةٌ للتقدم والتطور، وإنّ متعة المعرفة والوصول للحقيقة عبر البحث والتفكير لاالتلقين هي متعةٌ حقيقية لاتضاهيها متعة.
*
الجهال والحمقى، يمكن أن يكونوا أكثر سعادة من أعقل العقلاء؟
غالبا ما يُعتبر الناس العاديون أكثر حظا من هؤلاء وأكثر سعادة. ولا يمكن أن يكون الطبيب، الذي يعرف خبايا الجسم، ويعلم أن السرطان يترصده فيحوله، في أي وقت، إلى قنبلة موقوتة، ويعرف كذلك أن الإنسان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، أن يكون أكثر سعادة من إنسان مطمئن إلى أن الجسم بديع في صنعه، تام في عمله وأشغاله. وقد يكون الرجل الجاهل أسعد من عالم الفلك، الذي يعلم أننا نعيش في نقطة صغيرة جدا هي مجرد حبة رمل في صحراء لا قرار لها. وأسعد من فيلسوف يعلم أن الحقيقة موجودة فقط في أوهامنا وتخيلاتنا وأحلامنا، وأنها ليست مبحثا واقعيا بقدر ما هي ذات طبيعة ميتافيزيقية.
السعادة تكمن في اللامبالاة، وتجنب كثرة التحقيق في أمور الحياة، حاضرا منذ بداية التأمل الفلسفي. فها هو الفيلسوف اليوناني سقراط، يعتبر الجهل جزءا لا يتجزأ من السعادة، ودليله في ذلك، أن أكثر الناس سعادة، هم الأطفال والأشخاص الذين لديهم جهل بالحياة.
أفلاطون وضح في الجمهورية، كيف أن الحقيقة تعمي أعين سجناء الكهف، الذين ما إن يطلعوا عليها حتى يعودوا إلى الاختباء في كهفهم، راضين بجهلهم وبتمثلاتهم وأوهامهم داخل الكهف المظلم.
مآلات العصر الحديث الذي انقلبت فيه المعايير، ليس لصالح حياة العقل والتفكير، وإنما لصالح التاجر الذي استفاد من التطور الفكري والعلمي والصناعي، ما جعل صناعته تزدهر، وثروته تتضاعف، فتلاشى التصور العقلي للسعادة، لصالح الطبقة البرجوازية التي تحكمت في كل شيء، بما فيه الحياة الفكرية، وأدخلتها إلى منطق السوق والربح المادي، وأصبحت مرتبطة بالنجاح التجاري. بمعنى آخر، السعيد هو البرجوازي الذي ليس بالضرورة عالما أو مفكرا أو فيلسوفا.
احتقر تحول السعادة إلى هم برجوازي. وقد عرّف في كتابه «مراسلات»، السعادة بالمعنى البرجوازي، بشكل ساخر، فقال: «أن تكون غبيا وأنانيا وترفل في صحة جيدة، تلك هي الشروط المطلوبة لتكون سعيدا، لكن لو لم يتحقق الشرط الأول لن يتحقق شيء». أن تكون غبيا، يعني أن تمتنع عن التفكير، وتدع أمور الحياة تسير على ما هي عليه، مثلما تفعل الحيوانات تماما. فلا نكثر في البحث عن الأسباب والمسببات، ونرضى بالتالي، بالنظرة المألوفة العادية الاعتيادية، مثلما يفعل الجميع. أما العنصر الثاني، الذي يتحدث عنه فلوبير، فهو الصحة. فمن دون صحة جيدة، لا يمكن أبدا للرجل أن يكون سعيدا. أما الأنانية، فتجعلنا نظن أن العالم ملك لنا، وأنه كله يشتغل من أجلنا، فيرتد كل شيء على الذات التي تسعد بهذا الإحساس إذ تكون هي المركز.
باسكال أن الإنسان من حيث الجسد يتسم بالضعف، ويمكن لأي قوة في الكون مهما كانت بسيطة، أن تقضي عليه. إلا أن قوته تتجلى بالأساس في فكره ووعيه. إن عظمتنا تكمن في قدرتنا على الوعي ببؤسنا وبؤس العالم الذي نعيش فيه
فريديريك هيغل وفريديريك نيتشه، وكذلك آرثور شوبنهاور
فارتبطت السعادة بالاستهلاك غير المعقلن واللا محدود، الغرق في اللذة والمتعة غير محسوبة العواقب. أما المعرفة فهي تلك التي يرجى من ورائها نفع مادي ملموس. وعلى الرغم من إغراءات الجهل ولذته، فإنه سرعان ما يصيبنا بالألم والأسى. في الوقت الذي نشعر فيه بجهلنا، فسنكون بالتأكيد سعداء،
الحكيم: «معكم حق، لقد قلت لنفسي مائة مرة، إنني سأصير سعيدا لو كنت ببلاهة جارتي. ومع ذلك، فإنني لا أرغب في سعادة كتلك». إن مشكلة الأحمق السعيد، في نظر فريديريك لونوار، تكمن في كونه يغوص في السعادة الدائمة، طالما هو جاهل، أو طالما ظلت الحياة لا تعاند
الحياة والموت والألم.
سنفضل ألم الحقيقة على لذة الغباء والجهل. كما أننا سنفضل أن نعرف أن البركان الموجود في مدينتنا على وشك الثوران، حتى نعيره الانتباه لإنقاذ أنفسنا، عوضا عن أن نبقى مستمتعين بجهلنا، يقينا منا أنه بركان خامد، كما قد تسوق السلطات لذلك.
الجهل مهين لكرامتنا، والسعادة ليست في الجهل وإنما في حياة العقل والتفكير مهما أزعج ذلك عالمنا، ومهما قض مضاجعنا. لا يمكن أن نرضى لأنفسنا، بسعادة العجماوات والجهل والإيمان الأعمى، كما عبر عن ذلك نجيب محفوظ في «خان الخليلي» بقوله: «فتش عن السعادة الحقة على ضوء العلم والعرفان. فإذا وجدت مكانها قلقا وسخطا وشقاء، فتلك آيات الحياة الإنسانية الفاضلة الحقيقية، بتطهير المجتمع من نقائصه والنفس من أوهامها الحقيقية، ببلوغ السعادة الحقة».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق