الثلاثاء، 17 مايو 2022

كيف نتعامل مع الموت؟.. العبثية في روايات ألبير كامو*******

Dec 29, 2019 Oct 27, 2021
May 6, 2021

لطالما شكّل الموت مصدر قلق وحيرة للإنسان على مرّ العصور، حتى أن أقدم النصوص الإنسانية المكتوبة؛ وهو ملحمة جلجامش؛ تناول هذا الهاجس الإنساني من الموت، ونزوعه المحموم نحو الخلود من خلال رحلة جلجامش، وبعد طول بحث وعناء وترحال، يعود من رحلته خائباً بلا جدوى، إذ يستسلم أخيرا لحقيقة أن الزوال هو النهاية المحتومة لكل وجود، والإنسان وحده من بمقدوره أن يأخذ موقفا أمام الموت، ذلك أنه الكائن الوحيد الذي يعي مسألة موته، وهذا الوعي هو ما يعطي للحياة قيمتها وجديّــتها بحسب الفيلسوف مارتن هايدجر، فعندما "ينفتح الإنسان على إمكانية الموت، يدرك أن الإمكانيات التي يريد تحقيقها ليست هي الهدف، فالموت إذا بمثابة تذكير للإنسان بنسبية أي إمكانية أخرى، وهو ما يعمق شعور الإنسان بالحياة نفسها!

إسبينوزا: "إن التفكير في الموت هو تفكير في الحياة أيضا فالموت - بحسب الدكتور الطيب بو عزة-  "مكمن الأسئلة الوجودية الحافزة للتفكير.. ويقين الكائن البشري بفنائه هو ما يدفعه إلى التفكير في ماهية وجوده ومآل تجربته"، لذا يمكن القول: "لعل تأمل الموت كان هو الذي أيقظ الوعي الإنساني ليفكر ويستفهم ويصوغ أكبر الأسئلة الماورائية التي اغتنت بها حيواته وحضاراته"[



 أفضل نتاج سردي وجودي تناول مسألة الوجود والموت قد تمثل في الأعمال الأدبية للروائي الفرنسي ألبير كامو وبخاصة في روايتيه "الغريب" و "الطاعون".

"غريب" ألبير كامو: بين عبثية الوجود الإنساني وعبثية الموتيدور متن هذه الرواية حول شخصية محورية هي شخصية مارسو بطل الراوية وساردها، إنه "الغريب"/ اللامنتمي الذي يتصرف على نحو آلي بارد، فيبدو جامدا وغير آبهٍ بما يدور حوله من أحداث وما يحتمله من شخوص وعلاقات، حتى عندما تصله برقية بوفاة أمه من دار العجزة التي كانت تقيم فيها، لا يزيد رد فعله عن الاستغراب مما ينبغي لهذا الحدث أن يمثل له، إذ يقول "ماتت أمي اليوم. وربما أمس، لا أدري. لقد تلقيت من الملجأ الذي كانت تقيم فيه برقية هذا نصها" "أمكم توفيت. الدفن غدا. خالص تعازينا!" لم أستطع أن أفهم من ذلك شيئا..!!

لم يفتقر غريب كامو إلى المشاعر والإحساس وحسب، بل إنه افتقر كذلك إلى الحس الأخلاقي، وهو ما يتجلى في عجزه عن إصدار حكم ما حيال جاره اللئيم الذي يعمل في مجال الدعارة، إذ يبدو أن جميع الأمور سيّان بالنسبة إليه، كما لا يبدو أن مارسو باستطاعته أن يحب، ذلك أن الحب يتطلب التزاما تجاه إنسان آخر وهو ما لا يفهمه، فضلا عن أن يتعاطى معه، لذا فإنه يندهش من سؤال ماري له إن كان يحبها!

وفي أحد الأيام، يذهب مارسو مع رفيقه ريمون في نزهة إلى الشاطئ، وهناك يرتكب مارسو جريمة قتل بدم بارد، كان دافع الجريمة أن ضوء الشمس الساقط على سكين أحدهم انعكس على عينيه، ما جعل "العرق يتجمع على أهداب عيني وسال دفعة واحدة على جفوني ... وعميت عيناني في هذا الستار المؤلف من الدموع والملح ولم أعد أحس إلا بدقات الشمس على وجتني .... وتوتر كياني كله، وتقلصت يدي على المسدس واستجاب الزناد للضغط"!            

سيحال مارسو إلى المحاكمة، وستكمن المعضلة الأخلاقية في تلك المحاكمة في كيفية محاكمة شخص لا يمتلك تصورا عن الخير والشر، فالأشياء بالنسبة إليه "تحدث وحسب"، فلا معنى لإصباغ قيمة أخلاقية على السلوكيات والأفعال، وحين سيقوم بسرد أحداث "الجريمة" أمام المحكمة فإنه سيسرد تفاصيل ما جرى بدقة عالية ودون تلاعب 
بالحقائق ولا محاولة لتبرئة ساحته أو تعليل "جرمه"، وهو ما سيثير حفيظة المحكمة والادعاء والحضور!

ببساطة لم يرَ مارسو أن فعله يشكّل ما يمكن أن يكون "جريمة"، إذ إن مثل هذا الإقرار يتطلب الإيمان بمرجعية أخلاقية ما، أو على الأقل القبول بالمواضعات الإجتماعية والأعراف السائدة التي تحدد الصواب من الخطأ وهو ما لا يجيد الرجل لعبه أبدا، ولذا فإن المحاكمة ستتحول من محاكمة شخص على اقترافه جريمة قتل إلى محاكمة للشخص نفسه ووعيه، وتحديد مدى مسؤوليته الأخلاقية والشخصية عن فعله، "وسيكون هدف المحاكمة عندئذ هو تحويل مارسو إلى إنسان"![

             ستنتهي المحاكمة بالحكم على مارسو بالإعدام حين تفشل جميع المحاولات في "إصلاحه"، وهو الحكم الذي يبدو أنه نابع من رغبة في نفي هذه الشخصية غريبة الأطوار وإبعادها من المجتمع وذلك لما تمثله من خطر يتهدد الجميع، وأمام حكم الإعدام نلحظ أن مارسو يختبر للمرة الأولى عاطفة من نوع ما، إذ يفكر للمرة الأولى في صديقته ماري. وإذا كان لم يبدِ ندما على الفعل الذي قام به، إلا أنه أخذ يفكر بإمكان اسئتناف الحكم واحتمالات العفو عنه، ويؤمل نفسه أن يعيش حياة أطول، رغم إيمانه في قرارة نفسه أن "الموت في الثلاثين أو الستين لا يشكل فرقا!"د

إن التيمة الأساسية التي تقبع خلف هذه الأحداث والتي يريد كامو الكشف عنها بأسلوب إيحائي هي عبثية الوجود الإنساني، فمارسو " يجسد الشخص الذي لا ينسجم مع النمط الحياتي السائد. شخص غريب أمام وجود غير قابل للاستيعاب والتعقيل"[10]. فالعبثية -بحسب كامو- لا تأتي من كون العالم عبثي، بل من عدم خضوعه لمعايير العقل والعقلانية، وبالتالي في الهوة بين وعي الإنسان وعقلانيته من جهة وعدم قابلية العالم للعقلنة من جهة أخرى.


يختصر كامو مغزى هذه الرواية بهذه الجملة التي جاءت على لسان ذلك الغريب مارسو: " في مجتمعنا كل رجل يرفض أن يبكي على والدته يعدم..! لماذا نبكي؟ سنموت جميعا عاجلا أم آجلا "[11] لقد طُرح الموت في رواية الغريب بوصفه عائقا أمام الإحساس بزخم الحياة، ما جعل مارسو يغرق في حالة من اللامبالاة وعدم الإحساس بالجدوى وبالمجمل عدم الإحساس بقيمة الحياة نفسها.

لكن التساؤل الذي يطرح هنا: كيف يمكن الخروج من هذه الدائرة المغلقة؟ يبدو أن مارسو قد أحسّ بشيء من قيمة الحياة عند إصدار حكم الاعدام عليه ومواجهته الموت بصورة حقيقية، وذلك رغم مقاومته لهذا الشعور. هذه الفكرة ستتجلى بصورة أوضح في رواية الطاعون حين تواجه الإنسانية وضعا مأساويا للغاية، يكون الموت فيه شرطا وجوديا شاملا يتهدد الجميع، حينها لا يكون ثمة خلاص سوى الخلاص الجماعي بكل ما يتطلبه الأمر من إيمان وتضامن مع الجماعة!

الطاعون: أو كيف نواجه عبثية الموتعلى النقيض تماما من رواية "الغريب" التي يدور متنها حول شخصية مارسو وعوالمه الذاتيه المستغلقة بإحكام أمام أي إمكانية انفتاح أو تعاط مع العالم الخارجي، فإن رواية الطاعون تعد أكثر روايات كامو انهماكا بالشأن العام وتناولا له، وهنا يستخدم كامو لفظة "الطاعون" كاستعارة عن العبث الذي يعتري الوجود الإنساني، والموت الذي يترصد الجميع أفرادا وجماعات والذي لا يمكن رصده ولا التنبؤ به!

بدأ كامو بكتابة الرواية  في جنوب فرنسا إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا لها، قبل أن يكمل كتابتها في مدينة وهران الجزائرية التي تجري فيها أحداث الرواية، وإذ يستخدم كامو لفظة "الطاعون" مجازا للتعبير عن شكل الحياة الذي أنتجته الإيديولوجيا النازية والموت الذي بثته في هذا العالم، فإن هذه الاستعارة كانت محطّ نقد شديد، إذ تشي بأن هذا الشر والموت مجهول المصدر، لا نتيجة لخطابات وسياسات وقفت خلفها السلطة النازية[12]. لكن اهتمام كامو لم ينصب على التنقيب عن مصدر هذا الشر، بل استقراء الطرائق التي سيواجه فيها الناس عبث الموت الذي بات يسم الوجود الإنساني!

*

الغريب

«ماتت الأم. الدفن غدًا. تحيات طيبة»..

مازال لهذه العبارة- مفتتح الرواية- فعل الدهشة والصدمة معًا لدى قُرّاء رواية «الغريب»، للروائى الفرنسى الكبير والفيلسوف «Albert Camus» «ألبير كامو»، ولأنها رواية عبثية، فإن أسلوبها مُحاك للحياة العبثية نفسها، حيث عبارات متلاحقة قصيرة لاهثة، العبارة وصلت إلى بطل الرواية «ميرسو Meursault»، الموظف البسيط بإحدى المؤسسات، من دار المُسِنّين، حيث كانت تمكث أمه، يخبرونه أنها ماتت. فى هذه الرواية، تدخل فلسفة العبث فى الضمير الجماعى أو الجمعى، حيث كان «كامو» وفيًا لما كتب من أفكار وتجسيد لفكرته: «إذا أردت أن تصير فيلسوفًا اكتب روايات»، ذلك أنه يعتبر «أن الرواية ليست أبدًا سوى تعبير عن موقف فلسفى، عبر الصور، وتكمن جودة الرواية فى تضمين النظرة الفلسفية لجميع صورها».

تُعتبر رواية «الغريب» أشهر روايات «كامو» على الإطلاق، كُتبت حوالى ١٩٤٠، ونُشرت فى ١٩٤٢، أثناء أوج الاستعمار الفرنسى للجزائر، فهى روايته الأولى، وتنتمى إلى الأعمال التى تمثل فكرة العبث، العبث الذى يُولد من هذه المقابلة confrontation بين النداء الإنسانى، والصمت غير المعقول للعالم.

إن الإنسان يصرخ فى هذا العالم، كغريق يبحث عن الطوق لينجو، بينما العالم صامت، تكتنفه حالة لامبالاة، وكلما أراد الإنسان تحقيق حلمه صفعه الواقع، وأعاده العالم، بمبالاته الرهيبة، إلى بئر اليأس، فقد كانت الصدمة.
لذلك يرى «كامو» أن العبث هو هذا الانفصال بين الفكر الذى يرغب، والعالم الذى يصدم. كان موت الأم هو المعادل الموضوعى لكل ما يشعر به «ميرسو» من حزن وألم، ولكل معاناته، وبؤسه.

ترانا اليوم، كم تملأ أرواحنا الصدمة! على كل المستويات، اجتماعيًا وأخلاقيًا وأيديولوجيًا.. لا رحمة فى العالم، نرفل فى ثوبها.
وهل حقًا بأيدينا نكون سعداء وكيف؟

*

الموت هو الحدث الأهم بعد الولادة

هذه الطقوس قديمة، ومتنوّعة بتفاصيلها. تختلف باختلاف الثقافة والدين وأشياء أخرى. ولكنها كلها تُجمع على التقاء الناس ببعضها. يصلّون مطولاً، يعزّون، يمسكون بأيادي المفجوع، يحضنونه، يقبّلونه، يواسونه، يمشون في الجنازة، يتفنّنون بربط الزهور أو نثرها، يسهرون على الراحل وهو مسجّى، يلقون عليه النظرة الأخيرة، يتناولون الطعام عن روحه، أو قطعة حلوى، يقولون عنه كلاماً حسناً، يدعون له بالرحمة الإلهية. ويتذكّرونه في اليوم الثالث على وفاته أو الأسبوع أو الأربعين يوماً، أو السنة أحياناً .. ولا دلالات لطقوس الموت من دون هذه الكثرة من الناس. يرتفع عددهم في طقوس العزاء بارتفاع شأن الراحل: نجم من بين نجوم المجتمع أو الفن، رجل دولة، زعيم، وجيه، أو أحد المشاهير ..

قد يكون الهدف "الوجودي" من طقوس الموت هذه أن يتحقّق المشاركون فيه بأن الموت حصلَ فعلاً. بأن الغائب يغيب إلى الأبد. وإن كان المؤمنون من بينهم يقولون إنه لم يمُت، إنما انتقلت روحه إلى الأعلى، أو انتقلت الى جسم حيّ آخر، يحمل منذ ولادته "الكارما"، أي الحصرم أو الحظ السعيد الذي ورثه من الراحل (هندوس).

مشاركة الجماعة المحيطة بطقوس العزاء بالميت هي التي تُعطي المعنى المُبتغى منها. من دون الشهود، من دون حضورهم، يفقد الموت معناه المعروف، أو المعنى المتَوافق عليه، حتى الآن، من المجموعة البشرية. مثله مثل طقوس العرس، ذات الجمهور الواسع أيضاً الذي يُطلب منه التصديق على قران. ولكن ببهجةٍ تقف على نقيض الحزن الطاغي على طقوس الموت.

هل يتطوّر الوباء فيصبح الموت أكثر حضوراً وغياباً في آن؟ أم ينتهي، وتعود البشرية إلى سابق حزنها، فتجتمع كما كانت تفعل منذ آلاف السنين؟ أم فعلاً هذه "المقابر الافتراضية" سوف تغزو أسواق الموت بطقوسها الافتراضية؟ بحسناتها العديدة، صحية، معقّمة، مربحة، نظيفة، سريعة، فيتغير تصوّرنا للموت بعد الوباء، أو علاقتنا به؟ كما تغيرت أشياء كثيرة؟

*

 جلجامش في ملحمته، ا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق