الثلاثاء، 17 مايو 2022

ولاءٍ للمثقف، فوَجب أن يكونَ للنّقد فقط، وليس للعِلمانية . عبد الوهاب الأفندي

  ولاءٍ للمثقّف، فوَجب أن يكونَ للنّقد فقط، وليس للعِلمانية، والتي قد تتّخذ أشكالاً سُلطوية مُشوَّهة كما كان الحال عليه مع البُورقيبيّة، وتعبّر عن نفسها في لغة فاشِية. علاوةً على أنّ الولاء للنقد يَجعل المثقّف واعياً بضرورة تحصين الدِّين من عبث السياسة. ويؤكّد "طبيب الحضارة"، وهو الاسم الذي كان يُطلقه نيتشه على الفيلسوف، منذ البداية، وبشكلٍ قاطع، بأنّ سبب "المرض العربي"، "لا يُمكن أن يكون نفسياً أو اجتماعياً، بل لا بُدّ أن يكون سياسياً"،

 حُضوراً طاغياً للسياسة في كلِّ مجالات الحياة، كما أوضح ذلك عبد الله العروي في "استبانة"، ذلك أنّنا نعيش في أنظمة تصنع المجتمع، أو بلغة كلود لوفور، إنّنا نعيش في ظلّ أنظمة لا تسمح بـ"التقسيم الاجتماعي". 

*

 المجتمع السياسي لا يتحقق كوحدة إلا بالنظر لانقسامه ولا يتحقق إلا بسبب هذا الانقسام.

ووظيفة السلطة حسب لوفور أن تنظم صراع الطبقات، وهو ما لا يعني البتة أن تجد للصراع حلاً نهائياً. لا يمكن البتة حل الصراع الاجتماعي بشكل نهائي. وعلى السلطة أن تحافظ على المسافة نفسها من مختلف القوى الاجتماعية، وعليها أن تحافظ على هذا الصراع بشكل لا يسمح له بأن يتطوّر إلى حد يهدّد فيه وحدة المجتمع.

 أولاً، مفهوم المجتمع السياسي، وثانياً حتمية الانقسام الاجتماعي. أما الحلم العقلاني بمجتمع متصالح مع ذاته فهو مجرّد يوتوبيا، وقد يتسبّب في تدمير المجتمع إذا ما عرف طريقه إلى الواقع. ولهذا السبب يدعونا لوفور إلى بناء معرفة مناسبة عما هو الواقع الاجتماعي.

الانقسام الاجتماعي حتمياً فليست وظيفة السياسة أن تحذفه وتؤسّس مجتمعاً منسجماً، لأن من شأن ذلك أن يقود حتماً إلى الديكتاتورية، كما الحال مع النيوليبرالية اليوم أو بالأمس مع الاشتراكية.

 بالنسبة للنظام التوتاليتاري فإنه رغم قطعه مع مصدر مفارق للسلطة، إلا أن مشكلته تكمن في أنه يطلب الاستقرار واليقين وحذف كل أشكال اللايقين التي تميّز الديمقراطية. إنه يريد أن يملأ الفراغ الذي يميز النظام الديمقراطي، مرة وإلى الأبد، وأن يصنع شعباً على مقاسه، شعباً أريد له أن يكون موحداً وأن تكون له هوية ثابتة.

 التوتاليتارية تخرج بسيادة الشعب الديمقراطية من مجال الرمزي إلى مجال الواقع ليعوّض البروليتاريُّ أو الرجلُ الآريُ المواطنَ باعتباره كائناً لا يقبل التحديد، ويعوّض الشعبُ الواحدُ أو أسطورةُ الشعبِ الواحدِ المنسجمِ الانقسامَ الاجتماعي.

كلود لوفور

*

 تضخُّم السياسي، والذي قد يصل إلى تَسيِيس كلِّ المشاكل التي نُعاني منها، هو من أعراض المرض.

طرابيشي، وشرابي، والجابري، وأدونيس، والعروي 

ربط المثقّف بالعِلماني فقط، لأنّ مثل هذه الاختزالية ستحرم الآخرين من غير العِلمانيّين من حقّهم في التعبير عن أنفسهم، وقد يتحوّل هذا التفكير إلى نوع من المكارثية، وقد قامَت الأنظمة القومية في السياق العربي على قمع الآراء المُعارِضة للشيوعيين والإسلاميين. ولكن، إذا كانت العِلمانية لا تعني بالضرورة العداء للدّين، وإذا كانت تعترف بحقّ المتديّنين في المشاركة في الفضاء العام، وأعني بذلك ليس فقط أولئك القادرين على ترجمة حدوسهم الدِّينية إلى لغة دُنيوية، كما عبر عن ذلك هابرماس، بل أيضاً من يريدون الاحتفاظ بلغتهم التقليدية، وإذا تعلّق الأمر بعِلمانية لا تتحالف مع الاستبداد، ولا تبني مجدها الزائف على احتقار الشعب وثقافته الشعبية، فإنّها لا ريب ستكون قمينةً بتقديم الشروط الصحية لإنتاج الثقافة والنقد، وداخلها سيجد "المثقّف الإسلامي" مكانَه، ولن يحرمَه أحد من حقّه في الكلام، كما لن يحرم هو الآخرين من حقوقهم في نقد كلامه. 

 الإسلام لم يكُن ثورةً وكما لو أنّه لم يؤسّس لمعنى جديد ولإنسان جديد، ولم يتحقّق كحرّية وتحرّر من عبودية الإنسان للإنسان.

 محمد عزيز لحبابي وناصيف نصّار وعزمي بشارة، بل وقد نلتقي بعض عناصرها عند سيّد قطب ومحمد باقر الصدر، ذلك أنّه من شأن التفكير في حرّية اجتماعية تجاوز تناقُضات الحُرّية الليبرالية ومَركزية الفرد في تلك الحُرّية، وحتى نقول ذلك في لُغة شَخصانية: "نحن لا نتحرّر إلّا ونحن نُحرّر"، كما أنّ التفكير في مثل هذه الحُرّية، وهو تفكير مادّي وليس أيديولوجياً، من شأنه أن يُحرّرنا من ذلك النقاش الميتافيزيقي العقيم، الذي انخرط فيه بعض المفكّرين العرب، عبر ربط غياب الحرية في السياق العربي بالدِّين، شأن ذلك الذي لا يفرق، في عمائه الأيديولوجي، بين "العبادة" و"العبودية"

الاقتصاد الريعي والبُنى الاجتماعية التقليدية والتربية التي نتلقّاها بداخلها. إنّ الأمر يتعلّق بتربية أو بتربية هي تَرويض، إذا تذكّرنا التفريق الكانطي بين التربية والترويض، ولهذا يخطِئ برأيي مَن لا يأخذ بجدّية التحليلات التي قدمها الفكر الاجتماعي العربي حول استحكام البُنى السُّلطوية داخل المجتمعات العربية، ومنها خُصوصاً نظرية "الأبَوية المُستحدَثة"، والتي على الرغم من جنينيّتها، إلّا أنّها كانت واعيةً بالاستمرار الواعي واللّاواعي للتقليد في المؤسّسات الحديثة. 

فأن تخرج الشعوب غاضبة ضدّ الديكتاتور، وأن تُسقطه، ولكن، لتعودَ مرّة أُخرى إلى بيت الأب، لعمري ذلك مرضٌ عضال، ومن ربط هذا المرض باستمرار التقليد لا يُبالغ، فهيلموت بليسنر لمّا أراد أن يُنظّر للراديكالية الاجتماعية والتي تمثّلت في عصرِه في النازية والشيوعية، انطلق من التفريق بين قِيم الجماعة والقيم الجديدة للمجتمع، ومُشكلتنا أنّنا لم نُحرّر لحمَنا من لحم الجماعة، ولم نكتشف الفرد ومعه المجتمع. 

 أنظمتنا السياسية انعكاسٌ لمجتمع غير مكتمل، غير أنّ الفرق الذي يَقوم بين ما يقرّره آخرُ البورقيبيين، علي المزغني، في "الدَّولة غير المُكتمِلة"، وما أقوله هنا، هو أنّي أفهمُ التقليدانية باعتبارها انعكاساً للتخلُّف وليست سبباً فيه، وانعكاساً للعلاقات غير المتوازنة بين الغرب الرأسمالي والمنطقة العربية. إنّ مُشكلة المثقّف الإسلامي والمثقف العلماني تكمنُ في أنّهما يفكّران معاً من خارج المجتمع، في حين يبدأ التفكير في اللحظة التي أفكّر أو أتجذّر فيها داخل المجتمع وداخل المجتمع فقط.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق