في محرقة التاريخ
Jul 3, 2019
فى القرون الأربعة الأولى للحضارة الإسلامية كان المسلمون يكرسون اهتماما كبيرا للبحث فى
قوانين السببية من خلال علوم الإغريق وفلسفاتهم ثم شرعوا يطورونها ويضيفون عليها. وتمخض اهتمامهم هذا عن ولادة علم الجبر على يد الخوارزمى وتطور علم الفلك واكتشاف الدورة الدموية. وفى مجال التفلسف راح المعتزلة يؤسسون للتفسير العقلانى لنصوص القرآن ففرقوا بين التفسير الحرفى والتفسير المجازى، وشرع الفلاسفة فى دمج علم المنطق بعلم اللغة. حتى جاءت الطامة الكبرى عندما انتصر الفقهاء الدوجمائيون على الفلاسفة وساد سلطانهم على المسرح الثقافى وتمكنوا من تصفية الساحة من العلماء والفلاسفة، بحجة أنهم من الهراطقة المارقين الذين يدنسون المقدس ويتطاولون على الإرادة الإلهية لمجرد أنهم انكبوا على البحث عن القوانين الطبيعية التى تحكم الكون. ففى القرن العاشر الميلادى (الرابع حسب التقويم الهجرى) انتقد أبو الحسن الأشعرى وجود قوانين طبيعية تتحكم بالكون، وكان يرى أن فكرة القوانين الطبيعية القائمة على السببية تناقض القرآن فى حرفيته. ويستند فى ذلك إلى أن ما نراه فى الطبيعة تحت علاقة الأسباب بالنتائج لا علاقة له بفكرة الضرورة التى ترتبط بالقوانين الطبيعية، وإنما هو يتحقق عن طريق إرادة الله ومشيئته. وفى نهاية القرن العاشر الميلادى جاء أبو حامد الغزالى وهو من أنصار الأشعرى ليشدد على موقف الأشعرى فى التعليم بالمدارس السلجوقية ويسدد ضربة قاضية للفلسفة فى ديار الحضارة الإسلامية، وهى الضربة التى لن تفيق منها حتى وقتنا الحاضر. وفى هذا الصدد يذهب المفكر الإيرانى فريدون حوفيضة فى كتابه L’Islam bloqué ـ الإسلام المنغلق ـ
إلى أن الغزالى رغم عظمته الروحية والدينية وأسلوبه الأدبى الرائع طالب بإتلاف كتب الفلسفة بل أشرف شخصيا على حرق كتب ابن سينا وكتب ابن رشد عن آخرها!. ويستطرد فيقول إن الغزالى بعد أن مر بأزمة نفسية حادة أغرق فى التصوف والتطرف والابتعاد عن الحياة الدنيا وأخذ ينصح طلابه بعدم الاهتمام بشىء إلا بالعلوم الدينية التى تعدهم للنجاة من شرور الدنيا إلى الحياة الآخرة وأوصاهم بتنحية علوم الطبيعة والكيمياء التى لا تغنى ولا تسمن من جوع. وكان يحذرهم تحذيرا من الفلسفة بدعوى أنها تبعدهم عن الله وتلقى بهم فى غياهب الكفر. وعن التكفير يقول الدكتور مراد وهبة «إن الغزالى بعد أن ذكر ضرورة التكفير فى مفتتح كتابه «تهافت الفلاسفة» ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. إذ أضاف فى خاتمة كتابه المذكور:(فإن قال قائل: قد فصلتم مذاهب هؤلاء، أفتقطعون القول إذن بتكفيرهم ووجوب القتل لمن يعتقد اعتقادهم؟ قلنا: تكفيرهم لا بد منه)»، ثم سكت عن إبداء الرأى فى وجوب قتلهم
«أولاد حارتنا» ارتأى ثلاثة من الشيوخ المسلمين أنها كفر مقنع فوجهوا إليه تهمة الإلحاد والزندقة. وهؤلاء الشيوخ هم: محمد الغزالى وعبد الحميد كشك وعمر عبد الرحمن
ذ سيطرد الفقهاء الأصوليون الفلسفة من مملكة الفكر ليحل محلها تراث فقهى متزمت محكوم بمبدأين: الأول الالتزام بحرفية النصوص وما تمسك به السلف والثانى تأويل النص المقدس وفقا لمصلحة السلطان الحاكم فيما يشبه نظرية التفويض الإلهى. وبموت الفلسفة فى العالم الإسلامى الممتد غربا إلى إسبانيا يحدث ما يسميه المفكر الإيرانى: الانتحار الفكرى. فقد أمر الفقهاء الدوجمائيون أتباع الغزالى وابن تيمية بحرق كتب العلم والفلسفة فى كل بقعة من أرض الإسلام فى الوقت الذى راح فيه المسيحيون الأوروبيون ينقذون ما يستطيعون إنقاذه من مخطوطات علماء العرب ويترجمونه فى حماسة منقطعة النظير إلى اللاتينية ثم يبنون عليه نهضتهم المقبلة. وهكذا انتصرت الأصولية على الفلسفة وغرست مخالبها فى العالم الإسلامى وواصلت إنجازاتها الدرامية فحرقت كتب ابن سينا والفارابى فى المشرق وكتب ابن رشد فى الاندلس غربا. ففى سوريا أمر صلاح الدين الأيوبى بتصفية الفيلسوف الصوفى السهروردى وفى قرطبة التهمت النيران أروع المخطوطات العربية فى المكتبات التى شيدها الأمويون فى العصر الأندلسى بتشجيع من الفقهاء والسلاطين حتى تمكنوا من إفناء كل ما ابتكرته العقلية العربية من مؤلفات ومكتسبات هائلة وكأنها نفايات فى محرقة التاريخ بحجة أن كتب السلف قد احتوت على الحقيقة المطلقة وكل ما يخالفها كفر ينبغى حرقه.
ألغام على الطريق
كلما استمع المرء إلى تبرير فكرى لداء التخلف الحضارى فى العالم العربى يشعر بشىء من عدم الرضا. إذ سرعان ما يتبادر للذهن أسئلة كثيرة معقدة يصعب على المرء، إن لم يتعذر، العثور على إجابة حاسمة لها. خذ مثلًا السؤال الآتى: ما سبب إخفاق مشروع التنوير فى العالم العربى؟ ثمة إجابات عديدة على هذا السؤال طرحها كثير من المفكرين الغربيين والشرقيين على السواء، تلقى الضوء على جوانب مهمة فى هذه الإشكالية. بيد أنها تحت الفحص العقلى الدقيق لا تعدو فى الواقع أن تكون توصيفًا للمشكلة وليست تعليلًا جذريًا لها. فهناك مثلًا الإجابة التى تقول إن عائق التنوير فى العالم العربى بمقارنته بالعالم الغربى فى العصر الوسيط مردود إلى طبيعة الفكر الشرقى الاستبدادى على مر العصور والإجابة التى تقول إن الذهنية الشرقية بطبيعتها غارقة فى المعتقدات الدينية التى تجعلها مهيأة أكثر من غيرها لاحتضان الفكر الأصولى.
لماذا كان العالم العربى مهيأً أكثر من غيره لأن يكون مهدًا لأصولية مزمنة وصامدة أمام كل محاولة تنويرية منذ عصر الغزالى، مرورًا بعصور ابن تيمية والوهابية والإخوان المسلمين، ووصولًا إلى القاعدة وداعش وأخواتها؟ لا يصعب علينا أن نستشف الإجابة على هذا السؤال فى قراءتنا لكتاب «مفارقة ابن رشد» للدكتور/ مراد وهبة، إذ يقول: «إن التفرقة التى اصطنعها ابن رشد بين الفلاسفة والجمهور فى مجال المنطق لم تكن واردة عند أرسطو. ولكن ثمة مسألة أخرى لم تكن واردة عنده (عند أرسطو) ولكنها واردة عند ابن رشد، وهى العلاقة بين المنطق والنحو. وسبب ذلك مردود إلى أنه منذ دخول المنطق إلى العالم الإسلامى والمتكلمون والنحويون يحاربونه بضراوة. فعن المتكلمين صدرت كتب عديدة ضد المنطق بدعوى أنه كفر وزندقة وأن أصحابه ملحدون. ولهذا ذاعت عبارة جرت مجرى المثل (مَن تمنطق تزندق)، وأظن أن هذا هو السبب الذى دفع الغزالى إلى رفض تسمية كتبه المنطقية باسم المنطق». وكما نعلم أن المنطق هو العلم الذى يدرس قوانين الفكر السليم وأشكال الاستدلال العقلى بصرف النظر عن مضمونها المادى فى الواقع.
المفكر اللبنانى/ وجيه كوثرانى فى كتابه «الفقيه والسلطان». فقد رأينا على مر التاريخ فقهاء السلطان الذين كانوا يسعون سعيًا حميمًا إليه وهم يصطنعون الفتاوى الفقهية التى تؤيد سلطانه وتضفى القداسة على خلافته.
لا مراء أن عملية التنوير عملية صعبة ومعقدة، ليس من اليسير تحقيقها دون خسائر فى الطريق. ذلك لأنها تنطوى على آليتين لا غناء لإحداهما عن الأخرى: آلية سلبية وأخرى إيجابية. الأولى تشير إلى تلك المرحلة التى يستخدم فيها العقل الإنسانى النقد والفحص الحر للأفكار السائدة التى تهيمن على سلوك الإنسان واختياراته وتحدد طريقة نظره إلى الأشياء وتفكيره. وفى هذه المرحلة يسير المفكر التنويرى فى حقل يكتظ بالألغام. وكثير من المفكرين القدامى والمحدثين راحوا ضحية هذه الألغام، وذلك بسبب جرأتهم على نقد الدوجمائية الدينية والفكرية التى تعيق الفكر الحر. وفى هذه المرحلة الأولى يقوم التنوير بعملية تفكيك فى المعتقدات السائدة وفحصها تحت مجهر العقل الحر. ومن مصاعب هذه المرحلة النقدية التفكيكية أنها تحتاج إلى جسارة مرعبة لأن أسلحة العقل النقدى تتطاول فيها على الرؤية القديمة للعالم، وهى غالبًا ما تقوم على تفسيرات غيبية وعقائدية راسخة رسوخ الجبال الشاهقة فى العقول منذ مئات السنين.
ولنا أن نتصور مدى مخاطر هذه المغامرة عندما ينخرط فيها المفكر النقدى الذى يسعى جاهدًا إلى إخراج البشرية من كهف الظلام إلى النور. ومعنى ذلك أن العقل فى مرحلة التنوير الأولى يكون، كما يرى بعض المفكرين، أشبه ببلدوزر يكتسح فى طريقه كل عقبة تعوق حركة الفكر اللولبية. ولعل هذا ما يفسر لنا المعارك العنيفة التى خاضها العقل الإنسانى فى العصور الوسطى حتى تسنى له إخراج المجتمع الأوروبى من ظلماته. وفى المرحلة الثانية يبدأ العقل فى إحلال رؤية عقلانية جديدة محل الرؤية القديمة، رؤية يحكمها مبدأ أساسى، يُعد فى الواقع دستورًا أساسيًا للتنوير والتقدم، وهو المبدأ القائل: لا سلطان على العقل إلا العقل.
*
جذور التخلف **
المفكر التونسى الكبير عياض بن عاشور، وهو عميد سابق لكلية الحقوق فى تونس وعضو فى معهد الحقوق الدولية، انكب على تتبع
الجذور التاريخية للنزعة الأصولية بالمذهب السُّنى فى مؤلفه المكتوب باللغة الفرنسية تحت عنوان أصول الأرثوذكسية السُّنية»
والمقصود بالأرثوذكسية هنا النزعة الأصولية المتزمتة التى تستحل التوسل بكل صور العنف لتطبيق قراءاتها الحرفية للنصوص
المقدسة. ومؤلف الكتاب وهو سُنى الأصل وينتمى إلى عائلة تونسية عريقة تعتنق المذهب المالكى، أراد أن يجرى تفكيكًا للخطاب
الأصولى فى السُّنة على غرار الحفر الأركيولوجى الذى أجراه الفيلسوف الفرنسى/ ميشيل فوكو فى كتابه المعنون «أركيولوجيا المعرفة». والسؤال المحورى الذى يدور حوله البحث القيم يمكن صياغته كالآتى: «كيف تسنى للنزعة الأصولية المتطرفة عبر التاريخ أن تصير نزعة مؤبدة رغم الأحداث والمتغيرات الفكرية العميقة التى طرأت على ذهنية البشر؟». إذ ظلت الأصولية الداعية للتكفير والقتل صامدة كالصخر أمام أحداث تاريخية عميقة، تخللتها تطورات علمية وفكرية هائلة طرأت على العقليات والأخلاق حتى القرن الواحد والعشرين. لقد كرس الكتاب بابًا واسعًا لممثلى الفكر الأصولى وعلى رأسهم بالقطع الغزالى وابن تيمية الذى كانت نصوصه بمثابة حليب الطفولة الذى رضعت منه كل الجماعات الإرهابية فى نشأتها. يغوص المفكر التونسى فى الفترة التى تسبق ظهور ابن تيمية لكى يتتبع أصول فكره ويصل إلى نتيجة مؤداها أن المذهب الحنبلى كان النواة الصلبة التى انبثقت منها الأصولية السُّنية. ليس ذلك فقط، بل إن المذهب الحنبلى قد تمكن من فرض أفكاره بدرجات متفاوتة من الخفة والشدة على كل المذاهب الأخرى، بما فيها المذاهب غير السنية. ويدلل على ذلك بكشف تأثيرها على البرامج الإعلامية المذاعة على الفضائيات والبرامج المدرسية، بل وفى ثقافة رجل الشارع. فتصورات العامة عن التهديد والوعيد والمحرمات هى فى رأيه أطروحات حنبلية راسخة فى عقولها من الصغر. والمعروف أن ابن تيمية كان فصيح اللسان وحنبليًا حتى النخاع وكان يمثل الأرثوذكسية فى أشد صورها تزمتًا وعنفًا لدرجة يمكن القول معها أن أفكاره وفتاواه هى المرجعية العليا لكل الحركات الأصولية المعاصرة، وربما لو قدّر له العيش حتى يومنا هذا لكان قد رشح لنيل جائزة نوبل فى الإنتاج الأدبى لأشد الخطب عنفًا، ولم ينجُ الفيلسوف ابن حزم من التأثر بالخطاب الأصولى المتشدد حينما يقول «لا يمكن أن نقبل من المرتد إلا العودة إلى دينه الأصلى.
فإما الإسلام وإما السيف».
لقد وجدت التيارات الأصولية الجهادية الخطاب الحنبلى التيمى معينًا لا ينضب فى تبرير جرائمها، إذ منحهم هذا الخطاب صكًا على بياض بإزهاق أرواح الأبرياء باسم الدين. والمعروف فى علم الخطاب أن ثمة آليات لغوية معروفة يستطيع المفسر بواسطتها تحريف معنى النصوص بنزعها من سياقاتها لاستخدامها بعد ذلك فى عملية التبرير الأيديولوجى لفكره. ويستخدم المفكر التونسى لفظة «الأرثوذكسية» ليشير به إلى المذهب الحنبلى السُّنى على وجه التحديد ولا يعممه على المذاهب الأخرى إلا فيما ندر من تخريجات تجافى العقل والمنطق. وفى بيان سطوة الفكر الأصولى يقول «لقد كانت هناك تيارات ابتكارية مبدعة فى الفكر السنى، لكن الأصولية قضت عليها بطريقتين: تطويق وتهميش إبداعاتها الخلاقة، وإما بإطلاق اللعنات وقذائف التكفير عليها لسحقها من الوجود، وذلك بإخضاع ممثليها لمحاكم التفتيش والتعذيب، ويضطلع بهذه المهمة السلطات الدينية والفكرية المتحالفة مع السلطة». ويشير المؤلف إلى أن النزعة الأصولية استخدمت فى تطبيق أيديولوجيتها السيف فى الداخل والخارج ضد كل التيارات والفرق الإسلامية الأخرى التى وصمتها كلها بالزندقة
لمعارضتها النظام القائم وقتئذ أمويًا كان أو عباسيًا، وفى الخارج استخدمت السيف ضد من دعتهم بالكفار، أمثال الروم أو المسيحيين. أما سلاحها الثانى فكان سلاح التحريم أو التسفيه وصب اللعنات اللاهوتية المقترنة بالوعيد على رؤوس الخصوم. ولكى يكون لخطاب اللعنات والوعيد مفعوله لا بد من توافر ثلاثة عناصر مجتمعة فيه: أهل العلم وأهل السيف وأهل الخبز اليومى، حتى يمكن القضاء على أى معارضة داخلية ضد الأصولية. وينتهى المفكر التونسى فى تحليله لظاهرة الأصولية إلى نتيجة مهمة، مؤداها أن كل تيار مخالف لها يعد حاملًا لجرثومة الهرطقة ينبغى محاربته حتى الموت.
*
مكر التاريخ
عندما جاء الكاتب الفرنسى جان كوكتو إلى مصر فى الأربعينيات من القرن الماضى قال هذه العبارة العميقة فى دلالاتها: «مشكلة طه حسين هى أنه يرى أبعد بكثير مما تستطيع مصر تحمله!، إنه حقا كثير على مصر والعرب، مثلما كان ابن عربى كثيرا عليهم، وكذلك ابن رشد، وابن خلدون والمعرى، وسائر المبدعين الكبار».
لقد كان طه حسين يقول دائما إن مصر ساهمت من خلال الإسكندرية فى تشكيل الثقافة الإغريقية، أى الأوروبية. وكان كثيرا ما يذكر القارئ العربى وتلاميذه بالدور الكبير الذى أدته الفلسفة الإغريقية فى تشكيل الثقافة العربية فى عصر الدولة العباسية، وبالأخص عصر الرشيد والمأمون وسواهما. وقد أراد فى أعماله وأحاديثه أن يضفى المشروعية على كل سعى حثيث نحو الاغتراف من فلسفة التنوير وكل دعوة إلى استلهام الحداثة الأوروبية. وضرب هو المثل على ذلك حينما تأثر بفلسفة الشك عند ديكارت وأخذ يطبقها منهجا فى دراسته للشعر الجاهلى فماذا كانت النتيجة؟؟، اتهم بالعمالة والخيانة ولعنه الأصوليون وكادوا يرجمونه متهمين إياه بمناهضة التراث والدين، وتقدم شيخ الأزهر وقتئذ ببلاغ إلى النائب العام يتهم فيه طه حسين بالطعن على القرآن والدين الإسلامى فى ثنايا كتابه. فتعاطف معه بتأثر كبير الكاتب الفرنسى جان كوكتو وقال عبارته السابقة. ونعلم كلنا أن طه حسين لم يكن المفكر المتنور الوحيد الذى كان يؤمن بعالمية الثقافة ويرفض كل فصل تعسفى بين الثقافة الأوروبية والثقافة العربية الإسلامية، كما لم يكن الوحيد الذى حلت عليه لعنة الأصوليين. فقد سبقه صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، الشيخ على عبد الرازق، عام 1925، الذى أبان فيه أن الإسلام دين لا دولة، ورسالة روحية لا علاقة لها بالحكومة ولا بالسياسة، وأن نظام الحكم أيام الأمويين والعباسيين كان مستعارا من البيزنطيين والفرس بعد أن ثبت لهم فاعليته الإدارية والعسكرية. وراح المؤلف بعد ذلك يتساءل: إذا كان المسلمون الأوائل قد قلدوا الفرس والبيزنطيين فلماذا لا نقلد نحن اليوم الأوربيين فى أفضل ما أعطوه؟.
ففصل من عمله تنفيذا للحكم التأديبى الذى أصدرته ضده هيئة كبار العلماء عام 1925 وبموجبه خرج من زمرة العلماء ونزعت عنه لقب أو جائزة العالمية.
بيد أن شهداء التنوير من المفكرين لم يتوقفوا عند طه حسين وعلى عبد الرازق وإنما أتى بعدهما كثيرون فقد نشر الأديب الكبير/ نجيب محفوظ روايته «أولاد حارتنا» وتعرض بعدها لحملة ضارية قادها ضده الأزهر والأصوليون، بل وعدد من الأدباء أنفسهم اتهموه بازدراء الدين الإسلامى، وبلغ رد فعلهم إلى حد الشروع فى قتله عندما انقض عليه أحد الأصوليين لاغتياله بسبب هذا الكتاب. وجاء بعد نجيب محفوظ الكاتب فرج فودة، الذى كان يدافع فى مؤلفاته عن أسس الدولة المدنية ويهاجم التيارات الإسلامية الأصولية، وفى كتابه «نكون أو لا نكون» وجه نقدا حادا إلى شيخ الأزهر فى ذلك الوقت بسبب اتهامه المدافعين عن الدولة المدنية بالخروج على الإسلام. وبعد اغتيال فرج فودة على يد الإرهابيين اقتيد أحد قتلته إلى العدالة وأثناء محاكمته وجه إليه القاضى السؤال: «لما قتلته؟»، فأجابه القاتل: «لأنه علمانى»، وعندما سأله القاضى: «وما معنى علمانى؟»، رد القاتل «لا أعرف!».
والأعجب من ذلك أن الساحة الفكرية نفسها لم تخل من مفكرين ينتمون فى الأصل إلى الفكر الأصولى ويمارسون التكفير فى الجامعات والمؤسسات العلمية ضد أساتذة الجامعة. وقد كان الكاتب نصر حامد أبو زيد واحدا من ضحايا هذا النوع من التكفير. إذ رفضت جامعة القاهرة ترقيته إلى درجة أستاذ بعد اتهامه بإهانة العقيدة على إثر نشره كتابه «نقد النص الدينى»، وهو الكتاب الذى أثار أزمة كبيرة واتهمه الدكتور/ عبدالصبور شاهين بالكذب والجهل والكفر، وتمت مقاضاته وفقا لقانون الحسبة وحكم بالتفريق بينه وبين زوجته باعتباره مرتدا عن الإسلام.
ومنذ عام 1928، وهو تاريخ نشأة جماعة الإخوان المسلمين، اقترن التكفير باستراتيجية أخرى: الإرهاب المسلح وبث الفتنة الطائفية بين أبناء الوطن. وخرجت من رحم الجماعة حركات أصولية عديدة فيما يشبه إعصار التخلف الذى يسحق كل أمل فى التنوير.
لقد كان الفيلسوف الألمانى هيجل يفرق بين التاريخ السطحى للأحداث والتاريخ العميق. التاريخ السطحى فى عصرنا هو ذلك الذى يعج بالفوضى العارمة واللامعقول: أحداث إرهابية لا تفسير لها إلا الجهل المطبق والظلامى، أما التاريخ العميق فهو تاريخ العقل المباطن لصيرورة التاريخ. ولكن كيف يستسيغ العقل هذه الأحداث المأسوية؟، يقول هيجل فى هذا الشأن: هذه الأحداث كان لا بد من حدوثها حتى ينكشف للناس بشاعة الأصولية الظلامية، وهنا يكمن مكر التاريخ. فالتاريخ بحاجة إلى هذه الأحداث الإجرامية الشريرة حتى يجعلنا ندرك المسؤولية الملقاة على عاتقنا: مسؤولية التنوير. لكن إلى متى سيطول مكر التاريخ فى بلادنا؟.
*
الرشدية القرن 12 ان اختلف الدلالة الحقيقة للفظ القرآني لنص مع العقل
ضد الغزالي النص قبل العقل
البيان والتبيين فى التخلف والمتخلفين
«أولاد حارتنا» تراودنى الأسئلة القديمة «لماذا ثار رجال الدين على هذه الرواية الفلسفية البديعة؟ ولماذا هاجت المؤسسات الدينية ضد كاتبها رغم أنه أبدى استعداده مرارا لمحاورتهم ومناقشتهم فى نقدهم واتهاماتهم لها. ولا شك أن هذه الاتهامات قد ألحقت ضررا بالغا به فيما بعد. فعندما كان جالسا فى سيارة استعدادا للتوجه إلى ندوة أسبوعية فى مقهى قصر النيل لمح شخصا يتجه نحوه فظن أنه جاء للسلام عليه فمد الأديب يده كعادته مصافحا مبتسما فإذا بالرجل يسدد له طعنة قوية بسكين غرسه فى أعصاب رقبته وتمكن من قطعها مما أثر على أعصاب أطرافه فيما بعد. وأجريت له عملية جراحية دامت أكثر من خمس ساعات واحتاج فيها إلى أكثر من ثلاث عشرة عبوة من الدم لإنقاذه. وعندما مثل الجانى أمام العدالة سأله القاضى: «لماذا أردت قتل الأديب الكبير نجيب محفوظ؟» فأجاب: «لأنه ملحد كافر». فسأله القاضى: «ومن أين عرفت ذلك؟» فأجاب الرجل: من روايته «أولاد حارتنا». فسأله القاضى: «وهل قرأتها؟» فأجاب: «لا لكن كل الناس والشيوخ قالوا لى عنها».
وأثناء مثول الجانى أمام العدالة وجه إليه القاضى السؤال: «لم قتلت فرج فودة؟» فرد الجانى: «لأنه علمانى». فسأله القاضى «وما معنى علمانى؟» فقال الجانى «لا أعرف. أنا قتلته بناء على فتوى الدكتور عمر عبد الرحمن بوجوب قتل المرتد»، فسأله القاضى « لكنك أمىّ كما تقول لا تقرأ ولا تكتب وتعمل ببيع السمك فكيف قرأت الفتوى؟» فرد الجانى «أنا لم أقرأ فتاوى ولكن الكل يقولون ذلك».
وفى أحد البرامج الدينية سئل أحد فقهاء الإعلام العربى المشهورين عن رأيه فى العلمانيين من المسلمين المعاصرين فإذا به ينتفض مستغربا من كون «حد الردة» لم يطبق عليهم حتى الآن!.
*
مراد وهبة فيلسوف العقل الناقد
عدد كبير من المثقفين العرب الذين كانوا فيما مضى من دعاة الحداثة إلى الارتماء فى أحضان الفكر السلفى، أى إلى الموروث الدينى القديم.
هل عودة هؤلاء المثقفين العرب إلى الفكر السلفى مردّها أسباب اجتماعية وتاريخية وسياسية، أم أنها نتيجة علة نفسية مرضية ألمّت بهم؟.. ورغم أن عددًا كبيرًا من المحللين تبنوا الاتجاه الأول الذى يفسر الظاهرة بعواملها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبخاصة ظهور ما يسمى الرأسمالية الطفيلية التى لعبت دورا مؤكدا فى تجذر الفكر الأصولى بصورة عامة، ويذكّرنا هذا فى مصر بدور شركات توظيف الأموال فى تدعيم الحركات الأصولية، إلا أن هناك فريقًا آخر من المحللين كرّس جل اهتمامه لإجراء تحليل نفسى للذات العربية، وفى الخطاب الثقافى السائد فى العالم العربى انتهى فيه إلى رد هذا التحول إلى أسباب مرضية لها علاقة وثيقة بنكسة ٦٧ وبظاهرة البترودولار التى أثرت الرموز الأصولية العائدة إلى الوطن ثراءً فاحشًا.إذا كانت الحداثة مرادفة للتنوير، والتنوير مرادف للعلمانية، فهل الذهنية العربية المهيمنة ذهنية علمانية حقا؟». ومعنى ذلك أن التنوير الحق يقتضى أولًا تفكيك الموروث القديم بواسطة العقل الناقد، على غرار ما حدث فى عصر الأنوار فى فرنسا، حيث اقتحم العقل الناقد أسوار المحرمات وأفسح المجال واسعًا لحرية الفكر والنقد. وعلى العكس من ذلك، نجد فى عالمنا أن الخطاب السلفى القديم لايزال جاثمًا على الفكر العربى. وعِلة ذلك غياب العقل الناقد الذى يواجه فى جسارة الفكر الموروث بتراكماته الداخلية التى تحول دون تحرره وانطلاقه، فهذا الموروث يشكّل بصورة أو بأخرى اللاوعى التاريخى للعرب. والثابت علميا أن مواجهة اللاوعى عملية عسيرة وبالغة التعقيد، سواء على المستوى الفردى أو الجمعى، بالرغم من ضرورتها الحتمية لتحرير الفكر من الرواسب الأصولية والطائفية، والخروج بشكل حاسم من نفق التخلف.
ولقد أصاب الدكتور مراد وهبة حين تساءل مستنكرًا فى كتابه «جرثومة التخلف»: «كثير من المثقفين يدعو إلى الحق فى الاختلاف، لكنه لا يدرك الارتباط بين الحق فى الاختلاف ونسبية المعرفة. كيف أدعو إلى الحق فى الاختلاف وأنا مقتنع بأنى أملك الحقيقة المطلقة؟!».
****
الأصولية وكراهية الغرب
«عندما تلفظ كلمة (إسلام) فى أوروبا فكأنك تلفظ كلمة: تعصب أعمى!»؟!. والواقع أن هذه المطابقة ترجع جذورها إلى جماعة الإخوان المسلمين فى الثلاثينيات، فهى الجماعة التى يعزى إليها إشاعة الكره الشديد للغرب، ولم يكن موجودًا من قبل. إذ كان شائعًا الإعجاب والانبهار به عندما كانت لدى رجال النهضة رغبة عارمة فى الاقتداء بالغرب والاغتراف من علمه وتطوير المعتقد الدينى كيما يتاقلم مع الحضارة الغربية. فقد كان الشغل الشاغل لمفكرى النهضة فى الشرق، ومن بينهم الشيخ محمد عبده، هو اللحاق بالحضارة الغربية، حتى جاء حسن البنا وضرب تيار التنوير فى مقتل.. إذ كان يرى أن الغرب أشبه بسرطان الكفر والارتداد عن الدين، وأنه يحتال على المسلمين بمبادئ الحداثة الزائفة وخانها باستعماره بلادهم ونهب ثرواتها، وقد ترتب على ذلك انتشار داء فكرى عضال تمكن الأصوليون من زرعه فى العالم العربى، وهو داء النفور من الحضارة الغربية. ورغم أن الحداثة فى ذاتها بوصفها مفهوما فلسفيا لا علاقة له بفكرة الاستعمار حتى ولو كان المستعمر يستخدم منتجات الحداثة التكنولوجية فى قهر الشعوب واستغلالها، فإن النزعة الأصولية عند نشأة جماعة الإخوان قد شقت طريقها بسهولة لتنتشر بين الشباب وتسلب عقول الناس على اختلاف طبقاتهم. والظاهرة التى شدت انتباه المتخصصين فى دراسة الظاهرة الأصولية تدور حول نقطة أساسية، ألا وهى أن نصوص البنا كلها هزيلة وشديدة التفاهة والضحالة من الزاوية الفكرية إلى أقصى الحدود، فهى ليست إلا مواعظ ومنشورات سياسية وإرشادات دينية تعبر عن ثقافة مدرس ابتدائى يسعى جاهدًا إلى إحداث تمرد وعصيان ثورى فى المجتمع. ورغم ذلك كله، تمكن التيار الإخوانى من جذب عدد كبير من الأنصار إلى صفوفه فى العالم العربى. فهناك إخوان فى كل بلد عربى تقريبا، بل فى بقاع العالم الغربى، والمرء ليدهش حقًا حينما يرى بين أنصاره أطباء ومهندسين ومدرسين.
الرموز اليسارية مثلًا. وكانت أغلب حواراتهم تدور حول أسئلة يطرحها عليهم المشاهدون فى شغف واهتمام شديدين، يدور معظمها حول الحرام والحلال: هل تربية الكلاب حرام أم حلال؟ هل الموسيقى حرام أم حلال؟ هل التماثيل حرام أم حلال؟.. إلخ. بل لقد ظهر من الدعاة من بات يتحكم تماما فى عقلية الناس البسطاء. وحينما وقعت مجزرة الأقصر التى قتل فيها عدد كبير من السياح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق